رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل التاسع والثلاثون بقلم سهام صادق
رُبَما كان وقوع الكلمة عليها كلحن جميل لمس أوتار قلبها الذي ضاعت فرحته.
أن تصبح زوجته حُلم كانت تراه مستحيلًا وصار الآن حقيقة تشوهت منذ تلك الليلة التي رأت فيها بغض ابن شقيقه الواضح لها.
"سيف" جعلها تفيق على واقع تناسته بعدما انجرفت مع أمواج الحب.
تنهد "عزيز" وهو يرى التخبط مرتسم على ملامحها وقد تحاشت النظر إليه تمامًا.
_ طيب ممكن نتكلم بهدوء وتفهميني وجهة نظرك.
صوته الرخيم جعلها ترفع عيناها وتنظر إليه بحيره، لتداعب شفتيه ابتسامة صغيرة ثم أردف وهو يشير نحو المِقعد.
_ خلينا نقعد ونتكلم يا "ليلى"
انصاعت لطلبه في صمت وجلست على المِقعد الذي أشار إليه وقد ظنت أنه سيجلس خلف مكتبه لكن وجدته يجلس قُبالتها.
ارتبكت وهي تراه جالس أمامها ولا يفصل بينهم سوى تلك الطاولة الصغيرة الموجوده في المنتصف.
_ تعرفي إن كان جوايا مشاعر غضب بسبب تجاهلك وأنا كراجل متعودتش على التجاهل، الموضوع بالنسبالي صعب وقولت لنفسي اول ما هشوفها هعاتبها واصدر ليها الوش الخشب.
عندما تفوه بكلمته الأخيرة تعلقت عيناها به لتجد ابتسامته قد اتسعت،فاستطرد قائلًا:
_ لكن معرفتش، قلبي مقدرش يقسى عليكِ.
ارتجف قلبها عقب كلامه لتفرك يديها ببعضهما بارتباك؛ فهي لا تستطيع مجاراته بالكلام والتعبير عن مشاعرها رغم عشقها له.
تعمق بالنظر في ملامحها التي اِشتاقها وكان ينتظر أن تعبر عن شوقها له لكنه صار يعرف طبيعة شخصيتها الخجولة التي زادته سقوطً في عشقها وتمنيها كزوجة له.
اِزدادت ربكتها عندما طالت نظرته لها، هي تعلم أنه يُريد سَماع كلمة منها تروي ظمأه لكن لسانها يعجز عن الكلام.
_ نفسي ألاقي رد لكلامي.
تلاقت عيناها بعينيه بنظرة خاطفة؛ فابتسم وهو يميل قليلًا جهتها.
_ ليه بخيله معايا حتى في الكلام يا "ليلى"!
ارتفعت أنفاسها وهي تراه يُحاول كسر الحواجز بينهما ثم واصل كلامه بعبث رجولي لا يعلم متى صار يجيده.
_ امتى عقدة لسانك تنفك.
توترت وقد غادرت الأحرف لسانها ثم أخدت تتلاعب بأصابعها، تلك العادة تجعله يشعر وكأنه أمام طفلة صغيرة وليست فتاة اقتربت من إتمام منتصف العقد الثالث من عمرها.
تنهد بقوة ثم أسبل جفنيه؛ فڪُل شئ بها يزيده رغبه فيها وهي تحرمه من تعجيل الأمر لتصبح زوجته.
أصابته الدهشة وهو يسمع ما نطقته شفتيها.
_"عزيز" بيه أنت قولتلي إن بفلوس الشقة بتاعتي هشتري واحدة هنا..
خرج الكلام منها دفعة واحدة، فهي استطاعت أخيرًا سؤاله عن بيع شقتها.
شعر بالضيق من نطقها لاسمه غير مجرد مرة أخرى رغم جلوسهم بمفردهم؛ فأردفت بتساؤل أذهله.
_ هي ليه الشقة متباعتش لحد دلوقتي؟
حدجها "عزيز" بنظرة جعلتها تشعر بالحرج، فتمتمت بخفوت.
_ أنا مقصدش حاجه من سؤالي..
وبخجل اِستطردت دون أن تعي ما تقول.
_ "بسام" زميلي في المصنع هنا عنده شقة سعرها حلو وانا قولتله...
اِحتدت عيناه عندما استمع إلى اسم رَجُل آخر منها وقد باغتها بنهوضه المفاجئ وبنبرة صوته التي خرجت قوية.
_ وأنتِ مستنيه الفلوس عشان زميلك يشتري ليكِ الشقة، يعني محددة كل حاجه.
شعرت "ليلى" بالفزع من حدته ونظرت إليه بغرابة وسُرعان ما كانت تواصل كلامها حتى توضح له الأمر.
_ هو قالي إن الشقة لقطه وخايف تضيع مني..
احتقنت ملامح "عزيز" واستدار بجسده ينظر إليها.
_ يعني موقفة خطوة جوازنا عشان خاطر الشقة اللقطه.. أنتِ عارفه أنا ممكن اشتريلك كام شقة.
لم ينتبه "عزيز" على ما نطقه وقد تملكته الغيرة لوهله.
_ اختاري الشقة اللي أنتِ عايزاها وأنا اشتريهالك.
ضغط بحديثه على ذلك الجرح الذي أحدثه ابن شقيقه داخلها، وهل هي كانت بغافله عن ذلك الحقد الذي رأته في عينين "سيف".
_ أنا عايزه اشتري الشقة بفلوسي.
أغلق جفنيه بقوة؛ فهو لم يعتاد بعد على تلك المشاعر التي تقتحمه وتسيطر عليه...حاول التحكم بغضبه.
_ وبعد ما هتشتري الشقة بفلوسك طبعًا...
قال كلمته الأخيرة بتهكم لا يقصده لكنه حانق الآن منها ثم أردف متسائلًا:
_ محدده قرارك في علاقتنا يا "ليلى"؟
أطرقت رأسها بعدما شعرت بأنه يلوم عليها بقرار تحفظ به كرامتها.
_ أنا كنت فاكرة إن يوم ما هكون عروسه، بيتنا هيتملي زغاريط و ماما هتكون معايا والفرحه مش هتكون سيعاها، مكنتش فاكره إن الدنيا هتفضي فجأة حواليا وهي كمان هتسيبني... أنا عارفه إنهم منكوش اهلي الحقيقين لكن عمري ما حسيت باليتم غير لما سبوني ومشيوا.
لم تشعر بحالها إلا وهي تخبره بكسرة فؤادها وذلك الشعور الذي أحياه ابن شقيقه وجعلها تفيق من وهم الأحلام.
ارتجف قلب "عزيز" وهو يرى دموعها تغرق خديها واقترب منها وكاد أن يمد يديه حتى يجتذبها إلى حضنه لكنه لم يستطع هي ليست امرأته حتى يدنسها.
_ قصرك جميل لكنه مش بيتِ، أنا ضيفة عندك وعند عمي..
قبض "عزيز" على يديه بقوة، فالعجز يسيطر عليه وهي من تحرمه من ضمه لها.
_ كانوا بسببي عايزين يمشوا وهما مش متخيلين حياتهم بعيد عن قصرك، واول ما عرضت طلب الجواز حسوا إن الأمل رجع تاني ليهم وبقى لوجودهم سبب قوي...
تنهيدة قوية خرجت منه وقد ازداد غضبه من "سيف"، فلولا ما فعله ما كان ذلك الشعور أوجعها وفتح جرحها الغائر.
اتجه نحو طاوله مكتبه يلتقط المحارم الورقية وتقدم إليها يمد يده قائلًا بلين.
_ امسحى دموعك يا "ليلى" وانا هعملك اللي أنتِ عايزاه.
استمرت في بكائها وهي تنظر إليه وقد عاد حديث "سيف" يدوي داخلها.
_ لو بصتيلي بالطريقة دي صدقيني يا "ليلى" هاخدك في حضني ومش هخرجك منه إلا وعمك جايب المأذون معاه.
ابتسمت ثم أسرعت في جذب المحارم الورقية من يده لتمسح دموعها.
_ من حقك طبعًا كل اللي أنتِ عايزاه بس كان نفسي تحكيلي من غير ما تبعدي عني الايام دي وكأنك بتعاقبيني.
قالها ثم زفر أنفاسه بقوة، فأسرعت قائلة:
_ أنا مكنتش بعاقبك، أنا بس كنت محتاجة أفكر.
طالعها بنظرة مأنبة لتتنهد بقوة.
_ غصب عني.
يالها من كلمة جعلته يفهم الكثير من ورائها...
_ حاضر، هصبر لحد ما ابيع الشقة واجبلك فلوسك يا بتاعة فلوسي.
مازحها بلُطف ثم غمز لها ليشاكسها.
_ شايفه هكون زوج متفهم ولطيف إزاي.
اتسعت ابتسامتها شيئًا فشئ حتى ظهرت غمازتها -الغير واضحة- ليبتهج قلبه وهو يراها تبتسم.
_ بس عندي شرط ممكن؟.
اختفت اِبتسامتها بعدما أصابها القلق وأخدت ترفرف بأهدابها وانتظرت سماع ذلك الشرط.
...
قهقه "نيهان" بقوة عبر الهاتف بعد أن أخبره "عزيز" بالشرط الذي وضعه لها بعدما استجاب لطلبها بتأجيل أمر الزواج إلى أن يتم شراء الشقة التي سيتقدم فيها كعريس يطرق باب محبوبته.
_ أنت لست بهين يا رَجُل، أرى أنك صِرت ثعلب مع الحب.
ابتسم "عزيز" وأخذ يتحرك بالمقعد الجالس عليه وقد ظهر على ملامحه الإرتياح.
_ أنت قولت بقيت تعلب بسبب الحب.
ثم تنهد واستطرد قائلًا:
_الشقة بتاعتها عليها مشاكل ومحدش راضي يشتريها بسبب اللي حصل، فمكنش قدامي حل غير ده.
_ ستُخبرها أنك المشتري الفعلي للشقة؟!
تساءَل "نيهان" رغم أنه يعلم رد "عزيز".
_ لاء طبعًا لو عرفت مش هتقبل بكده.
_ "ليلى" ليست ذكيه ستدخل عليها حيلة تبادل الشقق.
قالها "نيهان" لمعرفته بطبيعة "ليلى" التي لولا شخصيتها ما كان "عزيز" انجذب إليها.
_ اتمنى بكره الموضوع يتم بسهولة يا "نيهان" والراجل يقدر يقوم بالدور كويس.
عادت ضحكات "نيهان" تعلو مجددًا وقال بوقاحة.
_ أنا كنت بدأت أشك بك بسبب عزوفك الغريب عن الزواج رغم زواجك من "سمية" من قبل، كنت اقول هل أصاب هذا الرَجُل لعنة بعد طلاقه من تلك المرأة لكن الآن متأكد من أحوالك وانتظر أن احمل "عزيز" الصغير بعد تسعة أشهر من الزواج.
...
ابتسم الواقف بعدما فتح الباب ووقعت عيناه على تلك الحفيدة اللطيفة التي ينعتها بذلك الاسم دومًا.
_ ازيك يا استاذه "زينب".
أعطته "زينب" الأغراض التي بيدها بعدما مدّ يده لها ثم التقطت الكيس الصغير الذي أصر "يزيد" على حمله وقد جعلته يشاركها في تسوقها.
_ الحمدلله يا استاذ "منصور" ، جدو فين؟
تحرك "منصور" الذي صار يتولى مهمة رعاية الجد بعد زواجها ولا ينصرف إلا إذا أتى أحد أحفاد الجد وتولى مهمه البقاء معه.
_ قاعد في البلكونة مع سيادة المستشارة.
امتقعت ملامح "زينب" عندما أخبرها بوجود "أشرقت" ابنة عمها وقد اختفى "منصور" داخل المطبخ ليضع الأكياس به.
حاولت "زينب" تلاشي ذلك العبوس الذي ظهر على ملامحها ونظرت إلى الصغير الذي قبض على يدها بتوتر.
_ حبيبي إحنا في بيت جدو "نائل" وهو بيحبك اوي تمام.
هز "يزيد" رأسه إليها، فابتسمت له والتقطت عنه حقيبة الظهر الصغيره التي يحب ارتدائها.
_ جدو، أنا جيت.
فور أن وصل صوتها إلى الجد..انفرجت شفتيه بابتسامة واسعة جعلت ملامح "أشرقت" تحتقن.
_ حبيبة قلب جدها.
فتح لها "نائل" ذراعيه وضمها إليه وكأنها لم تكن معه عَشِيَّةَ أمس.
ابتعدت "زينب" عن جدها ونظرت نحو "أشرقت" التي أخذت تمرر أصابعها على خصلات شعرها القصير.
_ ازيك يا "أشرقت".
بنبرة باردة لم تؤلم "زينب" -كما كانت تؤلمها قديمًا بسبب معاملتها الجافة لها عكس البقية- ردت "أشرقت".
_ أهلاً يا "زينب".
انتبه "نائل" على الصغير الذي تخفي وراء "زينب" ليمدّ يده له قائلًا بترحيب.
_ مش هتسلم على جدو يا "يزيد".
رفع الصغير عيناه نحو "زينب" وقد التقطت عينين "أشرقت" فعلة الصغير لترتسم ابتسامة ساخرة على شفتيها.
_ يلا يا حبيبي سلم على جدو "نائل".
قربته برفق من جدها الذي التقط يده وجذبه إليه بحنو.
_ مش عايز تسلم عليا يا "يزيد" ومستني تاخد رأيها.
ابتسمت وداعبت خد الصغير قائلة:
_ قوله لا يا جدو أنت الكل في الكل.
نطقها الصغير بخفوت رغم شعوره بالأمان في أحضان
"نائل".
_ غريبه يا "زينب" الولد اتعود عليكِ ولا كأنك مرات أبوه.
اختفت تلك الابتسامة التي اِحتلت شفتيّ "زينب" والجد الذي تنهد بقوة من كلام حفيدته.
_ الحنية بتخلي الحجر يلين يا بنت "هشام" وده طفل صغير ومن حظه الحلو إن "زينب" بقت زي مامته الله يرحمها.
شعرت "أشرقت" بالتوتر عندما ارتفع صوت جدها وقد ظهر على وجهه الضيق.
_ مش قصدي حاجة يا جدو، أنا بس مستغربة إن الولد تقبل وجودها بالسرعة دي رغم إنه بيعاني من اضطرابات نفسيه.
ابتعد "يزيد" عن أحضان الجد ليتشبث بملابس "زينب" بعدما فهم أن الحديث عليه.
_ "يزيد" مش بيعاني من حاجة يا "أشرقت" والحمدلله زي ما جدو قال الحنية بتلين اي قلب وخصوصًا الأطفال مش محتاجين غير الحنان.
شعرت "أشرقت" بأنها صارت السيئة كالعادة و "زينب" هي الملاك الذي يتغني شباب العائلة بهدوئها ورقتها وقدرتها على جذب العيون إليها.
_ إيه ده معقول الوقت سرقني ونسيت ميعادي مع "مراد".
تصنعت الدهشة وهى تنظر إلى ساعة معصمها المطرزة بالماس وقد كانت هدية من "مراد" الذي بعد أيام سيكون خطيبها رسميًا.
التقطت حقيبة يدها وانحنت لتقبل رأس جدها قائلة:
_ اوعي تتأخر عليا يا جدو، مش هدخل القاعة غير معاك.
ابتسم الجد وربت على خدها بحنو.
_ برضو مصصمة أنا اللي اسلمك لعريسك.
ابتسمت "أشرقت" بإنتشاء عندما وجدت "زينب" تتابع حديثهم بإهتمام.
_ طبعًا يا جدو.
تحركت "أشرقت" خطوتين ثم توقفت مكانها والتفت نحو "زينب" قائلة:
_ الخطوبة هتتعمل في الفندق اللي اتعمل فيه فرحك يا "زينب"، ياريت تبلغي كابتن "صالح" وانا هخلي بابي يتصل بيه.
غادرت "أشرقت" وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة واسعة، فها هي قد حصلت على عريس لا تقل مكانة عائلته عن مكانة عائلة "الزيني".
_ ساعديني يا "زوزو" عشان اقوم وندخل جوه...
قالها الجد ثم مدّ يده وسُرعان ما كانت تفيق "زينب" من ذلك الشعور السئ الذي يتملكها كلما اجتمعت مع "أشرقت" ابنة عمها.
برفق ساعدت جدها على النهوض وقد تحرك جانبها.
_ أنا مش مرتاح للجوازة دي، بس اقول إيه... "هشام" و مراته دايمًا بيعملوا اللي عايزينه.
اندهشت "زينب" من كلام جدها ليواصل كلامه بعدما جلس فوق الأريكة بغرفة الجلوس.
_ الحمدلله إني جوزتك واطمنت عليكِ، كل واحد حر في ولاده.
....
استرخي "صالح" على المقعد الجالس عليه ثم أغلق جفنيه وارجع رأسه للوراء تاركًا لعقله متعة التخيل فيما حدث أمس. شعر بدقات قلبه ترتفع ثم داعبت شفتيه ابتسامة عذبه ومشهد وقوفها أمامه شبه عارية عاد ليطرق رأسه. ازدرد لُعابه بعدما أدرك أن تخيله قاده لأمور أخرى أصبح يتوق لتجربتها معها...
فتح عينيه في صدمة لا يُصدق أن غريزته كرَجُل صارت تتحكم به.
نفض رأسه ليفيق من تخيلاته ثم نهض من المِقعد الجالس عليه وأخذ يتحرك بغرفة مكتبه وهو يُمرر يده على خده. دلك عنقه برفق لعله يمنح عقله الإسترخاء قليلًا وطرد أفكاره التي باتت هي محورها، فلم يظن يومًا أن امرأة ستعبثره هكذا وستجعله مشتتًا رغم فقر الحديث بينهم وتجنب وجوده بالمنزل.
لم يفيق من الحالة التي هو عليها إلا عندما استمع إلى طرق خافت على باب غرفة مكتبه ثم دلوف "كريم" مساعده.
_ محتاجينك في غرفة المراقبة المركزية يا فندم.
...
اتسعت ابتسامة "زينب" وهي ترى جدها مندمج باللعب مع "يزيد"، لتستكمل تحركها نحوهم وهي تحمل أطباق حلوى المهلبية التي يُحب جدها تناولها من يدها.
_ احلى مهلبية لاحلى جدو.
رفع الجد عيناه نحوها وابتسم.
_ تسلم ايدك يا حببتي.
اقتربت "زينب" منه لتنظر نحو "يزيد" قائلة:
_ "يزيد" لم اللعب يا حبيبي وروح اغسل ايدك وتعالا عشان تقولي رأيك في طبق المهلبية بتاعتي.
هز الصغير رأسه ونفذ الأمر لينظر الجد لها.
_ حاسس إنه بقى افضل من اول مرة شوفته فيها.
تنهدت "زينب" وهي تناول جدها الطبق.
_ "يزيد" مفيهوش حاجة يا جدو، الولد تشخيصه اصلا كان غلط زي ما هما للأسف اتعاملوا معاه غلط.
التقط "نائل" منها الطبق ووضعه أمامه على الطاولة الصغيرة ثم مدّ كفه يمسح على خدها بحنان.
_ عارفه فيكِ من طباعها كتير، طالعه زيها عندها حنان يغرق الكل ومتشتكيش.
كانت تعلم بأنه يقصد جدتها بكلامه، لتترقرق الدموع بعينين "نائل" لكن سُرعان ما استطاع أن يسيطر على مشاعره عندما أتى "يزيد" نحوهم متلهفًا لأخذ طبقه وإخبارها برأيه.
_ حلوه اوي يا "زوزو".
باغتها "يزيد" بقوله مما جعل شفتيّ الجد تنفرج بابتسامة وابتسمت هي الاخر ليهتف "نائل" قائلًا:
_ اخدتي كده العلامة النهائية بعد رأي "يزيد"، مش صح يا "زيزو".
طالعه "يزيد" ثم حرك له رأسه وهو يتناول ببطئ طعامه حتى لا يحدث فوضى وينهره الجد كما ينهره "شاكر".
_ صح.
أسرعت زينب "نحوه" لتقبل خده قائلة:
_ مادام عجبتك المهلبية هعملها ليك على طول.
قهقه الجد ونظر نحو "يزيد" متسائلًا:
_ لو مش عجباك يا "يزيد" قول من دلوقتي لأحسن هتزهقك منها.
بعبوس كالأطفال مطت "زينب" شفتيها.
_ كده برضو يا جدو.
_ بهزر معاكِ يا قلب جدو، تعالي في حضني يا حفيدة الغالية.
اِنتهي ذلك العناق برنين هاتفها برقم لم يكن مُسجل لديها.
_ ردي وشوفي مين.
التقطت الهاتف وقد اتجهت أعيُن كلاً من "نائل" و"يزيد" إليها عندما استمعوا إلى نبرة صوتها التي طغى عليها الفرح.
_ يعني بكرة اكون في المركز، تمام هكون عندكم الساعه سابعه.
نظر إليها جدها بفضول لتأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تخبره بقَبولها بذلك العمل الذي لم يتوسط لها أحد فيه.
_ اتقبلت في مركز اللغات يا جدو.
...
ولأنها كانت سعيدة اليوم، كان عليها أن تنفذ ما وعدت به "يزيد" وتشتري له زي الطباخ التنكري. وقفت أمام أحد المتاجر الخاصة ببيع مثل تلك الأزياء التنكرية ثم ابتسمت للصغير.
دلفوا إلى المتجر ليبحثوا عن الزي حتى وجدت له ما يناسبه.
_ بابي، طنط "زينب" اهي.
اِلتف "مازن" نحو صغيره وقد توقف عن متابعة مكالمته.. لم ينتبه "مازن" على مكان وقوفها لثواني لكن عندما جذب "عُدي" يده وتحرك بضعة خُطوات استطاع رؤيتها.
ابتسم عندما وقعت عيناه عليها وأكمل حديثه مع الطرف الآخر بعُجالة.
_ تمام يا "مراد"، صدقني هحضر حفلة الخطوبة متخافش أجلت سفري أسبوع.
تحرك إلى داخل المتجر في نفس اللحظة التي أخذت
"زينب" بطاقتها البنكية بعدما دفعت حساب ما اشترته.
_ مساء الخير.
قالها "مازن" بصوت يغلب عليه بحة رجولية مميزة.
اتجهت أنظار "زينب" نحوه ثم ابتسمت قائلة:
_ مساء الخير يا دكتور، "عُدي" أخبارك إيه.
أجاب الصغير على الفور ليخبرها عن حزنه بسبب إلغاء حصة اليوم.
_ أنا زعلت عشان الميس لغت النهاردة ومروحناش الكورس.
تقابلت عينين "زينب" بعينيّ "مازن" الذي ابتسم على تعلق صغيره بمعلمة الرسم.
_ وأنت يا "يزيد" اخبارك إيه، عُدي قالي إنك في آخر سيشن ساعدته في رسم مناخيري وعنيّا.
انفلتت ضحكات "زينب" ونظرت نحو "يزيد" قائلة:
_ يعني هو ساعدك في رسمتك وأنتَ ساعدته في رسمته.
هز الصغيران برأسهما لتتسع ابتسامة "مازن" عندما رأها تواصل ضحكها رغمًا عنها لتذكرها شكل الرسمتين التي كانتا أشبه بالكاريكاتير المضحك.
_ على فكرة فاتك اليوم ده يا دكتور.
أماء "مازن" برأسه بآسف، فهو لولا ضغط العمل لديه ما أضاع فرصة اللقاء بها... تلاشت ابتسامة "مازن" عندما انتبه على مشاعره.
_ انتوا جايين تشتروا زي تنكري زينا.
رغم أن هذا المتجر لم يكن هدفه هو وصغيره إلا أنه قال:
_ اه "عدي" عايز يشتري زي الشرطي.
...
دلف "صالح" الشقة وهو يُدلك جبينه؛ فبسبب قلة نومه صار الصداع لا يرحمه. ضاقت حدقتاه عندما داعبت أنفه رائحة غريبة تشبه رائحة المخبوزات ثم رفع حاجبيه بدهشة عندما وصل لأذنيه صوت لحن أغنية باللغة الفرنسية التي يجيدها.
تحرك بخُطوات هادئة يتتبع مصدر الصوت وقد تفاجئ من مكان انبعاثه. عيناه توقفت على رقصتها هي وصغيره بالمطبخ وكل منهما يحمل ملعقة خشبية. خفق قلبه بقوة وارتفعت أنفاسه التي صارت تسلبها منه كلما وقعت عيناه عليها.
استمر في تحديقه بهما وقد تواري بجسده حتى لا تراه وتختفي تلك الابتسامة التي تزين شفتيها.
جميلة كالفراشة هي، تفرض حضورها دون جهد منها حتى قلب صغيره حصلت عليه دون عناء وكأن معها عصاه سحرية... والديه منذ أول لقاء اجتمعوا بِه معها رؤها عروس مميزة لكن هو كان كالعمى يتحدى جده وعانده وبالنهاية كان هو الخاسر في لعبة زواج الهدف الحقيقي من ورائها الحصول على طفل آخر.
أغلق عيناه بقوة حتى يطرد كل هذا عن عقله ويستمتع بسحر اللحظة.
_ بابي هنا يا "زوزو".
قالها الصغير بعدما انتبه على وجوده ثم أسرع إليه حتى يريه زي الطباخ الذي يرتديه.
_"زوزو" اشترت ليا لبس الطباخ، بابي أنا عايز اكون طباخ شاطر.
ابتسم على ما قاله صغيره وعيناه عالقة بها وقد اختفت ابتسامتها كالعادة عند رؤيته.
_ جميل يا حبيبي.
كاد أن يشكرها لكن ارتفاع إنذار الفرن جعله يتوقف عن الكلام، أسرعت "زينب" نحو الفرن حتى تخرج منه البيتزا التي صنعتها هي والصغير. بسبب تسرعها وربكتها لإخراج الصينية لم تنتبه على يدها. خرجت شهقة خافتة منها جعلته يُسرع نحوها ويسألها بلهفة.
_ أنتِ كويسة وريني ايدك.
لم يكن الحرق شديد ولم تكن أول مرة لها... هي اعتادت على هذا. كادت أن تخبره أن الأمر هين لكنه التقط يدها وأسرع بوضعها تحت صنبور المياة.
_ بتوجع؟
اندهشت من سؤاله، فهو يسألها عن حرق بسيط حدث بيدها وقد نسى ذلك الجرح الذي لن يداويه الزمن.
سحبت يدها من يده بعدما شعرت بأنفاسه فوق يدها.
_ أنا كويسه ،مجرد لَسْعَة بسيطة.
نظر إليها الصغير وتساءَل:
_ "زوزو" انفخلك على ايدك.
شقت شفتيها ابتسامة واسعه واقتربت منه تداعب خصلات شعره قائلة:
_ "زوزو" كويسه يا قلب "زوزو"، تعالا يلا نقطع البيتزا وندوق عمايل ايدك.
شعر بالحرج ورفع يده يمررها على شعره وهو يحدق بهم... قطعوا البيتزا سويًا تحت أنظاره المتوهجة بسعادة حقيقية ليتساءَل الصغير عندما نظر إليه.
_ بابي تاكل معانا بيتزا؟
رغم عدم حبه للبيتزا إلا أنه أماء برأسه وتساءَل بصوت مرح:
_ هتسمحولي اشارككم الأكل يعني.
هز له الصغير رأسه بسعادة.
_" زوزو" فرحانه عشان هتروح الشغل بكرة واكيد هتأكلك معانا.
لم يفهم "صالح" ما قاله الصغير، عن أي عمل يتحدث طفله وقد أخبرته والدته منذ أيام أن "زينب" لم تذهب لتدريب المدرسة التي توسط لها الجد بها وكأنها صرفت نظر عن العمل.
_ شغل إيه؟
ابتسامة واسعه ارتسمت على شفتيها بعدما قضمت قطعة من شريحة البيتزا.
_ هشتغل في مركز لتعليم اللغات وهبدء تدريب من بكرة.
صمت "صالح" لوهلة يُحاول إستيعاب ما قالته ثم تساءَل وكأنه لم يسمع ردها.
_ قولي تاني شغل إيه؟
أعادت ما أخبرته به ولم يوقف هذا النقاش إلا رنين هاتفها و تساؤل الصغير عن سبب عدم تناولهم البيتزا معه.
_ انتوا مش هتاكلوا البيتزا بتاعتي؟.
حاولت "زينب" رسم ابتسامتها والتقطت هاتفها الموجود على طاولة المطبخ.
_ هروح ارد على طنط "سما" يا حبيبي ورجعالك.
حرك لها الصغير رأسه بتفهم وقد أسرعت بالتحرك من أمامه.
_ بابي هتاكل معايا.
بصعوبه تمالك "صالح" غضبه وربت على خده.
_ هغير هدومي يا حبيبي وراجعلك.
غادر "صالح" المطبخ واقترب من مكان وقوفها وقد وقفت تحادث "سما" بسعادة وتخبرها عن قبولها بالعمل دون توسط أحد لها.
أنهت مكالمتها مع "سما" واستدارت بجسدها حتى تعود للمطبخ وتُشارك الصغير وجبته.
_ مش شايفه إنك لغياني خالص من حياتك وقرارتك وكأني مش موجود.
كادت أن تجيبه بنفس الجواب الذي يثير حنقه منها.
_ أنتِ مش مربية ابني، أنتِ مراتي يا "زينب"...
أرادت أن تُجيب عليه لكنه واصل كلامه بعدما تلاشت المسافة بينهم.
_ ورغم غضبي منك وإلغائك لوجودي لكن مش هقف قدام حاجة شايفك مبسوطه بسببها.
ضمت حاجبيها في دهشة ورفضت ذلك الشعور الذي شعرت به بسبب كلماته وكاد الكلام يخرج من شفتيها لتخبره أنها ستبتعد يومًا عن عالمه لكنه قطع حديثها وأردف قائلًا:
_ من بكرة هشوف واحدة مؤهلة تكون مربية لـ "يزيد".
....
نظرت "ليلى" إلى عمها بنظرة حائرة، فهي حتى هذه اللحظة لم تقتنع بما يحدث.
_ امضي يا حببتي وتوكلي على الله.
قالها عمها بسعادة، ليطالعها صاحب الشقة قائلًا:
_ يا استاذه ليه التردد ده بس، ده أنتِ والله بنت حلال وسبحان الله ربنا وقعنا في طريق بعض.
أغمضت "ليلى" عينيها لوهله ثم مضت على العقود التي وضعها أمامها المحامي.
_ الف مبروك.
قالها المحامي الذي تم التنازل في مكتبه وقد زفر السيد "شكري" أنفاسه براحة.
_ أنتِ ليه يا بنتِ كنتي مترددة في موضوع الشقة، دي حقيقي زي ما "عزيز" بيه قال لقطه.
تنهدت بصوت خافت وهي تجاور عمها بسيارة الأجرة، فهي تشعر بأن هناك شئ خفي عنها لا تفهمه.
_ سبحان الله كل شئ بيتدبر في يوم وليله، بس الإنسان يرمي حموله على الله.
استقبلتهم "عايدة" عند عودتهم بلهفة وتساءَلت.
_ شوفتوا الشقة ومضيتوا العقود؟
ابتسم "عزيز" لها ثم اِتجه نحو الأريكة ليجلس عليها حتى يرتاح.
_ الحمدلله يا "عايدة" كل حاجه تمت والراجل كان ملهوف اكتر مننا على موضوع تبادل الشقق لأنه محتاج الشقة جدا بعد ما اتنقل للإسماعيلية.
_ الحمدلله ربنا استجاب لدعائنا.
واتجهت بأنظارها نحو "ليلى".
_ أنتِ بنت حلال يا" ليلى" وتستاهلي كل خير.
احتضنتها "عايدة" لتبارك لها ولكن صمتها جعلها تشعر بالقلق.
_ مالك يا "لولو" أنتِ مش فرحانه.
دارت عينين "ليلى" بينهم ثم زفرت أنفاسها بقوة لتخبرهم سبب حيرتها.
_ إزاي قِبل بالشقة بتاعتي من غير ما يشوفها غير بالصور.. ده غير إن شقته ما شاء الله جميله وواسعه وفي مكان راقي.
نظرت "عايدة" نحو "عزيز" فهو من رأي الشقة وقد أتى العم "سعيد" هذه اللحظة.
_ إيه يا بنتِ طمنيني عملتي إيه، "عزيز" بيه عايز يطمن... عجبتك الشقة؟.
ابتسمت "عايدة" وعادت لتحتضنها.
_ يا "لولو" دي تدابير ربنا والناس الطيبه زيك ربنا بيهدي عليهم العباد.
وكان عليها أن تقتنع بما يقولوه.
بعد منتصف الليل غفت "شهد" بعدما اشتد النُعاس عليها وقررت النوم حتى تستطيع الإستيقاظ باكرًا ومراجعه دروسها قبل الإمتحان الذي لديها.
إهتز هاتفها الذي تضعه أمامها لتُجيب عليه على الفور؛ فابتسم قائلًا:
_ "شهد" نامت؟
اتجهت بعينيها نحو ابنة عمها وأجابت بهمس بالكاد وصل إليه.
_ ايوة.
اسند "عزيز" رأسه على الوساده وتساءَل بجهل وكأن الأمور لم تسير مثلما خطط.
_ عم "سعيد" قالي إنك مستغربة موضوع قبول المشتري بشقتك رغم إن ما شاء الله موقع شقة الإسماعيلية جميل وتعتبر لقطه بالنسبه له.
أسبلت جفنيها بحيره ثم تنهدت.
_ هو ليه كل حاجة حصلت بسرعه من بعد كلامنا، وإزاي الراجل وافق من غير ما يشوف الشقة غير مجرد صور.
زفر "عزيز" أنفاسه بقوة وصمت لثواني.
_ "ليلى" أنتِ ليه بتدوري على أي حِجة توقف جوازنا، أنتِ عايزانا نوصل لإيه قوليلي...
ترددت فيما تريد إخباره به ليعيد تساؤله وقد صار يحفظ أجوبتها.
_ هو أحنا ممكن نخليها خطوبه بس من غير كتب كتاب.
أتاها رده على الفور منهيًا سخافة الأمر.
_ لأ يا "ليلى" مش هقبل تأجيل تاني وعلى فكرة من بكره هبدأ تجهيز الڤيلا لأننا هنعمل الفرح بعد شهر .