رواية وريث أل نصران الفصل الثامن والعشرون بقلم فاطمة عبد المنعم
لاح نجم في السماء فظننته أنت
أتطل منه لرؤيتي وتعود كما كنت.
رباه قلبي معذب، والعين دامية..
ارسل لي جبر من سمائك يعيدني حية.
_امضي يا "ملك".
جملة واحدة قالها " عيسى" في وسط الأجواء التي سادها التوتر بعد أن ألقت القلم من يدها، ربتت والدتها على كفها وهمست بما تخبرها به أنها تدعمها:
أنتِ مش عايزة؟
وصل ل "عيسى" همس والدتها فاستأذن الحضور قائلا :
بابا لو سمحت هاخد "ملك" دقيقتين في المكتب.
قبل أن يبد والده أي اعتراض أشار "عيسى" للصغير:
تعالي يا "يزيد" معانا.
نطق بها قبل أن يعترض عمها على تواجدها معه بمفردهما.
وحثها من جديد:
قومي.
قامت معه، ولم تكن خطاها ثابتة، لم تكن هي نفسها متزنة .... كل ما تشعر به الآن يخل بتوازنها، تبعته إلى غرفة المكتب الخاصة بوالده وقد تعلق "يزيد" بذراعها، وبمجرد دخولهم أغلق "عيسى" الباب خلفه... كان التوتر مرافقها في حين ذهب هو إلى الشرفة وفتحها ل "يزيد" طالبا:
العب هنا يا "يزيد" لحد ما اخلص كلام مع "ملك".
رحب الصغير بالفكرة، وعاد " عيسى" لها، كانت ما زالت واقفة مكانها، تهرب بعينيها إلى كل شيء عداه حتى سألها:
هو أنا مش قولتلك قبل ما أجي لحد بيتكم لو مش عايزة قولي؟
هزت رأسها بالإيجاب، فتبع سؤاله بأخر:
ومش جيت لحد البيت وقدام والدتك قولتلك لو طلبي مرفوض قولي لا، ودي حريتك... حصل ده ولا محصلش؟
_حصل.
قالتها فسمعت بعدها نبرته المنفعلة التي جعلتها تنتفض من الصدمة:
لما هو حصل، رميتي القلم ليه أول ما المأذون قالك امضي؟
لم تعطه إجابة، فاسترسل في حديثه:
اسمعي... أنا لو أبويا اللي برا ده طلب روحي هديهاله، علشان أنا روحي أصلا لأبويا، كل واحد نفسه غالية عنده وأنا نفسي غالية عندي فوق ما تتصوري، ورغم كده قدمتهالك واحنا مفيش بيننا أي حاجة رسمي.. ليلة فرح صاحبتك فاكرة؟
تخلت عن الصمت وتحدثت بألم:
"فريد" قدملي روحه برضو، بس مفيش مرة من ساعة ما عرفته من عليا بإنه ممكن يقدملي روحه في يوم من الأيام.
ذكرت شقيقه فأجابها بما حمله شقيقه لها:
علشان هو كان بيحبك، لكن أنا "عيسى" مش "فريد"... وده اللي لازم تبقي عارفاه كويس أوي، أنا مش عيل صغير علشان تهزقيني قدام كل اللي قاعدين برا دول وتقولي لا واحنا بنكتب الكتاب... أنتِ كده بتلعبي، وأنا اللي يلعب قصادي غالبا بيطلع خسران.
ابتسمت بحسرة وهي تخبره:
ما هو علشان أنت " عيسى" مش "فريد" أنا القلم وقع من إيدي... علشان أنا شايفة قدامي "فريد" بس مش لاقية روحه، مش لاقية نفسي اللي كانت بتبقى طايرة وهي شايفاه، قولتهالك قبل كده وهقولهالك تاني... أنا ضيعت ومش لاقياني.
اعترض على حديثها بقوله:
بصي حواليكي، في واحد أنتِ لسه قايلة ببوقك من شوية انه راح علشانك، أنا قاعد برا وبحط ايدي في ايد عمك اللي ابنه قتل أخويا علشانك... أنتِ عارفة عمك جه هنا ازاي؟
لاح في ذهنه ما حدث قبل ذلك، حين دعا والده "مهدي" إلى المنزل، استطاع الآن سماع صوت "مهدي" وهو يقول باعتراض:
أنا مليش علاقة بحاجة تخص بنات "هادية"، بعد اللي هما عملوه في ابني.
تقدم منه " عيسى" هاتفا:
عيب... بنت أخوك وبتتجوز وأنت قاعد كده، ما أنا كنت ممكن أروح أتجوزها بعقد في المحكمة، بس عيبة في حقك أوي تبقى بتتجوز وأنت مش وكيلها.
لانت تقاسيم "مهدي" المحتدة ووجه حديثه إلى "نصران":
يا حاج " نصران" شاكر معملش حاجة، "شاكر" مشي من خوفه، خاف تعملوا فيه حاجة... وخايف يرجع متصدقهوش.
كلاهما يعلم كذبه، بالتأكيد "شاكر" لم يخبره عن حماقة مكالماته الهاتفية، وما فعله ليلة حفل زفاف "تقى" لذا سأله "نصران":
ويخاف ليه؟... قولتلك لو معملش حاجة يجي ويقول، وعموما أنا ابني النهاردة هيحط ايده في ايدك
دعم " عيسى" قول والده ناطقا :
يعني احنا عاملين بأصلنا للآخر، ولسه سايبين فرصة ليه يدافع عن نفسه.
حديثهم لا تشوبه شائبة، ولكن هو قطع تفكيره صوت "عيسى" يتابع:
احنا جايبينك لحاجة... هتبقى وكيلها ولا لا؟
أعاده إلى الحاضر دقاق على باب المكتب فقال لها:
احنا مصلحتنا واحده ، احنا الاتنين عايزين حق "فريد"، وأنتِ لو بصيتي هتلاقي إن مصلحتك أكبر، فوق حقه أنتِ عايزة الحماية.
قال أخر كلماته قبل أن يتوجه ليفتح باب المكتب:
قبل ما أفتح الباب ده قولي كلمتك، موافقة ولا أخرج أروحهم.
كانت تطالعه وهو يفتح الباب الذي ما إن فتحه حتى اتجهت إلى الخارج دون إجابة، كان جوابها ما قامت به حين تناولت القلم الموضوع على الطاولة ودونت أمام الجميع اسمها، استغرق الأمر منها دقيقة وما إن انتهت من إتمام الكتابة في جميع الخانات المطلوبة، حتى وضعت القلم فوق الأوراق ناطقة باعتذار:
أنا أسفة على اللي حصل... كنت مرهقة شوية.
اقتربت من والدتها وقبل أن تعود للجلوس جوارها مجددا، أشار " نصران" لابنه فأخذ "عيسى" العلبة الموضوعة على الأريكة جوار والده وأخرج الخاتم منها...توقفت عندما لا حظت اقترابه منها وأمام نظرات عمها المراقبة جيدا، ألبسها الخاتم الذي احتوى على فص ماسي في منتصفه، طالعت الخاتم الذي زين يدها وأبرز لون طلاء أظافرها وأثناء ذلك اقترب هو مقبلا باطن كفها قبل أن يقول:
مبروك.
"مهدي" في أقصى حالات توتره الآن، ماذا سيفعل ابنه إذا شاهد ما يحدث؟... ابنه الذي قتل من فضلته عليه سابقا، أي حماقة سيفعلها إذا علم أنها تزوجت الآن؟
استأذن وهو يقول:
أنا هروح يا حاج "نصران"
_وصله يا "عيسى".
قالها " نصران"، وقتل أي عرض لمكوثه فترة أطول، تحرك "عيسى" معه حتى وصلا إلى البوابة الخارجية فسأل باستنكار:
مسمعتش مبروك يعني؟
أجاب "مهدي" على سؤاله بسؤال أيضا:
في مبروك أكتر من إني جيت لحد هنا وبقيت وكيلها؟
ضحك "عيسى" وغمز له نافيا:
لا سيبك من ده، أنا عايز اسمع مبروك، وأهم حاجة تبقى من قلبك... مشوفتش مبروك بتاعتي اللي اتبعتتلك مع نقطة "علا" بنتك؟
_كلامك دلوقتي بقى غير كلامك قبل كتب الكتاب... من شوية كنت بتتكلم وكأنك مصدق ان "شاكر" معملش حاجة وبتقولي اجيبه، ودلوقتي بتتكلم وكأنك متأكد إنه هو اللي عملها.
قال له "مهدي" فابتسم "عيسى" وهو يخبره:
لا ما هو أنت لو قولتله ينزل مش هينزل، جرب كده تقوله... مش هيرضي يجي، عارف ليه؟
استغرب "مهدي" الحديث ولكن محا "عيسى" استغرابه بقوله:
علشان ابنك عارف إن أنا عارف إنه هو اللي عملها... شاكر اتصل مرة ب "ملك" يهددها، تاخد الكبيرة كمان قابلني وش لوش...
رفع "عيسى" سترته فظهر جرح معدته الذي وُضِع عليه لاصقة بيضاء فأشار إليه بعينيه قائلا:
وكان معاه كام واحد سابوا ده... وأنا مبحبش حاجة تفضل عندي من غير ما ترجع لصاحبها... ومكفاهوش كده كمان ده حاول يهددها تاني من أسبوع.
تلاحقت أفعال ابنه على مسامعه وصوت "عيسى" وهو يتابع:
لو هو مقرطسك فأنا حبيت أنورك... علشان منظرك اللي بقى صغير أوي وأنت كل شوية جاي تقنعنا انه معملش حاجة.
ربت على كتفه ناطقا آخر ما لديه بسخرية:
مع السلامة يا أبو "شاكر".
رحل إلى الداخل أما " مهدي" فشعر وكأن أحدهم صفعه للتو... صفعه بأفعال ابنه التي لا تفعل شيء سوى توريطه أكثر.
★***★***★***★***★***★***★***★
كان الهدوء هو رفيق منزل "منصور" بسبب ذهاب "ندى" وزوجها إلى الطبيب، بينما جلس "منصور" في مكتبه مع والد "ندى" الذي أتى قبل قليل
ارتشف "منصور" من كوب الشاي الساخن وهو يسمع والد زوجة ابنه يقول:
يا حاج "منصور" أنا حطيت فلوس كتير في المشروع ده معاك... يعني ايه خسر؟
رفع "منصور" كفيه ببراءة وهو يخبره:
والله يا "خليل" ده اللي حصل، والخسارة جت عليا زي ما جت عليك، محصول الأرض السنادي مكانش قد كده، وتمن الحاجة نزل الأرض.
_أنت عارف كويس إني طلعت على المعاش، وحتى شغلي الخاص بتاع العربيات مبقاش موجود، خسارة زي دي كبيرة عليا أوي.
قالها "خليل" بانفعال مما جعل "منصور" يقول باستنكار:
الله طب ما أنا خسران زيك.
رد عليه بغضب:
بس أنت عندك فلوس غير اللي خسرتها تشغلها، وعندك الأرض، لكن أنا من ساعة ما شاركتك مرة مكسب قصادها تلاتة خسارة لحد ما نزلت الأرض.
هدأه "منصور" بقوله:
خلاص اهدى، احنا نفضها سيرة وشغل فلوسك بعيد عني
كرر "خليل" باستنكار:
فلوس ايه اللي أشغلها، أنا مبقاش معايا حاجة أشغلها.
ابتسم "منصور" قبل أن يقول:
جيت في جمل يعني...هسلفك وشغلهم ورد من المكسب.
قال "خليل" بقهر بعد كلمات "منصور":
هتسلفني وتمضيني على وصل أمانة، زي الوصل اللي حبست بيه " فؤاد" السنة اللي فاتت؟
في نفس التوقيت توقفت سيارة "جابر" أمام المنزل من الخارج، كان الغضب يكسو وجهه، غضب رافقه شعور بالنقص... رمقته "ندى" بنظرة جانبية ثم قالت بنبرة طعنه حديثها:
متضايقش يا "جابر"، لو حابب متكلمش مع عمو عن اللي الدكتورة قالته وإنك مبتخلفش مش هتكلم خالص.
زادت حمرة عيناه، كان يمن عليها أمس بانتظاره حتى الآن دون أطفال، ولكن بعد ما حدث بماذا سيبرر؟
تبدلت الأدوار ولم يحسب لهذا حساب أبدا.
★***★***★***★***★***★***★***★
من المفترض أنها مناسبة سعيدة، لكن هذا الترقب الذي كسا منزل " نصران" لم يكن مع هذا أبدا...نظرت "هادية" للأرضية هامسة باستنكار:
بقى أنا بنتي يتكتب كتابها كده!... مفيش زغروطة حتى وكأنه ميتم مش فرح.
تأهبت "مريم" وهي تسأل والدتها:
أزعرط يا ماما؟
_اسكتي أنتِ كمان.
قالتها "هادية" بغيظ ثم رفعت رأسها لتقابل نظرات "سهام" المتعالية، التي قطع تأملها لها صوت "نصران":
لما حق الغالي يرجع، هعملهم فرح كبير يا ست
" هادية".
نطقت "سهام" بتذمر:
والله ما أنا عارفة كتب كتاب إيه، واحنا لسه معرفناش حتى مين اللي قتل "فريد".
تبادلت " هادية" و بناتها النظرات المندهشة في حين اعترض "طاهر" على حديث والدته:
ماما... ملهوش لزمة الكلام اللي بتقوليه ده.
نظرات صارمة اتجهت من عين "نصران" إلى "سهام" قطعها صوت "يزيد" الذي قال مشيرا على السلحفاة:
بصوا "غرام".
انتبهت لها " شهد" قبلهم، وعلت ابتسامتها وهي تسأل "يزيد" بمكر:
مين سماها " غرام" ؟
رفع "طاهر" حاجبه الأيسر ضاحكا والصغير يقول:
بابا سمها... اسمها حلو أوي صح؟
هزت رأسها بالإيجاب، ولكن هناك عين "رفيدة" التي لم تغفل عن النظرات المتبادلة بين شقيقها وهذه الفتاة... أتت "تيسير" بأطباق الحلوى ووضعتها أمام كل من الجالسين وهي تقول بفرح:
مبروك يا أستاذ "عيسى"، مبروك يا ست " ملك"... ألف مبروك يا حاج "نصران".
قالت جملتها الأخيرة ثم انطلقت تزغرد فطالعتها
" سهام" بغضب وهي تقول:
أنتِ بتعملي ايه؟... محدش يزغرط في البيت ده غير لما حق "فريد" يرجع يا "نصران".
نزلت الدموع من عينيها عقب ما تفوهت به، فربت
" نصران" على كفها قائلا:
"تيسير" مقصدتش، حق "فريد" ده حق ابني وأنا مبفرطش في حق الغريب... هفرط في حقه؟
_يلا يا "ملك" علشان هنمشي.
قالتها "هادية" بحزم وهي تحثهن على القيام، تبادلت "شهد" النظرات مع شقيقتها "مريم" وقطع هذا صوت "عيسى" الذي سأل:
تمشوا فين؟
بررت "هادية" رغبتها بقولها الصارم:
نرجع بيتنا، كتب الكتاب واتعمل، وقعدتنا دي ملهاش لزوم.
أدرك "نصران" ما يحدث من خلاف، فقول "سهام" بالتأكيد جعلها تشعر بالإهانة لذا تأفف بانزعاج،
فحاول "حسن" تخفيف حدة الأجواء بمزاحه:
قعدة ايه بس اللي مالهاش لزمة، طب تصدقي اليوم اللي بتدخلوا عندنا فيه البيت نفسي بتتفتح على المذاكرة ودي عند الحاج "نصران" ليلة عيد.
ضحك الجميع على ما قاله عدا والدته، بينما قال "طاهر":
احنا عاملين مكان حلو في الجنينة يا " عيسى"، خد "ملك" واخرج شوفه وقولي رأيك.
نطق "حسن" الذي جاور "طاهر" في جلسته:
مكان ايه ده اللي عملتوه في الجنينة... أنتوا عملتوا إيه في المرسم بتاعي؟
ضربه "طاهر" في قدمه بغيظ، هو يحاول أن يوفر لهما جو هاديء بعيد عن هذا التوتر، و"حسن" يفسد ما يصنعه.
طلب منها "عيسى" اصطحابها إلى الخارج، وغفلت "سهام" عنه وهي تلاحظ "حسن" الشارد في نقطة ما، نظرت إليها لتجدها ابنة "هادية" الصغرى "مريم".
فقالت:
قوم يا " حسن" قول ل "تيسير" تجهز الأكل.
أتت لتعترض "هادية" ولكن صنعت "سهام" ابتسامة مزيفة وهي تردعها:
متقوليش حاجة لازم تتغدوا.
كانت محاولة لإرضاء "نصران" حتى لا يحزن، بينما في الخارج جلست "ملك" على أريكة خشبية توسطت البقعة الخضراء، وجاورها هو وقد حل على الأجواء نسمات باردة ولكنها منعشة... تحدثت بعد صمت طال:
أتمنى مندمش على اللي عملته النهاردة، زي ما بندم على حاجات كتير في حياتي.
ابتسم قبل أن يرد على قولها:
عادي تندمي، كل واحد بيختار حاجة ممكن بسهولة يندم عليها احنا بشر، أنا وعدتك بالأمان طول ما أنا قادر أعمل ده، لكن موعدتكيش متندميش على الجوازة فوارد جدا تندمي.
سألته بانزعاج وقد أغضبها ما قال:
هو أنت هتتعب لو سيبت اللي قدامك يتطمن؟
ضحك، نبعت الضحكات من قلبه وهو يقول:
اهي القطة طلعت.
قصد ذلك التحول المفاجئ من الوداعة إلى الشراسة، تنهدت بغيظ فأخبرها:
عندي لما أصارحك بحقيقتي، أحسن ما أعلقك بوهم... أنا ممكن أمدح في نفسي دلوقتي، وأقولك أنا إنسان مفيش منه وهتعيشي معايا في السعادة اللي مفيش بعدها سعادة وهتصدقيني بس لو جيتي لحظة قدام واكتشفتي اني مش الشخص ده هتتوجعي أوي... علشان كده بقولك جايز تندمي، أنا وعدتك بالأمان بس ما وعدتكيش متندميش.
_أنا خايفة... خايفة أوي، خايفة من كل حاجة هتيجي... خايفة تكون بتوجع زي الحاجات اللي عدت وداست على روحي.
قالتها بصدق نبع من قلبها... نطقت ولم تنتظر إجابة ولكن جوابه كان مختلفا، احتضن كفها ربما لم يقل لا تخافي، ولكن هذا كاف لبثها الأمان...ولكنها سحبت كفها، بل وتركت مكانها بالكامل، وهي تقول باضطراب:
أنا داخلة علشان بردت.
ذابت كليا ولم يبق سواه، فأخرج هاتفه يتطلع إلى صوره مع شقيقه، صورة تبعها صورة تأملها باشتياق، اشتياق فاق الحد إلى نصفه الآخر، إلى أم لم تكمل رحلتها معه، ظل يقلب بين الصور حتى توقف عند صورته مع "ندى".... الصورة الوحيدة الذي بقى عليها من ذكرياته معها، ولم يمسحها أبدا... لم يمسحها لتذكره.
★***★***★***★***★***★***★***★
رحل الجميع ليعم السكون على منزل " نصران" وقد خلد بعضهم للنوم، والبعض الآخر في الخارج لقضاء شيء ما، دخل "عيسى" غرفته أخيرا، يشعر بالخفقان يداهمه، خفقان تبعه ذلك الشعور... القنبلة الموقوتة التي توشك على الانفجار... استغرب من باب غرفته الذي تم فتحه بواسطة زوجة والده وقد دخلت وأغلقته خلفها...
تمكن الانفعال منه وهو يقول:
اطلعي برا أنا عايز أنام.
وكأنها لم تسمعه بل جلست على طرف فراشه تسأل:
قولي يا "عيسى" عرفت مين اللي عمل كده في بيتي؟
كرر بانفعال أشد، وكأن كل انش به يشارك في هذا التأهب:
قولت اخرجي عايز أنام.
واصلت حديثها على الرغم من استغرابها الشديد من انفلات أعصابه الغير مبرر:
أصل تصدق أول ما دخلت البيت وشوفته على حالته دي... شميت ريحة ال perfume بتاعتك... معقولة اللي عمل كده بيحط من نفس ال perfume بتاعك؟
سألها وقد علت نبرته:
عايزة تقولي إن أنا اللي عملت كده.
حافظت على هدوئها وهي تقول بزيف:
لا ما اقصدش طبعا.
ابتسم بشراسة أخافتها، لأول مرة تهابه إلى هذه الدرجة، حالته ليست طبيعية أبدا خاصة وهو يصرح بما ثبتها من الصدمة:
لا ما هو أنا اللي عملت كده فعلا.
قالها وأضاء في ذهنه صورة منزل "سهام" المحطم، تبعها ذلك المحل الذي جعله لا يصلح لشيء، وأخيرا ذلك المنزل المهجور المجاور لقطعة الأرض التي قُتِل بها شقيقه... ذلك المنزل الذي أشعل النيران به.
اختتم بنبرة اخترقت أذنها:
أنا حصاد الدم اللي غرق ايدك وايد أخوكِ... وبقبضته ضرب بعنف على الحائط قائلا:
برا.
إنه أنا...ذلك الذي طلبتم وجوده، طلبت الأخشاب النار ... رفضت كثيرا، ولكن مع إصراركم أتيت... أتيت لأحرقكم جميعا.