رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثانى 2 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثانى بقلم سيلا وليد

"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "


وَجعُ فراقِ الأحبّةِ يُعادلُ آلامَ الموتِ ،،

و بعض الحب خلق ليبقى رغم البعد..

رغم استحالة اللقاء ، 

رغم وجع الفراق ،

رغم الكبرياء ، 

ورغم الأمل المفقود ...

يبقى فقط لأنه خلق ليبقى.!! 

ثم______ماذا

هناك أرواح حبها لا يحكى ولا يكتب ، هم حكاية قدر جميلة لكنها لن تكتمل ولن  تتكرر أبدًا..!!


توقَّفَ  يزن محاولًا استيعابَ ماقالتُه، رفعَ عينيهِ إليها :

استني عندِك، إيه اللي بتقوليه دا ؟!. 

فركت كفَّيها تبتعدُ ببصرها عنه :

كلِّ شيء قسمة ونصيب يايزن…

بتقولي إيه يامها؟! 

ابتعدت بخطواتِها بوقوفِ إيمان بجوارِ أخيها :

مها أدخلي إفطري معانا، قالتها بدخولِ معاذ :

أهلًا أبلة مها، وأنا بقول الطعميَّة لذيذة ليه، علشان أبلة مها هتفطَر معانا …

كانت تطأطئُ برأسها للأسفلِ ولم تقوَ على النظرِ إليه :

أنا هتخطب يايزن ربِّنا يرزقك ببنتِ الحلال ..

رجفةٌ قويةٌ حتى شعرَ بسحقِ عظامه،  فتراجعَ خطوةً للخلفِ وعينيهِ تلتهمها بنيرانِ صدرهِ المشتعلة..دقائقَ حتَّى  يستوعبُ ماقالتهُ تلكَ المجنونة، مسحَ على وجههِ بكفوفهِ مع عدَّةِ أنفاسٍ  مضطربة، أعادهُ لحالتهِ صوتَ أختِه :

أبيه أدخلوا جوَّا، استدارَ إليها وعينيهِ على معاذ :

خُدي معاذ وأدخلي جوا ياإيمان .

أومأت برأسها قائلة:

حاضر.. سحبت أخيها وألقت نظرة على مها، ثمَّ دلفت للداخل :

تراجعَ يجذبُ مقعدَ طاولةِ الطَّعام، ثمَّ أشارَ لها بالدخول :

أدخلي نتكلِّم، عايز أعرف إيه اللي حصل..

مفيش حاجة نتكلِّم فيها يايزن، أنا تعبت، بقالنا خمس سنين مخطوبين، العمر بيسرقني، إنتَ راجل، السِّن عندك مش فارق لكن أنا دلوقتي عندي تمانية وعشرين سنة عايزة أعيش حياتي يايزن، أتجوِّز وأجيب أطفال، وأعيش حياتي مرفَّهة ودا مش هلاقيه معاك، متزعلشِ مني أنا ذنبي إيه أشيل مسؤولية 

أختك وأخوك، بحبَّك أه، لكن الحبّ مابأكلشِ عيش، كلِّ شوية أقول أعذار لأمِّي وأبويا، تعبت من نظراتهم وخصوصًا بعد آخر عريس و…أشارَ بيديهِ أن تتوقَّفَ عن الحديث، ألقى نظرةً على أشيائهِ التي أحضرتها :

علشان كدا مختفية بقالِك أسبوعين وكلِّ  ماأروحلِك يقولوا تعبانة، ياترى كنتي واخدة القرار ومكسوفة تقوليلي ولَّا  بتهربي؟..

يزن أنا بحبَّك بس ظروفك أقوى من الحبِّ دا، مقدرش أفضل كدا ..


مبروك عليكي العريس يامها، الحاجات دي متلزمنيش، مبروكة عليكي، اقتربت تهزُّ رأسها مع انسيابِ عبراتها :

لا يايزن مش حقِّي، أنا اللي فركشِت .

توقَّفَ سريعًا، ورمقها بنظرةٍ مستاءة :

إسمها أنا اللي بعت، وأنا اللي يبعني ضغطَ على أسنانه، وعيناه تطلق أسهمًا ناريَّة يرمقها بها، ثم دنا منها مردِّدًا  بجفاء:

أحرق اللي يفكَّرني بيه..غرزَ عينينهِ  بمقلتيها..جاية بكلِّ بجاحة توقفي قدامي، تقولي واحد إتقدملِك وإنتِ موافقة !. 

دنا إلى أن أصبحت المسافة بينهما معدومة ثمَّ انحنى بجسدِه :

خنتي العهد اللي بينا يامها، حرقتي قلبي، روحتي اتكلِّمتي مع واحد وإنتِ مخطوبة،  إنتِ عارفة أنا شايفِك إيه دلوقتي ؟..

نكست رأسها بأسفٍ وتمتمت بخفوت :

لو سمحت يايزن، بلاش تجريح .

خاينة إنتِ واحدة خاينة وكذَّابة وأنا اللي غلطان.. تراجعَ وجنونُ العشقِ الغادرِ بداخلهِ يحرقُ روحه :

اطلعي برَّة وخدي الحاجات دي، خُديها  حتى لو هاترميها .

همَّت بالمغادرة إلا أنّّهُ صاحَ باسمها :

مها منتظر دعوةِ الفرح.. هرولت للخارج، أمَّا هو فهوى بجسدهِ على المقعد، وخزاتٌ  كالمسامير تغرز بصدره دونَ رحمة، لحظاتٌ  يشعرُ بانسحابِ أنفاسهِ وكأنَّهُ داخلَ قبر، خرجت أختهِ تطالعهُ بأنينِ قلبها، كم تعلم عشقهِ الذي دُفنَ لسنوات، خطت

إلى أن جثت بركبتيها أمامَ أخيها :

يزن ليه كدا، ليه تتنازل عن حبَّك، قولتها  قبلِ كدا، من حقَّك تعيش، لو سمحت يايزن، فكَّر في نفسك شوية، مش من حقَّك تحرم نفسك علشانا ..

انحنى وحاوطَ وجهها :

أنا أبيع الدنيا كلَّها علشانِك إنتِ ومعاذ،  أوعي أسمعِك تقولي كدا، أنا قبلِ ماأكون  أخوكي فأنا أبوكي.. هوَّ فيه أب بيجي على ولادُه علشان نفسه، أنا راضي بيكم حتى لو متجوزتِش طول حياتي ..


هزَّت رأسها رافضةً حديثه :

تضيَّع حياتك ليه، إنتَ مش أبونا..

  إيمي مش عايز أسمع كلام في الموضوع دا، أهمَّ حاجة دلوقتي تهتَّمي بدراستك وبس، متنسيش إنتِ ثانوية عامة، كفاية السنة اللي اتأجلِّت بسبب وفاة ماما مش هاقبل أعذار، عايز طب ياإيمي غير كدا مش مسمحولِك تفكَّري في حاجة، لو فعلاً بتحبِّي أخوكي.. عايز نجاح باهر.

قبَّلَت كفِّهِ الذي يحتضنُ بهِ وجهها :

إنتَ أحسن أخ في الدنيا، ربِّنا مايحرمني منِّك .

دمغَ جبينها بقبلةٍ حنونةٍ :

ولا منِّك حبيبة قلبي، وبنتي الغالية، هاعوز   إيه أكتر من إنِّي أشوفِك إنتِ وأخوكي في أحسن حال ..

طيِّب مها، هتقدَر تنساها، تنسى حبِّ حياتك. 

أشاحَ ببصرهِ بعيدًا عنها ثمَّ أردف :

ربِّنا أنعم علينا بالنسيان علشان ننسى أعزِّ النَّاس، فتخيلي اللي ميستهلوش مش هنقدر ننساهم؟..قومي ياقلبي جهِّزي  الفطار أنا اتأخرت ..


حبيبي متزعلشِ هيَّ الخسرانة لأنَّها  متستهلكش، أوعى واحدة زي دي تكسر يزن السوهاجي، اللي كلِّ بنات المنطقة هتموت على نظرة من عيونُه :

رسمَ ابتسامة، وارتفع جانبَ وجههِ بشبهِ ابتسامةٍ ساخرة قائلًا : 

بنات المنطقة كلها مرَّة واحدة، قومي يالِمضة قومي..

بعدَ فترةٍ على طاولةِ الطعامِ أردفَ معاذ :

أبيه يزن عايز فلوس درسِ الانجليزي، الميس طلبتهم منِّي الحصَّة اللي فاتت.


حاضر.. قالها وأخرجَ سيجارة يرتشفُ من كوبِ الشاي، وعينيهِ شاردة بكافَّةِ الاتجاهات، كانت تتابعهُ بعينيها، أصابَ  قلبها الألم على نظراتهِ الحزينة رغمَ محاولتهِ بالظهورِ  أَّنَّهُ على مايرام .

وضعَ الكوبَ وتوقَّفَ متحرِّكًا إلى أشيائه، جمعها ثمَّ أخرجَ  نقودًا من الحافظة الخاصَّة به :

موني دي فلوس درسِ معاذ، عدِّي على الميس وشوفيه عامل إيه معاها، وكمان فلوس الفيزيا، آسف حبيبتي نسيتهم امبارح، كان لازم تفكَّريني بدل ماتلغي الحصَّة كدا .

توقَّفت واتَّجهت إليهِ متمتمة :

لا يايزن أنا سمَّعت الدرس فيديو على اليوتيوب، استفدت مكنشِ له لزوم الدَّرس ..

داعبَ خصلاتها مبتسمًا: 

على يزن برضو ياموني، النِّت أصلًا فصل، مش عيب تكذبي على أخوكي..

جذبها لأحضانهِ بعدما شعرَ بحزنها :

شوفتي بتزعَّليني إزَّاي، مكسوفة تسأليني على الفلوس، نسيت واللهِ ياقلبِ أخوكي، بعد كدا هقبَّضِك شهريًا كلِّ دروسك،  إحسبي الحسبة وقولي عايزة إيه وأنا تحتِ أمرِك .

ابتسمت تهزُّ رأسها دونَ حديث، فيكفي مايشعرُ به، همَّ بالمغادرة إلى أن أسرعَ  معاذ يحملُ حقيبته :

وصَّلني معاك بالمكنة ياأبيه، عمُّو  اسماعيل عامل عمرة للتوكتوك، أومأَ  وتحرَّكَ إلى دراجتهِ البخاريَّة .

ارتدى الخوذة وأشارَ إليهِ بالتحرُّك :

استناني برَّة لمَّا أخرَّج المكنة، خرجَ وتوقَّفَ أمامَ معاذ، رفعَ نظرهِ على تلكَ السيارةِ التي توقَّفت أمامَ منزلِ خطيبته، ترجَّلَ منها شاب يافعَ الطول، عرفهُ من ظهره، نعم صاحبَ العمل الذي تعملُ به، وصلت إليهِ بجوارِ والدتها، التي رمقت يزن بنظرةٍ مستاءة ثمَّ أشارت على ذاكَ الشابِّ الذي يُدعى طارق وصاحت بصوتٍ مرتفعٍ ليصلَ إلى آذان يزن :

تعالَ إفطَر معانا ياخطيب بنتي، حماتك بتحبِّك ..

كوَّرَ قبضتهِ حتى ابيضت مفاصلِه، يضغطُ  على شفتيه بقوَّةٍ بأسنانهِ ولم يشعر بدمائها.. رفعت عينيها لتتقابلَ بعينيهِ وهناكَ الكثير من الأحاديثِ الملامة، ضغطَ بقدمهِ على الوقودِ ليصدحَ صوتُ الدراجةِ وكأنَّهُ لم يعد يستمع لأصواتِ تلكَ الشمطاءِ وهي ترحبُّ به، كيفَ يفعلوا به ذلك، كيفَ تقبَّلت أن تجلسَ معهُ وهي على عهدٍ معه…

قادَ دراجتهِ بسرعةٍ فائقةٍ مما أزعجهم  بخارَها، كانت تطالعهُ بأعينٍ حزينة، تعلمُ   أنَّها خلت بوعدهما ولكن ماذا عليها أن تفعلَ بعد إصرارِ والديها بجبرها على الزواجِ في ظلِّ ظروفه، استقلَّت السيارة بجوارِ من اعتبرتهُ زوجها المستقبلي ولم  تعلِّق على حديثهِ حينما قال :

شكلِك عرَّفتي الولد اللي كنتي مخطوباله، شايفه مش طايق نفسه..

أشارت على الطريقِ وردَّدَت : 

هنتأخَّرعلى الشغل، أمالَ برأسهِ مقتربًا منها، حتَّى أصبحت المسافة بينهما معدومة، ليهمسَ لها :

مفيش شغل النَّهاردة فيه طارق وبس، عازمِك على فسحة هاتعجبِك أوي .

يعني إيه؟..

قادَ السيارة وتحرَّكَ قائلًا :

هانعمل تور أنا وإنتِ وبعد كدا نروح نشوف الفستان ..

ضيَّقت عينيها متسائلة: 

فستان إيه، ليه هوَّ الفرح إمتى؟! 

غمزَ بطرفِ عينهِ قائلًا : 

وقتِ مالجميل يؤمر..

عندَ يزن وصلَ إلى مكانِ عمله، ودلفَ للدَّاخلِ ملقيًا تحيَّةَ الصباحِ على صاحبِ العمل، نظرَ بساعةِ يده : 

اتأخرتِ ليه يايزن النهاردة ؟..

ارتدى ثيابَ عملِه، متهرِّبًا بنظراتهِ من ذاكَ الرجلِ الذي يعتبرهُ بمقامِ والده، ثمَّ أجابه :

مشكلة واتحلِّت ياعمو اسماعيل.. ربتَ على كتفِه :

حبيبي ربِّنا ييسرلك أمورَك دايمًا .

يارب.. قالها بدلوفِ إحدى السيارات،  فأشارَ لهُ الرجلِ بمقابلةِ زبائنه .


بمكانٍ آخر :

وصلَ إلى مكانِ عمله، وجدَ أحدَ الضباطِ بانتظارِه :

إلياس باشا، القضية دي جيَّالنا عن طريقِ المخابرات، وعايزينَك بالإسمِ في تحقيقها، فتحَ الملَّف يطالعهُ لثوان، ثمَّ رفعَ نظرهِ قائلًا :

دي مش تبع الأمنِ القومي، ليه جايَلنا؟!.. قالها وهو يتحرَّكُ لداخلِ مكتبِه.. 

خلعَ جاكيتَ بذلته، وقامَ بثني أكمامهِ  بعدما تحرَّكَ لمقعدِه :

دي خليَّة ياباشا بتموِّل الإرهابيين، الشرطة مسكتهُم متلبِّسين بمشاركةِ  المخابرات.. قالها أحدُ الضباط، 

مش جناية يعني..

أومأَ متفهِّمًا ثمَّ أردف :

تمام ليه جت علينا وهيَّ تبع السويس؟..

معنديش معلومة والله ياباشا .

دلفَ العسكري يضعُ قهوتهِ ثمَّ توقَّف :

فيه واحد برَّة عايز يقابل حضرتَك ياباشا.. قالها وهو يبسطُ كفِّهِ بذاكَ الكارت.. رفعهُ يقرأ مايدوَّنُ به :

راجح الشافعي، ودا عايز إيه، مكتوب هنا رائد متقاعد، مش دا اللي ابنه اتمسَك من كام أسبوع وحقَّقنا معاه..نقرَ على مكتبه، ثمَّ  أشارَ للعسكري :

خلِّيه يدخل لمَّا نشوف أخرتها إيه ..

دلفَ راجح ملقيًا السلام ..

أومأَ إلياس يشيرُ للمقعد.. جلسَ بعدما فكَّ زرَّ بذلته :

إزَّيك إلياس باشا ؟..

أهلًا بحضرتك، ممكن أعرف إيه المطلوب ؟..

حمحمَ راجح متمتمًا :

عرفت إنَّك اللي بتحقَّق في قضيةِ  ابني، جايلَك وأملي كبير، ابني اتمسك من ضمنِ الولاد دول، واللهِ ياإلياس باشا هو مالُه دخل بالسياسة، يعني أبوه كان ظابط، ليه يعمل كدا ..


مش فاهم حضرتَك، ياريت توضَّح..

ابني كان في الشَّقة بس مش علشان إرهابي دا ابنِ ظابط، هوَّ بس كان متصاحب على شويِّة عيال، وكانوا بيروحوا الشقة دي يلعبوا قمار ..

تراجعَ بجسدهِ للخلفِ قائلًا :

ليه هو ابنِ الظَّابط بيلعب قمار؟..

حمحم قائلًا :

شباب بقى ياإلياس باشا، والغلط عندي علشان نقلت جامعتُه القاهرة..

أخرجَ الملفَّ الخاص وطالعهُ لبعضِ الدقائق، ثمَّ رفعَ نظرهِ إليه :

قدَّامك عشَر دقايق تشوفُه، ودا مبعمِلوش مع حد، تأكَّد إكراميَّة مني علشان في مجالِ الشرطة .

نهضَ وشكرهُ : 

شكرًا يابني، ربِّنا يريَّح بالك ..


استمعَ إلى طرقاتٍ ثمَّ دلفَ العسكري :

إلياس باشا، أستاذة ميرال جايبة إذن عشان تعمل حوار صحفي مع المسجون .

بتقول مين؟! 

تساءلَ بها وعينيهِ كالحممِ البركانيَّة .. دلفت للدَّاخلِ مقاطعةً حديثه : 

إيه هوَّ حضرة الظابط واقع على ودنُه  وهوَّ صغير، اتفضَّل دا تصريح من اللوا مصطفى السيوفي بذات نفسُه علشان أقابل المتَّهم اللي اتمسك في الشَّقة، وكمان المتَّهم بتاع المحطَّة .

خُد راجح باشا يقابل ابنُه عشر دقايق، قالها وهو يشيرُ لراجح بالخروج، ثمَّ التفتَ للتي تعقدُ ذراعيها أمامَ صدرها، 

توقَّفَ راجح أمامها :

عدِّيني يابنتي، رفعت نظرها إليهِ ورسمت ابتسامة :

آسفة حضرتَك ..قالتها وتراجعت تُفسحُ  المكان ..خرجَ راجح ونظراتِ إلياس عليه إلى أن أغلقَ الباب، ثم انتفضَ بجسدهِ إليها :

أنا مش محذَّرِك الصُّبح، إنتِ ليه مصرِّة  تخرَّجي شياطيني عليكي، علشان عَندِك   واسطة كلِّ شوية تقرفيني…


رفعت حاجبها وشيَّعتهُ بنظرةٍ متهكِّمة :

يعني علشان بعمِل شغلي، بص ياحضرة الظابط، المسجون دا أنا هقابلُه، وهاعرَف منُّه اللي حضرتِك معرفتِش توصلُّه .


أشارَ إلى مقعدِه : 

تعالي أُقعدي مكاني، وحقَّقي ولَّا أقولِّك  سيبِك من الصحافة، وأقدِّملِك في الشرطة .

جزَّت على أسنانها واقتربَت منه :

إنتَ ليه مستِّفز، أنا بعمِل شغلي، الواقفة قدَّامَك دي ميرال جمال الدين اللي أي مكان يتفتحلها من غير واسطة، ياحضرة الظابط، بس أعمِل إيه..في ظابط مغرور وواخد في نفسُه مقلب .

جلسَ يدَّخنُ سيجاره وتركها تثرثرُ كما زعم، توقَّفَت عن الحديثِ عندما وجدتهُ بتلكَ الحالة، رفعَ نظرهِ بقلقٍ بعدَ صمتها، ثمَّ نفثَ دخانَ سيجارتِه : 

قلقت عليكي، كمِّلي تعريف وهيصة..

احتقنَ وجهها بالغضب، حتى توردَّت  وجنتيها، فدنت منهُ وانحنت برأسها لمستواه :

إنتَ إيه ياأخي فريزَر برجلين قاعد على المكتب، بقولَّك عايزة أشوف شُغلي . 

رفعَ رأسهِ ونفثَ دخانَ تبغهِ بوجهها، فتراجعت برأسها تسعُل، مطَّ شفتيهِ ساخرًا :

ياحرام، ماكنتِ عاملة فيها سكوت آدكنز من لحظات ..

إلياااس..صاحت بها غاضبة، نصبَ عودهِ متوقِّفًا واقتربَ منها بخطواتٍ سُلحفيِّة،  دبَّت الرعبَ بقلبها، ورغمَ ذلك 

اقتربت منهُ وتحدَّثت بجرأة :

عايزة أقابِل المتَّهم، مش خايفة منَّك، متحاولشِ تعملِّي فيها قابض الأرواح .

كوَّرَ قبضتهِ يجزُّ على أسنانه، لتتراجعَ للخلف، ليهمسَ بفحيحٍ أعمى :

إمشي من هنا معنديش متَّهمين .

اتقدَّ الغضبُ كنيرانٍ مشتعلة، وهدرت به :

إنتَ ليه بتعمِل كدا، أنا عايزة أوضَّح  للجمهور حياة الولد وإيه اللي وصَّلُه لكدا .

رفعَ كفِّهِ ولم يشعر بنفسهِ إلَّا وهوَ يضعُ  أناملهِ على ثغرها، لتتوسَّعَ عيناها بذهولٍ من حركتهِ الجريئة، دنا يهمسُ بجوارِ  أذنها بأنفاسهِ الحارَّة التي تريدُ إحراقها :

ميرال ..ميرال، مالكيش شُغل في محيطي، اختفي من قدَّامي بدل ماأندِّمِك..قالها وتراجعَ للخلفِ وكأنَّهُ لم يفعل شيئًا..أمَّا هي فكأنَّ قربهِ شلَّ جسدها ولم تعد لساقيها القُدرة على الحركة..جلسَ فوقَ مقعدهِ يشيرُ إليها :

أخدتِ من وقتي حضرة الصحفيَّة  الفاشلة، روحي شوفي شُغلِك بعيد عني ...

استفاقت أخيرًا من سيطرتهِ الطَّاغية التي فرضها عليها، رفعت عيناها تتأمَّلُ  جلوسهِ المغرور ثمَّ اقتربت إلى أن وصلت إلى مكتبِه، ونظراتهِ تلاحقُ حركتها .


استندت بكفَّيها على مكتبِه :

حضرتَك في المكان دا، وبتاخُد مرتَّب  منِّي ومن غيري، بلاش القنعرة الكدّّابة  دي..

جحظت عينيهِ، ونظراتٍ كالسهامِ الناريَّة،  يصرخُ بالعسكري، حتَّى هبَّت من مكانها فزعة، هاتلي المسجون يشوف أبوه، وخُد  أستاذة ميرال عرفَّها طريق الخروج منين..

تنهيدة ناريَّة خرجت منها وهي تشيرُ إليهِ  بغضب :

إلياس متقوفشِ قدَّام شغلي، اللي بينا مالوش علاقة بالشغل، إنتَ عارف ومتأكِّد أنا بعمِل شُغلي، فلو سمحت متقوفشِ قدَّامي…


دنا منها، فتراجعت للخلف، حتَّى اصطدمت بالجدار، حاوطها بذراعيهِ  

وانحنى ينظرُ لعيونِها التي تشبهُ عيونَ الغزال، ثمَّ همسَ بهسيسٍ مرعبٍ وعينيهِ  تخترقُ عينيها :

إنتِ بقالِك تكَّة معايا، أي كلمة تانية هاندِّمِك على حياتِك طول العمر، كلِّ شوية إلياس، إلياس دي عند مامتِك هناك مش هنا في مكان شغلي، تنطيطِك ليَّا كلِّ شوية مالوش غير معنى واحد وبس، عايزة تلفتي انتباهي، بس غبية لو الستِّ فريدة بتحلَم وزقِّتِك  عليَّا هافعصِك، استلفي شوية عقل من عندِ مامتِك اللي معرفشِ بترسم على إيه،  اتعاملي معايا بيهم لحدِّ ماأشوفلِك مصيبة، سمعتيني ولَّا لأ …

ثقلَت أهدابها لحجزِ الدموعِ تحتها، رفعت عينيها مع رأسها بكبَرِ أنثى داسَ على كرامتها :

إعرَف لو إنتَ آخر راجل على الكرة الأرضيَّة علشان ألعب عليه وأجذِبُه، مستحيل.. لأنِّي هاضيَّع وقتي مع الشخصِ اللي ميستهلِشِ ميرال جمال الدين، إنتَ أخرَك تزعَّق وبس، إنَّما تِتحَب  وتكون من طموحاتي تبقى مجنون.. قالتها ودفعتهُ بقوَّةٍ ليبتعدَ عنها، ثمَّ  أشارت مهدِّدةً إيَّاه :

هاكتِب فيك شكوى لنقابةِ الصحافة ياعمِّ المغرور، قالتها وجذبت حقيبتها،

وتحرَّكَت بخطواتها الواثقة، وغادرت المكانَ بالكامل، وقلبها يئنُّ كالوترِ المقطوع..سبَّها قائلًا :

دمِّك يلطُش، إصبري عليَّا بت متخلِّفة،


جلسَ على مقعده، بدلوفِ المسؤول :

الولد جاهز للمقابلة 

أشعلَ سيجارة ينفثها بهدوء :

خلِّيه يشوفه كدا، علشان يعرَف يربِّيه،  دلفَ صديقهِ بالعمل  :

صباح الخير :

ارتفعَ جانبَ وجههِ بشبهِ ابتسامةٍ ساخرة :

صحِّ النوم ياعريس، ناموسيِّتَك كحلي .

هوى على المقعدِ يشيرُ للرجل :

قهوتي يابني، استدارَ إلى إلياس :

عملت حاجة في القضيِّة بتاعة الخليِّة؟.. 

تراجعَ بجسدهِ ورمقهُ ساخرًا ثمَّ تمتمَ :

مش بقول عريس وصباحيَّة مباركة، الولد المخابرات صفِّتُه إمبارح، والتَّاني في الزنزانة بين الحيا والموت .

يعني إيه؟..اقتربَ يستندُ بذراعيهِ على المكتب :

الولد مالوش في السيَّاسة فعلًا، دا بتاع قُمار وشرب، بس فيه ولد هرب قبلِ الهجوم، كدا يبقى عرف إنِّ الشقَّة  هاتُقتَحم ..

مسحَ على ذقنهِ قائلًا :

معنى كدا فيه حد بيحرَّكهم...أومأَ له مجيبًا :

بالظبطِ كدا، دا اللي عايز أقوله ..نهضَ من مكانهِ وهمَّ بالمغادرة إلَّا أنَّ إلياس أوقفُه :

شريف الولد أبوه عندُه، عشر دقايق ومش عايز حدِّ يقرَّب منُّه، وممنوع من الزيارة، حتَّى أبوه نفسه ممنوع يشوفُه تاني

قطبَ جبينهِ مستفسرًا :

ليه خلِّيت أبوه يشوفه، هوَّ ينفع؟! 

نهضَ من مكانهِ قائلًا :

عايز أعرَف اسمِ الولد اللي كان معاهم، ودا مش هيقولُه لحدِّ غير أبوه، وكمان أبوه طلع كان ظابط بس تقاعد، نُصِّ ساعة وهنجيب ملفُّه بالكامل .

تمام يعني فيه تسجيلات ..

-ولو ..إنتَ مجنون، فيه حاجة تفوتني..أومأَ لهُ وتحرَّك، ولكنَّهُ توقَّفَ على بابِ الغرفة :

أستاذة ميرال قابلتني تحت، وكانت مضَّايقة، إكسَب الصحافة علشان ميقلبوش علينا ..

لوَّحَ بيدهِ قائلًا :

سيبَك منها، هاعرف أوقفَّها  

هزَّ رأسهِ ضاحكًا : واللهِ البنت زي القمر، معرفش مالَك ومالها ..

إنتَ اتجنِّنت ولَّا إيه، إنتَ بتعاكِس في البنتِ قدَّامي!.. 

اقتربَ شريف مقهقهًا :

إيه الغزالة غمزِت ولَّا إيه.. استدارَ إلى مقعدهِ يشيحُ بكفَّيه :

غزالة إيه يابني، دي من أهلِ بيتي.. أه مختلفين بس دا ميدلَكشِ الحقِّ تتكلِّم عنها مهما كان ..

غمزَ بطرفِ عينهِ مردفًا :

من إمتى الحنان دا ياأمِّ كلثوم ..

أوووف إمشي من قدَّامي، أهو إنتَ بارد زيَّها..رفعَ حاجبهِ ساخرًا :

طيِّب إحنا الاتنين شبه بعض،ماتجوِّزنا لبعض، اهو تلمِّني وتاخد فيَّا ثواب بدل الأفلام الثقافيَّة اللي مبهدِلة أخوك .


شريف ..صاحَ بها بغضبٍ وكأنَّهُ تحوَّلَ لشيطانٍ أعمى :

قولتِلَك أهلِ بيتي مش للهزار، أوعى  تفكَّرني هتساهِل معاك، دي زيَّها زي غادة، اللي بينا مالوش علاقة بحد، سمعتني ولَّا لأ، ياريت تلتزم حدودك في الموضوع دا .

أومأَ معتذرًا :

آسف ياإلياس مكنشِ قصدي أزعَّلك، أشارَ لهُ بالخروجِ وأجابهُ ممتعضًا :

روح شوف شُغلَك، وابعتلي تسجيلات مقابلة الراجل وابنُه، عايز نشوف شُغلنا . 


بفيلَّا السيوفي :

تقرأُ بمصحفها، وتنسابُ عبراتها مع ذكرياتٍ متألِّمة، أغلقت المصحف ووضعتهُ بمكانِه، جلست تنظرُ للخارجِ تزيلُ عبراتها تهمسُ لنفسها :

إيه يافريدة، ظهور راجح قلَّب عليكي الماضي، عايزة إيه ..حقِّك وربنا جبهولِك، وأكيد عند ربنا الأكبر والأعظم .

تنهيدة متألِّمة ثمَّ وضعت كفَّها على صدرها تتمتمُ بخفوت:

متأكدة ربنا هايجمعني بيهُم قريب، يارب استودعتكَ أولادي، إحفظهُم بحفظك، واجمعني بيهم،


ذهبت بذاكرتها منذ ساعتين :

خرجت من غرفةِ مكتبها، ونادت على مربيِّة الدار التي تمتلكُها :

علية ..هرولت إليها السيدة قائلةً :

نعم يامدام فريدة..أشارت إليها :

شوفي أستاذة حنان فين، ناديها علشان نعمِل جولة على غرفِ الأطفال ونشوف المستوى..أومأت لها وتحرَّكَت سريعًا .

تحرَّكَت فريدة إلى مكتبها وهاتفت ابنتها :

ميرال حبيبتي خلَّصتي شغلك؟..كانت تستقلُّ سيارتها فأجابتها :

لا ياماما، لسَّة عندي مقابلة عند عزرائيل باشا، نفسي أطبق على زمَّارِة رقبتُه دي وماسيبوش غير وهوَّ بيرفرف ..

ضحكت على حديثِ ابنتها :

قصدِك إلياس؟..همست ميرال بخفوت ؛

هوَّ  فيه غيرُه الطاووس المغرور . 

عيب ياميرال مهما كان مينفعشِ تغلطي فيه حبيبتي دا في مقام أخوكي الكبير..قطعت حديثَ والدتها:

متقوليش بس أخوكي، عمرُه ماهيكون أخويا ياماما، دا شبه جنكيز خان ..أفلتت فريدة ضحكةً قائلةً :

بلاش تضَيقيه ياميرال، المهم أنا هاتأخَّر  شوية في الدار النهاردة متقلقيش حبيبتي .

قادت سيارتها وتحرَّكَت قائلة :

تمام حبيبتي المهم خُدي بالِك من نفسك..

خرجت فريدة مع المسؤولة وقامت بعملِ جولةٍ على كلِّ الغُرَف، عادت إلى غرفتها بعدما ألقت أوامرها بقيامِ المهام لكلِّ فردٍ في الدَّار، ثمَّ تحرَّكَت إلى غرفةِ مكتبها بدخولِ وكيلةِ الدَّار : 


شوفتي الأخبار يافريدة ..جعدَت جبينها متسائلة:

أخبار إيه؟..ألقت الجريدة أمامها على المكتب : 

الإرهابيين اللي مسكوهُم من فترة، نظرت إليها منتظرةً باقي حديثها ، فتابعت السيدة :

إنتِ مش ابنك أمنِ دولة وجوزِك لوا، إزَّاي متعرفيش!..

جلست على المقعدِ مستفسرة :

مبدَّخلشِ في شغلهُم إلَّا إذا كانت قضيِّة  رأي عام .

والانفجارات اللي بتحصَل دي ماهيَّ رأي عام برضو، وضعت الجريدة أمامها :

شوفي مصوَرينهُم أهو، بس أهاليهُم اللي صعبوا عليَّا، دول عيال مش فاهمين حاجة، وداعش مابيصدَّق يوصل لعيال زي دي..

أومأت بتفهُّم تنظرُ إلى تلكَ الجريدة، هزَّة عنيفة أصابت جسدها وهي ترى صورةُ ذاكَ الشَّخصِ وبجوارهِ شابًا بالعشرينات، رفعت الجريدة تدقِّقُ النظرَ بالصورة، فنهضت سريعًا تجمعُ أشياءها  قائلةً بتلعثم :

رحاب خلِّي بالِك من الدَّار، عندي مشوار مهم ..قالتها وغادرت سريعًا، اتَّجهت إلى سيارتها بساقينِ مرتعشة، وصلت إلى السيارة ودقاتٍ عنيفة تكادُ تخترقُ صدرها ..توقَّفت تلتقطُ أنفاسها تنظرُ حولها بتشتُّت :

راجح..همست بتقطُّع تتلفَّتُ حولها وكأنَّهً يراها، أنفاسٍ كالمسامير تدقُّ  بصدرها، فتحت بابَ السيارةِ وجلست بداخلها مع انسيابِ عبراتها .. دقائقَ كأنَّها  دهرًا طويلًا حتَّى شعرت وكأنها كهلةً لما شعرت به من ثقلِ أنفاسها، فتَّشت عن هاتفها بتذبذبٍ إلى أن وجدتهُ ورفعتهُ بكفِّها المرتعش :

ليه ماقولتليش ابنِ راجح في القضية؟..


صمتًا دامَ للحظات، يستمعُ إلى أنفاسها المضطربة، إلى أن سحبَ نفسًا عميقًا :

علشان متكونيش زي دلوقتي كدا .

ثقلُت حروفُ نطقِها مما جعلها تصمتُ وكأنَّها لم يعد لديها القدرة على التحمُّل  إلى أن استمعت إلى صوتهِ الحنون :

فريدة مصطفى السيوفي مستحيل حد يقدر يقرَّب منها، أدفنُه حي، أقسم بالله يافريدة اللي يقرَّب منِّك أو من ميرال أدفِنُه حي، حبيبتي إهدي، ميقدَرش  يعمل حاجة، ولا يقدر يقرَّب منِّك . 

مصطفى أنا خايفة...قالتها بتقطُّعٍ ممَّا  جعلته يشعرُ بتفتيتِ ضلوعِه، ليتوقَّفَ  متَّجهًا للخارج :

إنتِ فين حبيبتي، أنا جايلِك، تلفَّتت  حولها وانسابت عبراتها قائلة :

قدَّام الدَّار ..

خليكي يافِري أنا في الطَّريق . 


مساءَ اليومِ التالي :

جلسَ أمامَ مسبحِ منزلهِ يطالعهُ بشرود، وصلَ إليهِ إلياس :

مساء الخير ياسيادة اللوا..

رفعَ رأسهِ مبتسمًا وردَّ تحيَّتِه :

مساء الخير ياحبيبي، رجعت إمتى شايفَك  مغيَّر هدومك…


جلسَ بمقابلةِ والدهِ ينظرُ إلى دلوفِ  سيارةِ إسلام وبجوارهِ غادة واجابه:

من ساعة تقريبًا، استدارَ بعدما استمعَ إلى ضحكاتِ غادة بنزولِ ميرال :

طيِّب أقوم أضربهم.. بتقولِّي ماتشدِّش  عليهم وخلِّيك حنيِّن، سامع صوت الضحك.. 

حدجهُ والدهِ بنظراتٍ مبهمة، ثمَّ أردف :

بيضحكوا في البيت ياإلياس، وبعدين غادة صغيرة، خلِّيها تفرح حبيبي بلاش الشدَّة علشان ماتغلط برَّة .

صغيرة إيه يابابا، دي أولى جامعة، يعني مش طفلة، والأستاذة ميرال برضو صغيرة؟..دي لمَّا الأمن يسمع ضحكاتها بالطريقة دي…


وصلت الخادمة إليهما بمشروباتهم :

مدام فريدة بعتت لحضرتَك العصير دا ياباشا، والبيه قهوتُه..قالتها بعدما وضعتهم على الطاولة وغادرت .


رفعَ مصطفى عصيرهِ يرتشفه، ثمَّ تساءل :

سألت على فريدة؟..

رفعَ قهوتهِ وارتشفَ منها يسحبُ بصرهِ من نظراتِ والدهِ إلى أن استمعَ إليه :

مابترُّدِش ليه ياإلياس، سألت على مامتك؟..

توسَّعت عيناهُ بضجر، وأردفَ ممتعضًا :

بابا لو سمحت اتكلِّمنا كتير في الموضوع دا، أتمنَّى ماتزعَّلنيش تاني، الستِّ دي هاتفضَل لآخِر يوم في حياتي مرات أبويا  اللي استغفلتنا .

إلياس..هدرَ بها مصطفى بوصولِ ميرال إليهما ملقيةً تحيَّةِ المساء :

مساء الخير عمُّو مصطفى ..قالتها وهي تنحني تقبِّلُ رأسه..كانت عيناهُ ثابتة على ابنه، وزَّعت نظراتها بينهما متسائلة:

جيت في وقت مش مناسب، أمشي.. 

ابتسمَ مصطفى يشيرُ إليها بالجلوس :

لا حبيبتي إنتِ تيجي في أي وقت، دا إلياس كان عايز يعتذِر منِّك بسبب اللي حصل منُّه في المكتب .

جحظت عيناهُ يرمقُ والدهِ بذهول، فهمت ميرال ماينويهِ مصطفى، فالتفَتت تبتسمُ إليه :

لا ياحبيبي مش مستاهلة أنُّه يعتذر، الواحد لمَّا بيغلط بيعتذِر لأن بيكون حسِّ أنُه قليل ذوق، فابيضَّايق من نفسُه  وبيعتذِر، أمَّا حضرِة الظابط دي شخصيتُه، شخصية عاملة زي فرعون لمَّا  كان بيقول أنا ربُّكُم الأعلى..

تجاهلَ ثرثرتها، ثمَّ هتف:

صوتِك ياأستاذة ميرال لمَّا تضحكي وطِّي  صوتِك، الأمن في كلِّ مكان، إحنا مش في مسرح، بلاش شُغلِ المهرِّجين .


أسبلَت عيونها بوميضٍ قائلة :

أنا مش مهرِّجة يا إلياس، أنا مهرجة وعاجبة نفسي مالكش فيه..استدارت إلى مصطفى ثمَّ احتضنت كفَّيه :

عمُّو مصطفى حضرتَك عارف أنا بحبِّك  قدِّ إيه، فيه موضوع أتمنَّى توافِق عليه وتقنِع ماما بيه .


ابتعدت بنظرِها عنهُ وهتفت :

أنا اشتريت بيت صغير في آخرِ الشارع دا، خلاص كفاية لحدِّ كدا، وجودي بقى تقيل على بعضِ النَّاس، حتى إنُّهم وصلوا يتِّهموني بأخلاقي..رفعت نظرها إليهِ وترَجَّتهُ بعينيها الدامعة :

من زمان والموضوع في دماغي، بس النهاردة قرَّرت واتَّصلت بمكتبِ العقارات ومن حُسنِ حظِّي خليتُه يشوفلي بيت قريب من هنا علشان أمِّي عارفة إنَّها  هاتُرفض، بس لمَّا تعرف هاكون قريبة هاتوافِق.. 

سقطت كلماتها على مسامعهِ كسقوطِ نيزك، ليستندَ على الطاولةِ مقتربًا منها :

ليه حبيبتي بتقولي كدا، عمرِك ماكنتي تقيلة إنتِ بنتي ياميرال واللي مش عاجبُه يشرب من البحر.

توقَّفت من مكانها وابتسمت قائلة :

حبيبي ياعمُّو مفيش داعي لدا، أنا كنت مقرَّرة مالوش لازمة، من حقِّ حضرِة  الظَّابط ياخد راحتُه في بيته، علشان يتجوِّز براحتُه أصلي طلعت عقبتُه..

رمقَ ابنهِ الذي انشغلَ بهاتفهِ دونَ أنَّ يعيرَهُم اهتمام، ثمَّ أردف :

إيه الكلام دا ياإلياس؟..

قاطعته ميرال

-بعد إذنكُم، أنا قرَّرت وخلاص، أتمنَّى تقنِع  ماما ياعمُّو، مستحيل أقعُد في البيت دا يوم بعدِ النهاردة…


أخيرًا رفعَ رأسهِ وانصهرَ جمودهِ ليُردفَ  ساخرًا :

وهدومِك هاجمَّعهالك وأبعتها  متشغليش بالك إنتِ.. 

زمَّت شفتيها تجيبهُ بملامحٍ جامدة:


شكرًا على خدماتك..قالتها وتحرَّكت  سريعًا، ولم تلتفِت خلفها رغمَ مناداةِ مصطفى إليها..


خطواتٍ ظاهرَها ثابتةٍ ولكنَّها متعثِّرة، وكأنَّها تخطو فوقَ سيفٍ مدبَّبٍ ليشحذَ قدميها، هرولت إلى الحديقةِ الخلفيَّة، لتجثو بركبتيها على الأرضيَّةِ تضعُ كفَّيها على صدرها وكأنَّ  حجرًا ثقيلًا يُطبِقُ على صدرها،  

مع انفجارِ شلَّالِ عينيها، دقائقَ وهي على حالها تسألُ نفسها لماذا من صُغرِها وهو يعامِلُها بذاكَ الجمودِ والقسوة، ذكرياتٍ خلفَ ذكريات، تعبِّرُ عنها عيناها مع ألمٍ  حارقٍ كادَ أن يُزهقَ روحها .


عندَ مصطفى وإلياس الذي كانَ يتابعُ  تحرُّكِها وابتسامةً ساخرةً على ملامحه، يهتفُ لنفسِه :

بت غبيَّة مفكَّرة نفسها ملكة والكلِّ لازم يقولَّها آمين .

مسحَ بكفَّيهِ على وجههِ في محاولةٍ يائسةٍ  لوقوفِ ابنهِ :

مش شايف إنَّك تخطِّيت حدودَك في وجودِ أبوك يا محترم…

إيه اللي حضرتَك بتقولُه دا، حضرتَك مش شايف هايفِتها، أشارَ بكفِّهِ بالتوقُّف :

البنتِ دي لو خرجت من البيت مش عايز أشوفَك قدَّامي… 


أحسَّ بقبضةٍ تعتصرُ فؤادِه، رفعَ عينيهِ  بخيبةِ أملٍ إليهِ ونظراتٍ تحكي الكثيرَ من الانكسارِ هاتفًا بتردُّد : 

كنت متوَقِّع حاجة زي كدا من حضرتك، نصبَ عودهِ متوقِّفًا لا يعلمُ كيف توقَّفَ  بذاكَ الشموخَ أمامَ والدهِ بعدما استمعَ لتهديدهِ البائن :

دايمًا الستِّ فريدة وبنتها فوقي، بقيت أشُك إنِّي ابنك أصلًا…


رعشةٌ قويةٌ أصابت جسدُ مصطفى، حتَّى  شعرَ بشحوبِ جسدِه، وتثاقلَ لسانهِ عن الحديث، صمتَ ونكسَ رأسهِ للأسفلِ بعدما شعرَ وكأنَّ أحدُهم طوَّقَهُ بطوقٍ من النيران..ظلَّ إلياس يحدُجهُ بنظراتٍ ثابتة، ورغمَ حزنهِ البائن إلَّا أنَّهُ لامَ نفسهِ في فظاظةِ حديثهِ مع والده، فاقتربَ منهُ  وجثا أمامَ مقعدهِ يحتضنُ كفَّيه :

آسف عارف قسيت بكلامي مع حضرتك، حقيقي معرفشِ إيه اللي بيحصَل معايا، آسف بابا متزعلشِ منِّي .


رفعَ رأسهِ يتعمَّقُ بعينيهِ :

بتحبِّني ياإلياس؟..طالعهُ مصدومًا من حديثه، فابتسمَ يهزُّ كتفِه : 

إيه اللي حضرتَك بتقولُه دا، إنتَ روحي يابابا، ولو طلبت عمري مش هاتأخَّر . 

ربتَ على كتفهِ قائلًا :

عايزَك تتجوِّز ميرال..

رانَ صمتًا هادئًا بالمكان، ولكنَّهُ لم يخلو بتعلُّقِ الأعين بالنظرات بينهما، فجأةً أطلقَ ضحكةً صاخبةً متوقفًا يضربُ كفَّيهِ ببعضهما :

بتموت في الهزار يادرش، بس وحياة ابنك بلاش الهزار اللي يُخنُق الواحد دا ..


توقَّفَ مصطفى واقتربَ منهُ يغرزُ عيناهُ بمقلتَيه :

شوف عايز نعمِل الفرح إمتى وأنا موافق، واللي إنتَ عايزُه، عايز تقعد معانا، عايز تقعُد مع مراتَك لوحدك براحتك ..قالها مصطفى وتحرَّكَ من أمامهِ حتَّى لا يناقشهُ بقرارِه . 


باليوم التالي بغرفةِ فريدة، 

انتهت من قراءةِ وردها اليومي، ثمَّ جلست بالشرفةِ تنظرُ للخارج . 


استدارت بعدما شعرت بخطواتِ أحدُهم بالغرفة :

نهضت وتبسَّمَت :

حمدلله على السلامة يامصطفى ..

أومأَ لها ثمَّ قامَ بخلعِ جاكيتَ بدلتِه، اقتربت منهُ تأخذهُ وهي تتعمَّقُ بنظراتها إليه، وضعت كفَّيها على كتفِه :

مُصطفى مالك، فيه حاجة حصلت؟..

جلسَ على المقعدِ يفركُ جبينِه، رفعت كفَّها تخلِّلُ أناملها بخصلاتهِ المختلطةِ بالشعرِ الأبيض :

عندَك صداع ولَّا إيه؟!

تراجعَ بظهرهِ على جسدها، حاوطتهُ بذراعٍ والآخر تُحرِّكها بهدوءٍ كمساجٍ برأسه :

ياحنان إيدك يافريدة، بحسَّها بلسم .

افترت شفتاها ابتسامة :


بتدلَّع يامصطفى، ولَّا بتهرب مني ؟..

اعتدلَ واستدارَ إليها :

عرفتي إلياس طرد ميرال من مكتبهِ مش عايزِك  تزعلي، وفيه موضوع طول اليوم بفكَّر فيه .

طالعتهُ بنظراتٍ مستفهمة، احتضنَ كفَّيها يربتُ عليهما :

فريدة أنا قرَّرت أجوِّز ميرال لإلياس، ومش عايز اعتراض .

ضيَّقت عينيها متسائلةً بلهفة :

ليه يامصطفى، علشان راجح ظهر تاني صح؟..

جذبَ رأسها لأحضانهِ بعدما انفجرت عيناها بالدُّموع :


إيه اللي بتقوليه دا، هوَّ أناخايف منُّه  علشان أجوِّزها لإلياس !..

تأملَّها بعينينٍ حزينةٍ ونظراتٍ مترجيِّة :

فريدة إلياس عمرُه ماهيتجوِّز لو فضل كدا، عندي أمل في ميرال ..

هبت من مكانها تفرك بكفيها ثم 


حانت منها نظرةً ممزوجةً بعيونها المترقرِقة :

هايعذبها يامصطفى، هياخُدها بذنبي، والبنت متستَهلِش معاملتُه الجافَّة، متزعلشِ مني، إنتَ عارف أنا بحبُّه أد إيه، بس عند ميرال مقدرشِ أضحِّي بيها .

أصابهُ الحزنَ فنكسَ رأسهِ للأسفل :

كان عندي أمل فيها، الولد يوم عن يوم قلبُه بيقسى، فكَّرت لمَّا يتجوِّز قلبه يحنِّ ويبعد عن قسوتُه شوية ..


هاجَ قلبها على حالته، جلست بجوارِه : 

طيِّب عايزة مؤخَّر كبير علشان مايحاولشِ يطلَّقها..قالتها بابتسامةٍ حزينة...رفعَ رأسهِ يطالعها مذهولًا :

موافقة..هزَّت رأسها تُربتُ على كتفهِ

وأجابتهُ بنبرةٍ واثقة:

 ابنَك مش قاسي يامصطفى، هوَّ عايز يفهِّمنا كدا، بس لو قرَّبتِ منه هتلاقي حنِّية الدنيا كلَّها عندُه، المهم مايكرهش البنت، وبلاش انا أظهر في الموضوع 

إنتِ اللي بتقولي كدا بعد اللي حصل دا كلُّه!..

اكتفت بتنهيدةٍ مرتجفةٍ أفلتتها من بينِ آلامها :

مش هاخبِّي عليك يامصطفى، إلياس أكتر  واحد هيقدَر يحافظ على ميرال، رغم جحوده معاها بس جوايا يقين بيقول أنه اكتر واحد هيحميها

لاحت نظراتهِ بتساؤلٍ عن ماتعنيه، نهضت مرتبكةً تفركُ بكفَّيها :

من وقت ما شوفت خبر القبض على ابنِ راجح ، وعرفت إنِّ الولد هايكون تبع أمنِ الدولة، لأنَّها قضية تمسُّ بالأمنِ القومي ..وأنا بفكر في اليوم اللي هقابل فيه راجح، عايز قدر اكتر من إن الولد ميلقوش حد غير إلياس يحقق معاه، مش شايف دي إشارة من ربنا 

اهتزَّ جسدهِ يطالعُها بذهول :

فريدة إنتِ ناوية على إيه؟!

استدارت سريعًا وعادَ الوجعُ ينبثقُ من نظراتِ عينيها . 

وأنا بأيدي إيه أعمِلُه، تقدَر تقولِّي، لو بإيدي حاجة كنت عملتها من خمس وعشرين سنة يامصطفى، واحدة وحيدة عاجزة وانداس عليها، اتسلَب منَّها كلِّ حاجة، حتى سُمعتها وشرفها، تفتكِر اللي مقدرتِش أعمله زمان هقدر أعمِله  دلوقتي، بس أنا منتظرة عدالة ربِّنا واللي متأكدة منها .


زفرة حادَّة مع نظراتٍ مكدَّسة بالعتاب :

أنا مقصَّرتِش يافريدة، حاولت على قدِّ ماقدرت، استخدمت كلِّ نفوذي، بس معرفتِش أوصل لحاجة ، عارف إنك موجوعة، بس معرفش انك لسة شايلة جواكي الوجع دا 


انهارت حصونها وبكت بدموعٍ تحرقُ عينيها قبلَ وجنتيها :

أنا عمري مانسيت قهرتي يامصطفى، دول ولدين، وعيشة ذل ووجع، أنا عمري ماهتنازِل عن ميرال يامصطفى، دي حقِّي، حقِّ وجع قلبي..بنتِ قلبي سمعتني اللي خففت وجعه في قهرته


محدِّش يقدَر يقرَّب منها، أنا هاحميها  من الكل، حتى لو اتجوِّزت إلياس


بغرفةِ ميرال :

أنهت تبديلَ ثيابها وقضت فرضها،ثمَّ اتَّجهت إلى جهازها المحمول لإنهاءِ بعضَ أعمالها التي تتعلَّقُ  بأخبارِ القضايا التي تسعى لمعرفةِ تفاصيلها.. استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة :

أدخل..دلفَ إليها بغرورهِ المعهود، 

تطلَّعت إليهِ بذهولٍ فلأوَّلِ مرَّة يأتي إلى غرفتها منذُ سنوات :

هاستنَّاكي تحت، عايز أتكلِّم معاكي .

اتَّجهت إلى جهازها مردفة :

مش فاضية عندي شغل، لمَّا أفضى يبقى أبعتلك.. 

عقدَ حاجبيهِ بغرور، واقتربَ منها :

إسمعي يابت خُلقي ضيِّق، مش عايز هبل البنات هستناكي تحت، خمس دقايق وتكوني ورايا، 

طالعتهُ برفعةِ حاجبٍ قائلة :

خلقك ضيِّق نوسَّعهولَك، أنا مش فاضية، وزي ماقولت لجلالة البيه المغرور لمَّا أفضى يبقى أكلِّمك ..

انحنى بجسدِه قليلًا، وبفظاظتهِ المعهودة :

لمَّا أأمُرِك بحاجة تسيبي كلِّ اللي في إيدِك  وتيجي .


اندفعت صارخةً بوجهِه :

إنتَ إيه ياأخي، ماتسيبَك من شويِّة  الغرور اللي نافخ نفسك بيهم، اسمعني علشان دا آخر الكلام بينا، إنتَ  على بعضك ماتهمِّنيش، ووسوسة شيطانَك أنا مش مسؤولة عنها، 

وياله إطلع برَّة سبني أكمِّل شغلي، شكلَك  فاضي ومش لاقي حاجة تعملها .


احتقنَ وجههِ بالغضبِ من تلكَ الشرسة،  فدنا ينحني بجسدهِ إليها حتى لفحت أنفاسَ غضبهِ وجهها :

-من بكرة مش عايز أشوف وشِّك في البيت دا، ولو فعلًا بنتِ فريدة خلِّيكي متمسِّكة  برأيك، بلاش شوية الحوارات ودموع التماسيح اللي قدَّام أبويا، علشان تصعبي عليه، خلِّيكي شاطرة وفاردة عضلاتِك كدا قدَّام الكُل، بدل مابشُفهُمش غير معايا، بلاش خبثِ البنات دا علشان مهما تعملي ماتهزِّيش منِّي شعرة..قالها ونصبَ عودهِ متوقِّفًا :


أغمضت عيونها للحظاتٍ محاولةً تمالكَ  أعصابها حتى لا تصفعهُ على وجهه، حاولَ  إخفاءِ ابتسامتهِ من تبدُّلِ حالتها الغاضبة، إلَّا أنَّهُ أفلتَ ضحكةً رجوليَّةً  قائلًا :

كدا شكلِك عجبني أكتر، كلِّ ماأشوفِك  غضبانة كدا بحسِّ بارتياح نفسي .

-لأنَّك مجنون.. قالتها ببساطة، استدارَ للمغادرة وبدأَ يدندنُ بأغنيةٍ أجنبية، أمسكت جهازَ تحكُّمِ التلفازِ الذي يجاورها وألقتهُ برأسه، فاستدارَ إليها متأوهًا وعينيهِ تطلقُ شررًا، اقتربَ منها، فهدرت به قائلة

-هصوت وألم البيت واقولهم بيتهجم عليا، وشوف بقى عمو مصطفى هيعمل ايه..نفرت عروقه وتجهمت ملامحه ، وصل إليها بخطوة 

-عايز اللي في الحديقة تحت يسمع صراخك يابنت فريدة، قالها وهو يجذبها من ذراعها، إلَّا أنَّهُ توقَّفَ بدخولِ فريدة قائلة :

ميرال، ولكنَّها توقَّفت مصدومةً من وجودهِ بغرفةِ ابنتها، واقترابه وتمسكه بها بتلك الطريقة، وزَّعت النظرات بينهما متسائلة :


فيه حاجة؟..تحركت ميرال متَّجهةً  لوالدتها ويبدو أنها نست ما ترتديهِ من ملابسَ صيفيَّة :

مفيش قالها وتحرَّكَ سريعًا بعدما توقَّفت وظهرت أمامهِ بتلكَ الطَّلةِ التي لأوَّلِ مرَّةٍ يراها بها، سحبتها فريدة وأجلستها على الفراشِ غاضبة :

إزاي تقابلي إلياس كدا، إنتِ اتجننتي ياميرال، مش واخدة بالِك من هدومك، -وهوَّ جاي ليه؟!.. 

نظرت لنفسها ورغمَ ذهولِها إلَّا أنَّها  لوَّحت بكفَّيها متمتمة :

ماأخدتِش بالي ياماما، غير أنُّه دا مايفرقشِ معاه حاجة، يعني حملة فريزر عندنا في البيت .

أفلتت ضحكةً تضربُ كفَّيها ببعضهما ثمَّ رمقتها واستطردت :

حبيبتي ماينفعشِ إنتِ مش صغيرة حرام تقابليه كدا، وبعدين أنا خلاص مابقتش هاتساهِل بشعرك دا، لازم تلبسي حجاب، ولبسِك كلُّه لازم يتغير،

نفخت بضجر، واتَّجهت إلى فراشها :

رجعنا بقى للبسِ الحجاب والبناطيل، ماما مش هاعمِل حاجة مش مقتنعة بيها .

زفرت فريدة بغضبٍ ثمَّ جلست بجوارِها  واسترسلت قائلة :

- وأنا كدا مش هارضى عنِّك ياميرال، لأنِّك  وعدتيني وأخلفتي وعدِك .

-أوووف ياماما هانرجع نتخانِق تاني بسببِ اللبس، تمام حاضر وعد أفكََر في الموضوع كدا كويس .

توقَّفت فريدة تشيرُ إلى الباب :

إنزلي نتعشى تحت، عمِّك مصطفى عايزِك ..

قطبت جبينها متسائلة :

- عايزني أنا ليه؟!..تذكَّرت ما قالتهُ لهُ منذُ ساعات، فأومأت متباعدة :

هوَّ قال لحضرتِك حاجة ..هزَّت رأسها بالنفي واستدارت :

- لا، ياله إنزلي متتأخريش ..قالتها وفرَّت  هاربة حتى لا تنفلتَ الكلماتَ من بينِ شفتيها، هي تعلمُ بقساوةِ إلياس ورغمَ ذلكَ تشعرُ بداخلهِ حنانًا يفيضُ العالم، وافقت مصطفى على ارتباطِ إلياس بابنتها لتحافظَ عليها من تقلُّباتِ القدر، رغمَ تيقُنِها بعدمِ أمومتها لها، ولكن كيفَ ستقنعُ قلبها بالابتعادِ عنها، أحبَّتها  وتعلَّقت بها لتشعرَ أنَّها فلذةِ كبدِها وابنةِ روحها .

بعدَ فترةٍ تجمَّعَ الجميعُ على طاولةِ العشاء، كانت تنظرُ بصحنِها دونَ النظرِ إلى ذاكَ الذي يقابلها وعلى وجههِ ابتسامة حمقاء لا تعلمُ ماهيتها همست لنفسها :

نفسي أضربَك على وشَّك أوقَّعلك سنانك دي، دنت غادة تهمسُ إليها :

مالِك ياميرو، بتكلِّمي نفسِك ليه؟!..


رفعت عينيها فتقابلت بعينيهِ الصقريَّة، ونظراتهِ التي تحملُ الكثيرَ من الوعيد، كانَ هناكَ من يراقبُ تلكَ النَّظرات، 

رمقتها بنظرةٍ تشيرُ إلى إلياس :

هاقوم أطيَّر سنانُه اللي فرحان بيهم .


أفلتت غادة ضحكةً صاخبةً بينهم إلى أن قطعَ مصطفى حديثهم  قائلًا :

أنا اتَّفقت مع فريدة هانكتِب كتبِ كتاب إلياس على ميرال يوم الجمعة .

ألقت مابفمها دفعةً واحدةً بوجهِ غادة..التي صرخت بها :

إيه دا ياميرال..

جحظت عيناها تنظرُ إلى مصطفى متسائلة :

ميرال مين وإلياس مين؟!..لكزتها غادة تشيرُ بعينيها لذاكَ الذي ينفثُ سيجارَتهِ  ببرود..

فنهضت كالمجنونة :

حضرتَك قصدك أتجوِّز ابنك اليأس دا، زمَّ شفتيهِ مستمتعًا بجنانها بعدَ معرفتها ..ضحكت غادة تردُّ على والدها :

أعذرها، دي من فرحتها بتلخبط في اسمه، دلوقتي هتقولُه صح مش كدا يامريولة… 

جزَّت على أسنانها تنظرُ لذاكَ المتعجرفِ :

لا، هو اليأس بذاته، وبعدين أنا مش موافقة، إزاي عايز تجوِّزني أبو الهول دا، يعني بعدِ السنين دي ماتجوِّزشِ غير ابنك الباير؟!..


ضحكَ الجميعُ على حديثها إلَّا ذاكَ الذي يرمقها بنظراتٍ مبهمة وهو ينفث سجائره بهدوء مميت، ورغمَ بركانهِ الداخلي، إلَّا أنَّهُ ابتسمَ قائلًا :

ماهو الباير كان مستنِّي البايرة تكبر .

ضربت قدميها بالأرضِ ودفعت المقعدَ متَّجهةً إليهِ كالفريسة :

اسمعني ياعمو اليأس إنتَ، أنا مستحيل أتجوِّز واحد زيَّك، وبعدين ترضى تتجوِّز  واحدة غصب عنها؟..


نفثَ سيجارتهِ وغمزَ بعينيهِ لأوَّلِ مرَّةٍ  مبتسمًا : 

أه، هاخليكي تحبِّيني، قالها وتوقَّفَ يشيرُ  إلى والدِه :

أنا موافق أتجوِّز الأمورة..قالها وتحرَّكَ  مغادرًا المكان ..هرولت خلفِه : 

نظرت فريدة إلى مصطفى متسائلة :

ماتوقعتِش إلياس يوافق بسرعة كدا، إنتَ  قولت له حاجة، أوعى تكون ضغطت عليه..ربتَ على كفِّها : 

ودا موضوع ينفع أضغط فيه يافريدة، أنا  قولتلُه وهوَّ قالِّي هافكَّر، ودلوقتي لقيتُه  موافق مكُنتِش أعرف حتَّى رأيه..قالها وتحرَّكَ إلى مكتبهِ قائلًا :

خليهُم يجبولي قهوتي، عندي شويِّة  شغل مش عايز إزعاج.. 

ظلَّت تلاحقهُ بنظراتها إلى أن أغلقَ بابَ مكتبه، استدارت على صوتِ إسلام :

مش فاهم حضرتِك معترضة يعني على أبيه إلياس ولَّا إيه ؟..

هزَّت رأسها بالنفي ورسمت ابتسامة مردِّدة :

أبدًا حبيبي مش عايزة بابا يضغط عليه، هوَّ من حقُّه يختار شريكة حياتُه.. 

طيِّب وميرال ياماما فريدة مش من حقَّها  تختار شريك حياتها، ليه غصبتوا عليها؟!.. هكذا سألتها غادة .

توقَّفت ومازالت تبتسم : 

ومين قالِّك إن ميرال رافضة إلياس ياغادة، قالتها وهربت من أمامهم بعدما شعرت بالعجزِ عن الردِّ على أسئلتهم .


بالخارجِ عند سيارتهِ صرخت به :

أنا مستحيل أوافق على الجوازة دي سمعتني..استدارَ إليها وهنا ثارت جيوشَ غضبهِ وعنفوانهِ الكارهِ لها، فقبضَ على ذراعيها بقوَّة، وهناكَ نظراتٍ كالطَّلقاتِ الناريَّة يريدُ أن يلقيها صريعًا يهمس بفحيح افعى :

-ولا أنا عارفة ليه، لأنِّي بكرهِك، روحي للستِّ الوالدة وافهمي منها ليه عايزة تجوِّزنا بعض، قالها وهو يدفعها بقوَّةٍ ثمَّ اتَّجهَ لسيارتهِ وقادها بسرعةٍ جنونيَّةٍ، وحديثُ والدهِ يخترقُ آذانه :

قدَّامك حل من الاتنين، ياتتجوِّز ميرال وتحميها من أي حد حتى نفسك، ياأما  تنسى إنِّ ليك أب، سمعتني ولَّا لأ 

وقبلِ ماتجاوب، ميرال ليها عم بيدَّور  عليهم وعايز يوصلَّهم بأي طريقة، ووقتها لو عمَّها وصلِّها وعرف ياخدها مش هاسامحك ياإلياس، مش بعد اللي فريدة عملتُه معايا يكون جزاتها أحرمها من بنتها الوحيدة .

طالعَ والدهِ وأفلتَ ضحكةً ساخرة :

يعني علشان الستِّ فريدة، تجوِّز ابنك غصب عنه ...اقتربَ منهُ والدهِ وعينيهِ  تحاوطهُ بنظراتٍ غاضبة :

-لا، علشان ميرال دي بنتي، أخدتها وهيَّ  بنت شهور، ولو إنتَ ناسي أنا فاكر البنتِ دي كانت بتقولِّي يابابا، أمَّها ضحِّت  بنفسها علشانك، إيه ياحضرة الظابط نسيت فريدة عملت إيه معاك؟..


ركلَ المقعدَ حتى سقطَ على الأرضيَّة  واستطردَ غاضبًا :

ولو كنت أعرف هاعيش بسببها كنت اتمنِّيت الموت أفضل من إنِّي أعيش على أفضالِ الستِّ فريدة .. 

-ولد تأدَّب!!..  إنتَ نسيت اللي بتتكلِّم عنها دي مراتي، وفي مقام أمَّك..غرزَ عينيهِ التي تحوَّلَ لونها لخيوطٍ حمراء بعينِ والدهِ وأردفَ بهسيس :

ماليش غير أم واحدة ماتت قدَّام عيوني وإنتَ في حضنِ الستِّ فريدة الكذَّابة المخادعة..

لطمة قوية على وجههِ حتى توقَّفَ  مذعورًا ينظرُ لوالدهِ بعتاب، لأوَّلِ مرَّة  يرفعُ يدهِ عليه..تراجعَ للخلفِ وتجمَّعت  عبراتهِ تحتَ أهدابهِ ليستديرَ مغادرًا المكانَ بأكملِه؛  

وذكريات السنوات تمر أمام عينيه كشريط سينمائي، 

خرجَ من شرودهِ على اتصالِ صديقه :

إلياس ليه نقلت سجنِ الواد بتاع الخليَّة، توقَّفَ بسيارتهِ بمكانٍ هادئٍ أمامَ النيل :

إجراءات أمنيَّة ياشريف، لازم نعرَف مين بيموِّل العيال دي، وأه بالنسبة لهيثم الشافعي أنقلوه سجنِ الجنايات، قضيِّتُه  مش عندنا ..قالها وأغلقَ هاتفهِ دونَ حديثٍ آخر…

اتَّجهَ بنظراتهِ للنيلِ وذكرياتٍ متألِّمة  تعصفُ به :

فلاش :


قبلَ عشرِ سنواتٍ كلَّفَ أحدًا من فريقِ أمنهِ قائلًا :

فيه إسم عايزَك تكشِف عنُّه يامحمود، من غير ماحدِّ يعرف .

اتفضَّل ياباشا أي خدمة، ابعتلي التفاصيل وأنا هاعرَفلك كلِّ حاجة ..أخرجَ بطاقةَ فريدة الحقيقيِّة وقامَ بإملائهِ بمعلوماتها الشخصيَّة .

عدَّةِ أيامٍ وهاتَفهُ الذي كلَّفهُ بالبحثِ عن حقيقتها :


أيوة ياباشا، جبتلك الأخبار اللي إنتَ عايزها . 

توقَّفَ بالسيارةِ على جانبِ الطريق يستمعُ إليه :

مافيش حدِّ في السويس في المكان دا باسمِ جمال الدين، بس فيه جمال الشافعي، ولُه أخ اسمُه راجح الشافعي، جمال مات في حادثةِ بحر، ومراتُه  اتجوَّزِت أخوه بس هربت منُّه بعد ماعرف إنَّها على علاقة براجل تاني، غير أنَّها كان عندها طفلين من جوزها الأولاني واتخلِّت عنُّهم، فيه اللي بيقول علشان تتخلَّص منهم وتعيش حياتها وفيه اللي بيقول باعتهم علشان الفلوس، بس معظم الناس قالت حاجات قريبة من كدا، إلا ستِّ وحيدة اللي قالت إن  أخو جوزها راجح دا كان مفتري واتجوِّزها  تحتِ تهديد، ومراتُه هي اللي خطفت ولادها ….

أه وكمان فيه بيقول علشان تنتقم من  أخو جوزها علشان رفض يطلَّق مراته الأولى فخطَفِت بنته وهربت بيها، وهوَّ دوَّر  عليها في كلِّ مكان، لحدِّ مافقد الأمل .


شعرَ وكأنَّ أحدهُم سكبَ عليهِ دلوًا من الماءِ المثلَّج، حتى شحبَ وجههِ بالكامل، وحديثُ والدهِ يتردَّدُ بأذُنه :

كذبتي عليَّا يافريدة، استغفلتيني..تلك الكلمات استمع اليها صدفة بطفولته بعد عقد قرانه على فريدة، تلصص الطفل الذي يبلغ من العمر عشر سنوات على كلمات والده وهو يصرخ بها

-ازاي عرفتي توقعيني كدا، انا مصطفى السيوفي حتى بنت زيك تضحك عليا..فاق من شروده بانفاسه المتسارعة 

كوَّرَ قبضتهِ ونفرت عروقهِ وهو يستمعُ إلى تكملةِ حديثِ الرجلِ عن أخلاقها، 

صمتًا مقتولًا.. مرّّ عليهِ وكأنّّ أحدَهم  وضعَ السيفَ على عنقهِ ليشعرَ بعدمِ  ابتلاعِ ريقه، فاقَ على صوتِ الرجل :

فيه حاجة يإلياس باشا تانية ولَّا كدا تمام؟..

عايز تاريخ راجح دا كلُّه، تعرفلي كلِّ حاجة عن حياتُه يامحمود، كلِّ حاجة مش عايز غلطة، إتأكِّد من كلِّ معلومة .


أومأَ لهُ ثمَّ استرسلَ قائلًا :

جبتلَك من غير ماتقول، كنت عارف إنَّك  هاتُطلبُه، دا كان ظابط شرطة بس تقاعد بعد هروبِ مراته، فيه اللي قال سمعتها ضرِّت شغله، وفيه اللي قال علشان يتولَّى  شغلِ أخوه، عندُه ولدين وبنت، ولد من مراتُه الأولى أصله اتجوِّز تلات مرات، واحدة جابتلُه ولد ودي معنديش معلومات عنها كتير، غير أنَّها اتجوِّزت  واحد بعدُه وهربت بابنها علشان ماياخدوش بعد مايعرَف بجوازها، والتانية دي بتكون بنتِ عمِّ فريدة اللي حضرتَك طلبتها، معاها وولدين غير البنت اللي فريدة خطفتها، واحد في كلية تجارة، والتاني ثانوي عام، والستِّ  دي فاتحة مستحضرات تجميل بالسويس .


خرجَ من ذكرياتهِ متراجعًا بجسدهِ يهمسُ لنفسه :

هاشوف أخرتها معاكي يامدام فريدة .


بمكانٍ آخرٍ بالقاهرة :

استيقظَ من نومهِ على صوتِ الخادمة :

دكتور آدم، زين بيه منتظِر حضرتَك  تحت ..

طيِّب شوية ونازل..قالها وهو يعتدلُ على فراشهِ يمسحُ على وجهه، ثمَّ اتَّجهَ ينظرُ بساعته، ناهضًا من فوقِ فراشه .


هبطَ للأسفلِ يبحثُ عن والده، قابلهُ أخيه :

أدخُل لبابا المكتب عايزَك..دقَّقَ النظرَ بملامحهِ متسائلًا :

مالَك يابني..تحرَّكَ بعدما حملَ أشيائه : 

عندي محاضرة اتأخَّرت سلام ..راقبهُ إلى أن خرجَ من البوابة .


دلفَ لوالدهِ الغرفة، أشارَ إليهِ بالجلوس: صباح الخير ..

أومأَ لهُ دونَ حديث..جلسَ مبتسمًا ثمّّ هتف :

أكيد الموضوع يُخص إيلين بنتِ عمِّتو  مش كدا؟..

فكرت في اللي طلبته منك، عايزَك تتجوزِّها ياآدم، البنت أمانة عندي، وصيِّة عمِّتَك ياحبيبي، وزي مااطَّمنِت على مريم عايز أطَّمن عليها .


موافق يابابا، بس لازم تعرف حاجة مهمَّة ..طالعهُ منتظرًا حديثه، 

نكسَ رأسهِ للأسفلِ مردفًا :

أنا متجوَّز في ألمانيا، اتعرَّفت على بنت هناك، هبّّ زين منتفضًا وهدرَ بصوتٍ مرتفع :

إنتَ بتقول إيه، إنتَ اتجنِّنت!..

بابا لو سمحت..رفعَ يديهِ يشيرُ إليهِ بغضبٍ اندلعَ من حدقتيه :

البنت دي ولا كأنَّك شوفتها ولا عرفتها، وتطلَّقها وإيَّاك حد يعرَف بالمصيبة دي ..قالها وخرجَ للخارج كالمطارَد..جلسَ آدم على المقعدِ  محتضنًا رأسهِ يشعرُ بألمٍ يفتكُ برأسه.


بعدَ فترةٍ جلست بجوارِ خالها بعدما أصرَّ  على وجودِ الجميعَ على طاولةِ طعامِ الإفطار..

استمعت إلى خطواتهِ فاهتزَّ قلبها وكأنَّهُ  يخطو فوقَه..ألقى تحيَّةَ الصباح ثمَّ جلسَ  بجوارِ صديقه :

صباح الخير، ياااه من زمن ماشُفتِش الأكل دا، وشمِّيت الريحة الحلوة دي..


طالعهُ والدهِ مسترسلًا وهو يشيرُ إلى التجمُّع : 

ولا من اللمَّة دي، قالها بمغذى ..قاطعت حديثهِ سهام زوجةُ والدِ إيلين :

مش مهم ياحجِّ زين، المهم أنُّه كان عايش مبسوط، ورجعلنا بالدكتوراة .

رمقها زين بنظرةٍ صامتة، ثمَّ رفعَ رأسهِ إلى محمود والد إيلين :

ساكت ليه يامحمود؟..

هزَّ كتفهِ قائلًا : 

هاقول إيه يازين، المهم أنا مسافر شغل في الغردقة وممكن أغيب تلاتة شهور، خلِّي بالَك من البنات .

تراجعَ زين بجسدهِ وحدجهُ بنظراتٍ غاضبة :

وبعدين من سفرياتك اللي كترت يامحمود، أنا اتَّفقت معاك امبارح مفيش سفر غير لمَّا نجوِّز إيلين وآدم .


هنا رفعت رأسها، وطالعت خالَها وأردفت بوجع :

وأنا مش موافقة ياخالو، حضرتَك سألتني من فترة وأنا رفضت، ليه ترجَع تتكلِّم تاني .

نظر زين إلى آدم الذي حمحمَ معتذرًا :

بعد إذنَك ياعمُّو محمود، ممكن أتكلِّم مع إيلين شوية؟..


رمقَ ابنتهِ الغاضبة، ثمَّ رجعَ بنظراتهِ إليه :

ومالُه يادكتور، أهي بنتِ عمِّتك . 

اتَّجهَ إلى جلوسها وسحبَ كفَّها : 

تعالي نتكلِّم شويَّة مع بعض .

سحبت كفيها سريعًا حينما شعرت وكأن كفيه ماسًا كهربائيًا

-مفيش بينا كلام يادكتور، انا قولت اللي عندي، مش هتجوز دلوقتي 

هزت سهام ساقيها تطالعها بخبث:

-ليه شايفة واحد احسن من الدكتور، ماهو طول الليل مش مبطلة وشوشة التليفونات دي 

-سهام ألزمي حدك، ثم رفع عيناه إلى محمود والد إيلين مردفًا بعتاب:

-أنا بناتي مربيهم كويس يامحمود، قول لمراتك تلزم حدودها، إلا الشرف

توقفت ترمق زوجها واردفت موبخة إياه:

-أنا الوحشة دلوقتي علشان بقول الحق، شوف بنتك ماشية على حل شعرها وخالها عاجبه 

-اخرصي..قالها زين بصوت مرتفع، توقفت مريم تحتضن اختها التي انسابت عبراتها على صمت والدها، سحب آدم كفيها ووزع نظراته يصيح بالجميع 

-إيلين من اللحظة دي تخصني واللي يحاول يزعلها بكلمة مش هسكتله..قالها وسحبها متحركًا للخارج


بإحدى الأحياءِ الراقيَّة دلفَ بسيارتهِ 

فورد فوكس الزرقاء إلى حديقةِ منزلهِ الواسعة، أغلقَ مُشغِّلَ صوتِ الأغاني  وترجلَّ يلقي مفاتيحها للأمن، وصلَ إلى البابِ الإلكتروني للمنزلِ الذي فُتحَ عندَ  دلوفه، دلَف للداخلِ وجدَ والدتهِ تجلسُ  بجوارِ أختهِ التي تبلغُ من العمرِ عشرينَ عامًا، هبَّت من مكانها :

أبيه أرسلان وصل، قالتها وهي تهرولُ إليه، رفعها يدورُ بها :

ملوكة حبيبة أخوها، تشبَّثت بعنقهِ تقبِّلُ وجنتيه :

وحشتني أوي ياأبيه وكنت هازعل منَّك لو ماحضَرتِش عيد ميلادي .

حاوطها بذراعيهِ متحرِّكًا لوالدته، انحنى يطبعُ قبلةً فوقَ رأسها :

وحشتيني مدام الدراملِّي باشا..استدارت للجهةِ الأخرى قائلةً بتذمُّر :

ماتكلِّمنيش، روح لعمَّك جاي عندنا ليه، قبَّلَ كفَّيها :

أقدَر برضو صفيَّة خانم، دا أنا بحبِّك أكتر  من حبِّ فاروق .

لا والله..قالها والدهِ الذي دلفَ يرمقهُ غاضبًا :

إيه ياأستاذ ماكنتِش ناوي تيجي ولَّا إيه؟..

-لأ..قالها هو يضحك ثمَّ استرسلَ قائلًا :

حضرِتَك مخاصمني، ينفع حدِّ يروح لحد  مخاصمُه من غير مايصالحُه؟!..


-وإيه اللي جابك ياسيادةِ المقموص؟..

جاي أحضر عيد ميلاد ملوكة وهارجع  مقموص تاني ..

لكزتهُ والدتهِ بخفَّة :

هاتفضل طول عمرك كدا، يابني حرام عليك بتوحشني ، قبل رأسها

-ست الكل تؤمر بس إنما فاروقو لا 

-قوم تعالَ عايزك ..وضعَ رأسهِ على كتفِ والدتهِ وتمتم :

-تدفع كام وأنا أجيلَك..كتمت ملك ضحكاتها..رمقها والدها قائلًا :

عجبِك كلامه أوي، توقَّفت متَّجهةً  لوالدها، خلاص يابابي علشان خاطري، ثمَّ اتَّجهت لأخيها :

الصراحة مابضحكشِ غير وهوَّ هنا..

فتحَ ذراعيه :

تعالي في حضنِ أخوكي ياروح أخوكي  إنتِ..هزَّ فاروق رأسهِ وتحرَّكَ إلى مكتبهِ قائلًا :

مستنيك ياعمِّ الفيلسوف ...رفعَ رأسَ أختهِ من أحضانه :

هاشوف الملك فاروق وراجعلك، قبل مايوزع جنوده لاستعمار البلد، وبعد كدا ننزل نشتري أجمل هدية لأجمل ملوكة ...صفَّقت بيديها مثلَ الأطفال :

أحلى أبيه أرسلان في الدنيا، دمغها بقبلةٍ حنونةٍ ثمَّ نهضَ متَّجهًا إلى والده .

استدارت ملك لوالدتها :

يارب بابي مايتخنقِشِ معاه علشان الشغل ..شردت بدخولهِ عندَ زوجها، وهيَ تعلمُ ماذا سيحدثُ بالداخل..

بالداخلِ جلسَ أمامَ والده :

خير ياباشا؟!

بكرة في اجتماع لرؤساءِ الأقسام في الشركة ...عايزك بكرة تكون على رأسِ المجموعة …

تنهيدةً عميقةً بنظراتٍ صامتةٍ للحظاتٍ  حتى توقَّفَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى نافذةِ الشرفةِ ينظرُ للخارج متمتمًا:

-حضرتك عارف رأيي في الموضوع دا، ليه مُصِّر، أنا مش بتاع اجتماعات يابابا لو سمحت، عجبنِي شغلي ..

اللي هوَّ إيه ياأرسلان ؟.. 

التفتَ برأسهِ مدعيًّا عدمَ الفهم، نهضَ فاروق من مكانهِ واتَّجهَ إلى وقوفه :

بتعمل إيه إنتَ وإسحاق ياأرسلان، وإيَّاك  تكذب على أبوك، أصلِ شُغلِ الصالات الرياضيَّة دا مش داخل دماغي بربعِ جنيه...رفعَ حاجبهِ مستنكرًا حديثه :

-ماهو لازم مايدخُلشِ دماغك، لأن الربعِ جنيه انقرض ياوالدي ..

ابتسمَ ساخرًا ثمَّ رفعَ كفِّهِ يربتُ على كتفه :

أبوك ماعجِّزشِ وعارف كلِّ نفس إنتَ بتتنفسه، بس كنت أتمنَّى تيجي وتحكيلي لوحدك…

تراجعَ بجسدهِ يستندُ على النافذةِ عاقدًا ذراعيه :

من شابهَ  أباهُ فما ظلم يافاروق باشا، انحنى يغرزُ عينيهِ في مقلتيه :

أكبر رجل مخابرات تاريخَك كلُّه عندي..


استدارَ فاروق ضاحكًا :

-عمَّك البغل اللي قالَّك؟.. 

-ولو يافاروق باشا، وقع ملفَّك قدَّامي بالصدفة .

توقَّفَ مستديرًا يرمقهُ بصمت، ثمَّ اتَّجهَ  إلى مقعده :

إنتَ تعرف لو اتكشفت إيه اللي هايحصل..هزَّ كتفهِ للأعلى قائلًا :

ولا يفرِق معايا حاجة، ابنك مش قليل برضو ..قطعَ حديثهما رنينَ هاتفه :

صقر منزل دكتور بهاء الدين تحت المراقبة لازم توصل للجهاز .

تمام ...قالها وأغلقَ الهاتفَ وهمَّ بالمغادرة إلَّا أنَّ والدهِ أوقفه :

رايح فين، عمَّك اللي كان بيتكلِّم؟.. 

أومأَ لهُ ونظرَ بساعته :

بابا لازم أتحرَّك حالًا..صاحَ غاضبًا :

استنى عندك، رايح فين؟..

بابا عندي مهمة لازم أتحرَّك، ساعة بالكتير وهاكون هنا علشان عيد ميلاد ملوكة..بعد إذنك قالها وتحرَّكَ سريعًا من أمامه …


وصلَ بعد قليلٍ لتلكَ الفيلَّا، توقَّفَ أمام البوابةِ الخارجيَّة يطالعها لدقائق حينما عجز لدخولها، اضطر لبعض خططه فصاح على الرجل: 

-عايز أقابل دكتور بهاء الدين .

اقتربَ منهُ المسؤولِ الأمني :


- عندَك ميعاد؟..

قولُّه دكتور حمدي الجامعي .

-آسف يادكتور، ماعنديش إخباريَّة بوجود حضرتك، ترجلَّ من سيارتهِ يوزِّعُ أنظارهِ على ذاكَ المكانِ الذى يوجدُ بهِ يعج ب  رجالٍ من الأمن، كانَ على تواصلٍ مع إسحاق عن طريقِ جهازه :


لحظاتٍ واستمعَ إلى حالةِ هرجٍ ومرجٍ داخلَ الحديقة، استدارَ الأمنُ للسيطرة على الوضع..صاحَ إسحاق عبرَ جهازه :

إرجع ياأرسلان، ماتُدخلشِ الفيلا..أغلقَ  جهازهِ وتسلَّلَ من بينِ الطلقاتِ الناريَّة  بينَ المقتحمين وأمنِ المنزل، 

دقائقَ ووصلَ إلى غرفةِ العالمِ المقصود، 

رفعَ يديهِ أمامه :

ماتخافش أنا ظابط، قالها وهو يُخرجُ له بطاقته، هدأَ الرجلُ قليلًا، يشيرُ إلى جهازه : 

الجهاز، دول جايين علشان الجهاز، نظرَ من خلفِ الستائرِ على الوضعِ الأمني بالاسفل، ثمَّ اتَّجهَ إلى العالمِ قائلًا :

لازم نتحرَّك من هنا يادكتور لو سمحت، قالها وهو يسحبهُ بجهازهِ للخارج، ولكنَّ  هناكَ من عرقلَ تحرُّكهِ ليقفَ عاجزًا عندما وجدَ أحدهم يضعُ السلاحَ برأسِ العالم قائلًا : 

أترُك مابيدكَ حتى تُنقذَ رأسك .

نظرَ بكافَّةِ الاتجاهات، لحظاتٍ قليلةٍ وهو يبحثُ عن مخرج، إلى أن لمحَ ذاكَ التمثالَ الذي بجوارِ العالم، ثانية اثنتان  ثلاثة وهو يخرجُ سلاحهِ مع ركلتهِ لذاكَ التمثال، ليطفئَ الأضواءَ بالكاملِ عن الغرفة، مغادرًا المكانَ وهو يسحبُ ذاكَ العالمَ إلى أن وصلَ إلى سيارتهِ بالخارج، استقلَّ السيارة لعدَّةِ أمتارٍ ولكنَّهُ توقَّفَ  فجأةً حينما توقَّفت تلكَ السيارة المصفَّحة أمامهِ لتصطدمَ بسيارته .


بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ بمنزلِ فاروق الجارحي، اتصالات عديدة ليصلَ إليه، دلفت ابنتهِ بدموعها :

لسة ماوصلشٍ يابابي؟..

كيفَ يهدِّئها وبداخلهِ نيرانٍ تقنعهُ بأنَّ  ابنهِ أصابهُ مكروهًا، خرجَ متَّجهًا إلى سيارته، دقائقَ ووصلَ إلى منزلِ أخيه .


صاحَ بصوتٍ صاخبٍ اهتزَّت لهُ أرجاءَ المنزل :

إسحاااق...صاحَ بها فاروق .

خرجَ من مكتبهِ يطالعهُ بألمٍ انبثقَ من عينيه :

صدَّقني مقوِّم الجهاز كلُّه إن شاءالله خلال ساعات وهايظهر، إنتَ مش تايه عنُّه . 

أشارّ بسبباتهِ هادرًا بتهديد :

ابني خلال ساعتين بس لو مظهرشِ هاقتلَك، علشان حذَّرتك كتير، وإنتَ ماسمعتِش الكلام... قالها وغادرَ المكان..


بمكانٍ في ضواحي القاهرة ..فتحَ عينيهِ  يلتفتُ حوله، متذكِّرًا ماصار، كوَّرَ قبضتهِ بغضب :

غبي أرسلان، إزاي توقع في خطأ تافه زي دا، لازم تفكَّر بسرعة ..

دلفَ أحدُ الرجالِ العمالقة مع شخصٍ تظهرُ عليهِ الهيبة متسائلًا :

من أنتَ ولما كنتَ في منزلِ الدكتور؟!..

مطَّ شفتيه وضحكَ ساخرًا :

كنت بتفسَّح، إيه عندك مانع؟..ركلهُ الرجلَ الآخرَ بضهره، فنهضَ من مكانه، يطبقُ على عنقهِ وتحوَّلت عيناهُ لخيوطٍ  حمراء .

هاكسرلَك رجلك لو حاولت تعملها تاني، اقتربَ من الآخرِ يزيحهُ بقوَّة :

أأنتَ ظابط؟..

رمقهُ بنظرةٍ ساخرة :

لا بلعب بلياتشو..أخرجَ مافي جيبهِ فوضعَ الرجلُ السلاحَ على رأسه :

ماهذا أيها الغبي، رفعَ أحدَ الحلويات يشيرُ إليه :

تشكوليت علشان أتحكِّم في أعصابي قبلِ ماأموِّتك إنتَ وهوَّ ...استمعوا إلى أصواتِ طلقاتٍ ناريَّة بالخارج :

حاولَ الرجلُ الانقضاضَ عليهِ ولكنَّهُ كانَ الأسرع حينما جذبَ سلاحهِ يضعهُ برأسِ رئيسه :

هاتقرَّب هاموِّتُه، إرجع ورا يالا، جاي بلدي تحطِّ عينك في عيني بكلِّ بجاحة ...

دقائق واختفى كلَّ شيئ، خرجَ من ذاكَ المنزلِ يزفرُ بغضبٍ بعدما نظرَ بساعتهِ التي تعدَّت الثالثة فجرًا ..قابلهُ إسحاق  على بابِ المنزل ..توقَّفَ يطالعهُ مذهولًا : 

إيه اللي جابك، هرولَ إليهِ يجذبهُ لأحضانه :

رعبتني خوف يامتخلِّف، إيه يالا.. إزاي توقع كدا؟!..

تراجعَ يدقِّقُ النظرَ بعينيه، ثمَّ غمز :

خُفت عليَّا إسحاقو..جذبهُ من ذراعهِ وأجابهُ ممتعضًا :

تعالَ يامتخلِّف، أبوك موَّلَّع الدنيا وحالف ليقتلني .

أشعلَ سيجارة والتفتَ إلى إسحاق : 

أهو يريَّحني منَّك، وآخُد نفس شويَّة . 

قهقهَ إسحاق عليهِ متمتمًا:

طول عمرَك حلُّوف يابنِ أخويا ..انحنى بجسدهِ ينظرُ لمقلتيه :

-إحلِف …

ضيَّقَ إسحاق عينيهِ قائلًا :

-أحلِف بإيه ..أشارَ على نفسه :

أنا حلُّوف ..ضربهُ على رأسهِ بخفَّة :

دا وقت هزار يالا ..

تحرَّكَت السيارة بهما فاستدارَ أرسلان إليه :

غلط ياعمُّو اللي عملتُه دا، مهما كان اللي يحصل، مكنشِ ينفع تيجي بنفسك .


تجهَّمت ملامحهِ بالحزنِ قائلًا :

استنى لحدِّ مايجيبوك جثَّة ياأرسلان، فداك عمَّك وكلِّ مايملك ياحبيبي 


حانت منهُ التفاتة إليهِ قائلًا :

ماتحرمشِ منَّك حبيبي بس برضو أتمنَّى  ماتعملشِ كدا تاني ياعمو لو سمحت..اه الدكتور فين 

-للأسف مش موجود، والجهاز كمان تبخر..نقر على باب السيارة واردف بشرود

-مش هيخرج من مصر، ولو خرج هنعرف نوصله..ربت اسحاق على كتفه 

-كويس انك شغلت الساعة ليه وقفتها 

هز رأسه بالنفي 

-ماوقفتهاش، ممكن جهاز التفتيش بتاعهم، بس كويس أنها متبرمجة بالدقائق

هز رأسه مستنكرًا حديثه:

-دول ٥ ساعات ياارسلان، كنت هتجنن فيهم 

قهقه عليه، فهم الآخر مايدور بخالده

-اه عاقل يابن اخويا، بس شوية الجنان بتبقى معاك بس 


بفيلَّا السيوفي :


تململت بنومها، ففتحت عيناها، وكأنها تشعر بأحدهم بالغرفة، هبت من مكانها بعدما وجدته جالسًا بالظلام ولم يظهر سوى عيناه الصفرية، ابتلعت ريقها بصعوبة تتمتم اسمه 


بغرفة فريدة بعد خروج زوجها لصلاة الفجر، نهضت لقضاء فرض ربها، توقفت بعدما استمعت إلى إشعارِ رسالة بهاتفها، فتحت الرسالة، لتهوى على الفراشِ وهي تقرأها لمراتٍ عديدة :

"ميرال راجح الشافعي"..اهلا مدام فريدة الشافعي 

دقَّاتٍ عنيفة مع انسيابِ عبراتها كالشلالِ تشعرُ وكأنَّ جدرانَ الغرفة تطبقُ على صدرها

الفصل الثالث من هنا

تعليقات



×