رواية وريث أل نصران الفصل الثلاثون بقلم فاطمة عبد المنعم
ربما من يعطونا الأمان هم أشد الناس احتياجا إليه
هو لا يبخل به أبدا ولكن عيناه تصرخ مستغيثة طالبة الأمان... طالبة أن يربت أحدهم على كفه، أن يعلم ما به وفي النهاية يحتضنه ويقول:
أنا هنا.
لم يكن اللقاء متوقع أبدا...شلت الصدمة "كارم" لدقائق استعاد بعدها توازنه وهو يقول:
أهلا يا "عيسى".
نزل له " عيسى" الدرجات الفاصلة بينهما ليقفا على الأرضية وهو يحدثه:
خالتي قالتلي انك تعبان علشان كده هي مقدرتش تيجي كتب الكتاب، بس أنا عارف من زمان أوي إنك تِعبان مش تعبان علشان كده هي معرفتش تيجي.
حرك "كارم" رأسه بمعنى لا فائدة وهو يضغط عليه ناطقا:
هو أنت يا بني هتفضل معقد كده طول عمرك؟
ضحك "عيسى" وهو يقول له:
والله لو أنا معقد فهي تربيتك يا "كارم".
تابع في سرد الماضي يذكره:
فاكر لما قولتلي هتفضل فاشل طول عمرك؟... بص عليا وبص عليك كده وشوف مين فينا اللي فاشل طول عمره... ومش فاشل بس فاشل وقذر كمان.
ربت " كارم" على كتفه ناطقا بتحدي:
بس خالتك بتحبني... عارف رغم كل الحب اللي شايهولك ده لو هتختار حد دلوقتي هتختارني أنا وأنت هتترمي في أقرب زبالة... ولا تكون نسيت؟
هو لم ينس وكيف ينسى أول مرة تجرأ فيها على الإفصاح، حين ذهب إلى خالته بمجرد أن عادت من خروجها وأخبرها ببكاء:
خالتو عمو "كارم" جاب واحدة هنا، كانوا في الأوضة دي.
أشار لها على غرفة نومها، وذهبت هي لمواجهة "كارم" ولكنه أنكر... انتظر "عيسى" أن تصدقه ولكنها لم تصدق سوى "كارم" كما تفعل دائما
مما جعل "كارم" يتجرأ عليه، يحاول ضربه صائحا:
أدي أخرة اللي بتربيه في بيتك، عايز يخرب البيت.
طفل صغير إذا تمكن منه قضى عليه، ولكنها حاولت جاهدة إبعاده ناطقة بتوسل:
ابعد عنه يا "كارم".
عاد " عيسى" إلى واقعه، ترك الذكريات جانبا وأخبره بتحدي:
المغفل مبيفضلش مغفل طول عمره، وأنا أوعدك هفوق خالتي... أنا سيبت بيتك ده من سنين، الفترة اللي عيشتها لوحدي علمتني كتير أوي، علمتني أكتر من اللي اتعلمته على ايدك.... سمعت إنك مش لاقي تاكل وخالتي هي اللي بتصرف، مش هستغرب عليك حاجة زي كده علشان أنت طول عمرك عايش على قفا غيرك... بس أوعدك قريب أوي هتشوف حقيقتك ومش هتلاقي حد تعيش على قفاه.
كان يعيش مع خالته بمفردهما وينزل زوجها عطل شهرية، يصرف فيها جميع أموال خالته، بل ويتجنى على ما تركه "نصران" له... ولكنه الآن خسر جميع أمواله ولم يعد يعمل، يعش فقط من الأموال التي يعطيها "عيسى" لخالته شهريا.
تسارعت دقات قلبه، يشعر بالخفقان يشعر بالانفجار الذي يأتي فجأة... بالفعل هو غاضب منفعل الآن لذا وبكل قوته دفع "كارم" فاصطدم ظهره بالحائط خلفه متأوه وهو يسمع "صوته" الذي تملكت الشراسة منه:
الفاشل يا روح أمك هو اللي أنت عايش بفلوسه دلوقتي، بس يوم ما خالتي تفوق لنفسها وتعرفك على حقيقتك هدفعك كل مليم اتصرف عليك... بس مش هتدفعه فلوس، علشان مش هيبقى حيلتك حاجة تدفع منها أصلا.
هو يعلمه منذ زمن، لحظات يتحول فيها لبركان وينفجر متناسيا كل شيء، لذا تخطاه "كارم" مسرعا وصعد إلى شقته، وقبل أن يكمل قال له:
خالتك هتفضل تحبني، وأنت هتفضل تدفع يا "عيسى"... ولو عندك حاجة تعملها كنت عملتها من زمان أوي.
_لا ما هو أنت متعرفش إن بدايتها كانت خسارة فلوسك يا " كارم" .
قالها "عيسى" بانفعال، فتوقف "كارم" مصدوما هل هو من تسبب في خسارة أمواله لم يترك له "عيسى" الفرصة بل تابع:
ونهايتها طردك من البيت ده.
دخل "كارم" المنزل وبعدها بدقائق هاتف "عيسى" خالته طالبا:
قولي ل "ملك" تنزل يا "ميري".
اعترضت وهي تخبره:
تنزل ايه لا، هو أنت لسه قعدت... أنتوا هتتغدوا وتقعدوا معايا.
حالته لا تسمح له بالحديث الهادئ تماما، حاول التحكم ولكن نبرته بان فيها انفعاله:
نزليها بس دلوقتي... أنا راجع تاني مش مروح.
نفذت ما طلب وأخبرتها أن تنزل له، حمدت " ملك" ربها ونزلت سريعا، فهذا الذي دخل من لحظات ومن المفترض أنه زوج خالتها لم ترتح في وجوده مطلقا.
أتمت النزول ولكنها لم تجده على الدرج لذا تابعت السير حتى خرجت إلى الشارع فوجدته يقف أمام المنزل، تحركت ناحيته ولاحظت عينيه وقد كستهما حمرة غريبة فسألته:
"عيسى" أنت كويس؟
رفع كفه محذرا وهو يقول:
متتكلميش معايا دلوقتي.
حالته لا توحي أنه بخير مطلقا... ظن أنها ستهاب غضبه وتصمت ولكنها تحدثت مجددا:
ايه متكلمش معاك دي... مالك في إيه؟
لم يعطها إجابة بل اتجه إلى سيارته وجلس على مقعده وقد أسند رأسه على عجلة القيادة وظل ساكنا لا يتحرك... تبعته وجلست على مقعدها وهي تسأله بخوف ليس منه ولكن عليه:
طب مالك طيب؟
صاح بما جعلها تنتفض إثر صدمتها:
قولتلك متتكلميش معايا دلوقتي...أنتِ مبتفهميش.
_متزعقليش كده، أنا معملتش حاجة تزعقلي علشانها... وأنا علشان بفهم مش هتكلم معاك تاني أصلا ولو سمحت روحني.
قالتها بانفعال فرفع لها وجهه الذي تمكنت منه تعابير الغضب، ولكن عينه حملت ما يشبه الدموع إن لم تكن تتوهم...دموع أوشكت على النزول... حدجها بغضب ولكن ما رأته أنساها ما قالت منذ ثوان فسألت:
أنت كنت بتعيط؟
قاد سيارته مغادرا، لم يعطها إجابة بل أفرغ غضبه في سرعة السيارة... حيث ساق بسرعة كبيرة، لم تعتدها هي مسبقا، حمدت ربها حين توقفت السيارة أخيرا، توقفت أمام معرض سياراته ... تجنبته تماما، تجنبت الحديث وكل شيء عدا النظر إليه، وفعل هو مثلها واستدار يطالعها.
★***★***★***★***★***★***★***★
انتهت من جامعتها وعادت أخيرا إلى المنزل، ألقت الحقيبة على الأريكة واستراحت جوارها بتعب.. لم تسمع صوت شقيقتها "مريم" على الرغم من إخبار والدتها لها قبل طلوعها أن "مريم" وحدها في الأعلى ... بينما في نفس التوقيت كانت "مريم" في غرفتها تمسك الهاتف وتحادث "حسن"... قررت أن يكون هذا أخر ما سترسله له، كتبت له فيها كل ما تحمل حيث أرسلت:
" حسن" أنا عملت اللي أنت قولته، ومشيت ورا قلبي ومصدقاك... لكن أنا يا "حسن" مش هتكلم معاك تاني خالص، ولو حقيقي بتحبني زي ما بتقول يبقى تنجح زي ما وعدتني، وأنا أخلص السنة دي على خير وتيجي تخطبني... أي حاجة تحصل غير كده هتبقى غلط مننا احنا الاتنين يا "حسن".
_كلامك بيقول إنك مش مصدقاني يا " مريم" .
أرسلها له فسجلت له مقطعا صوتيا:
لا يا "حسن" أنا صدقتك، وكدبت البنت اللي بعتتلي... لكن اللي بقولهولك دلوقتي ده الصح لينا احنا الاتنين.
انتظرت على أحر من الجمر ما سيرسله حتى أتاها ما جعل عينيها تلمع والابتسامة تزين ثغرها:
وأنا أهم حاجة عندي في الدنيا انك مصدقاني، وإني سمعت صوتك دلوقتي.
كانت ما زالت تقرأ ما أرسله بسعادة ولكنها وجدت شقيقتها تفتح الباب ناطقة:
حسن مين بقى اللي أنتِ صدقتيه، وصح ايه اللي ليكوا أنتم الاتنين؟
تيبس جسدها من الصدمة، صدمة أن "شهد" سمعتها وهي ترسل المقطع الصوتي له، حل الارتباك ولم تعد قادرة على التبرير، لذا تقدمت "شهد" تجلس جوارها في الفراش:
قولي يا "مريم" في ايه؟..
احكيلي وأنا وعد مش هقول لحد.
تنهدت "مريم"، وأخذت دقائق تحسم قرارها حتى قالت في النهاية:
بصي يا " شهد" أنا هحكيلك علشان أنا متضايقة وعارفة ان اللي حصل ده غلط.
قصت على شقيقتها كل شيء من البداية وحتى أخر حديثها معه فقالت "شهد":
وأنتِ مصدقة مين بقى؟
_أنا مصدقاه يا " شهد" .. حسن مكذبش عليا في أي حاجة وهو لو واحد عايز يتسلى كان بعد الكلام اللي قولته ليه دلوقتي اعترض... لكن هو قالي انه هنبعد لحد ما يكون قادر انه يجي يخطبني.
أخبرتها "مريم" وهي تدافع عنه بقلبها الذي صدقه أولا قبل حديثها ولكن "شهد" أردفت بهدوء:
اسمعي يا "مريم"...معنى إن واحدة تيجي تكلمك وتقولك عنه كده إنه بتاع حوارات، وأنتِ بنفسك قولتي إنه مهمل في دراسته
قاطعتها " مريم":
بس وعدني هينجح.
تابعت "شهد" الحديث وكأنها لم تسمعها:
ينجح مينجحش دي حاجة لنفسه... لكن أنا مش مرتاحة للموضوع ده كله، أنتِ لسه صغيرة يا "مريم" ومتعاملتيش قبل كده وده اللي ممكن يخلي أي حد بسهولة يضحك عليكِ
أتت لتتحدث فقاطعتها "شهد":
عارفة كل اللي هتقوليه، وطالما أنتِ مصدقاه فنفذي اللي قولتيه تبعدوا لحد ما يكون قادر يجي يخطبك، أي حاجة غير كده لا يا " مريم" علشان مترجعيش تعيطي في الآخر .
هي تحادث شقيقتها في الأعلى، بينما في نفس التوقيت والدتها تجلس في الأسفل تعدل من وضع بعض الأشياء داخل المحل حتى قطع ذلك صوت قدم من الخارج:
السلام عليكم.
استدارت لتجد "حسن" فأجابت باستغراب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ظهرت ابتسامته قبل أن يستأذن منها:
ممكن أدخل؟
أشارت له على المقعد مرحبة:
اتفضل طبعا.
دخل بعد أن سمحت له وجلس على المقعد، تابعت هي وضع أخر الأشياء وهي تسأله:
خير يا "حسن" في إيه؟
انتظرت إجابة مطولا ولكنها لم تسمع شيء وقبل أن تستدير له سمعته يقول بلا تردد:
أنا بحب "مريم".
★***★***★***★***★***★***★***★
معرض سيارته من جديد، ذلك المكان الذي شهد لحظات ضعفها وخوفها من الفقد مجددا، هذه المرة كان العمل هنا على قدم وساق ليس كالمرة الأولى حينما أتت في الليل، ألقى نظرة على العاملين الذين رحبوا به ثم أخذها وصعد حيث الغرفة العلوية والتي يجلس فيها " بشير"...لم تهتم ب "بشير" الجالس سنحت لها الفرصة أخيرا كي تقول بحرية:
لو سمحت يا "عيسى" روحني، يإما أنا هنزل أخد uper وأروح لوحدي.
لاحظ "بشير" توتر الوضع فسأل باهتمام:
هو في ايه يا "عيسى" ؟
تجاهل ما يقولا واتجه إلى البراد الصغير في الغرفة يُخرج زجاجة من مشروبه المفضل، شرب منها وقد أنعشته برودتها ثم استدار لها يقول:
هنزل أعمل مشوار، وأرجع أروحك.
يتحدث وكأنه لم يكن ذلك الثائر منذ دقائق، هذا الذي شكت أنه يتكون من مواد قابلة للاشتعال وليس بشري كالبقية.
طالعته بغضب ثم جلست على المقعد بانفعال، خرج "بشير" ينتظر خروج صديقه... أخرجت هاتفها وتصنعت النظر به متجاهلة وجوده حتى سمعته يقول:
لما تشوفيني متعصب، بخبط، برزع، بعمل أي حاجة من دي متتكلميش معايا.
لم تجبه بل تصنعت الانشغال بربط حزام الخصر الخاص بجاكيتها فمال عليها، وأبعد كفيها مما جعلها تنظر له بصدمة، ربطه هو لها بهدوء متابعا حديثه:
ليكِ حق تزعلي...بس أتمنى تكوني سمعتي اللي قولته وده لمصلحتك أنتِ.
أنهى عمله واستقام واقفا، أشار لها بعينيه على رباط الجاكيت غامزا:
كده فيونكة أحلى، ومش هيفك تاني.
تركها وخرج فمالت هي تتظر إلى ما صنعه، تحسستها بكفها ونطقت بغيظ:
ربطتي كانت أحسن.
أعادت النظر مجددا فعلا وجهها ابتسامة وهي تقول هذه المرة بصدق:
لا هو أحسن.
كان هو في الخارج مع صديقه الذي قال:
لا ده أنت زعلان بجد بقى.
سأله "عيسى" بانزعاج:
أنت مجتش ليه؟
أجابه "بشير" مبررا بصدق:
بصراحة حسيت الموضوع عائلي، وأنت قولت مفيش حد غير أهلك وأهلها... فخلتني للكبيرة فرحك بقى إن شاء الله... أنا لحد دلوقتي مش مصدق انك ارتبطت أصلا.
عدل "عيسى" من سترته ورد على قوله قائلا:
أنا مش هرد عليك دلوقتي... اطلب ل "ملك" أكل، أنا شوية وراجع علشان متأخرش.
لم ينتظر رد صديقه بل نزل الدرج مسرعا ثم ترك المعرض بأكمله وخرج إلى سيارته... دخل "بشير" إلى "ملك" بعد أن دق الباب، سألها بود:
تحبي أطلبلك ايه تاكليه؟
ابتسمت وهي ترفض عرضه شاكرة:
لا شكرا يا أستاذ "بشير" مش عايزه.
شعر بحرجها فحاول تخفيف الأجواء بقوله:
مفيش حرج المكان بقى مكانك، أنا هطلبلك pizza... واتجه ناحية خزانة صغيرة في الجانب وفتحها مشيرا:
هنا هتلاقي كتب بتاعة "عيسى" لو زهقتي من التليفون وحبيتي تتسلي... أنا هخرج ولو احتاجتي حاجة انا قاعد تحت مع الباقي مجرد ما تبصي من الازاز هنا هتشوفيني.
شكرته بامتنان نزل بعده إلى الأسفل بينما بقت هي وحدها تتأمل الغرفة.
★***★***★***★***★***★***★***★
وضعت "تيسير" الأطباق على المائدة التي تم وضعها في الحديقة أمام المنزل مما جعل "رفيدة" تسأل والدتها:
ليه يعني النهاردة يا ماما هنتغدى في الجنينة؟
أخبرتها "سهام" بهدوء وهي تجلس على مقعدها:
بابا اللي عايز.
لم تكمل جملتها حتى أتى "طاهر" وقد تشبث "يزيد" بذراعه وهو يقول:
بتزعلي "يزيد" ليه يا ماما؟
طالعت الصغير بعتاب وهي تخبر "طاهر":
يزيد بقى وحش ومش بيسمع الكلام.
أجلسه " طاهر" على مقعده وهو يطلب منه بهمس:
اتأسف يلا وقولها انك مش هتخرج لوحدك تاني.
كان قد قص له "يزيد" ما حدث في الصباح حين خرج وحده وأعادته "شهد"، ثم عنفته " سهام" .
انضم "نصران" إلى الجلسة حيث جلس على مقعده جوار "سهام" وسمع الصغير يقول:
أنا أسف يا تيتا مش هعمل كده تاني.
ابتسمت له "سهام" بحنان ناطقة:
خلاص أنا هعتبره وعد وانك مش هتعمل كده تاني.
قطع حديثها "رفيدة" التي تركت مقعدها وذهبت ناحية والدها تريه ما بيدها قائلة بحماس:
بابا إيه رأيك؟
كانت قطعة من القماش وضعتها داخل إطار دائري رقيق، وقامت بالتطريز عليها ليظهر في النهاية اسم والدها.
طالعها "نصران" بفرح وهو يقول بغير تصديق:
أنتِ اللي عاملاها؟
هزت رأسها بفخر وهي تقول ضاحكة:
شوفت مواهبي.
أبدى "طاهر" إعجابه قائلا بانبهار:
لا هي حلوة أوي فعلا... وأنا مبسوط إنك رجعتي للتطريز تاني، أنتِ تقريبا اخر علاقتك بيه كانت في اعدادي.
_لا ما هو أنا هعمل بعد كده علطول مش ههمل تاني.
قالتها فشجعتها والدتها حيث أردفت:
والمره الجاية يكون اسمي أنا بقى.
مالت "رفيدة" عليها تقبلها وهي تقول:
أنا أصلا بعمل بتاعتك من دلوقتي، بس بابا لازم يكون أول واحدة.
رمقتها "سهام" بغيظ في حين قال "نصران":
طول عمرها دلوعة أبوها مش هتيجي تزعلي النهاردة.
أخبرهم " يزيد" بفرح:
أنا كمان بابا بيحبني أكتر واحد.
هز "طاهر" رأسه مؤكدا قبل أن يتناول أول ملعقة من طبقه:
طبعا يا حبيبي بحبك أكتر من أي حد.
لم يكد يكمل طعامه حتى قال "نصران":
طب اتغدوا انتوا وانا هاخد " طاهر" مشوار صغير كده ولما نرجع نبقى نكمل غدا.
ترك ملعقته بيأس وهو يتحدث داخليا:
هو مش باين لها أكل النهاردة.
تبع والده في السير وبدأ بالسؤال الذي توقعه:
اتخانقت أنت وأخوك ليه؟
برر له "طاهر" بتعب:
بابا أنا و"عيسى" أخوات، واللي حصل ده عادي شدينا مع بعض بس جامد شوية، وعموما هو مش بسبب هو انا شوفته متعصب بسبب حاجة في الشغل ودخلت اسأله بيزعق كده ليه فاتعصب اكتر لكن الموضوع مكانش يستاهل كل ده.
ضحك "نصران" وهو يقول:
بتدافع عنه كأنه أخوك شقيقك.
نطق "طاهر" معاتبا:
ايه يا بابا اللي بتقوله ده، أنت اللي ربتني يعني أبويا مش عمي، و"عيسى" أخويا لو طلب روحي اديهاله... وهو كمان يفديني بروحه.
ربت "نصران" على كتفه ناطقا برضا:
جدع يا "طاهر" وطول عمرك جدع وراجل...
أنا عايز منك خدمة
هز "طاهر" رأسه موافقا:
أكيد يا بابا اطلب طبعا.
أخبره بتركيز وقد شغله الموضوع منذ أيام:
عايزك تنزل وسط الناس، وتعرفلي مين اللي نشر في البلد إن "شاكر" هو اللي غدر ب "فريد"
★***★***★***★***★***★***★***★
مرت ساعة على حديثه مع والده أخذ بعدها ابنه وذهب به إلى حيث أراد، توقف أمام دكان "هادية" فلم يجدها في الداخل، دقائق ووجد "شهد" عائدة بحقائب بلاستيكية فدخلت المحل وهي تقول ضاحكة:
أنا قولت بعد اللي تيتا عملته الصبح يا "يزيد" مش هتيجي هنا تاني.
استدارت تسأل "طاهر" حين استغربت عدم وجود والدتها في المحل:
هي ماما كانت هنا وطلعت؟
_مفيش خالص كده... الناس بتقول ازيك، مساء الخير، العواف حتى يا شيخة.
قال لها ذلك بغيظ فعلت ضحكتها وهي تضع الأكياس على أحد المقاعد ناطقة:
العواف يا كابتن.
الهاتف الذي وضعته جوار الأكياس التقطه الصغير قائلا بحماس:
ده شبه بتاعي بالظبط... خالتو بتكلمني عليه كتير وكمان بابا بيخليني اكلمها واتساب.
أردفت مازحة:
اه ما انا كمان ماما جابتلي واحد جديد علشان أكلم خالتو واتساب.
_ينفع أكلمك؟
سألها الصغير ببراءة، فرفع "طاهر" الحرج عنها:
ده مش تليفونها يا "يزيد"
هزت رأسها بالنفي قائلة:
لا تليفوني فعلا ماما جابتلي واحد.
نطق "يزيد" بحماس:
يعني هينفع.
مالت لتصل إلى مستواه وهي تقول:
اه ينفع هات تليفونك اديلك رقمي.
اقترح عليها بعد تفكير لدقيقة:
اديه لبابا وهو هيحطه على تليفوني، تيتا بتديهولي ساعتين بس هكلمك وادخلك Game معايا.
ضحكت بحرج، ومد "طاهر" لها هاتفه وقد ضحك هو الآخر:
سجلي رقمك.
حذرته بسبابتها:
ليزيد بس... ألاقي رقمي مع أمة لا إله إلا الله هتزعل.
مط شفتيه بغيظ قبل أن يحدثها باستنكار:
أزعل!... قدم بقى يا ماما الجو ده، تاخد رقمي وتوزعه، وتتصل بيا وتغير صوتك من رقم تاني.
رنت ضحكاتها على كلماته وهي تعطيه الهاتف بعد أن سجلت رقمها، فطلب منها:
اطلعي بس شوفيلي والدتك عايزها.
لم يكد يكمل كلماته حتى أتت "هادية" فأردف:
لسه كنت بقول ل "شهد" تنده حضرتك .
ابتسمت "هادية" له قبل أن تسأله عن سبب طلبه لها:
خير يا "طاهر"؟
_معلش أنا هسيب بس " يزيد" عند حضرتك، هو متعلق بالمكان وبيحب يجي هنا، لو مش هيضايقك اسيبه اخلص مشواري واجي اخده.
لطف حديثه جعلها تقول سريعا:
يضايقنا ايه بس، ابنك ده حتة سكر...
لو عايز تجيبه كل يوم هاته.
شكرها على حديثها واستأذن ليرحل، فتبعته "هادية" حتى الخارج وطلبت الانتظار، دقائق وعادت له تمد يدها بالمال:
ده إيجار المحل الشهر ده.
اعترض باصرار:
لا... الحاج "نصران" قالك كمان فترة لما المحل يشتغل ابقى ادفعي إيجاره.
لم يعجبها قوله فتحدثت:
المحل شغال كويس الحمد لله، والكام شهر عدوا... و صدقني لو مخدتش الايجار أنا هسيب المحل.
رفض وظل على رفضه وهو يخبرها:
خلاص لما تشوفي الحاج نصران اتحاسبوا... لكن هو منبه عليا مفيش إيجار يتاخد منك.
دستهم في يده عنوة ونطقت هذه المرة برجاء:
علشان خاطري يا "طاهر" خدهم، قوله الست "هادية" بتقولك شكرا.
أخذهم في النهاية بالإجبار وقبل أي تردد حثته على الذهاب ضاحكة:
يلا روح شوف مشوارك... متفكرش.
كانت تحدثه بينما في التوقيت ذاته جلست "سهام" تتابع التلفاز وتقلب بين محطاته بملل، و "تيسير" من حولها تنظم المكان... توقفت دقيقة تفكر هي تسأل أم لا مما جعل "سهام" تقول:
في ايه يا "تيسير" عايزة تقولي ايه؟
هزت "تيسير" رأسها بعدم اهتمام قائلة:
لا يا ست "سهام" متشغليش بالك، ده كلام كده داير في البلد محدش عارف مين قاله.
انتبهت لها "سهام" وهتفت بحزم:
ما تقولي في ايه.
رمقتها "تيسير" بتردد سبق قولها الذي نطقته بحذر:
أصل بيقولوا إن اللي قتل الأستاذ "فريد" الله يرحمه...ابن الحاج "مهدي" اسمه "شاكر"... الحاج
" مهدي" عم بنات الست "هادية"... بس ده طبعا كلام غلط، بدليل ان الحاج مهدي كان وكيل بنت أخوه في كتب كتاب الأستاذ " عيسى" .
لم تستطع استجماع ذاتها، وكأنها تتهشم أمامها، الدموع ملأت مقلتيها ويتردد في أذنها صوت "فريد":
أنتِ أحن ست في الدنيا... لو فيا أي حاجة حلوه فأنتِ اللي زرعتيها.
استقامت واقفة وزادت دموعها وصوته الدافئ يخترق أذنها من جديد:
صباح الفل يا "سهام".
ضربته ضربة خفيفة على كتفه ناطقة بتذمر:
يا بني عيب كده.
أشار للواقفين ناطقا باستنكار:
هو ايه اللي عيب؟
ثم استطرد مازحا:
بقى القمر ده يتقاله يا ماما ده اللي يشوفك يقول أصغر مني.
تدهورت حالتها وشعرت " تيسير" بذلك فهتفت بخوف:
ست "سهام" مالك
هذه المرة شعرت وكأنه موجود حيث طلبت منه برجاء:
اوعى في يوم تزعل مني.
قبل باطن كفها هاتفا بصدق:
عمري ما ازعل منك... أنتِ أمي.
تكررت أخر كلماته في أذنها، هي والدته، وهو فقيدها لم تحتمل روحها أكثر وهي تسمع أن القاتل، والده كان هنا أمس يزوج ابنة أخيه لابن زوجها، لذا نادت بكل ما امتلكت من قوة وكانت نبرتها جهورية:
يا حاج نصران.
★***★***★***★***★***★***★***★
كل هذا الوقت وهي هنا في هذه الغرفة المغلقة وحدها، شعرت بالملل من الهاتف ومن الجلوس فاستقامت واقفة، وقفت أمام الزجاج تتأمل الجزء السفلي من معرضه، اسمه الذي برزت حروفه على الحائط في الواجهة... عادت الداخل وخاصة ناحية تلك الخزانة التي أخبرها "بشير" أنها تضم كتبا، فتحتها لترى ما هي الكتب ولكن جذب انتباهها تلك العلبة الصغيرة المفتوحة... دفعها فضولها للنظر فوجدت بها حبات منفرطة وذلك الخيط الأسود الذي انفرطت منه... هي مغرمة بصنع مثل هذه الأشياء لذا جذبت العلبة وجلست على الأرضية، وضعتها أمامها ثم تناولت الخيط الأسود فوجدته مقطوع، بحثت عن قطعته الاخرى بين المحتويات حتى وجدتها، ربطتهما معا مكونة الخيط مجددا... وجدت لعبة صغيرة على شكل سيارة فضية، ابتسمت وهي تدخلها في الخيط لتصبح في منتصفه ثم بعد ذلك أدخلت الحبات السوداء في الخيط تباعا حتى أصبحت كاملة... السيارة الفصية في المنتصف وعلى جانبيها الحبات السوداء متراصة، بحثت في المحتويات عن القفل المعدني والتقطته لتغلق به ما صنعته... انتهت أخيرا وضعتها أمامها ونظرت لصنعها بإعجاب ولكن قطع ذلك دقات "بشير" على الباب، سمحت له بالدخول... فدخل ليجدها تفعل ما تفعله فنطق بصدمة:
يا نهار أبيض أنتِ بتعملي ايه؟
أقلقها رد فعله فسألت باستغراب:
في ايه ؟
جذب العلبة مسرعا وهو يقول بتوتر:
أنتِ ايه اللي خلاكي فتحتي العلبة دي بس.
كان السوار الخيطي الذي أعادت تصميمه بيدها لذا تابع "بشير" سؤاله بقلق:
فين الحاجات اللي كانت في العلبة دي بسرعة قبل ما "عيسى" يرجع.
لم تكد تنطق حتى وجدت الباب يُفتح، طالع "عيسى" وقوفهما هكذا باستغراب وبمجرد أن وقعت عيناه على العلبة حتى قطع الخطوات بينه وبين "بشير" وجذبها من يده بعنف صائحا:
مين اللي طلع العلبة دي.
أخبرته بما حدث حقا:
أنا كنت رايحة أجيب كتاب ولقيتها مفتوحة.
وجد العلبة فارغة فتحدث بانفعال:
فين الحاجات اللي كانت فيها... وبتاخديها ليه أصلا، حاجة مش بتاعتك بتمدي ايدك عليها ليه؟
شعرت بالإهانة، خاصة و"بشير" يقول مهدئا:
خلاص يا "عيسى" محصلش حاجة .
اقتربت من العلبة المفتوحة بيده وضعت السوار داخلها، فحرك رأسه بعدم تصديق وهو يراه مكتملا للمرة الأولى منذ سنين، رفع عيناه لها سريعا ولكنها قالت:
أنا أسفة علشان مديت ايدي على حاجة مش بتاعتي، أنت عندك حق.
تحركت ناحية الباب وهي تخبره بهدوء:
أنا مستنية تحت علشان عايزة أروح.
بمجرد خروجها، التقط "بشير" السوار قائلا بغير تصديق:
دي عملتها... عاتب صديقه بحزن:
أنت أحرجتها أوي يا "عيسى".
أخذها من يد صديقه، فتح القفل الخاص بها وارتداها لتصبح هي في الأعلى وساعته في الأسفل، تأملها دقائق وقد ظهر على جانب ثغره ابتسامة صغيرة ولكنها حزينة.... ترك " بشير" ونزل إلى أسفل، وجدها في السيارة، ركب جوارها ودون النطق بكلمة واحدة
رحل بها، صمت تام خيم على الأجواء حتى أوقف سيارته في أحد الأماكن فاستدارت له تسأل بعينيها عن سبب التوقف ولكنها سمعت ما لم تتوقع سماعه منه أبدا:
شكرا
رفع يده يريها أنه ارتداه أعلى ساعته، طالعت السوار في يده، ثم تذكرت قوله في الأعلى فخذلتها دموعها لكنه رفع كفه يمسح دموعها وقال وهو يطالعها وعيناه لا تفارقها:
أنا أسف.
كيف أنت... بالله دلني
هل هذا الذي وعدني؟
أم ذلك الذي ألمني؟
قل لي... هل فؤادي خدعني؟
أم أنك تحتل مأمني... لأبقى وطول العمر أنت ساكني.