رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل الثالث والثلاثون بقلم سهام صادق
اختفت ابتسامتها شيئًا فشئ وهي تراه يتقدم منها بملامح مبهمة. أشاحت بعينيها بعيدًا بعدما تمالكت ذلك الشعور اللعين الذي مر على قلبها؛ فجعله هائم لوهلة.
مدَّت يدها نحو خد الصغير "عُدي" تداعبه برفق.
_ أشوفك السيشن اللي جاي يا بطل.
ابتسم الصغير كما ابتسم "مازن" وهو يداعب خصلات صغيره.
_ قولها شكرًا يا طنط "زينب" على الهدية الحلوه.
رد الصغير مذعنًا.
_ شكرًا يا طنط "زينب".
ابتسمت "زينب" للطفل الذي أظهر لها العداء في البداية لكن الآن صار وديعًا و لطيفًا ثم نظرت نحو "يزيد" الذي أخذ يشدَّ يدها لينبهها على اقتراب والده منهم.
_ خلصتوا خلاص؟
قالها "صالح" دون النظر نحو "مازن" الذي رفع حاجبيه باستغراب من تجاهله لوجوده.
تنحنحت "زينب" في حرج وهى تراه غير عابئ بوجود والد "عُدي".
_ دكتور "مازن" والد "عُدي".
ثم واصلت حديثها.
_ كابتن "صالح" والد "يزيد".
تجهمت ملامح "صالح" بعد تعريفها الناقص واستدار بجسده نصف إستداره وهو يمد يده له للمصافحة.
_ و زوج مدام "زينب".
ابتسم "مازن" وهو ينظر إلى يد "صالح" التي تقبض على كفه بقوة.
_ اهلاً وسهلاً يا كابتن "صالح".
_ اهلاً يا دكتور.
بتهذيب أفلت "مازن" يده من يد "صالح" وقد شعر من نظراته له بعداء لا يفهمه.
_ فرصة سعيدة يا كابتن "صالح".
اتجه "مازن" نحو سيارته وهو يمسك حقيبة صغيره وقد اعتلت ملامحه الدهشة من تصرف "صالح"، رمقه
"صالح" بإمعان بعدما ابتعد عنهم ثم أشاح عيناه عنه.
_ على فكرة أسلوبك مكنش لطيف مع دكتور "مازن"، ياريت تحسن اسلوبك شوية لأن محدش مجبر يتقبل حد بيتعامل معاه من طراطيف مناخيره.
تحركت من أمامه بعدما قذفت حديثها بوجهه لينظر إليها مصعوقًا.
صعد السيارة بعدما استقرت هي و صغيره داخلها ثم نظر لها ليجدها عابسة الوجه... تنهد بضيق ثم شرع بالقيادة متسائلًا:
_ عملت إيه يا "يزيد" النهاردة، الكورس كان حلو.
هز الصغير رأسه وقد التقط فعلته من المرآه.
_ مش هتحكي لـ بابي كل اللي حصل معاك النهاردة.
ولأن الصغير كان سعيد ومنطلق اليوم... أخذ يخبره عن يومه.
أصاب "صالح" الحنق عندما أتت سيرة ذلك الرَجُل الذي قدم لصغيره بعض الحلوى.
_ أنا مش قولت مفيش اكل حلويات من بره.
طأطأ الصغير رأسه وانكمش على حاله وقد استدارت "زينب" جهته بعدما رمقت "صالح" بنظرة ممتقعة.
_ أنا سمحت للولد ومش كل حاجة هنقول عليها لاء... وعلى فكرة "مازن" دكتور واكيد مهتم بصحة ابنه بزياده، لكن كأب فاهم إن ابنه طفل مش ريبورت هنحط ليه قوائم الممنوع والمقبول.
احتدت عينيّ "صالح" عندما أتت بذكر هذا الرَجُل.
_ أنا مش بعامل ابني كـ ريبورت أنا خايف على صحته.
ثم أردف بغضب طغى على بحة صوته.
_ وكمان ليه هنفضل نتكلم عن الدكتور وابنه ونحطهم في سياق حديثنا.
رمقته بنظرة مستنكره ثم ارتفعت إحدى زوايا فمها بابتسامة ساخرة.
_ على فكرة الكورس ده هدفه... الولاد يتعاملوا مع بعض وطبيعي إننا نذكر اسم دكتور "مازن" و "عُدي".
زفرة قوية وطويلة خرجت من شفتيّ "صالح" ثم نظر إليها بعد أن توقف بالسيارة أسفل البناية.
فور أن دلفوا إلى الشقة اتجهت بالصغير نحو غرفته غير مهتمه بذلك الذي ألقى مفاتيحه بقوة بعدما غلت الدماء في عروقه.
اتجه ورائهم لكن توقف مكانه متنهدًا بقوة واتجه نحو الأريكة في غرفة الجلوس وجلس عليها.
وضع رأسه بين راحتي كفيه وأخذ يخرج أنفاسه رويدًا رويدًا لعلّ تلك النيران المشتعله تهدء داخله.
تنهد بصوت مسموع؛ فتلك التي صارت أمامه الآن ليست الفتاة هادئة الطباع التي تزوجها إنه يرى امرأه متمرده تناطحه وكأنه في حرب معها.
هل جاء بوجع الرأس لنفسه عندما قرر الزواج...
نهض بغضب وتحرك نحو غرفة صغيره ليتحدث معها ويجدوا طريقة لوضع بعض النقاط بحياتهم لكنه وقف مشدوهًا وهو يراها تنحني قليلًا برأسها ثم رفعتها فجأة حتى تُحرر خصلات شعرها الأسود الثائر وقد وقفت أمام الحمام تنتظر "يزيد" إلى أن ينتهي من غسل يديه.
خرج الصغير من الحمام يقول:
_ أنا جعان يا "زينب".
أسرع نحو غرفته يدور بها بدون هوادة...فقد صار كل شئ يحدث معه لا يفهمه.. أغلق جفنيه بقوة لا يصدق أن قلبه صار يخفق كلما وقعت عيناه عليها.
....
لا يعرف كيف وصل إلى هنا، كل ما يعلمه أنه وجد نفسه يقطع تلك المسافة بسرعة قصوى بعدما أتاه صوتها الباكي.
أصدرت إطارات سيارته صريرًا مترفعًا عند بوابة المشفى وقد التف البعض نحو السيارة بفزع.
خرج من السيارة دون اهتمام بصفَّها بالمكان المسموح به وركض إلى داخل المشفى و الذعر يحتل ملامحه.
بأنفاس لاهثة متقطعة وقف يتساءَل عن اسم "عزيز" لتعطيه الموظفة كافة المعلومات عن المريض الذي أتى اليوم بطعنة أثر شجار.
بخُطوات أشبه بالركض صعد إلى الطابق الذي أرشدته إليه الموظفة بعدما وجد المصعد معطل.
عيناه بحثت عنها في الرواق ليتيبس جسده وهو يراها تحتضن سيدة كبيرة بالسن وتبكي داخل أحضانها.
انحبست أنفاسه التي كانت للتو هادرة وحرك ساقيه بصعوبة نحوها وبنبرة مهزوز خرج صوته باسمها.
_"لـيـلـى".
ابتعدت "ليلى" عن أحضان الخالة "صفية" ورفعت عينيها نحوه وهي لا تصدق أنه أتى بالفعل.
_"عزيز" بيه، أنت هنا فعلاً ؟؟
قالتها بصوت ضعيف خافت وأعيُن ترقرقت بهما الدموع؛ فابتسم وهو يهز رأسه لها... فهل ظنت أنه سيتركها وحدها...هي لا تستوعب ما فعلته به عندما اخترق صوتها الباكي أذنيه.
تبسمت السيدة "صفية" ونظرت نحو "عزيز".
_ بعد ما دخلتي الحمام يا حببتي .. التليفون رن وأنا رديت عليه واديته عنوان المستشفى.
اماءت "ليلى" برأسها ليتساءَل هو عن حالة "عزيز" وقد بشره ذلك الإرتياح الذي يراه على ملامحهم.
_ "عزيز" أخباره إيه؟
نظر إليها وقد استطاع لملمت شتات نفسه.
_ الحمدلله الدكتور طمنا إن الإصابة مجتش في أجزاء حيوية.
حاولت التقاط أنفاسها التي خرجت سريعة؛ فاستكملت السيدة "صفية" الكلام.
_ لسا خارج من العمليات واخدوه على العناية عشان يكون تحت الملاحظة.
عندما لمحت "ليلى" الطبيب الذي أجرى الجراحة لعمها أسرعت نحوه. تحفزت ملامح وجه "عزيز" بغيره و اتبعها بعدما اعتذر بنبرة سريعة من السيدة "صفية" التي كانت تخبره بما حدث.
اندهشت السيدة "صفية" من فعلته لكن سُرعان ما كانت تحرك رأسها وعلى شفتيها ارتسمت ابتسامة خفيفة.
انصرف الطبيب بعدما طمئنهم وأكد لهم ما قاله لمرات.
زفرة ارتياح خرجت من شفتيّ "ليلى" وأخذت تحمد الله على لُطفه بهم.
_ "عايدة" عرفت؟
تساءَل "عزيز"؛ فأسرعت بتحريك رأسها له.فأردف قائلًا:
_ يبقى بلاش تبلغيها حاجة... هيحصل قلق جامد هناك.
نظرت له بحيره وقالت:
_ طيب اقولها إيه أنا اضطريت اقفل التليفون بتاعه بعد ما حست إن صوتي متغير.
عندما أتت بذكر غلق الهاتف، امتقعت ملامحه من تصرفها وخرج صوته بحده طفيفه.
_ كويس إن الست الطيبه ردت عليا وبلغتني بمكان المستشفى قبل ما حضرتك تقفلي التليفون.
شعرت "ليلى" بغضبه الذي أصابها بالغرابة ليزفر أنفاسه بقوة قائلًا:
_ هروح اشوف بقية الإجراءات عشان المحضر وحساب المستشفى.
_ هنزل أنا، أنا معايا فلوس.
لأول مرة كانت ترهبها نظراته، هربت بعينيها نحو الخالة "صفية" التي انشغلت في مكالمة هاتفيه و قالت بتوتر:
_ أنا هروح اشوف أبلة "صفية".
ابتعدت عنه؛ فأحاطتها عينيه بنظرة ارتياح ثم رفع يده يُدلك بها جبينه.
ابتسمت الخالة "صفية" لها عندما وجدتها تقف قربها وعلى ملامحها ارتسم الخجل. أنهت الخالة "صفية" مكالمتها مع السائق الذي سيأتي لأخذها وتساءَلت:
_ راح فين الاستاذ "عزيز"؟!
ابتلعت "ليلى" لُعابها من شدة توترها.
_ راح يكمل إجراءات المستشفى ويدفع الحساب.
اتسعت ابتسامة "صفية" واقتربت منها تربت على كتفها.
_ راجل ابن حلال وشكله بيحب عمك اوي.
تلاقت عيناها بعينين الخالة "صفية" لتُحرك أهدابها بتوتر هاربة من النظر إليها بعدما فهمت كلامها المبطن.
غادرت الخالة "صفية" المشفى بعدما أتى السائق الذي سيقلها إلى المدينة التي تعيش بها حاليًا وقد تأسفت مرارًا على عدم قدرتها على البقاء بسبب حاجتها لتناول أدويتها على وعد أنها ستأتي بعد غد للإطمئنان عليها.
بنظرة احتلها الحنان والحب حدجها "عزيز".
_"ليلى" أنا شايف أنتِ كمان لازم ترتاحي وتغيري هدومك.
عندما أشار بكلامه نحو ملابسها الملطخة ببقع الدماء، أخفضت عينيها نحو فستانها.
_ هروح الصبح أغير.
_ لا يا "ليلى"، أنتِ لازم تروحي عشان تقدري بكره تكوني معاه..
ثم استطرد ليُحاول إقناعها بلين.
_ الزيارة مش مسموح بيها دلوقتي لـ "عزيز"، وجودك ملهوش داعي.
طالعته بنظرة تحمل حيرتها ليتنهد قائلًا:
_ تعالي عشان اروحك.
أقنعها بعدما أصرت أن تسأل عن حالة عمها قبل مغادرتها.
تحرك بالسيارة بعدما أملته العنوان وحدد الموقع عبر هاتفه.
استرخت بالمقعد لحاجتها لهذا الوضع وأغمضت عينيها حتى تهرب قليلًا من ذلك الضجيج الذي يدق رأسها.
_ لو فيه مطعم قريب قوليلي عليه انزل اشتري ليكي أكل، شكلك مأكلتيش حاجة من ساعات.
بالفعل هي جائعة لكنها تفقد الشهية... فشعور الذنب يقتلها لِما حدث لعمها بسببها. سقطت دموعها رغمًا وخرج صوتها مكتوم بخنقة.
_ أنا السبب، لو كان مجاش معايا مكنش حصله حاجة.
انتفض قلبه عند رؤيتها تبكي و أوقف سيارته سريعًا بجانب الطريق.
_"ليلى" بصيلي.
لم تنظر إليه بل وضعت وجهها بين راحتي كفيها وارتفعت شهقاتها.
_ كان ممكن يموت لولا ستر ربنا... أنا سامحته والله على اللي عمله فيا زمان... هو مكنش بأيده حاجه عشان يحطني في الملجأ الظروف حكمت عليه.
انهارت بالبكاء وانهارت حصونه الواهية معها. سحب حزام الأمان عنه حتى يتمكن من أخذها بين ذراعيه وتهدأتها. كاد أن يمدَّ ذراعيه ويجتذبها إلى صدره لكن سرعان ما فاق على حاله ليغمض عينيه بقوة... ألا يكفيه أنه لمسها بالمزرعة، ألا يكفيه عدم غض بصره عنها رغم أنه يفعل ذلك مع جميع النساء إلا هي...
فتح عيناه وقال بضياع ورجاء.
_ أرجوكِ بصيلي يا "ليلى"، لو اقدر اخدك في حضني كنت عملت كده.
استمرت بالبكاء الذي فطر قلبه ثم زفر أنفاسه بقوة.
_ متصعبيهاش عليا أرجوكِ، لو اخدتك في حضني هيكون ذنبي في رقبتك أنتِ.
انخفض صوت بكائها شيئًا فشئ إلى أن توقفت تمامًا عن البكاء واحتلت الصدمة ملامحها بعدما قال:
_ كفايه عليا يوم المزرعة اللي معذبني ليل ونهار.
حركت كفيها ببطئ عن عينيها تنظر إليه بنظرة خجلة أفقدته صوابه ولولا رنين هاتفه لكان جذبها إليه دون تردد.
تنهد بقوة ثم أشاح عينيه عنها ليستعيد ثباته.
_ دي "نيرة" ،اكيد قلقانه إني مرجعتش البيت.
بحيره تساءَلت بعدما نظرت إلى الهاتف الذي استمر بالرنين.
_ هتقولها على اللي حصل وإنك هنا معانا؟
أغلق جفنيه بإرهاق ليُفكر لثواني حتى يحسم قراره.
_ هبلغها إني في مشوار شغل وبكره الصبح هقولها يكون "عزيز" فاق وعرفنا قراره لو عايز "عايدة" تعرف.
انقطع الرنين ثم عاد يصدح مجددًا، فتح المكالمة وأجاب بصوت ثابت.
_ ايوة يا "نيرة".
بلهفة تساءَلت "نيرة" وقد تعلقت بها نظرات "سيف" و
"كارولين" بتوجس.
_ أنت فين يا عمي، اتأخرت كده ليه قلقانين عليك.
_ أنا برة القاهرة يا حببتي، جاتلي سفرية شغل لميناء بورسعيد.
تنهدت "نيرة" وهي تنظر لكلاً من شقيقها و زوجته.
_ هو مكنش ينفع تبعت حد بدالك، خلاص يا حبيبي اهم حاجة إنك بخير.
اختصر "عزيز" الكلام حتى لا تتساءَل كثيرًا وينكشف أمر سفره.
زفرت "نيرة" بإرتياح بعدما أغلقت المكالمه معه تخبرهم بما أخبرها به.
_ هو مبلغناش ليه طيب... عمومًا ده أكيد شغل مهم ما دام سافر بنفسه.
قالها "سيف" ثم التقط الريموت ليرفع من صوت التلفاز مرة أخرى.
_ أهم حاجه إنه بخير واطمنا عليه.
تمتمت بها ردًا على شقيقها وسُرعان ما كانت تواصل كلامها بقلق.
_ ده مأخدش هدوم معاه وبيقول ميعرفش هيقعد هناك قد إيه.
كانت "كارولين" تتابع القلق الظاهر على ملامح "نيرة" التي نهضت وصعدت لغرفتها. تعلقت عينيّ "كارولين" نحو "سيف" المندمج في مطالعة برنامج رياضي وقد أخدت تعبث بخصلات شعرها بعدما ربطت سفر العم اليوم بعد سفر "ليلى".
تحركت من المقعد الذي كانت تجلس عليه وقد تفاجأ "سيف" بيدها التي أخذت تتحرك على صدره وسُرعان ما كانت تباغته بقبلتها. لم يتجاوب "سيف" معها بل دفعها عنه قائلًا وهو ينظر حوله:
_ لسنا بغرفتنا "كارولين".
عبست بملامحها وهي ترى المكان فارغ حولهما.
_ عمك ليس هنا.
_ و شقيقتي أنسيتي وجودها بالأعلى.
زفرت أنفاسها بقوة وأشاحت عيناها عنه بضجر.
_ أنت منذ أن فقدنا الطفل واصبحت بعيدًا عني..أنت تغيرت كثيرًا معي "سيف".
تأفف بصوت مسموع ثم رفع يده ليمرر أصابعه بين خصلات شعره.
_ أنا مشغول برسالة الدكتوراه... يجب أن أحقق ما فقدته بأمريكا.
_ وأين أنا "سيف"، انسيت شغفك بي...
أطلق زفيرًا قويًا.
_ اشغلي نفسك بأي شئ بعيدًا عني قليلًا "كارولين"، فأنا لست متفرغ بأن نقضي الوقت في ممارسة الحب...
نظرت إليه وغمغمت بمرارة.
_ أنت لا تلمسني إلا عندما اقترب أنا منك.
بضجر نهض من جوارها.
_ أصبح عقلك لا يفكر إلا في نقطة واحدة، أين تلك الفتاة التي كانت تأتي إلي حتى أدرسها بعض المواد.
تركها وصعد لأعلى تحت نظراتها التي اتبعته في صدمة، فأين ذهب الرَجُل الشغوف بها و بجسدها.
...
وقف "عزيز" أسفل البناية لينظر إليها؛ فوجدها تنظر إلى مقبض باب السيارة الداخلي بحيره.
أخذت نفسًا عميقًا ثم زفرته لتلتف إليه وعلى ملامحها ارتسم الخوف.
_ لو كان ينفع كنت طلعت معاكِ، أنا هفضل قاعد جوه العربيه صاحي متقلقيش.
_ هما قبضوا عليه؟
تمتمت بصوت مرتجف ليطلق زفيرًا عميقًا.
_ متقلقيش ،البوليس هيجيبوه...
أغمضت عينيها لوهله حتى تسيطر على ضربات قلبها وتغادر السيارة.
كادت أن تفتح باب السيارة إلا أن صوته أوقفها وجعلها تلتف له مجددًا.
_ أول ما تطلعي حطي التليفون على الشاحن عشان اكلمك وأفضل معاكِ على الخط.
اماءت برأسها وفتحت الباب لكن هذه المرة كان وقع الكلام على قلبها كمن يُعطيه جرعة مخدرة.
_ أنا معاكِ متخافيش.
غادرت السيارة بعدما وجدت أن الفرار من أمامه هو الحل الأمثل.
دخلت الشقة وسُرعان ما وقعت عيناها على الارضية الملطخة بدماء عمها.
أغمضت عيناها ثم فتحتهما وتحركت تبحث عن هاتفها الذي بالفعل كان فارغ الشحن.
فور أن وضعت الهاتف على الشاحن وجدت صوت رنينه يعلو.
نظرت إلى الرقم وقد ارتفعت دقات قلبها لتفتح المكالمة على الفور وبصوت خافت أقرب إلى الهمس خرج صوتها الناعم.
_ أنا وصلت وقفلت باب الشقة كويس.
ابتسم "عزيز" وارجع رأسه للوراء مستندًا على المقعد الأمامي لسيارته.
_ سيبي بقى التليفون مفتوح وقومي خدي حمام وغيري هدومك وصلي.
ثم أردف موكدًا على ما أمرها به قبل خروجها من السيارة.
_ ولازم تاكلي مفهوم.
_ بس أنا ماليش نفس.
خرجت نبرة صوته بلُطف.
_ "ليلى" اسمعي الكلام أنا مش مستعد أعيش نفس الموقف تاني وأنتِ بتقعي قدامي.
خفق قلبها بقوة لتغمض عينيها لوهلة.
_ حاضر هسمع الكلام.
انفرجت شفتيه بابتسامة واسعه وأغلق جفنيه مستكينًا ليفيق من تلك المشاعر على صوتها.
_ "شهد" بتتصل ،أنا مش عارفه اكذب اكتر من كده.
عاد الحزن يسيطر على ملامحها ليهتف قائلًا حتى تهدء.
_ قوليلهم تليفون "عزيز" وقع وعايز يتصلح وإن دلوقتي هو نايم.. وبكره إن شاء الله هنلاقي حل... هقفل وهرجع اكلمك تاني تمام.
فعلت ما قاله لها وقد شعرت بعدم تصديق زوجة عمها لها لكن لم يكن بيدها إلا أن تخبرها بهذا الكلام حتى تذهب إلى عمها بالصباح ويُخبرها بما عليها فعله.
لم تغفو إلا ساعة واحده وقد تركت الخط مفتوح كما أخبرها.. أزاحت سِتار نافذة شرفتها لتنظر نحو السيارة القابعه بالأسفل.
تنهدت وهي تشعر بالذنب على ما حدث بسببها... عمها بالمشفي وهو يجلس بالأسفل داخل السيارة.
ارتفع صوت أذان الفجر لتجده يخرج من السيارة وقد رفع عيناه لأعلى... رأها تقف وراء السِتار؛ فابتسم وتحرك نحو أقرب مسجد.
بالصباح الباكر وفي تمام الساعه السابعه....
كانت تخرج من البناية وهي تحمل بعض الأغراض، ملابس نظيفه لعمها وطعام وإناء حافظ للسوائل حيث وضعت به الشاي الذي تعلم بتفضيله له بالصباح.
وجدته يخرج من محل بقالة العم "مجدي" وقد اشتري بعض عُلب العصائر و زجاجة ماء.
تنهدت بضيق من تغافلها عن أمر الماء ليقترب منها متمتمًا.
_ صباح الخير.
كادت أن ترد على تحيته لكن خروج العم "مجدي" جعلها تبتلع أحرف الكلمات وصوبت نظرها إليه لمعرفتها بفضول هذا الرَجُل.
_ استاذة "ليلى"، طمنيني على عمك... ده أنا قلقت جامد عليه... منه لله ابن حرام كان عايز يضيع الراجل.
نظرت له وهي تتذكر ما حدث بالأمس و ردت.
_ الحمدلله يا عم "مجدي"، الدكتور طمنا عليه وقال الجرح مش خطير.
حرك العم "مجدي" رأسه بإرتياح لِما سمعه ثم ضاقت حدقتاه وهو يرى ذلك الغريب الذي كان منذ دقائق يبتاع منه بعض الأشياء.
_ أنتِ تعرفي البيه يا استاذه؟
سؤال العم "مجدي" كانت تنتظره منذ أن رأته يخرج من محل بقالته لكنها لا تعرف بماذا تخبره.
_ أنا و "عزيز" قرايب وكان عندي شغل في بورسعيد واول ما عرفت اللي حصل جيت على طول.
تفهم العم "مجدي" الأمر وابتسم.
_ والله أنت ابن حلال في حد لسا في الزمن ده بيسأل
عن قرايبه... ده الأخوات مبقوش يسألوا عن بعض.
استطاع "عزيز" أن ينهي الكلام مع هذا الرَجُل متعللًا بضرورة ذهابهم إلى المشفى.
التقط منها الأشياء ليضعها بالمقعد الخلفي وصعد السيارة.
صمتها جعله يظن أنها تضايقت من جوابه على سؤال الرَجُل عن صلة قرابتهم لكن كان عليه أن يقول هذا حتى لا يجعلها عُرضة لكلام و شكوك يعرفها.
_ أنتِ زعلتي لما قولت إننا قرايب مش مثلاً مخطوبين.
قالها صراحة؛ فعقدت لسانه قد انفكت منذ أن انفلت منه طرف الخيط.
أطرقت رأسها نحو يديها القابعين داخل حجرها..هي لا تفهم ولا تجد مبرر لذلك الشعور الذي اقتحمها فجأة بعد جوابه على العم "مجدي"..لقد جَمّل صورة صلة القرابة التي لا توجد من الأساس... عمها وعائلته مجرد عاملين لديه وهي أيضًا.
_"ليلى" صدقيني أنا عملت كده عشانك..
قاطعته قبل أن يواصل كلامه ويوضح الصورة التي فهمتها.
_ أنا مش زعلانة... لو كنت قولت حاجة زي كده كان عم "مجدي" فضل يسأل اسئلة كتير إحنا في غنىَ عنها.
ابتسم عندما رأي احمرار وجهها من شدة إنفعالها.
_ كان ممكن يسأل عن الدبلة و ميعاد الفرح.
ارتبكت عندما قال هذا دون مراوغة وأشاحت عيناها عنه بخجل.
_ أنا راجل دوغري يا "ليلى"، أنا عايز اتجوزك، مجرد ما "عزيز" يخرج بالسلامة هطلب ايدك منه.
أخجلها كلامه الذي لم تتوقع أن تسمعه منه يومًا ثم التفت جهة المقعد الخلفي للسيارة قائلة بتعلثم:
_ أنا حطيت الشاي في التُرمس وعملت ليك سندوتشات أكيد جعان.
ابتسم عندما وجدها تتهرب من التطرق بأمر الزواج وتمتم ببحة رجولية خشنة.
_ أنا فعلاً جعان وعطشان يا بنت الناس الطيبين.
...
شعرت "نيرة" بالحزن عندما علمت بما أصاب العم "عزيز".
دلفت إلى المطبخ لتجد "عايدة" تقف بالمطبخ شاردة.
_ الجميل سرحان في إيه.
باغتتها "نيرة" بقبلة على خدها جعلت "عايدة" تبتسم وترفع يدها لتربت على وجنتها برفق.
_ الله يعزك يا ست البنات.
شمرت "نيرة" عن أكمام بلوزتها حتى تقوم بمساعدتها.
_ هتعملي إيه يا بنتِ.
ابتسمت "نيرة" والتقطت منها المقلاه.
_ هساعدك يا "دودو" عشان تعرفي إني بقيت ست بيت شاطره... انتوا من ساعة ما جيت و أنتوا مدلعني.
_ يا بنتِ "ضحى" زمانها جايه.
حاولت "عايدة" إلتقاط المقلاه منها مشيرة إلى قدوم الخادمة التي تساعدها.
_ على ما تيجي نكون حضرنا الفطار.
لم تجد "عايدة" أمامها إلا تركها تفعل ما تريد.
_ الراجل العجوز لسا تعبان.
ابتسمت "عايدة" وهي تُخرج عُلبة الحليب من البراد.
_ شكله دور برد شديد وأنتِ عارفه "سعيد" بيخاف يعدي اللي حواليه فبيعزل نفسه بس الحمدلله صاحي النهارده احسن.
وضعت "نيرة" البيض بالمقلاه لترمق بطرف عينيها "عايدة" خلسة. فعمها في مكالمته لها هذا الصباح أخبرها برفض "عزيز" لمعرفتها بما أصابه.
...
انتقل "عزيز" لأحد الغرف الفندقية بالمشفى وقد طمئنهم الطبيب على حالته.
بلهفة تحركت "ليلى" إليه بعدما ابتعدت الممرضة عنه ليبتسم لها "عزيز" بوهن.
جثت على ركبتيها عند فراشه تمسد على كفه برفق.
_ أنا السبب في كل ده.
انسابت دموعها على خديها؛ فمدَّ عمها يده بضعف نحو خدها ليمسح دموعها.
_ امسحى دموعك لأنها غالية عندي يا بنت الغالي، فداكي عمري...
طالعهم "عزيز" الذي وقف ينظر إليها بعشق صار ينبض بعينيه وقد تمنى لو كان يستطيع الإقتراب منها وضمها إلى صدره.
_ أنا ساعتها اتمنيت لو كنت أنا بدالك.
انتفض قلب "عزيز" عندما سمع ما نطقته ليخرج صوت "عزيز" -عمها-.
_ اوعي تقولي كده، خليني اكفر عن ذنبك اللي في رقبتي .
حاول "عزيز" إخراج صوته بعدما تقدم بضعة خُطوات.
_ سلامتك يا "عزيز"، الف سلامه عليك.
ابتسم "عزيز" ونظر له وهو لا يعرف كيف يوفي له حقه.
_ الله يسلمك يا "عزيز" بيه، أنا مش عارف هسد جمايلك اللي في رقبتي إزاي.
تحركت عينين "عزيز" نحو "ليلى" التي هربت بعينيها بعيدًا عنه من شدة خجلها.
_ مفيش جمايل بينا يا "عزيز"، إحنا أهل.
_ الله يكرم اصلك الطيب يا "عزيز" بيه.
غادر "عزيز" الغرفة حتى يذهب إلى أحد الفنادق لحجز غرفة له ويقوم بتبديل ملابسه.
_ راجل ابن حلال.
قالها "عزيز" -العم- بعدما غادر رب عمله الرَجُل الخلوق، لتومئ "ليلى" برأسها وتخبره بكل ما فعله معها.
_ مش عارف هقدر ارد جمايله دي إزاي.
تخضبت وجنتي "ليلى" ولم تجد إلا تجنب الحديث عنه حتى لا تفضحها عينيها عشقًا.
_ اوعي تكوني قولتي لـ "عايدة" حاجة أنا مش عايزها تقلق.
هزت رأسها بحزن على اختلاقها الكذب عليها.
_ اتصلت بيا الصبح وفضلت تحلفني إنك كويس وقالتلي لما يصحا خليه يكلمني..
بوهن مدَّ "عزيز" يده.
_ هاتي تليفونك خليني أكملها... "عايده" مش هترتاح طول ما هي مش بتسمع صوتي.
قاوم "عزيز" ألم جرحه وتحدث إلى "عايدة" التي فور أن سمعت صوته سقطت دموعها وعاتبته قائلة:
_ كده يا "عزيز"، كده متكلمنيش من امبارح؟
وسُرعان ما كانت تتساءَل بقلق.
_ صوتك ماله وكأنك بتطلعه بالعافية أنت تعبان يا "عزيز".
جاهد "عزيز" في جعل صوته طبيعيًا ونظر إلى "ليلى" التي وقفت عند طرف الفراش.
_ عندي شوية سخونية بس دلوقتي أنا احسن...
"عايدة" الشبكة بتقطع وأنا مش سامع صوتك.
أنهى "عزيز" المكالمة بعدما شعر بعدم قدرته على التظاهر أنه بخير.
_ اقفلي تليفونك اغلب الوقت عشان نتحجج بالشبكة.
أغلقت "ليلى" الهاتف، فهذا أفضل حل الآن.
بعد ثلاث ساعات أتى إلى المشفى و عندما دلف الغرفة وجد "عزيز" نائم و "ليلى" تستند على ذراع المقعد الجالسة عليه وغافية أيضًا. شعر بالإشفاق عليها لرؤية التعب بادي على ملامحها.
برفق هتف اسمها حتى تستيقظ وتأتي معه إلى مركز الشرطة بعدما تم القبض على ذلك الشاب.
_ "ليلى".
لم تسمعه إلا بعد ندائه الثالث لترفرف بأهدابها لثواني ثم فتحت عينيها لتستوعب مكان وجودها.
_ تعالي بره عايزك، مش هعرف اتكلم عشان "عزيز".
بصوت خافت تحدث ثم تحرك، اتبعته بقلق..
_ فيه حاجة حصلت؟
قالتها بصوت مرهق؛ فتنهد وهو ينظر إلى ملامح وجهها الشاحب.
_ لازم نروح قسم الشرطة، قبضوا على الولد وابوه.
ارتجف جسدها عندما أتى بذكرهم ليخبرها بلهجة مطمئنة.
_ متخافيش من حاجة طول أنا معاكِ، تمام.
هزت رأسها له وتحركت معه بإذعان إلى مركز الشرطة.
عند دخولهم إلى مركز الشرطة ابتعد عنها "عزيز" قليلًا حتى يستطيع التحدث مع ضابط الشرطة الذي على صلة به منذ أن كان يخدم بالقاهرة.
غفلت عيناه عليها للحظات وقد ارتفع صوت أحدهم فجأة مما جعل الأنظار تتجه إليه.
_ بقى ابني يضيع بسببك يا بنت الحرام.
أسرع "لطفي" نحوها الذي انفلت من يد أحد العساكر؛ فانكمشت على حالها بخوف والتصقت بالجدار ورائها وهي ترى الشر في عينين هذا الرَجُل الذي رفع يده عاليًا ليصفعها.
...
ابتهجت ملامح السيدة "حورية" عندما سمعت صوت الدادة "نعمات" المرحب بقدوم "يزيد" و "زينب".
أسرعت على الفور لإستقبالهم قائلة بسعادة:
_ حبيب قلب تيتا هنا.
انحنت نحو الصغير لتحضنه ثم نظرت إلى "زينب" تضمها إليها بمحبة حقيقية.
_ كده يا "زوزو" بقالك كام يوم حرمانه من شوفتك.
بأدب ردت "زينب" وهي تتقدم معها نحو غرفة الجلوس.
_ مشغولين في نشاطات المدرسة ده غير سيشنات كورس الرسم.
ثم أردفت بندم لتقصيرها في حق جدها.
_ أنا حتى جدو مقصره معاه.
ابتسمت السيدة "حورية" وربتت على كتف كنتها الغالية.
_ الله يكون في عونك يا بنتِ، والحمدلله اهو اجازة "يزيد" كلها اسبوعين وهتبدأ وهناخده معانا المزرعة يغير جو.
أتت الدادة "نعمات" بألعاب الصغير والتي انتقلت مهامها للقصر بعد زواج "صالح".
_ تؤمريني بحاجة يا ست "حورية".
نظرت كلاً من "حورية" و "زينب" نحو الصغير الذي أسرع نحو ألعابه خاصةً تلك الدُومَّى القديمة التي تعود لوالدته.
أملت لها "حورية" ما تُريده ثم نظرت نحو "زينب" متسائلة:
_ تشربي إيه يا "زوزو".
_ أي عصير فريش وياريت يكون متلج يا دادة من فضلك.
ابتسمت "نعمات" وحركت رأسها قائلة:
_ من عنيا يا بنتِ.
_ ها يا "زوزو" احكيلي اخبار الكورس مع "يزيد" إيه.
اتجهت أنظار "زينب" نحو الصغير.
_ هما سيشنين بس اللي اخدهم، أنا روحت معاه مره و "صالح" راح مره.
ارتفعت زاوية شفتيّ السيدة "حورية" بتعجب وقد ارتسمت الدهشة على ملامحها.
_ "صالح" راح مع "يزيد" كورس الرسم غريبة.
وسُرعان ما كانت تبتسم السيدة "حورية" قائلة بغبطة:
_ ده واضح في تطور ملحوظ مع "يزيد" و "صالح".
تقوست شفتيّ "زينب" بإستنكار، فهي هنا لتقوم بإصلاح الصغير و والده.
تعلقت عينيها نحو "يزيد" الملتهي بألعابه دون ندم على ما تقدمه له من رعاية حتى حبها له نابع من قلبها.
ارتفع رنين هاتف السيدة "حورية" لتنهض على الفور معتذرة منها.
_ البيت بيتك يا "زوزو"... هخلص مكالمتي ورجعالك.
زفرة طويلة خرجت من شفتيّ "زينب" وهي تطلق لبصرها حرية النظر حولها وقد تعجبت من عدم وجود الجد.
ضاقت حدقتاها عندما وقعت عيناها على الشئ الموجود على الطاولة التي أمامها ولم تنتبه عليه إلا للتو.
ازدردت لعابها ومدَّت يدها لتلتقط ذلك الشئ بيدين مرتعشتين وسرعان ما كانت تختنق أنفاسها وتتدفق الدموع من مقلتيها وهي ترى صور عُرسها.
بأصابع مرتجفة أخدت تمرر الصور التي كانت جميعها تضج بسعادتها وفرحتها...