رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني كامله جميع الفصول بقلم مريم غريب
( 1 )
_ شيء من الشوق ! _
مرت خمسة عشر دقيقة منذ أن تلقى أغرب مكالمة هاتفية من صديقه الحميم، كان مفادها المقتضب بالغ للإبعاث على القلق، مع مراعاة إنقطاع روابط الإتصال بينهما لعدة أشهر منصرمة، فضلًا عن عدم رؤية أحدهما الآخر لأكثر من عام و نصف تقريبًا ...
" أنا لسا نازل من الطيارة. قابلني في قصر البحيري كمان ربع ساعة ! "... لم يسمع "عثمان" من صديقه "مراد" أكثر من ذلك، ليترك أعماله العالقة و كل ما بيده و يغادر شركته مستقلًا سيارته الفارهة متجهًا إلى بيته مباشرةً ...
وصل خلال دقائق قليلة، و قد كان كل شيء على ما يرام _ كما يرى _ !
فها هو القصر المهيب يعمه السكون و الهدوء مثل المعتاد، و هو الذي خال بأن لمن المؤكد حدوث كارثة كي ما يتحدث "مراد" على هذا النحو الجلف الذي لا يلائمه بتاتًا، و علاوة عليه يقطع الإتصال فجأة ثم يغلق هاتفه تمامًا !!!
ألا يعتبر هذا تصرفًا مريبًا ؟ ما الذي أصاب ذاك الـ"مراد" يا ترى ؟؟؟
-في إيه يا عمي ؟ إيه إللي حصل؟! .. صاح "عثمان" متسائلًا و هو يجتاز ممر المدخل وصولًا إلى البهو الواسع
إلتفت "رفعت" إليه.. كانت "فريال" تقف إلى جواره، تحمل بين ذراعيها "يحيى" الصغير الذي أتم عامه الثاني منذ أشهر قليلة فقط ..
كانت تعابير وجهها لا تقل توجسًا عن تعابير وجه "رفعت" الذي رد على إبن أخيه مجفلًا بتوتر :
-عثمان ! كويس إنك جيت. مراد كلمني من شوية و قالي إنه رجع و جاي هو و هالة. جايين على هنا فجأة كده و صوته ماكانش يطمن أبدًا
هز "عثمان" رأسه و هو يقول عابسًا :
-كلمني أنا كمان بس ما قالش إن هالة جت معاه. الغريب إن اليومين دول Season و مش من مصلحته يسيب شغله و يجي فجأة حتى لو زيارة سريعة
-خير يارب ! .. تمتمت "فريال" بقلق
لترتعد أبدان الجميع في هذه اللحظة، حين دوى فجأة صوت "هالة" المميز صارخًا ممتزجًا بنشيجها، ثم ما لبثت أن ظهرت مع زوجها القابض بيد من فولاذ على شعرها.. يسوقها منه بمنتهى الوحشية و قد إعتلت وجهه قساوة مدمرة
كانت عائلتها تراقب بذهول ما يحدث خلال تلك الثوان القصيرة، لم يفلح أحد بالنطق من شدة الصدمة إلا "عثمان"... همَّ بفتح فمه ليتكلم و يوبخ صديقه على هذه التصرفات الهمجية غير المبررة !
لكنه لم يكد ينطق، لم يكد يخطو خطوة واحدة تجاههما أصلًا، ليجد قبضة "مراد" تستقبه و تطيح بوجهه بقوة هائلة لتسقطه أرضًا فورًا ...
يسمع "عثمان" صرخة أمه الملتاعة، و في نفس الوقت يشعر بإرتطام جسم "هالة" به بمنتهى العنف و تصم أذنيه أكثر بعويلها المتزايد.. يبعدها عنه في الحال و هو يتمالك نفسه متطلعًا إلى عمه الذي جمدته الصدمة، ثم ينظر إلى صديقه ..
تحسس مكان اللكمة التي تلقاها أسفل عينه و صاح بغضب مذهول :
-إنت إتجننت يابني إنت و لا إيه ؟ إيه إللي بتعمله ده ؟؟!!! .. ثم وثب واقفًا على قدميه ليصبح في مستواه
يرمقه "مراد" بنظرات محتقرة، ثم يهتف بإزدراء شديد :
-ماكنتش متخيل القذارة توصل بيك للدرجة دي. أهي عندك أهيه. إشبع بيها ! .. و ركل تلك النائحة تحت قدمه مكملًا بغلظة مخيفة و هو ينظر إليها :
-إنتي طالق. طالق. طالـــق !!!
ثم إستدار دون أن يضيف كلمة، و ولىَّ مدبرًا إلى الخارج بخطواته المتشنجة ...
بينما تعم حالة من الدهشة و الإستنكار بين أفراد العائلة قاطبةً _ بإستثناء "هالة" _ لتستقطب الأنظار كلها نحوها، جميعهم يصوّبون إليها نظرات الإستفهام مطالبين إياها بتفسير فوري للوضع
إلا إنها بالوقت الراهن لم تكن مستعدة لأيّ نوع من أنواع الإستجواب، إنما فقط أرادت أن تنخرط في بكاء لا يريم، لا ينقطع إلا عندما تفارق روحها جسدها
فهل يمكن أن تتحمل حياتها بعد الذي صار ؟ ماذا فعلت بنفسها ؟ ماذا فعلت بعائلتها ؟ و خاصةً بإبن عمها المسكين ؟
أيّ خطأ.. بل أيّ جريمة أقترفتها بحق الله !!!!
___________
داخل أحد أشهر المتاجر المخصصة لبيع السلع الغذائية و غيرها...
كانت "سمر" تقف أمام براد ضخم مضاء و ملآن بكافة منتجات الألبان كاملة الدسم، أخذت تنقب بعينيها و يديها أحيانًا عن نوع مخفوق الحليب الذي يفضله أخيها، حتى وجدته
جمعت منه قدر لا بأس به، و كانت تناول شقيقتها الجالسة بعربة التسوق بالمقعد الخاص بالأطفال القرورة تلو الأخرى لتضعهم بترتيب و حرص حتى لا تنكسر بقية الأغراض المتراصة فوق بعضها ...
تنتقل تاليًا إلى قسم اللحوم و الأسماك، فتورد إلى العربة كمية معقولة من المؤونة تكفي إستهلاك أسرتها لبقية الشهر البادئ منذ البارحة فقط.. كانت ستشق طريقها إلى قسم ألعاب الأطفال لتفي بوعدها لـ"ملك" و تشتري لها دمية لقاء التي ضاعت منها خلال نزهة الإسبوع الماضي، لكنها توقفت عن السير فجأة و ألقت نظرة بساعة يدها
لتجد بأن الوقت قد تجاوز بعد الظهر بقليل، مطت شفتاها لأسفل و دنت من شقيقتها قائلة بلهجة إعتذار :
-لوكا حبيبتي. هو إحنا ينفع نأجل شرى العروسة الجديدة لحد بكرة بس ؟ عشان مانتأخرش على يحيى. نناه فريال قالتلي إنه مزمزأ من ساعة ما أخد حقنة التطعيم و عايز ينام. يعني يدوب نلحق نروح نشوفه و نقعد معاه شوية !
تنظر "ملك" بعينيها الواسعتان إلى أختها الكبيرة، ترفع ساقيها المربعان و تزيح شعرها الكستنائى الطويل على كتفها و هي تقول بصوتها الطفولي الحلو :
-أوكي يا سمر مش لازم نجيبها إنهاردة. أنا عايزة أروح أشوف يحيى الأول عشان وحشني و عايزة ألعب معاه. و عثمان كمان وحشني أوووي
إبتسمت "سمر" لها و ربتت على خدها الناعم بلطف و قالت :
-أوعدك هاشتريلك كل اللعب إللي إنتي عايزاها بكرة. بس إدعي نروح و نلاقي يحيى صاحي مستنينا .. و أكملت بحزن جم :
-المرة إللي فاتت كان نايم و ماصحيش إلا و إحنا ماشيين !
إنعطفت "سمر" بالعربة متجهة إلى ( الكاشير ) لدفع الثمن و تعبئة مشترياتها.. إصطفت مع الزبائن في طابور طويل نوعًا ما، و بقيت في الإنتظار ..
ليحتال عليها عقلها كما جرت العادة عندما تذكر أيّ شيء متعلق بالماضي القريب، لا تجد ما يشغلها، فتشرد في أعمق و أحلك.. أسوأ ذكرياتها على الإطلاق، تلك التي أدت بها إلى هذه الحياة الجديدة الأشد شقاءًا و مرارةً من حياتها القديمة، بل لا تقارن بها أصلًا
لا يمكن أن تكون هناك معاناة بحياتها كلها أقوى من إنتزاع إبنها من حضنها و سلبها إياه قبل حتى أن يعي وجودها و من تكون بالنسبة إليه !
أغرورقت عيني "سمر" بالدموع و هي تتذكر كل هذا مجددًا، لم تشعر بتجمعها بمأقيها على كل، لكنها شعرت و كأنها تسافر عبر الزمن للمرة العاشرة.. بعد المليون، لتلك الليلة المشؤومة ...
Flash Back ...
قبل عامين، أو لزيادة الدقة عام و عشرة أشهر... بعد ليلة زفاف شقيقة زوجها مباشرةً، بعد مواجهة بينها و بينه و مصارحة و تسوية لكافة الخلافات و الصراعات و تبادل الوعود و العهود لبدء حياة جديدة يسودها الحب و الوئام، فقط من أجل الطفل الذي يربط بينهما ...
ماذا حدث ؟
لا شيء
كان كل شيء على ما يرام، بل أنها قضت ليلة ملحمية، لحظات لا تنسى بين ذراعيّ زوجها.. كان رضيعها يبيت عند جدته بغرفتها، بينما هي مع "عثمان" بغرفتهما ينفذان أولى شروط الوعد الذي قطعاه، يؤكدان على المشاعر التي يكنَّها كلًا منهما للآخر، يبدآن من جديد بسعادة منقطعة النظير ...
حتى جاءهم ذلك الإتصال !
إتصال تجاهلاه، و إنغمسا أكثر في أنهر الغرام و التوق التي سرعان ما غمرتهما كليًا، فقط حين إستسلمت "سمر" لرغبتها الدفينة بزوجها و تركته يستدرجها طوعًا إلى فخاخه المحببة التي لم تسنح لها فرصة التنعم بها و هي مجرد زوجة بصورة شفهية، أما و قد صارت زوجته رسميًا، أمست علاقتها به لأول مرة ألذ شيء حدث لها منذ ولدت ...
إتصال آخر... إلحاح شديد.. الرنين لا يكف أبدًا
حتى كاد "عثمان" أن يحطم ذلك الهاتف اللعين مطيحًا به بإحدى حركاته العنيفة.. لولا أن إلتقطه "سمر" منه عندما لمحت عينها إسم شقيقها يضيئ بالواجهة
أجابت فورًا و هي تبتعد عن زوجها بالقدر الكافٍ ...
-آلو ! .. أيوة أنا. مين معايا ؟ .. إيــه ؟ فــادي !!!!
و قفزت من الفراش بلحظة متجاهلة آلام الولادة و الجراحة التي لم يفت عليها الكثير ...
ليبدأ ذاك الفصل المأساوي من حياتها، منذ تلك الليلة، التي كانت يفترض أن تكون بدايتها السعيدة !
تحولت إلى أتعس بداية من الممكن أن تتخيلها ...
فأخيها الشاب المرح الجميل، المهندس ذا المستقبل الواعد، يذهب برحلة عمل إلى الصحراء، فيصاب بحادث مروّع يفقد فيه ذراعه اليمنى !!!!
كانت صدمة عنيفة عليه، و سقط بعدها بحالة من الإنهيار العصبي، ثم الإكتئاب الحاد.. فما كان من فريق الأطباء الماهرين الذين أحضرهم "عثمان" لأجل شقيق زوجته إلا أن أوصوا بعدم تركه بمفرده أبدًا
حتى لا تتطور حالته النفسية و تزداد سوءًا فيفعل بنفسه مكروهًا... لكن "فادي" لم يقبل بالإنضمام إلى قصر "البحيري" و الإقامة فيه و كأنه فردًا من أهله
أصر على موقفه بشدة، فأضطرت "سمر" للإنتقال إلى بيتها القديم لتعتني بأخيها و تؤازره بمحنته الصعبة
لتبدأ كل المعاناة من هنا ...
مر شهر، إثنان، ثلاثة، أربعة.. و لم تتحسن نفسية "فادي" أبدًا، بل و لا زال يرفض فكرة إنتقاله من بيته لبيت معيل أسرته المستبد الكريم صونًا لبقايا كرامته التي أُهدرت سلفًا على يدي أخته و زوجها
ضاق "عثمان" ذرعًا بكل هذا
عندما أصبحت النجوم أيسر تناولًا من "سمر" بالآونة الأخيرة، إستدعاها ذات يوم إلى بيته، و أغلق عليهما الغرفة، و بمنتهى الصرامة و الحزم قال و هو يشير نحو الباب الموصد :
-تخرجي من الباب ده. تتحرمي عليا حرمة أمي و أختي يا سمر !
تفر دمعة ساخنة من عينها و هي ترنو إليه بوهنٍ قائلة :
-إنت دلوقتي بتخيرني بينك و بين أخويا ؟ حرام عليك مش هو ده وعدك ليا !
ينفعل "عثمان" صارخًا بوجهها :
-إياكي. إياكي تعيشي دور المظلومة المرة دي يا سمر. أنا لحد لآخر لحظة. لأ لحد دلوقتي فاتح بيتي لأخوكي و مرحب و متكفل بيه. لكن شغل العناد بتاعه ده واضح إنه مطول و أنا صبري خلص. سامعة خلص !
تقترب "سمر" متمتمة برجاء :
-أرجوك.. ممكن تهدا ؟ ماتبوظش إللي بينا تاني. إحنا إتعاهدنا نبدأ صفحة جديدة عشان خاطر إبننا. إنت ليه مابتفكرش فيه ؟!
يعقد "عثمان" حاجبيه بشدة و هو يصيح بها من جديد :
-بتقوليلي أنا الكلام ده ؟ أنا إللي مش بفكر في إبني يا سمر ؟ ليه.. هو مين إللي أختار يبعد عن التاني ؟ إنتي معقول شايفة إن مصلحة إبني في إنه يتربى بعيد عن أبوه أو أمه ؟ ردددي عليــا !!!
صرخت "سمر" في المقابل :
-أنا مقدرش أسيب أخويا. إفهمني.. مقدرش. مهما حصل لازم أكون جمبه في أيّ وقت يحتاجلي. عمري ما هاتخلى عنه أبدًا !
ساد الصمت في هذه اللحظة و طال، و كلًا منهما يحدق بالآخر.. هي تكافح، تصمم، تتوسل بنظراتها
أما هو فغير مقروء بالمرة، وجهه عبارة عن ملامح راكدة، صلدة، لا تشي بنواياه مطلقًا ...
إلى أن تحدث مرةً أخرى، فقال بصوت هادئ بعض الشيء :
-أوك يا سمر. إللى إنتي عايزاه ! .. ثم تراجع خطوة للخلف و مد يده ليفتح باب الغرفة
دعاها للخروج قائلًا بنفس الهدوء :
-إتفضلي. تقدري ترجعي لأخوكي دلوقتي. من اللحظة دي عمري ما هاطلب منك ترجعي بيتي تاني
-تقصد إيه ؟! .. قالتها "سمر" بصوت مرتعش
ترقبت إجابته بتوجس شديد، بينما يرد عليها ببساطة عكس ما توقعت تمامًا :
-قولتلك تقدري ترجعي لأخوكي. و مش هاجبرك تسيبيه و تفضلي معايا هنا.. مطلوب مني إيه تاني ؟
تنفرج أساريرها فجأة و ترمقه بدهشة و هي تتنفس الصعداء لبرهة، لكن ما لبث الهواء أن أحتبس بصدرها حين أردف باللحظة التالية و قد عادت نبرة التهديد ترن بصوته :
-بس اليمين إللي رميته عليكي مش هايقع و مش هارجع عنه. فاهماني ؟ هاتفضلي على ذمتي و أم لأبني و كل حاجة. بس لا أنا هاقرب منك و لا هاعاملك كزوجة. و لا إبني هايرجع معاكي لبيتك القديم. هنا بيته و بيت أهله. هايتربى هنا قدام عنيا و طبعًا وقت ما تحبي تشوفيه أهلًا بيكي في أيّ وقت. عمري ما هامنعك عنه بردو
تلقت "سمر" الصدمة التي شكلتها كلماته المتتابعة بصعوبة، حاولت قدر إستطاعتها إخفاء الأثر القاسِ الذي تركه بفؤادها ليسبغ ملامحها و صوتها بكسرة يستطيع تمييزها ...
-بس يحيى لسا بيرضع ! .. هتفت "سمر" بلهجة ثابتة و قد أحكمت سيطرتها على مشاعرها الكسيرة الآن
أفلت قلبها ضربة مضطربة و هي ترى ذاك التعبير المريب و المألوف يعتلي محياه، ثم تسمعه يتحدث مجددًا بتلك الطريقة المقيتة التي كادت تنساها :
-ماتشيليش هم. أنا هاعرف أحل المشكلة دي كويس .. و تابع مشيحًا بوجهه عنها :
-أوعدك أنه مش هايحس بغيابك لحظة أصلًا.. إطمني خالص يا سمر !
أطل إستنكار كبير من عينيها عندما قال ذلك، لكنها ردة فعل لم تدم إلا للحظات.. ثم أدركت "سمر" بأنه لم يضع إلا تحديًا تعجيزيًا حتى يحطم إرادتها و يخضعها إليه كعادته، إن لم يكن بأمواله و نفوذه، فعن طريق المشاعر إذن، و هو أختار مشاعرها الأمومية المتجذرة فيها منذ عرفها، و التي ترتبط الآن بأقوى نقطة من نقاط ضعفها.. إبنــا
لكنه مخطئ، حتمًا مخطئ إذا كان يتخيل بأنه سيقدر على التفريق بينها و بين طفلها، فهو متعلق بها للغاية و يأبى إلا أن يظل بين أحضانها طوال الوقت.. هذا أمر مفروغ منه بالطبع ...
لاحت على ثغر "سمر" إبتسامة خفيفة جدًا تكاد تُرى و هي تمر برأس شامخ من جانب زوجها متجهة خارج الغرفة، كانت واثقة من أنه لا يفعل هذا سوى لغرض الإبقاء عليها معه، يريدها أن تترك أخيها و تعود إليه و يساومها هذه المرة على إبنها، لكنها سوف تجاريه في هذا و ستترك له الطفل فعلًا
و هي تجزم بأن الليل لن يحل إلا و هو يدق على باب منزلها القديم ليرد لها إبنها، و ربما يعتذر إليها أيضًا و يستجدي فرصة أخرى !
Back
-يا مدام.. يا مدام دورك !
أفاقت "سمر" من شرودها و عادت إلى أرض الواقع، لتنتبه إلى صوت ذلك الشاب الذي يقف خلفها بالطابور يحثها على التقدم خطوة أخرى صوب طاولة ( الكاشير ) ...
أدارت "سمر" رأسها نحوه و أعتذرت بإبتسامة مقتضبة :
-معلش Sorry ما أخدتش بالي !
رد لها الأخير الإبتسامة قائلًا :
-و لا يهم حضرتك
تدفع "سمر" بالعربة للأمام، ليبدأ عامل ( الكاشير ) بفرز مشترياتها فورًا، بينما تقفز "ملك" إلى الأرض من جديد و تتمسك بكف شقيقتها التي سهمت مرةً أخرى، و لكن بشكل طفيف
كانت تذكر نفسها فقط بأنها هي التي لطالما كانت مخطئة، لم تتغلب أبدًا على زوجها، و لن تفعل... أما قد صدق وعده لها ؟ و لم يشكو طفلها بُعدها عنه و لو لمرة واحدة منذ تركته في عهدة أبيه و جدته
ما الذي لم تختبره بعد لتصدق و تؤمن بأنه لا ناصر لها تحت هيمنته، و أنها ستظل دائمًا عزلاء و مجردة من كافة دفاعاتها أمامه !!!
______________
بعد أن توّرمت عيناها من شدة البكاء، و أحمرّ وجهها إلى حد يثير الشفقة ..
مد "رفعت" يده إليها بمنديلًا ورقيًا و هو يقول محاولًا ألا يبدو صوته غاضبًا :
-خلاص يا بنتي. خلاص بقى فحمتي روحك عياط إللي حصل حصل !
لكنها لم تكف، لم تستطع حتى إذا حاولت و لو قليلًا.. و قبل أن يفقد "رفعت" أعصابه التي حافظ عليها بمعجزة منذ وصولها و حتى الآن، تدخلت "فريال" قائلة من حيث كانت تجلس فوق آريكة صغيرة قبالة الأب و إبنته :
-سيبها يا رفعت. سيبها تخرج إللي جواها
كان "يحيى" الصغير ممدًا إلى جوارها، لكنه ليس نائمًا، كان هادئًا فقط تحت لمسات يدها الرقيقة على رأسه ...
يتطلع "رفعت" إليها و هو يقول بشيء من العصبية :
-إيــه إللي جواها يا فريال ؟ إيـه ؟ هي كمان ليها عين تزعل و تقرفنا بعياطها ؟ و رغم إللي هببته محدش فتح بؤه معاها و سايبنها تنسى و جايز ننسى إحنا كمان الفضيحة دي. بس هايحصل إزاي و هي بقالها يومين على الحال ده ؟!!
لم تكد "فريال" ترد عليه، ليبرز صوت "هالة" أخيرًا :
-يعني أنا كان قصدي يحصل كل ده يا بابي ؟ أنا كنت في وعيي أصلًا و أنا بقول الكلام ده ؟ أنا أساسًا مش عارفة إزاي طلع مني كلام زي ده ؟ أنا بحب مراد و الله و نسيت عثمان من زمان. من ساعة ما أتجوز و خلف
رفعت بإنفعال : و الله يا حبيبتي نسيتيه ؟ طب منين لسا بتحلمي تبقي معاه و بدل ما تبرري لجوزك و تقولي أيّ حجة يقدر يبلعها تقومي ترمي الحقيقة كلها في وشه و تعترفيله إنك بتحبي عثمان و كان نفسك تتجوزيه ؟ كان لازم نعرفي إن بعد إعترافك ده و بعد الكلام الزفت إللي نطقتي بيه و إنتي مش في وعيك لو فضلتي تحلفيله على الماية تجمد عمره ما كان هايصدق إن مافيش بينكوا حاجة.. أنا مش عارف هاقول إيه لأخوكي إللي جاي بكرة ده كمان !
تجهش "هالة" بالبكاء أكثر كلما سمعت كلام أبيها، ليتفاقم غضب "فريال" قليل الظهور و تنهر "رفعت" بقسوة :
-خلاص بقى يا رفعت. مالوش لازمة كلامك ده كله على فكرة. جايز من وجهة نظرك إنت و مراد إن هالة غلطت غلط كبير. لكن في الحقيقة الحب عمره ما كان غلطة و مش ذنبها إن حبت إبني بجد و ماحصلش نصيب يبقوا سوا.. أنا و أنت و الكل عارفين إن إستحالة عثمان و هالة يغلطوا بالشكل إللي تخيله مراد ده. فإيه لزومه كل إللي إنت عامله ده ؟؟؟
-مساء الخيـر ! .. صوتها قطع الصمت الذي خيّم لثوانٍ
فإلتفتا الأب و الإبنة إليها فورًا، و قامت "فريال" لتستقبلها بحفاوة كبيرة :
-أهلًا مساء النور يا حبيبتي. تعالي يا سمر !
كانت "سمر" تقف عند مقدمة البهو، تمسك بيد شقيقتها و هي تجول بنظراتها على وجوه العائلة.. كان تعبيرها واجم، لكنه لم يصل إلى تلك الدرجة التي تؤكد بأنها سمعت شيئًا من حديث والدة زوجها
ربما لم تسمعه حقًا، و ربما سمعت جزءًا منه.. أو أنها سمعته كله !!!
-تعالي شوفي الباشا الصغير قاعد مستنيكي إزاي ! .. هتفت "فريال" و هي تحمل "يحيى" ليقابل أمه
كانت "ملك" أول من ركضت صوب الصغير بتلهف، بينما تقترب "سمر" و عيناها معلقتان به و قد نست كل شيء الآن إلا هو... إتسعت إبتسامتها و هي تمد يديها نحوه و تراه يضحك لها بإبتهاج بصوته الجميل، ثم يقفز بين ذراعيّ جدته راغبًا بالحلول بين أحضان أمه
بدا لا يطيق صبرًا على هذا، فضحكت "سمر" و هي تحمله عن جدته و تضمه إلى صدرها بقوة مغمغمة :
-قلب مامي. إنت وحشتني أكتر يا روحي. وحشتني أوي أوووي
و أخذت تقبله في وجهه و من عنقه الناعم و تشمم رائحته بشوق أضنى قلبها رغم أنه لم يفت على أخر لقاء لهما سوى ثلاثة أيام ...
و هكذا أمضت "سمر" بضعة دقائق أُخر تلاطف طفلها و تصب عليه حبها و حنانها صبًا حتى كادت تسحقها مشاعرها لتتركها منهارة بينهم هنا
كانت "فريال" على دراية تامة بتلك المراحل العسرة التي تمر بها زوجة إبنها كلما جاءت لترى طفلها، حفظتها جيدًا، فلحقت بها باللحظة المناسبة كما تفعل كل مرة ...
-إنتي جيتي في وقتك يا حبيبتي ! .. قالتها "فريال" بصوتها الحنون الرقيق
جمدت "سمر" للحظة و رفعت بصرها إليها، رمقتها بنظرة إمتنان، لتكمل الأخيرة مبتسمة ببساطة :
-يحيى كان هايتجنن و عايز ينام من بدري بس لما قولتله مامي جاية عنيه فنجلت .. و ضحكت
-كمان معاد الغدا قرب و فرصة تتغدي معانا إنهاردة
سمر بلهجة مستحية :
-معلش يا طنط مش هقدر. حضرتك عارفة أنا ماينفعش أتأخر على فادي. أنا أصلًا نزلت من الصبح أشتري شوية حاجات للبيت و يدوب لحقت أجي عشان أشوف يحيى ! .. و طبعت قبلة عميقة على خد الصغير
فريال بصرامة : لا لا يا حبيبتي مش هاقبل أيّ أعذار. هاتتغدي معانا يعني هاتتغدي معانا. و بعدين إنتي مش واخدة بالك من هالة و لا إيه ؟ .. و أشارت نحو تلك الجالسة هناك يغمرها الحزن بوضوح
نظرت "سمر" إلي "هالة" و قالت مصطنعة إبتسامة ودية :
-أنا آسفة جدًا إبني كان واحشني و الله مش قصدي. حمدلله على السلامة يا هالة !
ردت "هالة" عليها بإيماءة قصيرة و همست :
-الله يسلمك يا سمر. و لا يهمك يا حبيبتي
غالبت "سمر" نظرة منزعجة و هي تشيح بوجهها عنها على مهل كي ما تلفت إليها الإنتباه أو تثير شك، فهي للأسف لم تستطع أن تتقبل يومًا تلك الفتاة.. و لم يرتاح قلبها من ناحيتها أبدًا، في السابق لم تكن تعرف السبب
لكنها أصبحت تعرفه الآن.. تقريبًا ...
-خلاص بقى إتفقنا هانتغدى كلنا سوا ! .. أعلنت "فريال" بحزم لطيف
فأعجزت "سمر" عن رد كلمتها
مدت يديها لتأخذ منها "يحيى" و تضعه بجوار "ملك"، ثم قالت :
-يلا حبيبتي إطلعي صحيلي عثمان و هاتيه في إيدك و إنتي نازلة تكون السفرة جهزت
سمر بإستغراب : عثمان لسا نايم لحد دلوقتي؟ معقولة ؟ مش عوايده يتأخر في النوم و كمان إنهاردة مش أجازة !
-إطلعي بس صحيه. ده هو بقاله يومين مابيخرجش من البيت و هايفرح أو لما يشوفك
-هو تعبان و لا إيه ؟! .. علقت "سمر" بقلق كبير
طمأنتها "فريال" بإبتسامة :
-لأ يا حبيبتي مش تعبان و لا حاجة ماتقلقيش. هو بس مضايق شوية .. و رمقتها بنظرة ذات مغزى و هي تكمل :
-إطلعي شوفيه بنفسك. في إيه إنتي مراته يا سمر عيب لما تطلعيله أوضته يعني !!
أجفلت "سمر" و هي تقول بإرتياك :
-لأ يا طنط مش عيب طبعًا.. حاضر. هاطلع أصحيه.. عن أذنك !
و توجهت للأعلى بخطواتها المضطربة ...
وصلت إلى ذلك الطابق الأخير المتفرد، ذلك الطابق الذي لم تطئه قدماها منذ ردحًا طويلًا.. كانت تقدم ساق و تؤخر الأخرى، كلما إقتربت من ذاك الجناح المواجه لها بآخر الممر
ذاك الذي جمعها بومًا ما به خلف بابه، لعدة مرات قليلة باشرت حياتها القصيرة كزوجة لـ"عثمان البحيري".. الرجل الوحيد الذي قهرها و أوقعها بغرامه دون أن تدري أو تحس حتى ...
بدافع من الأدب و الذوق، دقت "سمر" على باب الغرفة مرتين، ثم برمت المقبض و ولجت حابسة أنفاسها
لم تكن تتطلع أمامها مباشرةً، إنما أخذت ترفع وجهها شيئًا فشيء، حتى إستقرت نظراتها عليه هناك... راقدًا بمنتصف السرير، ظهره العاري يلمع تحت خيوط الشمس المتسللة عبر أقمشة الستائر الشفافة
إزدردت "سمر" ريقها بصعوبة و هي تغلق الباب من خلفها بهدوء حتى لا توقظه، ثم مشت ناحيته بتأنٍ و عيناها تحاربان، تتقاتلان على رؤية وجهه بأقصى سرعة
فمنذ متى لم تراه ؟ إسبوعًا.. ربما إسبوعان، ثلاثة أسابيع
هكذا يكون عقابه، على قدر عنادها و إصرارها على هجرانه، يكون إختفائه عن حياتها هو الرد الرادع الذي يخبرها بأن ما من أحد أو شيء سينفعها من بعده، خاصةً حين فضلت أسرتها عليه، مجددًا.. كما تفعل لو خُيرت لألف مرة !!!
شعرت "سمر" بشيء من البرودة تغزو أوصالها رغم إعتدال الجو هذا النهار، تسارعت نبضات قلبها عندما إحتوت نظراتها وجهه أخيرًا... رباه كم تفتقده !
كم تود الآن لو تتوسد صدره و أن يطوقها بذراعيه، فتنخرط بدورها في البكاء، تشكو الزمان له و أوجاع البعاد.. كم هي بحاجة ماسة إليه ...
-سمر !
إرتعدت "سمر" و هي تشهق بقوة عندما هتف بإسمها فجأة بلهجته الناعسة المغرية ..
إكتشفت بأنها أقلقت نومه بطريقة ما و أنه إستيقظ بغتة ليراها تقف فوق رأسها كالتمثال هكذا، لينقلب على ظهره في هذه اللحظة ليواجهها تمامًا
أحمرّ وجهها خجلًا و هي ترى جزعه العاري لأول مرة منذ فترة طويلة جدًا، منذ تلك الليلة التي غادرت فيها فراشه و بيته للأبد و بإختيارها ...
رمقته بعينين متسعتين و قد ألجم التوتر لسانها فلم تستطع الكلام ..
ليبتسم لها تلك الإبتسامة اللعوب و هو يقول بصوته الأجش :
-أهلًا يا بيبي !!!! ................................. !!!!!!!!!!!!!!!!