رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل السادس و الاربعون بقلم سهام صادق
نظرت "زينب" إلى لاصقات الحوائط المصممة على شكل رسوم متحركة للأطفال وقد اِرتسم على ثغرها إبتسامة عريضة فرحة بما فعلته. تنهدت ثم اِنحنت لتلتقط الأشياء المبعثرة في غرفة الصغير "يزيد" وترتبها ليصدح رنين هاتفها؛ فأسرعت في البحث عنه حتى وجدته.
غادرت غرفة الصغير حتى تستطيع فتح المكالمة الهاتفية المرئية ولا يرى الصغير ما فعلته له من مفاجأة.
_ "زوزو" مش كنتي جيتي معانا، شوفي أنا و "يزيد" مبسوطين إزاي.
قالتها "حورية" وهي تُحرك الهاتف حتى تُريها المكان لتبتسم "زينب".
_ تتعوض إن شاء الله يا طنط، المهم إنكم مبسوطين.
إلتقط الصغير "يزيد" الهاتف من جدته حتى يتمكن من رؤيتها بالكامل وتنتبه عليه؛ فابتسمت "حورية" وداعبت خُصلات شعره.
_ شكلي طولت في الكلام وأنت طبعًا عايز تحكي مع "زوزو".
هَـز الصغير رأسه بتأكيد على كلامها لتتسع حدقتيّ
"حورية" بذهول وسُرعان ما كانت تضحك وهي تنهض من جواره قائلة:
_ لأ أنا لازم أعرف من "زوزو" لما نرجع سر خلطة الحب بتاعتها.
اِبتسمت "زينب" عندما إستمعت إلى كلام "حورية".
_ ليه كده زعلت تيته منك، شوف زعلت إزاي.
_ أنا مكنتش عايز ازعلها.
قالها الصغير وهو يزم شفتيه لتتسع اِبتسامتها وهي تتحرك نحو المطبخ حتى تصنع لها كوب من مشروب النسكافيه المفضل لها.
_ قولي بقى عملت إيه من ساعة ما وصلتوا.
لم يترك الصغير شئ إلا وحكى لها عنه، منذ وصولهم إلى المكان الذي اِجتمعن فيه صديقات جدته بأحفادهم.
_ اتعرفت على "سولي" و "لي لي" و "روني" و "رؤوف".
ضمت "زينب" حاجبيها وإلتمعت مقلتيها وتساءَلت وهي تسكب الماء المغلي على مسحوق النسكافيه.
_"رؤوف" بس؟
بعبوس طفولي رد الصغير.
_ كلهم بنات، مفيش غيري وغير "رؤوف"... تعرفي يا "زوزو". "لي لي" دي شعرها حلو.
اِنشق ثغر "زينب" بإبتسامة واسعة.
_ "لي لي" بس اللي شعرها حلو، طيب و بالنسبة لــ "سولي" و "روني".
اِزدادت ملامح الصغير عبوسًا.
_"سولي" دي وحشة عشان مش راضية تلعب معايا.
توقفت "زينب" عن تقليب مشروبها الساخن وابتسمت.
_ اديها شيكولاته من اللي انا ادتهالك وهي هتعلب معاك على طول.
بحيره تساءَل الصغير بعدما وضع إصبعه أسفل ذقنه.
_ يعني هي لازم تاخد من الشيكولاته بتاعتي عشان ترضى تلعب معايا؟
حركت "زينب" رأسها له وهي تخشى أن تنفلت ضحكتها.
_ لأ يا حبيبي مش لازم نعمل كده بس مفيهاش حاجة لما نكون معانا حاجات حلوه كتير ومش هنعرف ناكلها كلها نوزعها على غيرنا.
بدأت عقدة حاجبيّ الصغير تنفك ثم أومأ برأسه.
_ خلاص ،هاخد "سولي" بعيد عن "رؤوف" وأديها من الشيكولاته بتاعتي.
إبتلعت "زينب" ما اِرتشفته من مشروبها ثم أخذت تسعل بقوة وتُقاوم رغبتها بالضحك.
توقف الصغير عن الكلام وقَرب شاشة الهاتف منه وقد اِرتسم القلق على ملامحه.
_ خلي بابي يمسح على ضهرك يا "زوزو" عشان الكحة تخف بسرعه وأنا لما ارجع هعمل كده.
أربكها الصغير بكلامه وإشتعلت وجنتيها بسخونة خفيفة ثم أخذت تسعل مرة أخرى.
_ أنا كويسة يا حبيبي، قولي بقى ليه مش عايز الباقين ياخدوا من الشيكولاتة.
اِرتبك الصغير؛ فضحكت رغمًا عندما فهمت سبب ربكته وإحمرار خديه.
_ حلوه "سولي" على كده؟
رفع الصغير عينيه ثم استدار برأسه حتى يتأكد من أن لا أحد يسمعه.
_ أه حلوه وعيونها زرقة زي البحر
....
أبهج الصغير روحها بعد مكالمته معها، فتقاربهم معًا يزداد حتى صار غيابه عن المنزل يُشكل فارق معها.
جلست على الوسادة أمام الطاولة الصغيرة في غرفة الجلوس؛ فهذا المكان أصبح مميز لها ولا تعرف سبب حبها للجلوس فيه بتلك الوضعية.
كوب النكسافية الذي اِرتشفت نصفه وضعته على الطاولة بجانب أغراضها الخاصة بالدراسة..؛ فاليوم عليها تحضير محاضرة الغد الذي ستدرسها لطلابها
-القلائل- بالمعهد.
تنهيدة عميقة أطلقتها وهي تفتح شاشة الحاسوب الجديد الذي جلبه لها كهدية ولا تُنكر أنها كانت بحاجة إليه.
للحظات تركت عقلها يستعيد ما فعله معها الأيام الماضية وقد لمست أفعاله قلبها الذي عاد ينبض من جديد أثناء قربه.
أغلقت جفنيها واِستمتعت بما رسمه قلبها لكن دومًا الحقيقة كانت تصفعها بصفعة قوية... هي لم تكن إلا إختيار أُجبر عليه من جده ووافق عليه لأنه اقتنع أنها العروس المناسبة لحياته وحياة صغيره.
نفضت رأسها وسحبت نفسًا طويلًا و عميقًا ثم زفرته بقوة لتبدأ في تحضير محاضراتها.
لم تمر إلا ساعة واحدة وكان رنين الهاتف يرتفع لتتعلق عيناها برقم المتصل بدهشة.
...
ابتسم الجد عند استقلت "زينب" السيارة جواره.
_ شكرًا يا بنتي إنك وافقتي تيجي معايا المستشفى.
بإبتسامة خفيفة حاولت "زينب" إظهارها.
_ مش محتاج تشكرني على واجبي.
تنهد "شاكر" بحزن؛ فهو يعلم أن "زينب" لم تأتي معه للمشفي إلا من أجل الواجب.
_ بطلتي ليه تقولي جدو يا "زينب" ولا أنا خلاص مبقتش في مقام جدك.
بنظرة حملت الآلم والعتاب رمقته دون أن تنبس بكلمة، لم يجد "شاكر" إلا الصمت... فهو يعلم بالجُرم الذي فعله بها بعد أن انكشف أحد أسباب تلك الزيجة.
توقفت السيارة أمام المشفى لينظر إليها بعدما أمر السائق أن يترجل:
_ نص المستشفى مِلك للعيلة يا "زينب"، ده غير حاجات كتير.
ما يُخبرها به الآن هي تعرفه لكن العجيب أنه يتحدث اليوم عن أملاك العائلة العديدة.
أسدل "شاكر" جفنيه للحظة وهو يُحرك رأسه ثم واصل كلامه.
_ كل اللي تملكه العيلة لــ"صالح" ومن بعده ولاده.
اِبتسم الجد عندما رأها تنظر إليه بنظرة حملت العديدة من الأسئلة.
_ ساعدي جدك العجوز يخرج من العربية ولا انادي "اسماعيل" يساعدني.
فاقت من شرودها الذي كان حديثه سببًا فيه لتُسرع بلملمت شتاتها قائلة:
_ ثواني هنزل أساعدك.
مَدّت "زينب" يدها إليه لتُساعده في الخروج من السيارة.
اِقترب منه السائق متسائلًا:
_ محتاج مني حاجه يا سعادة البيه؟
بإبتسامه لا تحتل شفتيّ "شاكر" إلا قليلًا قال وهو يسير جوار "زينب".
_ شكرًا يا" إسماعيل"، أنا معايا مرات الغالي.
لم يكن لُطف "شاكر" معها اليوم أو من قبل يعطيها إحساس بالراحة لكنها اعتادت على إظاهر الود.
تحرك "شاكر" معها بخُطوات بطيئة تناسب سنوات عمره والأمل يملأ فؤاده، هو يُريد بشدة الحصول على أحفاد من "زينب".
دلفوا إلى المشفى وهو يتأبط ذراعها، تقدم منهم أحد الأطباء عند دخولهم بترحيب شديد.
_ "شاكر" باشا نورت المستشفى كلها.
ابتسم "شاكر":
_ اشكرك يا دكتور "زاهر" على المجاملة اللطيفة.
ثم استطرد وقال بعدما تحركت عينيه نحو "زينب".
_ مدام "زينب الزيني" زوجة حفيدي، وده دكتور "زاهر" شريك معانا في المستشفى.
بخجل نظرت "زينب" نحو الواقف الذي هتف وهو يمد يده لها للمصافحة.
_ أهلًا يا مدام "زينب"، حضرتك طبعًا في غنى عن التعريف لأني حضرت فرحك أنتِ وكابتن "صالح".
شق ثغر" زينب" بابتسامة خفيفة وردت.
_ اتشرفت بمعرفتك يا دكتور.
على الفور أجاب "زاهر".
_ الشرف ليا يا مدام.
وسُرعان ما كان يخرج تساءَل "زاهر" بقلق.
_ فيه حاجة تعباك ولا إيه يا باشا ده أنت كنت عندنا من اسبوع وما شاء الله عليك.
_انتبهت "زينب" على كلام الطبيب "زاهر" ونظرت نحو الجد، فهو أخبرها أن لديه فحص اليوم وعليه الذهاب حتى يطمئن على صحته.
_ أنا جاي لدكتور "شرف الدين" عشان خاطر زوجة حفيدي، اصل الحمل اتأخر وعايزين نطمن.
اِختفت ابتسامة "زينب" وجحظت عيناها من الذهول لتنظر نحو الجد الذي وقف يتحدث ببساطة، فقال "زاهر" وهو يرمق "زينب" التي تراجعت إلى اللوراء خُطوة.
_ دكتور "شرف الدين" شاطر جدًا في تخصصه اختيار موفق يا باشا.
بنبرة صوت خرجت متعلثمة باهتة قالت وهي تلتف بجسدها.
_ أنا شكلي وقَعت الإسورة بتاعتي في العربية.
رد "شاكر" بعدما اِستدار برأسه جِهتها.
_ هكلم "إسماعيل" يجبهالك.
لم تنتظر لتسمعه وقد تعجب من مغادرتها بتلك السُرعة كما تعجب الطبيب "زاهر" من الأمر ووقف يتابع في صمت.
اِنحبست أنفاسها داخل صدرها وهي تحدق بالمساحة الواسعة أمامها بعدما غادرت المشفى لتنحني بجسدها قليلًا وهي تمسد موضع قلبها. أغلقت جفنيها بقوة ثم أخذت تهز رأسها حتى لا تبكي لكن دموعها خانتها.
انسابت دموعها على خديها؛ فهي لا تستوعب ما كان سيحدث إذا لم يتصادف طريقهم مع ذلك الطبيب ويُصرح الجد عن سبب وجودهم بالمشفى.
بيدين مرتعشتين أخرجت هاتفها من حقيبتها التي تضعها على أحد أكتافها.
اِنتبه "صالح" علي اهتزاز هاتفه على طاولة الإجتماعات التي أمامه وقد كان تركيزه مُنصب على شاشة الحاسوب التي أمامه ويستمع بإنصات إلى أحد المهندسين المسئولين عن شبكة المعلومات.
التقط هاتفه بعدما رأي اسمها على شاشه الهاتف ونهض معتذرًا من الجالسين أمامه.
_ ثواني يا جماعه وراجع، كملوا مناقشة.
أسرع "صالح" بمغادرة الغرفة وهو يمرر إصبعه على شاشة الهاتف حتى يجيب عليها وقبل أن تخرج من شفتيه كلمة كانت تهتف هي بصوت متهدج.
_ أنا بكرهك يا "صالح" بكرهك.
توقف "صالح" عن التحرك وتجمدت يديه على الهاتف لتعيد ما قالته مرارًا.
_ بكرهك، أنت السبب..
وأردفت وهي تنظر إلى أنظار كل من يمر بجانبها.
_ أنا بكرهك زي ما بكرههم.
هزته تلك الكلمة التي لأول مرة يعرف مدى صعوبتها، أن يكرهك الشخص الذي ذهب قلبك إليه مرتاحًا مُرحبًا وأراد أن يسكن بين أضلعه،،، اِزدرد لُعابه وثقلت أنفاسه وعندما استطاع أخيرًا تمالك نفسه وإخراج صوته حتى يعلم ما حدث لها وجعلها تخبره بكرهها له، أنهت المكالمة وأغلقت الهاتف.
حاول إلتقاط أنفاسه وهو يعيد لمرات عديدة مهاتفتها.. ليلطم الجدار الذي أمامه بقبضة يده بعد أن يأس من الوصول إليها.
دخل غرفة مكتبه ليُسرع في مهاتفة والدته لكنه تذكر أنها ليست بالڤيلا منذ أمس.
حرك رابطة عنقه؛ فشعور الإختناق بدأ يُسيطر عليه لتحتد نظرات عينيه وهو يتذكر فرد واحد سيفهم منه كل شئ.
أسرع بمغادرة المطار وهو يضع الهاتف على أذنه منتظرًا رد الطرف الآخر.
_ كده يا "صالح" نسيت دادة "نعمات".
قالتها "نعمات" بسعادة فور أن ردت عليه ليتساءَل "صالح" بنبرة صوت مهزوزة وهو يضغط على أزرار المصعد.
_ داده، جدي عندك في الڤيلا؟!
أجابته "نعمات" بقلق:
_ لأ يا بني خرج مع السواق.
اِتجه "صالح" نحو سيارته وقد بدأت أنفاسه تخرج بلهاث.
_ مسمعتيش راح فين؟
قطبت "نعمات" حاجبيها وسُرعان ما كانت تتذكر حديثه بالصباح عندما ذهبت إليه بقهوته.
_ أنا سمعته كان بيأكد حجز عند دكتور لكن مش عارفه دكتور إيه.
_ مين السواق اللي مع جدي يا دادة؟
...
دخل "صفوان" غرفته بالمشفى وخلفه مساعدته من طاقم التمريض تُخبره عن الحالات التي سيمر عليها اليوم لمعاينتها.
أشار إليها أن تتوقف للحظة لينظر بتعجب نحو هاتفه بعدما إلتقطه من على طاولة مكتبه.
لم يكد ينطق بكلمة، ليجد "صالح" يتحدث برجاء.
_ بـابـا، "زينب" مع جدي في المستشفى وتقريبًا جايبها من غير ما تعرف عشان يعرضها على دكتور نسا.
وبصعوبه اِستطرد وهو يَزيد من سُرعة سيارته.
_ قوله إنه بيدمر حياتي للمرة التانيه والمرادي بجد هقاطعه طول العمر ومش بعيد اسيب ليه البلد كلها عشان يرتاح.
اِرتجف قلب "صفوان" وهو يخرج من غرفته بعُجالة؛ فـ أتبعته مساعدته بقلق وهي تهتف باسمه.
_ دكتور "صفوان".
عندما تقابل "صفوان" مع والده بالأسفل نظره له بنظرة سَريعة لأئمة.
تنهد "شاكر" بقوة، فقد فهم الآن سبب مغادرة "زينب" بتلك الطريقة وتأكدت شكوكه... لا علاقة زوجية قد تمت بينها وبين حفيده.
....
وقف "صفوان" خارج المشفى يبحث عنها بعدما أرشده السائق "إسماعيل" نحو الطريق الذي سارت فيه.
زفرة إرتياح خرجت من بين شفتيّ "صفوان" عندما وجدها تجلس بحديقة المشفىٰ على أحد الأرائك.
_ "زينب".
اِبتلعت "زينب" ريقها ثم نظرت إليه، ليشعر "صفوان" بالألم من رؤية دموعها التي جفت على خديها.
_ تسمحيلي اقعد جمبك.
لم تتحدث بل أشاحت عيناها بعيدًا عنه وأغلقت جفنيها.
_ محدش فينا كان يعرف اللي هيعمله بابا.
فتحت عيناها وكاد أن يستطرد "صفوان" بحديثه حتى يوضح لها الأمور.
_ ممكن تخلي "صالح" يطلقني يا عمو.
...
لم تُفكر إلا به بعدما حلت تلك المصيبة فوق رأسها وجعلتها "سلوى" توافق مجبرة على تلك العزيمة التي دعت فيها جميع زملائها. حاولت "سلوى" أن تتحدث معها عن عزومة الغد إلا أن "ليلى" كانت ترد على حديثها بكلمات مقتضبة.
_ هبعتلك بكره الصبح عنوان البيت يا "سلوى"، ابقى بلغي أنتِ زمايلنا بالمكان.
قالتها "ليلى" قبل أن تطلب من سائق الحافلة -بأدب- أن يتوقف بأقرب مكان تستطيع النزول به.
عندما غَادرت الحافلة تنفست الصعداء ولم تهتم بنداء "سلوى" لها التي اِندهشت من ترجلها بهذا المكان.
تابعت "سلوى" بعينيها تحركها إلى أن اِختفت "ليلى" عن أنظارها.
_ بكره نعرف أنتِ ساكنه فين يا "ليلى" هانم.
ثم اِبتسمت بخبث ونظرت إلى بقية زملائها الجالسين بالحافلة.
_ عمها سواق هيكون ساكن فين غير في العشوائيات.
توقف "عزيز" فجأة مما جعل إطارات سيارته تصدر صريرًا. استدارت "ليلى" بجسدها بقلق بعدما استمعت إلى الصوت.
عادت الدماء إلى وجهها عندما رأته يخرج من السيارة ويتجه إليها بلهفة.
_ مقولتيش ليا ليه اجي اخدك من المصنع.
ثم أردف بعدما وجد عينيها تخبره بأن هناك شئ يُحزنها.
_ مالك يا "ليلى".. صوتك كان مخنوق وأنتِ بتكلميني.
نظرت إليه ثم حاولت أن تبتسم حتى لا تزيد من قلقه.
_ خلينا نقعد في مكان عشان اعرف احكيلك.
اِبتسم وتساءَل بعد أن اطمئن قلبه قليلًا.
_ أنتِ كويسه؟
هزت رأسها إليه، فأردف وهو يمرر يده على خدها برفق.
_ يعني الحكاية كلها إنك عايزه تتكلمي معايا وتحكيلي عن حاجة شاغله بالك؟
عادت تومئ برأسها، لتتسع اِبتسامته شيئًا فشئ ثم زفر أنفاسه بقوة.
_ حرام عليكِ وقعتي قلبي...، بس عارفه أنا مسامحك على الخضة دي عشان أول حد فكرتي تحكيله همك هو أنا.
اِرتبكت ثم أخفضت رأسها بخجل.
_ إحنا هنفضل واقفين كده؟
نظر حوله وتنحنح بصوت خشن.
_ أعمل إيه من خضتي عليكِ نسيت إننا واقفين في الشارع.
اِزداد توهج عينيها وتحركت معه وفور أن وضعت قدميها داخل السيارة أردفت بفزع.
_ نسيت اكلم عمو اقوله إني هتأخر وهكون معاك.
رمقها "عزيز" بنظرة لائمة وهز رأسه بيأس منها.
_ ولازمتها إيه الفزعة دي كلها.
وبضيق أردف وقد لاحظت ضيقه.
_ هكلم "عزيز" وابلغه إنك معايا وهنتغدا سوا.
أشار إليها بأن لا تتحدث واِنتظر رد "عزيز" على مكالمته.
شعرت "ليلى" بالسوء من حالها وتصرفاتها عندما أبلغ عمها بأنه فاجئها بدعوته لها أثناء خروجها من دوامها لتناول الطعام معه.
توقفت السيارة عند أحد المطاعم وبعدما ترجل من السيارة أزال تلك التقطيبة التي كانت تحتل جبينه وابتسم.
سارت معه وهما متشابكين الأيدي وهمس لها بخفوت.
_ على فكرة أنا لسا زعلان منك.
كادت أن تتحدث لكنه قاطعها قائلًا:
_ فكري بقى بحاجة تصالحيني بيها.
ساعدها بالجلوس على أحد مقاعد الطاولة التى اِختار موقعها بإهتمام ثم جلس قُبالتها وألقىٰ نظرة سريعة حوله.
_ أول مره أدخله لاني مش من هواه الاكل بره.
بصوت خفيض ردت.
_ عم "سعيد" قالي إنك مبتحبش تاكل بره البيت.
داعبت شفتيه اِبتسامة خفيفة واستند بكلا ذراعيه على الطاولة.
_ احفظي بقى اللى بيقولك عليه العم "سعيد" صم وركزي معاه.
توهجت وجنتيها بحمرة الخجل وهربت بعينيها بعيدًا عن نظراته التي صارت تُربكها.
إلتقط يدها حتى تنظر إليه.
_ هنتغدا الأول وبعدين تحكيلي الحاجة اللي أنتِ شايله همها.
وضعت يدها أمامه حتى لا يُحرك طبق طعام آخر نحوها.
_ أنا شبعت خلاص.
وضع "عزيز" الطبق أمامها مُصرًا على تناوله.
_ لو أكلت أزيد من كده مش هقدر.
نظر لها بشك لتومئ له برأسها مؤكده ما تقوله.
أصبحت الطاولة أخيرًا فارغة من أطباق الطعام، اِنتظر "عزيز" إلى ابتعد النادل عن الطاولة بعدما وضع أمام كل واحد منهم مشروبه.
_ احكيلي وخليكي واثقة إني افضل شخص ممكن يسمع اللي قدامه كويس.
وضع يده على يدها عقب كلامه؛ فخفق قلبها ونظرت له بحُب لا تستطيع وصفه بالكلام.
_ قوليلي بقي إيه اللي شاغلك عشان قلبي يطمن اكتر.
تنهدت بقوة ثم بدأت تسرد له كل ما حدث معها اليوم من حديث "سلوى" وسط زملائها وإحراجها أمام الجميع وإقاحمها دون وجه حق في أمر كهذا.
_ وأنتِ زعلانه ليه وقلقانه... هتعزميها يا حبيبتي وتكديها كمان.
طالعته بنظرة حائرة؛ فأردف "عزيز" بعدما إعتدل في جلوسه.
_ "ليلى" أنا عارف أنتِ خايفة من إيه كويس، ومن غير كلام كتير في النقطة دي لاني عايزك أنتِ تتجاوزيها بنفسك. لكن بطلي خوفك من الناس ونظرتهم ليكي، ارفعي راسك دايمًا ولو كنتي فاكرة الناس بتقلل من الواحد عشان وضعه الاجتماعي وحياته فـ للأسف هقولك إنك مغفله.
اِتسعت حدقتاها واِنفرجت شفتيها ليبتسم على مظهرها.
_ آه مغفلة يا "ليلى"، لأن إحنا اللي بنصنع صورتنا في عيون الناس... لو ظهرتي للناس ضعفك هيشوفوكي ضعيفه... ولو ظهرتي قوتك حتى لو قوة زي القش هيعملوا ليكي ألف حساب.
تعلقت عيناها به ثم سحبت نفسًا عميقًا وزفرته.
_ أنا مش عارفة هي بتعمل كده ليه.
بهدوء رد "عزيز" بعدما اِرتشف من المشروب الذي أمامه.
_ عشان هي إنسانه حقودة يا حبيبتي وبتغير منك.
أطلقت زفرة طويلة لينظر إلى كوب العصير الذي لم ترتشف منه.
_ أشربي عصيرك الأول.
بحيره تساءَلت:
_ وهي بتغير مني ليه، أنا دايمًا كويسه معاها ومعملتش ليها حاجة وحشه.
حيرتها في فهم الناس تُذكره بأولاد شقيقه عندما كانوا صغار.
_ عشان أنتِ فيكي حاجات كتير حلوه تتحب يا "ليلى" وأولهم قلبك.
أخجلها بكلامه الذي جعل نبضات قلبها تخفق بجنون.
_ أنا محظوظ بيكي يا "ليلى".
....
لم تتحدث معه بكلمة واحدة منذ أتى إليها بالمشفى ورأها تجلس جِوار والده. حاول مرارًا أن يجعلها تتحدث وتثور عليه لكنها عاقبته بصمتها.
دلفوا إلى شقتهم وقبل أن تتحرك نحو غرفتها إلتقط ذراعها راجيًا.
_ قولي أي حاجة، اصرخي عليا من تاني يا "زينب" بس بلاش سكوتك ممكن.
أشاحت عيناها عنه وبنبرة متحشرجة قالت:
_ أنا عايزه أنام.
لم يترك ذراعها رغم محاولتها التخلص من قبضة يده.
_ لأ مش هسيبك تنامي، خليني أفهمك إني معرفش حاجة عن اللي عمله جدي...
اِبتسمت بوجع وتساءَلت:
_ هو ده الدور التاني اللي انتوا كنتوا عايزيني فيه، اكون مربية واخلف.
اِرتخت قبضة "صالح" عن ذراعها وأشاح هو عينيه عنها بعدما اِنكشف ذلك السر.
_ أنا طلبت من عمو "صفوان" يطلقني منك، بكره هاخد شنطة هدومي وهرجع لجدو.
....
وضعت "عايدة" قائمة الحلويات التي عليهم صنعها بالغد من أجل زميلاتها.
_ تفتكري هنلحق نعمل كل ده وبعدين ناخد الحاجة ونروح الشقة ونجهز المكان.
اِبتسمت "عايدة" حتى تُطمئنها.
_ الحمدلله "شهد" خلصت النهاردة الامتحانات، ومعانا "ضحى" بنت لطيفة بتيجي من بدري الڤيلا تبدأ شغلها ده غير "سعيد" احسن شيف فيكي يا مصر ..
قالت "عايدة" عبارتها الأخيرة ثم ضحكت؛ فضحكت "ليلى" معها.
_ إن شاء الله مع بعض هنقدر نعمل كل حاجة والحاجات الصعبة في تجهيزها نشتريها من محل الحلويات.
أسرعت "ليلى" بالنهوض من مكانها واِرتمت في حضنها.
_ أنا مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه.
_ أنتِ بنتي يا "ليلى" ومفيش بنت بتشكر أمها.
قبلتها "ليلى" على رأسها لتنساب دمعه على خد "عايدة".
_ كان نفسي نعزم صحابك في بيتنا يا بنتي لكن..
لم تحتاج" عايدة" لتوضيح المزيد وتبرير سبب عيشتهم طيلة هذه السنوات هنا ؛ فهي تعلم أن عائلة عمها اِعتادت العيش بهذا المكان ولن تأتي هي لتجعلهم يُغادرون من أجلها.
مدّت "ليلى" يدها نحو خد "عايدة" لتمسح دموعها.
_ لو فضلتي تعيطي أنا كمان هعيط وعلى فكرة بقى أنا الشقة دي يوم ما اشترتها، شوفتكم معايا فيها عايشين كلنا سوا بس اعمل إيه لا انتوا قادرين تبعدوا عن هنا ولا أنا بقيت قادرة ابعد عنكم.
اِبتسمت "عايدة" من بين دموعها.
_ عننا بس ونسيتي "عزيز" بيه.
توترت "ليلى" وتوردت وجنتيها لتربت "عايدة" على كف يدها.
_ روحي ارتاحي عشان نستعد ليومنا الطويل بكره.
تركتها "ليلى" واِتجهت نحو الغرفة التي تُشارك بها "شهد" منذ قدومها لكن قبل أن تفتح باب الغرفة اِرتفع رنين هاتفها.
تعجبت من إتصال "عزيز" بها لتُجيب بصوت خافت.
_ على فكره إحنا كنا لسا مع بعض وأنا داخله أنام عشان بكره يوم طويل وهنصحي من بدري نجهز الحلويات ونروح الشقة.
هَـز "عزيز" رأسه وهو يتحرك نحو إحدي غرف الڤيلا التي كانت قديمًا مكان مخصص لابن شقيقه حتى يستقبل بها أصدقائه وقد جهزها له بأفضل وسائل الترفيه.
_ وليه تتعبوا نفسكم كفايه تشرفوا على الحاجة وتجهزوا انتوا عشان تستقبلوا الضيوف.
إلتوت شفتيّ "ليلى" بسخرية.
_ يا سلام ومين بقى هيعمل الحلويات؟
اِتسعت إبتسامة "عزيز" عندما فتح إضاءة الغرفة الواسعة التي يوجد لها بابين من الداخل والخارج.
_ طلبت كل حاجة بنفسي وعايزك تجيلي الڤيلا عشان تأكدي بنفسك على الأوردر.
وقبل أن تتحدث واصل كلامه بجدية.
_ وحذاري يا "ليلى" تعترضي.
إلتمعت الدموع بعينيها لتهتف بحب.
_ أنا بحبك أوي يا "عزيز".
خفق قلب "عزيز" وجلس على أحد الأرائك.
_ و "عزيز" عايز يعمل أي حاجة عشان يشوفك مبسوطه و سعيده ويلا بقى تعالي عشان تأكدي حجز الحاجة.
اِرتبكت عندما أتى بذكر هذا الأمر واِزدردت لُعابها.
_ أكد أنت الحجز بنفسك مش لازم يعني انا.
إلتمعت عينيّ "عزيز" وزوي ما بين عينيه، فهذا هو الجواب المتوقع من "ليلى".
_ و ده ينفع برضو يا حبيبتي.
ثم تابع كلامه بمِزاح حتى يجعلها ترى قدومها له بصورة أخرى.
_ يا "ليلى" مش هكلك أنا، هستناكي في الاوضة اللي من ناحية البيسين.
أنهى المكالمه قبل أن تعطيه إعتراض أخر لتتنهد بقوة ثم عادت بأدراجها إلى المطبخ.
اِندهشت "عايدة" من عودتها.
_ فيه حاجة يا حبيبتي افتكرتيها نضيفها.
شعرت "ليلى" بصعوبة الكلام لتتساءَل "عايدة" بقلق.
_ مالك يا "ليلى".
حدقت بها "عايدة"؛ فأخفضت رأسها بخجل.
_"عزيز" طلب الحلويات وقال متعملوش غير إنكم تشرفوا على التحضيرات وتجهزوا نفسكم.
تهللت أسارير "عايدة" وقالت بعدما طوت الورقة التي كانت تدون بها ما سيصنعوه.
_ طول عمره "عزيز" بيه كريم ومش بيتأخر في إنه يريحنا.
استمرت "عايدة" بمديحها؛ فهو أزال عنها عبئ الغد.
_ روحي نامي يا حبيبتي وأنتِ مرتاحة ومطمنة.
تردد "ليلى" بالكلام جعل "عايدة" تقطب حاجبيها.
_ فيه حاجة تانيه عايزه تقوليها ليا يا "ليلى".
...
توقف "عزيز" عن التحرك بالغرفة بعدما وجدها تطرق الباب من الخارج، أسرع إليها بلهفة مرحبًا.
_ نص ساعه مستنيكي.
حاولت الإبتعاد عنه لكنه أحاط خصرها وقربها من صدره.
_ ربع ساعه وهمشي.
اِنفلتت ضحكة خافتة من بين شفتيّ "عزيز" وسار بها.
_ حاضر، ربع ساعة وهتمشي... ها قوليلي اول مره تشوفي الاوضة دي؟
نظرت حولها بإعجاب ثم اؤمأت برأسها.
_ آه أول مره.
أجلسها "عزيز" على أحد الأرائك ثم جلس جوارها وأعطاها الجهاز اللوحي خاصته.
_ شوفي كده الحاجات اللي انا طلبتها تمام ولا عايزه تزودي حاجة.
اِزداد توترها عندما وجدته يَمُدّ ذراعه على ظهر الأريكة ليحدجها بنظرة بريئة وهو يشير نحو الشاشة التي بيدها.
_ بصي هنا يا "ليلى" وقوليلي كده تمام ولا..
اِرتفعت وتيرة أنفاسها وردت بتعلثم.
_ أه كله تمام.
اِندهش من إبتعادها عنه ليلتقط يدها متعجبًا.
_ هو أنتِ لحقتي تشوفي حاجة.
أسرعت بتحريك رأسها.
_ آه لحقت، الربع ساعة خلصت.
_ لأ الربع ساعة لسا مخلصتش.
قالها وهو ينظر إلى ساعة يده؛ فوجدها تُحاول النهوض مجددًا.
_ أنتِ رايحة فين؟
قبض على معصمها بخفة بعدما نهضت من جواره، لتلتف إليه حتى تُحرر معصمها من قبضة يده ورغمًا عنها ولا تعرف كيف حدث هذا طرفت عينه بأناملها.
إنفلت تأوه خافت من شفتي "عزيز" واِنفلتت يده عنها ليميل برأسه إلى الوراء.
_ اخرتها عيني يا "ليلى".
سيطرت الصدمة عليها لوهله لتخرج شهقتها فجأة وهي تضع بيدها على فمها.
_ مكنش قصدي، طيب هي بتوعجك.
رمقها "عزيز" بعدما فتح عينه المصابه.
_ اكيد بتوجعني يا "ليلى".
نظرت إليه بندم وعندما اِستمعت إلى تآوهه مره اخرى، اِقتربت منه.
_ خليني انفخها ليك.
أخفي "عزيز" تلك الإبتسامة التي داعبت شفتيه ليتركها تفعل ما أرادت.
اِستمرت بالنفخ وهي تتساءَل.
_ خفت شوية؟
بعبوس مصطنع حرك "عزيز" رأسه.
_ انفخي تاني يمكن تخف.
تنهدت وهي تعيد الأمر بيأس ليرفع يديه يُحاوط بها خِصرها.
اِنتفضت بفزع عندما شعرت بيديه لتنظر إليه بفزع.
_ يا بنتي بثبتك لتقعي عليا، نيتك وحشة كده ليه.
قالها "عزيز" وهو يرمقها بنصف عين لتدفعه عنها بعدما أرجفت فعلته جسدها.
_ لأ أنا هقف ورا الكنبة أحسن.
كادت أن تتجه إلى الخلف ليلتقط يدها ويجتذبها إليه؛ فسقطت على الأريكة وصارت على أحد ذراعيه. ثقلت أنفاسه بسبب قُربها منه وأرخى جفنيه وهو يزدرد لُعابه.
_ وتفتكري بعد ما كنتي قريبة مني أوي كده هقدر اسيبك.
اِحتل الذعر عينيها؛ فــ ابتسم.
_ متخافيش مني.
رفع يده يُحركها على خدها برفق وببطء كان يقترب منها... وهل هي الآن تستطيع الإبتعاد عنه بعدما خدر جميع حواسها؟