رواية غرام الذئاب الفصل التاسع بقلم ولاء رفعت
أيا دموعًا من الحزن مُرّت شجونهَا،
أَخبِريني، أتبكي العينُ أم تدمع الجفونُ أمانيا؟
ويا قلبًا يحمل في الضلوع وزرًا أثقلتهُ،
ألستَ أنت من اختار ذات يوم طريق السّرايا؟
تنظرُ إلى الحياةِ من نافذةٍ كالسّراب،
كأنّ كلّ ما عبرت، خيالٌ أو خُطى الهَاربين.
تبحثُ في الضباب عن معنى أو جواب،
لكن الصدى في قلبها يقول، أيّ مصيرٍ تنتظرين!
تنظر إلي الطريق من خلف نافذة باب السيارة، تذرف عينيها دموعها الحارقة تزامناً مع دموع قلبها اللائم لها علي كل ما هي مقبلة عليه، فكانت منذ قليل لدي المحامي الذي عثرت عليه خلال رحلة من البحث و التصفح علي الإنترنت، و عندما قرأت العنوان شعرت بالراحة يكفي أنه يبعد عن منطقة نفوذ زوجها، هكذا ظنت فبمجرد أن ذكرت اسم زوجها بالكامل شحب لون وجهه و....
«مشهد سابق»
داخل مكتب المحامي..
ابتلع ريقه بتوتر لم يظهره أمامها بعد سماعه اسم زوجها فسألها
"حضرتك متأكدة أنك عايزة ترفعي علي جوزك قضية خلع؟"
اومأت وأجابت بحزن مرير
"لو مكنتش متأكدة، مكنش زماني قاعدة قدام حضرتك دلوقتي"
"حضرتك مش فاهمة قصدي، هو الموضوع....
" أنا فاهمة قصدك كويس أوي، واضح لما قولتلك علي اسمه بالكامل وشك أصفر، و عارفة أن جوزي ليه علاقات و نفوذ كتيرة و أنت خايف منه"
اعتدل من وضع نظارته الطبية
"أنا بـ...
"أنا هادفعلك المبلغ اللي هاتقول عليه، بس ياريت الموضوع يخلص بسرعة لأني ما بقتش استحمل أعيش معاه اكتر من كده، و عندي أسباب كافية تخلي القاضي ينطق بحكم الخلع من أول جلسة"
«العودة إلي الوقت الحالي»
"معلش يا مدام دنيا أنا مضطر أقف بالعربية علي الناصية، حضرتك زي ما أنتي شايفة الحارة ضيقة و مش هاينفع أكمل"
انتبهت إلي حديث السائق و دون أن تطلب بأن يعيد عليها كلماته مرة أخرى، نظرت من حولها و علمت بوصولها لهذا المكان مرة أخرى!
نزلت من السيارة وسارت بضع خطوات ووقفت تتذكر الزيارة السابقة لها في هذا المكان وخاصة في مكتب الطبيبة بالأعلي
«مشهد سابق»
تنظر الطبيبة إلي شاشة جهاز السونار ثم نهضت
"كيس الحمل في أفضل حال، ممكن أعرف ليه عايزه تجهضي؟"
وقع السؤال عليها كوقع الماء المثلج فوق رأسها رغم مجيئها هنا بكامل إرادتها لكن ضميرها و قلبها يخبراها أن ترحل و تتراجع عن هذا الجُرم، و بعد تفكير قليل واستسلامها إلي وساوس إبليس أجابت كذباً
"عندي أسبابي المرضية"
"معاكي شهادة طبية أو تقرير فيه نوع التعب اللي عندك؟"
ضجرت من أسئلة الطبيبة والتي استشفت من خلالها الاتهام و عدم تصديقها، لذا اختارت اللهجة الأخرى و التي اكتسبتها من زوجها حديثاً
"بصي يا دكتورة من الآخر كده و من غير لف و دوران، أنا قبل ما اجيلك سألت عليكي ناس معرفة و هم قالولي أنك بتعملي العمليات ديه غير العمليات الشمال اللي بترجعي فيها البنت من واحدة ست لبنت بنوت، فياريت بلاش بقي الأسئلة اللي مالهاش لازمة وفلوسك و هتاخديها مقدم"
شعرت الأخرى بالتوتر والخوف، خشيت أن خلف تلك المرأة خدعة من الشرطة
"مش عايزه حاجه و فلوسك خليهالك، روحي لمعارفك خليهم يدلوكي علي حد غيري"
نهضت دنيا و ازاحت الدثار من فوقها و نزلت لتذهب خلف الطبيبة و لم تجد مفراً من الإجابة البديلة و التي خططت لها من قبل المجئ، حاولت تذكر كلمات زوجها من إهانة وتهديد و كيف كان يعاملها حتي وجدت دموعها تنهمر، اكملت هذا المشهد التمثيلي ببراعة
"ارجوكي يا دكتور، أنا جوزي مهددني لو حملت هيطلقني، يرضيكي بيتي يتخرب، غير إنه مفتري و ظالم، ده ممكن يموتني فيها"
شعرت الطبيبة بالعطف عليها، فاخبرتها بملامح تحمل الحزن عليها
"خلاص يا مدام دنيا، كفاية عياط، و معلشي سامحيني، أنا شكيت فيكي ليكون حد زقك عليا، و لا تكوني تبع البوليس"
اعطتها محرمة ورقية و سكبت لها كوباً من الماء و قدمتها إليها
"أنا هعملك اللي عايزاه، بس خدي بالك العملية دي مش سهلة زي ما أنتي مفكره، دي بيبقي فيها خطر علي حياتك"
«عودة»
كانت تتردد قبل أن تدلف إلي فناء المبني، وصوت داخلها يذكرها بأن ما ستفعله جريمة لدي القانون و حرام في الشرع والدين.
وجدت ساقيها تتحرك حتي وصلت إلي البوابة و كادت تعود إلي السيارة لكن هناك إتصال من الطبيبة لتذكرها بموعد العملية، فالموعد بعد نصف ساعة.
و في مكان آخر... يتعانق انعكاس لون السماء مع لون أوراق الريحان بين اهدابه التي ترف كل حين و الآخر، وهناك ضباب رمادي ناتج عن حرق التبغ من اللفافة المحترقة بين أصابعه، فذلك الدخان يقف حائل بينه و بين الحائط الزجاجي، يقف أكثر من ساعة في حالة تفكير ضاري لم يعرف الرحمة، ينهش عقله و قلبه أيضاً، فهو سؤال واحد يتردد داخل رأسه، لماذا أصبحت الحياة بينهما تنحدر إلي الهاوية!
صار يقضي معظم يومه داخل مكتبه الشركة الخاصة به و يعود في وقت متأخر مساء حتي لا يلتقي بها، رغماً من يقينه أنها لا تغفل عن وجوده حينما يعود ويدخل إلي غرفة مكتبه لينام ويستيقظ صباحاً في اليوم التالي و يبدل ثيابه ثم يذهب إلي عمله من جديد، فهذا الوضع الرتيب منذ آخر ليلة تمت خلالها مواجهة و نقاش حاد وعادت الأمور بينهما إلي نقطة الصفر.
صوت اهتزاز هاتفه أعلي سطح المكتب جعله يلتفت نحوه و بطرف عينيه لمح هوية المتصل فاسرع بالإجابة وتلقي صوت أحد رجاله يخبره
"كنان بيه، المدام نزلت من البيت من حوالي ساعة زمن، خدت أوبر ونزلت المعادي في شارع 9 قدام عمارة قديمة من أربع أدوار مفيهاش حد غير مكتب محامي، طلعت وراها و فضلت واقف بره لحد ما دخلت للمحامي، روحت علي طول سألت المساعد مكنش عايز يقول حاجة غير لما غمزته بقرشين فقالي أن المدام واخده ميعاد قبل ما تيجي و جاية في قضية خلع"
كان الآخر يستمع إليه ويجز علي أسنانه حتي برزت عظام فكه من فرط رياح غضبه العاتية التي تموج في صدره الآن، يبدو أنها كانت تخطط منذ فترة إلي ما تفعله وانتظرت ريثما تمتلك ما يجعل قدميها ثابتة علي أرض صلبة لتنفصل عنه دون الوقوع تحت رحمة سطوته و تهديده السابق لها وهو عدم الطلاق بتاً و سيأخذ ابنائه ويجعلها تعيش في نيران الحرمان من رؤيتهم مرة أخرى.
اتحسب أنها تمتلك الذكاء لتتحداه، كم هي حمقاء فهو الذي يمتلك الدهاء و المكر و بإمكانه أن يفعل بها ما يجعلها تركع أمامه ذليلة لكي يرحمها.
أطلق زفرة طويلة اخترقت أذن هذا المنتظر الرد من سيده، عقب قائلاً بهدوء نقيض حالته
"هي لسه عند المحامي؟"
"عشر دقايق و خرجت علي طول و رجعت تركب مع العربية اللي كانت فيها، و بعدين طلعت علي منطقة اسمها المعصرة، فضلت وراهم بالعربية لحد ما نزلت علي ناصية الحارة وراحت لدكتورة النسا اللي كانت عندها من تلات أيام"
شعر الآخر علي الفور بأن هناك خطب ما و سبب وراء تلك الزيارة الثانية خلال وقت قصير، و ما جعل الشك يدق ناقوس الخطر داخل رأسه عندما تذكر أن زوجته كانت تتابع حملها حتي الولادة مع طبيب تقع عيادته في حي مجاور للمنطقة، فلماذا ذهبت إلي طبيبة أخرى و في تلك الحارة العفنة و إلا أنه يوجد سبب كما يخبره حدسه، تذكر سريعاً عندما عاد في الأمس لاحظ ظرف كبير مدون عليه اسم أحد المعامل الشهيرة، فإذا صدق حدسه فلا أحد يلومه علي ما سيفعله بها!
"كنان باشا"
انتبه إليه بعد أن فاق من تفكيره القاتل، صاح بصوت وصل إلي القاصي والداني
"خليك مكانك و ماتتحركش و أنا مسافة السكة و هاكون عندك"
أنهي المكالمة علي الفور، امسك بمفتاح سيارته و سترة البدلة يرتديها علي عجل وذهب ليمنع تلك الحمقاء من الكارثة التي علي وشك الحدوث.
❈-❈-❈
يتسابق مع الزمان و المكان مزدحم بالسيارات و المارة، يريد اللحاق بها قبل أن تفعلها، قام بمخالفة كل الإشارات المرورية و لم يكترث إلي الردارات التي ترصد سيارته و تسجل كل مخالفة يفعلها، لا تهمه العواقب قدر اهتمامه، فيجب عليه الوصول في أسرع وقت.
و ها هي و بعد صراع مع قلبها وصوت ضميرها الذي تأبي سماعه، تتمدد علي سرير عمليات الولادة، تشاهد الطبيبة و برفقتها سيدة تحل محل الممرضة، تحضر أدوات طبية من مبضع الجراحة و مقصات مختلفة الأحجام و خيط طبي، هذا المنظر المريب و المخيف يكفي لجعل الدماء تهرب من الوريد ويكاد القلب يتوقف عن الخفق، تغمض عينيها، تكاد تبكي بل وسيطر الآن عليها الشعور بالندم،
أفزعها صوت الطبيبة
"جاهزة يا مدام دنيا؟"
و كانت الطبيبة تمسك بالإبرة الممتلئة بالمادة المخدرة، ألتقطت قطنة غمرتها في المعقم و قامت بمسح رسغ دنيا التي ارتعشت بخوف لامسته الأخرى و أحست به
"بلاش توتر وخوف، ضغطك هايرتفع و ده مش في صالحك"
نظرت إلي الطبيبة تارة و تارة أخرى تنظر نحو الباب، منفذ الهروب الوحيد من قرارها الظالم، امسكت الأخرى يدها و تستعد لغرز إبرة المخدر بها، انتفضت دنيا
وهيهات قلبها توقف عن النبض عندما فتح الباب علي مصراعيه بصوت هادر يناديها
"دنيا"
وقعت الإبرة من يد الطبيبة التي تسمرت في مكانها و كذلك المساعدة التي وقع ما بيدها من الفزع و هول الموقف، ورؤية هذا الوحش الكاسر و عينيه تلمع بغضب يحرق الأخضر و اليابس!
❈-❈-❈
دخان كثيف منتشر في أرجاء غرفة المكتب داخل القصر، ذلك الدخان ناتج عن إحتراق لفافة التبغ العاشرة و ربما العدد أكثر من ذلك، فكلما يصبح في حالة مزاجية سيئة يلجأ إلي التدخين بشراهة، تلك الوسيلة ينفث من خلالها غضبه بدلاً من الاستسلام إلي أفكاره السوداء، هو يحبها بل و يعشقها لايريد إيذائها كسابق عهده في أول عام من الزواج، تلك البلهاء العنيدة لا تعلم حقاً قيمتها و مكانتها داخل قلبه و عقله، يعشقها حد الجنون، متيم بها و هائم في بحور عشقها، و يالها من عنيدة مدللة، ضمنت حبه و كيف هو أصبح يتحلي بالصبر نقيض ما كان عليه في السابق، فمن أجل عينيها يفعل المستحيل، و لما لا؟!، فهي صبا القلب والروح.
دق الباب ثم فتحت أحد الخادمات لتخبره
"عابد بيه جه بره و عايز يقابل حضرتك"
انتهي من تدخين اللفافة التي بيده ثم أطفأ بقاياها داخل المطفأة الكريستالية، ذهب ليستقبل والد زوجته الذي كان ينتظره في البهو وكأن شيئًا لم يحدث منذ قليل، مبتسمًا ابتسامة رسمتها الاحترافية لا العاطفة، وهو يعلم جيدًا سبب هذه الزيارة، حينما عانق حماه بترحاب
"أهلاً وسهلاً عابد بيه"
بادله الأخر العناق بحرارة، لكن بعين الأب التي تحمل عتابًا دفينًا
"اسمها بابا عابد، ولاّ أنت مش معتبرني زي والدك الله يرحمه؟"
ابتسم قصي بتلك الابتسامة التي تخفي وراءها طبقات من المشاعر المتداخلة، ورد سريعًا يشوبه القليل من المزاح
"طبعًا حضرتك زي والدي، بس أنا مش عايز أكبرك"
ضحك حماه ورد ممازحًا
"مين ده اللي كبر؟!، أنتم اللي كبرتوا وعجزتوا"
اجاب الأخر بمزاح ساخر
"معلش بقى يا عمي، كل سن ليه أحكامه، تعالَ اتفضل نقعد في المكتب"
دخل الاثنان غرفة المكتب، حيث جلس عابد براحة على الكرسي الجلدي الفخم، مستندًا بذراعيه على مسندي الكرسي. أخذ يتأمل محتويات الغرفة بدقة، ثم علّق بنبرة مليئة بالحنين
"نفس ديكور مكتبك اللي كان في قصر رسلان العزازي، نفس الأثاث، حتى المكتب"
كان الأخر يقف عند بار صغير يحضر فنجانين من القهوة بماكينة الإسبريسو الخاصة به، وأجاب مبتسمًا
"الله يرحمه، كان ذوقه متفرد وكأنه ملك من العصور الوسطى، طبع جوايا نفس الذوق وحب كل ما هو متميز وفريد"
مدّ عابد يده إلى صندوق خشبي على الطاولة أمامه وفتحه ليكشف عن لوح شطرنج فاخر.
بدأ يرص القطع بعناية، ثم قال دون أن يرفع عينيه عن اللوح بنبرة ذات مغزى مقصود
"وعلمك كمان إن القسوة عمرها ما تجيب نتيجة غير إنها تولّد الجفا في القلوب"
وضع الأخر صينية القهوة أمام حماه وقال بثقة مشوبة بالهدوء
"اطمّن يا عمي، مفيش حد بيقسى على اللي بيحبهم إلا لو كان خايف عليهم"
أمسك حماه بقطعة شطرنج، ووضعها بحركة مدروسة على اللوح، ثم قال وهو يختبر رد فعل صهره
"تفتكر لما قلت لك ليلة فرحكم إني مطمن عليها معاك، ليه أنا قولت كده؟"
ابتسم صهره بخفة، وأمسك قطعة شطرنج ليعترض طريق القطعة التي وضعها حماه، ثم قال بنبرة واثقة
"عشان كنت عارف إني بحبها وعمري ما هأذيها"
حرك عابد قطعة أخرى ثم عقب قائلاً
"و عرفت إنه حصل ما بينكم حوارات كتير لا داعي لذكرها لأن في الأول و الأخر دي خصوصيات و ما ينفعش اتدخل ما بين راجل و مراته اللي هي بنتي"
ترك الأخر القطعة التي كان يمسك بها، واستند بظهره إلى الكرسي، ثم قال بلهجة فيها رسائل خفية
"وأنا مقدّر موقفك يا عمي، ومهما حصل أو هيحصل بيني وبين صبا، هايكون بيني وبينها بس، وأقولها لك تاني، اللي بيحب حد عمره ما بيقسى إلا لو خايف عليه"
ارتشف حماه قهوته قليلًا ونهض بابتسامة مرهقة
"أتمني ما يجيش اليوم اللي هضطر اتدخل فيه، و بعدين أنت اكتر واحد حافظ بنتي و فاهمها كويس، عمرها ما بتيجي بالشدة و القسوة، خد بالك منها"
هزّ صهره رأسه يطمأنه
"ما تقلقش يا عمي"
عند الباب، وضع حماه يده على كتفه وقال بنبرة مفعمة بالجدية
"أسيبك تطلع تطيب خاطرها بكلمتين حلوين، مش عايز أسمع عنكم إلا كل خير"
رد قصي مبتسمًا
"بإذن الله، حضرتك مش عايز تقعد معانا تقضي اليوم؟"
ضحك حماه د بخفة وربّت على ذراعه
"هجيلكم في يوم تاني إن شاء الله ومعايا جيهان، نقضي معاكم الويك إند"
رد الأخر وهو يودعه عند السيارة
"بيتكم يا عمي تنوروا في أي وقت"
و بعد ذهاب حماه عاد إلى الداخل، يخطو خطوات ثابتة، رغم النار التي تشتعل في صدره.
آخر ما توقعه أن تجرؤ صبا على الحديث مع والدها عمّا جرى بينهما.
وقف أمام باب غرفة النوم، ودعا الله أن يلهمه الصبر، ثم دخل.
و قد انتفضت حينما رأته يدخل فجأة، وقفت متوجسة، لكنها لم تكن تتوقع ما سمعته:
"كلمة واحدة، ومش هعيدها، أقسم بالله لو الحركة اللي عملتيها دي اتكررت، هتكون النهاية بيني وبينك"
تركها وذهب إلى غرفة الملابس ليبدّل ملابسه، لحقت به، ووقفت عند المدخل تقول بتحدٍّ متألمة من تهديده الذي تكرر للمرة الثانية اليوم
"أنت السبب! نسيت اللي قلته لي تحت؟"
أشار بسبابته أمام شفتيه، كأنما يأمرها بالصمت، وقال بصرامة
"مش عايز أسمع أي كلمة، اللي أقولك عليه يتنفذ من غير نقاش"
كان قد ارتدى ثيابًا أنيقة، ثم أكمل بتهكم
"واضح إني كنت غلطان لما كنت بهاودك و اعدي الأمور بمزاجي، و نسيت إنك ما بتيجيش غير بالطريقة التانية، استعدي بقى واستحملي لأن قصي القديم رجع"
ارتدى سترته، ثم وضع يديه على كتفيها وقال بلهجة آمرة
"لما أرجع بالليل، ألاقيكِ جاهزة لجوزك حبيبك"
غمز بعينه وربّت على كتفها بعنف خفيف، ثم تركها واقفة في حالة من الصدمة والندم.
❈-❈-❈
يقود السيارة و لم يرى أمامه الطريق سوي حمم بركانية و جمرات مشتعلة بنيران كالمندلعة داخله، ود أن يمسك برأس هذه الجالسه جواره و يحطمها، يخشي عليها من نفسه، بل يخاف عليها من شيطانه الأعمى.
كان الحال لديها خليط من المشاعر، خوف و رعب يشوبه راحة، الراحة بعدم فقد ما تحمله داخل أحشائها، اغمضت عينيها وحينما سمعت صوته ويتحدث في هاتفه
"أرجع أنت علي الشركة"
أنهي المكالمة وألقي هاتفه بعنف خلف عجلة القيادة، نظرت إليه و ليتها ما نظرت، يكفيها نظرة من طرف عينيه ارتعدت منها أوصالها، ابتلعت ريقها لاسيما عندما نظرت أمامها فوجدت الطريق الصحراوي، طريق يخلو من معالم الحياة، صحراء علي اليمين و علي الجهة الأخرى أيضاً، هنا شعرت بالرعب، سألته بحذر
"أنا عارفة ماليش حق أنطق بحرف بس ممكن تقولي إحنا رايحين فين؟"
ألتزم الصمت و لم يهتم لها و لو بنظرة واحدة، فعادت تستند ظهرها مسند الظهر للمقعد، لحظات و اهتز جسدها بفعل توقف السيارة بعد أن ضغط علي المكابح فجأة، فتح السيارة وهبط منها، ذهب في خطى سريعة و فتح الباب بعنف حتي كاد يخلع في يده
"انزلي"
تراجعت بخوف وتهز رأسها بالرفض و الخوف يملئ عينيها، لم يكترث لكل هذا و علي حين غرة جذبها بقوة من ذراعها ، شعرت بألم في مفصل المرفق وكأنه كاد ينخلع كما انخلع قلبها من الذعر.
وقف أمامها يضع يديه علي جانبي خصره، يحدق نحوها دون شفقة، يجز علي شفته السفلي، يتذكر كل ما أخبره به الحارس المراقب لها.
"أقسم بالله ما كنت هنزله و...
رفع يده لتتوقف عن الحديث
"بلاش تحلفي كذب عشان ما تسقطيش من نظري أكتر من كده، ده أنا لو كنت أتأخرت عشر دقايق كان زمان العملية خلصت"
كلماته كالرصاص الذي يقتلها بدم بارد
"أنا عمري ما حلفت كذب، و أنت عارف طبعي، اه صح نسيت هاتعرف طبعي إزاي وأنا مكنتش في دماغك أصلاً من وقت ما اتجوزنا"
"مش عايز تبرير و لا حجج فارغة"
صاح بها مما افزعها اكثر و كادت تهرب من أمامه، أسرع في إمساك يدها
"ما تتحركيش من مكانك"
دفعها نحو سيارته فاصطدم جسدها بعنف، اكمل بوتيرة صياحه الهادر
"عايزه تهربي مني؟!، زي ما عينيكي شايفة مفيش غير صحرا و لو عديتي الصحرا هاجيبك في الأخر"
لم تستطع الاحتمال أكثر من ذلك فاطلقت صراخاتها بل ما يحمله صدرها من كلمات حبيسة فافرجت عنها
"أيوه ههرب و هابعد عنك، لأن ما بقتش قادرة استحمل أعيش في ذل و إهانة و مع واحد عمره ما حبني، واحد كنت مجرد ليه أم لعياله مش أكتر من كده"
تبدلت تعابير وجهه من الغضب إلي ابتسامة ساخرة
"إيه هتخلعيني مثلاً؟"
جحظت عينيها من الصدمة فادركت أنه علم بأمر المحامي، سألته من خلف دموعها التي كونت غشاوة علي عينيها وتأبى نزولها
"أنت معين عليا جواسيس يمشوا ورايا يا كنان؟"
اقترب ببضع خطوات منها واخبرها بفخر و تباهي
"معلش بقي يا أم قصي، جوزك صاحب أكبر شركة أمن و حراسة في مصر، يعني يرضيكي نأمن الغريب و نحرسه وأسيب مراتي أم ولادي من غير أمن أو حراسة، ده حتي تبقي عيبة في حقي"
"و ده من أمتي؟"
"من وقت الليلة الجميلة اللي قضنيها مع بعض و طلبتي مني مبلغ يأمنك ويوقفك علي رجلك عشان تقدري تروحي تقومي محامي و تخلعيني، لكن حساباتك باظت لما حصل حمل، الحمل اللي روحتي تنزليه قال يعني لو نزل مفيش بيني و بينك تلات ولاد"
وضع يديه علي كتفيها و مازال مبتسماً بسخرية فقابلته بنظره بغض و كراهية، بينما هو اسطرد
"أنا هاحقق لك طلبك من غير محامي و لا محاكم بس علي شرط"
اقترب من أذنها، يريد عقابها بأشد طلب يعلم من المستحيل أن توافق عليه، لذا اخبرها
"تسيبي ولادك وتنسيهم خالص"
ابعدت يديه من فوق كتفيها
"ده في أحلامك، و ولادي عمري ما هفارقهم غير في حالة واحدة لما أموت يا كنان"
جن جنونه، بدل من أن تبكي ندماً علي فعلتها و ترجوه أن يسامحها فها هي تقف أمامه بتحدى سافر، و تتظاهر بالقوة وهو يري في عينيها حالة من الضعف لم يراها من قبل، لكن عندما تذكر أمر المحامي و الطبيبة و ظنت أنه غافل عن ما يحدث، عاد إلي غضبه الضاري، لم يشعر بحاله وهو يسحب من خلف ظهره سلاحه، قام بشد أجزائه و صوبه نحوها
"إيه؟، خوفتي؟"
اقترب منها ولم تتوقع منه هذا الجنون و الهراء، هل حقاً يريد قتلها!
وضع فوهة السلاح علي رأسها و ابتسم بسخرية ويري الخوف واضحاً في عينيها و تلاشت تلك القوة الزائفة
"إحساسك إيه وأنتي بين إيديا و برصاصة واحدة أخلص عليكي"
رفعت وجهها لتتقابل سهام الأعين، و يرى مدي القهر الذي تشعر به منذ سنوات وهي تخبره
"هو نفس إحساسي من أول يوم جواز، كنت كل يوم تموتني بنظراتك البارده، تجاهلك ليا كان بيدبحني، كل ما كنت أحس أني مجرد سد خانة و كنت بتتخيلني مراتك الأولي اللي مش قادر تنساها مهما أنكرت وأوهمت نفسك، بحس أنك جايب حبل مشنقة و عمال تلفه حوالين رقبتي وبتخنقني بالبطىء"
شهقة خرجت من حلقها يتبعها دموعها التي سقطت رغماً عنها و بغزارة، ترجوه ببكاء مرير
"اقتلني، اقتلني لأن ما بقتش استحمل و لا قادرة اسامحك، عارف، لو فضلت معاك هاموت من القهر و لو بعدت عنك هاموت برضه، في كل الحالات أنا ميتة، ارحمني و خلصني من العذاب اللي أنا فيه، اقتلني يا كنان"
اطلقت دموعها وصوت نحيب بكائها للعنان، ارتجف جسده من هول ما يرى، فهو من أوصلها إلي تلك الحالة المزرية، اسقط السلاح علي الرمال و جذبها بين ذراعيه، يعانقها بقوة، لم يمتلك اعصابه فشاركها البكاء أيضاً، فهي تبكي إلي حد الإحتراق حتي شعر بدموعها اخترقت نسيج قميصه و لامست صدره، يشعر بالوجع والألم والندم الشديد، أدرك كم كان حقيراً ووغداً ليجعلها تصل إلي هذا النحو.
أخذ يربت عليها بعد أن كف عن البكاء حتي هدأت هي أيضاً واكتفت من البكاء واصيبت برجفة تصاحبها شهقة كل حين و الآخر.
اخرج من جيبه محرمة، يمسح خديها من الدموع، تنظر له و يحدق صوب العينين التي يستعد أن يقدم عمره فداء لها.
ظل كليهما في هذا الهدوء و تبادل النظرات في صمت، اقترب بشفتيه نحو جبهتها و ترك قبلة استغرقت ثوان ثم ابتعد قليلاً ليخبرها
"أنا عمري ما أحرمك من ولادنا، و أوعدك عمري ما هوصلك للحالة اللي أنتي وصلتيلها دي تاني"
عانقها بقوة، و عناق أقرب للوداع، قام بتقبيل خدها ثم أخذ يقبل كل أنش في وجهها، تغمض عينيها لتشعر بتلك اللحظات متناسية كل ما حدث اليوم بل كل ما حدث منذ سنين، مازالت تغمض عينيها تستمتع بلمسات شفتيه علي وجهها، ختم تلك القبلات المتناثرة بقبلة اقتنص خلالها شفتيها بقوة وكأنه يريد الاحتفاظ بهذه اللحظة و تُحفر في ذاكرته مهما طال الزمان.
ترك شفتيها ليلتقط أنفاسه و هي أيضاً، توقفت عن التنفس فجأة وهو يخبرها
"أنا بحبك أوي، أنتي طالق"
كانت تغفو في سريرها، تتقلب بين أحضان الكوابيس، تهذي بكلمات مبعثرة لا رابط لها.
فجأة، جاءها صوت طرقات الباب ليقطع حلمها المرعب ويعيدها إلى واقعها البائس.
فتحت عينيها بتثاقل، واحتاجت للحظات قليلة لتدرك أين هي وتسترجع أحداث الليلة الماضية، ألقت نظرة على الساعة المعلقة على الحائط، بينما استمر صوت الطرق يتزايد بإلحاح ورافقه صوت أنثوي تذكرت صاحبته التي تنادي
"علا، يا علا"
قامت بتثاقل وفتحت الباب، لتجد انتصار، مدبرة المنزل، كانت واقفة أمامها تحمل على ذراعيها بعض الملابس المطوية.
لمحت علا الجدية في ملامح وجهها فسألتها بقلق
"حمزة صحي؟"
ردت الأخرى بجمود
"صحى من بدري، والناني فطرته وقاعدة معاه في الجنينة، أنا جاية أديلك اليونيفورم اللي هتلبسيه"
ألقت الملابس بين يديها ببرود، مما جعل الأخيرة تسأل بذهول
"يونيفورم؟"
ابتسمت الأخرى ابتسامة ساخرة وأجابت "أحمد بيه اللي وصانا عليه ليكي مخصوص، خدي بالك، شيري هانم بتحب الانضباط في الشغل والمواعيد جدًا، آه، واعملي حسابك، من بكرة هتصحي من الساعة ستة الصبح، نظام الخدمة عندنا كدا"
شعرت علا أن كلمات انتصار كجليد يتساقط بقوة فوق رأسها، متوالية في قسوتها وبرودها.
وبينما كانت لا تزال تحاول استيعاب ما يحدث، أكملت انتصار
"عشر دقايق تكوني جاهزة وتحصّليني على المطبخ عندنا ضيفة زمانها علي وصول"
وفي مكان آخر من الفيلا، تجلس شيري في قاعة الصالون الفاخرة، تقرأ كتابًا وتعلو وجهها ابتسامة راضية.
بدت وكأنها تتلذذ بما يحدث لعلا، كأن هذه الأخيرة قدمت لها فرصة ثمينة على طبق من ذهب لتنفيذ مخططاتها.
اقتربت منها انتصار وهمست في أذنها كلمات خفية.
لم تلبث الأخرى أن أومأت برأسها بارتياح، قائلة
"برافو يا انتصار، ولسه ياما هتشوف، اللي زيها لازم تعرف مكانها كويس، حتى لو كانت أم حفيدي أو مرات ابني، في الآخر، هي مجرد خدامة"
قاطعت كلماتها خطوات ابنها الذي نزل من الطابق العلوي وسأل باستغراب
"مين دي يا شيري هانم؟"
نظرت إليه انتصار بتوتر، ثم استأذنت "عن إذنك يا شيري هانم، هروح أخليهم يحضروا السفرة"
انسحبت سريعًا، تاركة أحمد ينظر نحو والدته في محاولة لفهم ما يجري، أجابته والدته بابتسامة ماكرة
"نسيت أقولك، في ضيفة معزومة عندنا على الغداء، زمانها جاية"
لم يمر وقت طويل حتى اخترق صوت أنثوي مائع الأجواء
"هاي"
نهضت شيري بلهفة لاستقبال ضيفتها، قائلة بحفاوة مبالغ فيها
"أهلًا أهلاً يا دودو"
لم يتفاجأ أحمد كثيرًا، إذ أدرك على الفور أن والدته تريد اختبار ما حدث بينه وبين علا، أرادت أن تتأكد أنه قطع معها كل أحبال الوصال، وأحضرت دودو، المرأة الوحيدة التي تعرف تمامًا كيف تقهر علا.
اقتربت هذه المدللة منه ومدت يدها قائلة بدلال مفرط
"هاي ميدو!،لاقيتك ما بتردش عليّ؟، قولت طيب أجيلك بنفسي!، I miss you too"
لم تكتفِ بالمصافحة، بل سارعت بمعانقته دون أن تنتظر رده، و في تلك اللحظة، ظهرت علا حاملة صينية يعلوها كؤوس العصير.
توقفت قدماها عن السير عند رؤية ذاك المشهد أمامها، وسرعان ما أفلتت الصينية من يديها، لتسقط الكؤوس وتتناثر شظاياها على الأرض.
استدارت شيري نحوها بغضب وصاحت "إيه اللي هببتيه ده؟!"
كانت علا واقفة كأن الزمن توقف بها، تحدق صوب أحمد الذي أبعد ذراعي دودو عنه، نظراتها تحمل اتهامات عديدة، بينما كانت نظراته، تحمل ألف معنى، موجهة لعلا وحدها خاصة بعد ملاحظته لما ترتديه من ثياب العمل الرسمية، و هي قميص ابيض من الأعلي و بنطال اسود، محتفظة بالوشاح الأبيض يخفي أسفله شعرها.
"اتفضلي روحي هاتي حاجة ولمي اللي وقعتيه وامسحي مكانه"
كان صياح شيري بصوت صارم، أفاق عليه كلا من ابنها و زوجته التي انتظرت دفاعًا منه كعادته، لكنها صُدمت بصمته.
لم تنبس شفتاه بحرف، وكأنه يوافق على كل ما يحدث، بلعت ريقها وهي تشعر بمرارة الإهانة، وردت بصوت مبحوح "أمرك يا طنط"
قاطعتها حماتها بحدة
" اسمي شيري هانم، زي ما زمايلك الشغالين بينادوني"
ابتلعت علا كلماتها المُرة، ولملمت ما تبقى من كبريائها المنكسر قبل أن تسرع بالذهاب من أمامهم.
لم تتجه نحو المطبخ، بل هرولت إلى الغرفة التي أصبحت مأواها الجديد، أغلقت الباب خلفها وجلست تبكي بحرقة. لم تكن تتخيل يومًا أن أحمد سيخذلها بهذه الطريقة، بدلًا من الدفاع عنها كما فعل سابقًا، وقف يتفرج على إهانة والدته لها دون أن ينبس ببنت شفة.
لم يمضِ وقت طويل حتى فُتح باب الغرفة.
رفعت رأسها لتجده هو ذاته واقفًا أمامها، لن توجد ذرة من الندم علي ملامحه، بل على وجهه ابتسامة تحمل كل معاني الشماتة.
بصوت منكسر، صاحت
"إنت إيه اللي جابك؟ جاي عشان تشمت؟ ولا عشان تكمل إهانتك أنت والست الوالدة؟"
تمنت داخليًا، ولو بنسبة ضئيلة، أن يكون جاء ليعتذر أو ليخفف عنها.
لكن ابتسامته كانت كفيلة بأن تخبرها أنه لا يحمل سوى المزيد من الإهانة، أجابها ساخرًا
"ليه يا مراتي يا حبيبتي بتقولي كده؟ مش إنتِ اللي قولتيلي تفضّلي تنامي في أوضة الشغالين بدل ما تجمعك أوضة بيا؟ أنا مالي؟ إنتِ اللي اخترتي!، و أنا مابحبش أجبرك علي حاجة، خصوصاً لما لاقيتك حنيتي لشغلك القديم، مش كنتي برضو قولتيلي هتنزلي تشتغلي حتي لو هترجعي خدامة؟، بيت ابنك و جوزك و حماتك أولى بيكي، و لا رجعتي في كلامك؟!"
تسمعه اذنيها و يكذبه فؤادها، كيف تحول في يوم و ليلة من عاشق متيم إلي جلاد و قاسي، يستلذ برؤية الألم في عينيها، اجابت بصعوبة من بين شفتيها
"أنا لسه عند كلامي، ما رجعتش فيه، هتحمل أي حاجة عشان ابني، حتى لو البعد عنك نار و قربي منك هو النعيم، هختار البُعد برضه"
اصابت كلماتها للمرة المائة قلبه، و داخله اعلن إنها قد انتصرت عليه مرة أخرى في وجعه و ألمه، حتي في حالة انكسارها مازالت قوية وذات كبرياء لا ينحني.
رد عليها بكل ما أتى في المعجم من مفردات القسوة و الجبروت
"و أنا اوعدك يا علا مش هاسيبك في حالك غير و انتي جيالي راكعة تطلبي إن ارحمك من اللي هاتشوفيه علي إيديا"
ردت بشموخ انثي مجروحة
" عشم إبليس في الجنة يا ابن شيريهان"
لا تنكر داخلها إنها تري الآن في عينيه لهيب إذا طالها لن يتركها سوي رمادًا منثورًا، يكفي سماعها لصوت طقطقة عظام فكه و اصتكاك اسنانه، قبضتيه اللتان علي استعداد تكسير رأسها اليابس و انفها المرفوعة إلي أعلى بشموخ كلما تقف أمامه بكل تحدٍي سافر.
و لكي يفرغ و لو قليلاً من طاقة غضبه القاتل، أمسك كوب الماء الفارغ وقذفه علي المرآة مما سبب لها الذعر و الخوف بل و الابتعاد من أمامه، رمقها بنظرة من الجحيم ثم تركها تنعي حظها العسير الذي جعلها قد وقعت بين براثن أشواك دربه!
❈-❈-❈
عندما استبد الغضب به أخذ يطرق الباب بعنفٍ كأنما ينوي اقتلاع المفاصل الحديدية التي تربطه بإطار الغرفة، علا صوته صاخبًا كالرعد
"افتحي الباب يا شيماء، افتحيه قبل ما أكسره فوق دماغك!"
من داخل الغرفة، جاء ردّها صارخًا مليئًا بالحنق والتحدى
"مش فاتحه! ومالك مسعور على الموبايل كده؟ تكونش عامل مصيبة وخايف أكتشفها؟! لتكون بتلعب بديلك مع السافلة الرخيصة اللي ساكنة جنبنا!، يا خاين يا غشاش، يا بتاع روميساء!"
صفع جبهته بكفه في محاولة يائسة لإيقاف دوامة الانكشاف التي أطاحت بأسراره.
لقد وقعت الكارثة، وانكشف أمره أمام زوجته التي كانت دائمًا تراقب كل صغيرة وكبيرة، أخذت شيماء من خلف الباب تصبّ جام غضبها على الجارة الحسناء التي لم تكفّ عن التودد لطه، حتى صارت كالأفعى تتربص بالفريسة.
توقفت أخيرًا بعد أن أصابها الإجهاد، فسألها ساخرًا بعد دقائق من السباب الذي كاد يثقب أذنيه
"خلصتي وصلـة الردح؟"
ردّت، دون أن تترك له مساحةً للحديث
ــ "ده لسه ولسه! والله لأفضحها في كل حتة! هنزل بوست طويل عريض على الفيس بوك والإنستغراب والتوك توك!"
كتم ضحكته على خطأها اللفظي، وردّ بتهكم
"إنستجرام وتيك توك، يا جاهلة، وإياكِ تعملي الهبل ده أحسن لك!"
فأجابته بغيظٍ واضح
"جاهلة أحسن ما أكون خاينة زيك، ولا واحدة بتلف على الرجالة المتجوزين، فاكرني هخاف منك؟ طب هقولك إيه، مش هديك الموبايل، عندك حيطان الشقة، اخبط رأسك في أكبر واحدة فيها!"
احمرّ وجهه غضبًا، وضرب بقبضته على الباب
"بقي كده يا شيماء! خديه واشبعي بيه! أنا هسيبلك البيت ومش هتشوفي وشي تاني"
ردّت بلا مبالاة متعمدة
"روح يا أخويا! بس ما تنساش تقفل الباب وراك عشان ما يدخلش دبان من اللي ملموم على الزبالة اللي ساكنة جنبنا"
سمعت صوت الباب يُغلق بعنف، فاهتزت نوافذ المنزل وتبعه صمتٌ ثقيل، نادت من الداخل بصوتٍ يائس
"يا طه! يا طه! أنت طفشت؟ أومال هفش غلي في مين دلوقتي؟"
انتظرت طويلًا، حتى شعرت بمللٍ شديد وحاجة مُلحّة لدخول الحمام، فتحت الباب بخطى مسرعة، لكن فجأة، شعرت بيدٍ تشدها بقوة من قفاها، صرخت
"يا نهار أسود! أنت عاملي كمين؟!"
نظر إليها بسخرية
"سمّعيني كده، كنتِ بتبرطمي جوه وبتقولي إيه؟!"
ترجته بلهجةٍ متوسلة
"سيبني الأول أروح الحمام زي بقية الناس"
ابتسم ابتسامة ساخرة
"أنا عايزك تعمليها على نفسك عشان تتعلمي الأدب!"
صرخت بتذمر
"مش لما انت تحترمني الأول؟! بتخوني مع أم أفخاد اللي عايزة الحرق؟!"
ردّ بنبرة جادة
"والله ما بخونك! الحكاية وما فيها كنت بشوف حد بيتهجم عليها في شقتها مش من الرجولة أسيبها وأمشي"
ضحكت بسخرية
"وأنت والشهاده لله، منبع الشهامة والرجولة، باتمان زمانك و أوانك"
زجرها بنظرةٍ نارية، فصاحت بتوسل
"خلاص! ما تبصليش كده! ما أنت اللي بتحرق دمي بعمايلك السودة، بتخليني اخرج عن شعوري و أنا ست مؤدبة و في حالي"
جز باسنانه علي شفته السفلي من فرط الغيظ
" اعمل فيكي ايه يا شيخة، ادعي عليكي بس ما تهونيش عليا و عشان خاطر ولادنا الغلابة اللي محتاجين وجودك معاهم، اتجوز عليكي و اقهرك؟! "
اتسعت عينيها و سرعان ما تراخت جفونها حينما أكمل
"اتجوز إيه بس و أنتي كرهتيني في صنف الحريم كلهم"
اشاحت وجهها جانباً لاخفاء ابتسامتها لانتصارها عليه واوصلته لما تريد، عادت تنظر إليه مرة أخرى
"ركز معايا أنت و بس و هخليك ترجع تحب الصنف، قصدي الحريم، يووه قصدي تحبني أنا و بس"
تركها من قبضته و ذهب ليجلس على أقرب كرسي، وأخذ نفسًا عميقًا، قائلًا بلهجة مليئة بالمرارة
"عايزاني ارجع معاكي زي الأول ازاي و أنتي مخلياني أخر اهتمامتك، اتحايلت عليكي اجيبلك اللي يشيل عنك شغل البيت رفضتي، اديتلك الفيزا و قولتلك اشتري و اتدلعي وروحي بيوتي سنتر، روحتي اخترعتيلي من دماغك صبغة خلت شعرك شبه سلك المواعين المولعين فيه بالنار"
رمقته بصدمة، فاكمل
"ما تبصليش كده، أيوه انا تعبت من عمايلك اللي كلها من دماغك و تفكيرك اللي هيوديكي لسكة مقفولة ما بينا، انتي اللي هتجبريني أبص بره غصب عني"
صرخت بانفعال
"يعني ده مبرر لخيانة؟!"
وضعت يديها علي جانبي خصرها
"اه، قولتلي بقي الحجة و لا الشماعة اللي هتبرر لنفسك بيها خيانتك"
صاح بانكار
"برضه هتقوليلي خيانة!"
ردت باصرار مؤكد
"ايوه خيانة، رقمها بيعمل ايه عندك و عمال تبعتلها و تبعتلك رسايل، ده أنا ياللي اسمي مراتك بتشوف رسايلي و ما بتردش، لكن هي لو بعتتلك ايموشن ترده لها عشرة، خيانة دي و لا مش خيانة يا ابن الشيخ سالم"
تريث قليلاً قبل أن يجيب و شعر بالندم، فهي علي حق، مهما كانت الأسباب لديه.
اقترب منها و قام بتقبيل رأسها
"حقك عليا ما تزعليش"
نظرت بعيدًا، لكنه أمسك بذقنها بلطف، و
اخبرها بصدق رأته داخل عينيه
"والله بحبك، ولو مليون واحدة زي روميساء مش هيملوا عيني زيك"
رفعت زاوية فمها بتهكم
"فاكرني هبلة و عبيطة اصدق الكلمتين اللي بتضحك بيهم عليا دول؟!"
جز علي فكه بحنق و حاول مرة أخرى بصدق
" أنتي و لا هبلة و لا عبيطة، انتي اطيب قلب و ست الحلويين"
رمقته بعينين نصف مغلقة
"لو عايزني أصدقك بجد تعمل حالًا بلوك لوحل البرك اللي اسمها روميساء، ولو لمحتها في أي مكان تغض بصرك، لو لاقيتها ماشية في الشارع لف أنت من الشارع التاني، و لو لاقيتها بتولع أو بتفرفر و بتطلع في الروح إياك تبص حتي عليها"
هز رأسه بطاعة ربما تكون صادقة
"حاضر يا حبيبتي"
"يحضرلك الخير يا أخويا"
نهض وامسك يديها، جذبها إلي صدره قائلاً
"جري إيه يا شوشو، بقولك يا حبيبتي، تقوليلي يا أخويا؟!، أخوكي إزاي طيب، أومال الواد سالم ابننا ده جه منين!"
تلفت من حوله و سألها
"هم العيال فين؟"
أدركت مراده و رمقته بدلال و اجابت
"أختك كلمتني عشان هتاخدهم النادي مع ابنها، وخدتهم من الصبح و مش هايرجعوا غير علي العشا"
هلت السعادة علي محياه، لكزها في ذراعها
"مش كنتي تقولي من الصبح، يلا قومي حضري لنا قعدة من بتوع أول الجواز، وأنتي بقي فاهمة الباقي"
اطلقت ضحكة
"عينيا يا سي طه"
ذهبت بالفعل لتنفذ ما يريده، و كالبلهاء قد نست ما حدث!
❈-❈-❈
في غرفة خافتة الإضاءة، كانت رودينا تجلس إلى جوار الصغيرة ياسمينا، تمسك بيدها قطعة قماش قطنية مبللة، تعصرها برفق فوق طبق صغير، ثم تضعها على جبين الطفلة التي تهذي بصوت خافت، بالكاد مسموع، وهي تردد بضع كلمات متقطعة
"ماما... ماما تعالي... ماما"
نظرت إليها الأخرى بحزن غامر يعكس زوبعة مشاعرها، وكأنها تشعر بالعجز أمام هذا المشهد المؤلم.
عيناها تلمعان بتأثر وهي تراقب الصغيرة، لم تلحظ للحظة أن هناك شخصاً يقف عند باب الغرفة، كان ياسين الذي كان يطمئن على ابنته المريضة.
حيث ذهب مسرعاً بمجرد أن تلقى مكالمة من شقيقته تخبره أن ابنته في حالة سيئة، تبكي وتصرخ تريد والدتها، وهي عاجزة عن تهدئتها.
لم يتردد لحظة؛ ذهب إلي شقيقته وحمل ابنته فوراً، استدعى الطبيب في منزله وقال له بلهجة صارمة ومباشرة
"البنت عندها التهاب حاد في الحلق، وحالتها النفسية متدهورة. يمكن تحتاجوا لمساعدة أخصائي نفسي"
و بعد انتهاء الفحص ذهب الطبيب، و منذ تلك اللحظة، تولت رودينا الاهتمام بالصغيرة، لم تكن تنتظر طلباً منه إن تقوم بذلك.
جلست بجانب ابنته، تعتني بها كأنها طفلتها.
حينما توقفت الصغيرة عن الهذيان وغطت في نوم عميق، زفرت رودينا براحة، وضعت كفها على خد الطفلة بحنو، تمتمت بشكر الرحمن
"الحمد لله، الحرارة نزلت"
أزاحت قطعة القماش عن جبينها، وأخذت منشفة قطنية، تمسح وجهها بلطف.
و قبل أن تنهض، انحنت وقبّلت رأسها بحب، ثم قامت متجهة نحو الباب، تحمل الطبق في يدها.
لكن ما إن استدارت حتى تفاجأت به أمامها، واقفاً، يراقبها بصمت.
شعرت بالارتباك، وتجنبت النظر في عينيه.
حاولت المرور من جواره، لكنه أمسك بذراعها بلطف، نظر إليها نظرة ممتنة، وقال بصوت منخفض
"شكراً"
رفعت عينيها نحوه ببطء، عتابها واضح، قالت بصوت يحمل شجنًا دفينًا
"مفيش داعي للشكر، ياسمينا زي بنتي"
ظل يحدق بها، عاجزاً عن النطق، كأن كلماته تأبى الخروج.
أشارت بيدها نحو يده التي تمسك بذراعها، فتحرّج وأفلتها فوراً.
مضت في طريقها، بينما عاد هو إلى ابنته. جلس بجانبها، أمسك بيدها الصغيرة، وضعها على خده، وقبّلها برفق، ثم أخبرها بقلب ملتاع
"أنا آسف يا ياسمينا، عارف إنها وحشاكي ومحتاجاها، زي ما هي وحشاني أنا كمان، هي سابتنا، راحت مكان أحسن، بس أنا حاسس بيها، بروحها حوالينا، لسه بتحضني كل ما أنام، ولسه عايشة معايا في أحلامي زي ما كانت عايشة معايا في الحقيقة"
تنهد بعمق، تمدد بجوارها على السرير، مغمض العينين، يحتضن ألم قلبه.
من ينظر إليه في هذه اللحظة يظنه هو المريض، وليس ابنته!
خارج الغرفة، كانت رودينا تقف خلف الباب الموارب، تستمع لكل كلمة ينطق بها. كلماته كانت كسكين تغوص في صدرها ببطء، لكنه ألم تختلط فيه مرارة الحب بشعلة أمل، ولو صغيرة، لعله يلتفت يومًا ما إليها!
❈-❈-❈
صدحت أنغام الموسيقى الشعبية في أرجاء الشقة، كأنها تُشعل المكان بحماسةٍ هوجاء.
أطلق طه صيحةً مفعمة بالبهجة، قائلاً وهو يصفق بحماس
"أيوه بقى، يا شوشو يا جامد"
وفي تلك اللحظة، انفتح باب الغرفة، لتخرج شيماء مرتدية عباءة رقصٍ ضيقة، تحتضن تفاصيل جسدها كأنها رسمت عليها.
تخفي شعرها التالف أسفل شعر مستعار أسود طويل ينسدل على كتفيها، يتماوج مع كل حركة، كأنها تحاكي مشهداً من عالم السينما المثير.
بدأت تهز خصرها وتتراقص بخفةٍ وتناغمٍ مع إيقاع الأغنية، تتمايل كأفعوانٍ يجذب الأنظار بلا هوادة.
بينما الأخر، فقد تسمرت عيناه عليها لوهلة، ثم كتم ضحكته بصعوبةٍ حين لمح الشعر المستعار، كان يشبه إلى حدٍ كبير شعر روميساء!
اقترب منها بخفةٍ وبدأ يشاركها الرقص، محاولاً أن يبث في الجو مرحاً يُنسِيه أعباء الليالي السابقة.
كان الهاتف المحمول الخاص به مُلقىً على الطاولة القريبة، صامتاً لكنه يرسل إشارات متتالية من رسائل واردة.
ووسط هذه الإشعارات المتكررة، ظهر اسم المتصل، ليكسر اللحظة ويعيده إلى واقعه المتوتر.
التقط الهاتف بحركةٍ سريعة، وفي غفلةٍ عن شيماء، فصل الاتصال دون أن يصدر أي صوت، ثم أطفأ الجهاز تماماً.
بدا عليه التوتر، لكنه كان مصمماً على الحفاظ على هدوء الليلة بأي ثمن.
عاد ليشارك زوجته الرقص، ولكن شيئاً في داخله كان يُشبه النار الكامنة تحت الرماد.
❈-❈-❈
ما إن همّت بالانشغال في تحضير الغداء حتى باغتتها رنّة جرس الباب.
رفعت رأسها متأففة وكأنها قد أُخرِجَت من غفلة.
تركت صحن الماء الذي كانت تغسله على رخام المطبخ، وتوجهت بخطى سريعة نحو الباب.
وقفت برهة تتأمل الفتحة الصغيرة، فرأت وجهَيْ والديها.
ارتسمت على ملامحها تعابير ضيقٍ ممزوجة بحرج، ثم ضربت جبهتها بكفها، وقد تذكرت أنها نسيت ترتيبات قدومهما.
أزاحت شعرها إلى الخلف، وتأكدت أن الوشاح الصغير يغطي جيدًا عنقها. راجعت هيئتها سريعًا أمام مرآة الزينة، ورتبت خصلات شعرها بعناية، ثم فتحت الباب وابتسمت
ـ"أهلًا مامي، أهلًا بابي، اتفضلوا"
كان والدها أول من استقبلها بحضن دافئ قائلاً
"أهلًا يا حبيبة قلب بابي"
لكن والدتها لم تبادلها نفس الحماس؛ بدت نظراتها فاحصة، ترصد أي تغيّر على ملامح ابنتها.
لاحظت رودينا ذلك، فتعمدت التهرب من عيني أمها، آملة أن لا تُفتَضَح مشاعرها المضطربة.
جلست الأسرة في غرفة الصالون، أشارت إلى والدها
"اتفضل يا بابي"
ثم التفتت إلى أمها وفعلت المثل
جلست والدتها في مكانها بصمت متوتر، بينما ابنتها سألتهما بابتسامة مترددة
"تشربوا إيه؟ ولا أقولكم، أحنا هنتغدى سوا"
أمسكها والدها بلطف من يدها
"اقعدي، ما تعمليش حاجة، إحنا مش جايين نتضايف، إحنا جايين نطمن عليكي وعلى ياسين"
ابتسمت ابتسامة خافتة قائلة
"حبيبي يا بابي، أنا وياسين بخير الحمد لله، هاروح أقوله إنكم وصلتوا، أصله مريح جنب ياسمينا شوية، كانت تعبانة و.....
قاطعتها والدتها وقد رفعت حاجبًا
"مش بنتُه المفروض كانت عند عمتها؟"
تلعثمت وهي تعي مقصد أمها
"هي فعلًا كانت عند ملك، بس لما تعبت أوي وما عرفتش تعمل إيه، ياسين جابها عشان نرعاها"
اكتست ملامح الأم بسخرية واضحة قائلة
ـ"قصدك أنتي اللي تاخدي بالك منها"
لم يمنحها زوجها الفرصة للمزيد من السخرية؛ وخزها بلطف على ذراعها وهمس بانزعاج
"وطي صوتك، إيه الكلام ده؟!، دي طفلة صغيرة محتاجة رعاية، وإحنا عارفين ظروف الراجل"
لكن والدتها لم تردع نفسها، فقالت بشيء من الحدة
"عارفين، بس برضه بنتي عروسة، من حقها تقضي شهر العسل، مش تبقي ناني لبنته!"
لم تحتمل رودينا أكثر، كفاها ما تتحمله من زوجها، فكيف بها تُضاف أعباء تعليقات أمها؟ بصوت حاولت أن تكبح فيه رجفتها قالت
ـ"مامي، بالله عليكِ كفاية كلام بقي، أنا قبلت ياسين بظروفه، وبنته هي بنتي، احنا اتجوزنا و الموضوع خلص و بقي واقع"
ثم نظرت نحو والدها واستطردت
"كلامي غلط، يا بابي؟"
هزّ رأسه موافقًا بحنان
"لأ، يا بنتي، كلامك صح، بس نعمل إيه في دماغ أمك وتدخلاتها؟"
رمق زوجته بنظرة غاضبة، لكنه آثر الصمت عندما همّت ابنته بالانصراف لتخبر زوجها بوجود والديها.
دلفت بهدوء إلى غرفة الصغيرة، فوجدت زوجها مستلقيًا وقد أحاط ابنته بذراعيه. بقيت تتأمله للحظات، ثم اقتربت وربتت على كتفه برفق
"ياسين، ممكن تصحى؟ بابي ومامي بره، عايزين يسلموا عليك"
أجاب بصوت ناعس
"روحي أنتي اقعدي معاهم و أنا جاي وراكي"
في الصالون، كان حديث جانبي يدور بين والديها قالت والدتها بإصرار
"بكرة تندم أنت وبنتك، وتشوف كل كلمة قولتها كانت صح"
رد زوجها بنبرة مملوءة بالضيق
"ويمكن يحصل العكس، بطلي بقى تكسير مجاديف البنت، هي عارفة ظروفها وراضية بيها، مالك إنتِ ومالها؟!"
قطعت كلامهما خطوات ياسين الذي أطلّ مرحبًا
"يا أهلًا وسهلًا، البيت نوّر بيكم"
رد حماه مبتسمًا
"إزيك يا بني؟ معلش عاملنا لك إزعاج"
ابتسم ياسين بحرج
"ابداً والله، ده بيتكم في أي وقت تشرفوا"
ثم أدار نظره نحو حماته ومد يده مصافحًا
"إزيك يا طنط؟"
نظرت إليه ببرود وسلمت على مضض، كان يعلم جيدًا أنها لا تطيقه، فقد كانت أكثر الناس فهمًا أنه لا يحب ابنتها.
جلس في المقعد المقابل، بينما دخلت رودينا تحمل صينية عامرة بكؤوس العصير وقطع الحلوى.
وضعتها على الطاولة ووزعت على الحاضرين أكوابهم، حينما مدت الكوب لوالدتها، تسمرت الأم فجأة.
وقعت عينها على عنق ابنتها، وقد انزاح الوشاح عنه، فكشفت آثاره عن كدمات خافتة.
ثم لاحظت رسغها الذي ظهرت عليه علامات مماثلة.
نهضت فجأة، وبتوتر واضح أمرت ابنتها
"تعالي معايا عايزاكي دقيقتين"
ارتبكت رودينا وهمست
"فيه إيه، يا ماما؟ اهدي، الموضوع مش زي ما انتي فاكرة"
لكن والدتها احتدت نظراتها، قالت بصوت حازم
"بقولك قدامي، دلوقتي"
❈-❈-❈
داخل غرفة النوم، دفعَت والدتها يدها بحزم لتجلس على الأريكة، ثم بدأت بفك الوشاح الذي التفَّ حول عنقها، قائلةً بصوت يشوبه التوتر
"استني بس يا مامي، بتعملي إيه؟"
قاطعتها والدتها بلهجة صارمة
"اسكتي إنتي"
كشفت عن عنقها لترى الكدمات التي شوهته، ثم رفعت أكمام ثوبها دون اكتراثٍ لاعتراضاتها، لتكشف عن مزيدٍ من الآثار المروعة.
صمتت لوهلة ثم دفعتها باتجاه المرآة، وأشارت بيدها نحو انعكاس جسدها المتضرر، صارخة
"إيه ده؟!"
رفعت ابنتها رأسها لتقابل عيني والدتها عبر المرآة بخجلٍ وارتباك، محاولةً تخفيف حدة الموقف
"خلاص بقى يا مامي، عريس وعروسة بقى، وحضرتك فاهمة"
لكن كلماتها لم تُجدِ، إذ رفعت والدتها حاجبيها بتعجب وقالت بنبرة مشوبة بالغضب
"لأ يا حبيبة مامي، ده مش تعامل طبيعي، المنظر اللي قدامي بيقول إن ده عنف، هو عمل فيكي إيه؟"
ابتلعت الابنة ريقها وقد وجدت نفسها في مواجهة حائط سدٍّ، فهي كانت تعلم أن ذكاء والدتها وقوة ملاحظتها لن يسمحا لها بالتمويه بسهولة.
حاولت التهرب مجددًا وهي ترفع صوتها
"هو ليه إنتي مش مصدقاني؟ بقولك عريس ومراته، يا ماما، خلاص بقى، دي كمان هتعمليلي عليها مشكلة؟!"
هزت والدتها رأسها ببطء، وقالت بلهجة ملؤها العتاب
"أنا عشان بحبك وخايفة عليكي أبقى بعملك مشاكل؟ ده لو كان عملك سحر مكنش ده بقي حالك"
دفعت الابنة الهواء من بين شفتيها بضيق، وحسمت الحديث بنبرةٍ حادة
"لو سمحتي يا مامي، ياريت ما أسمعش منك كلمة تاني عن جوزي ولا عن حياتي، كفاية بقى، أنا تعبت من كلامك وانتقاداتك سواء ليا أو لجوزي"
ظهرت الصدمة على وجه والدتها، لكن ملامحها سرعان ما تجمدت، وقالت بلهجة تحمل ألمًا عميقًا
"بقي كده يا رودينا؟! تمام، مش هتعبك تاني ولا هتكلم معاكي أصلاً، وبيتك ده أول وآخر مرة أجيلك فيه"
ألقت كلماتها كسهامٍ في صدر ابنتها، ثم اتجهت إلى الخارج بخطى غاضبة.
شعرت رودينا بالعجز، فركضت خلفها معتذرة، لكنها توقفت فجأة عندما سمعت صوت والدتها يخاطب ياسين بلهجةٍ تفيض ازدراءً وتعجرفًا
"وأنت فاكر بقى إن من الرجولة إنك تاخد حقك الشرعي من بنتي بالغصب؟!"
شهقت رودينا، بينما توسعت عينا ياسين غضبًا واندلعت نظراته كالنيران نحوها
ردت والدتها بتحدٍّ
"بصلي أنا اللي بكلمك! ما تقلقش، أنا مش بحاسبك ولا بعاتبك، لأنك ما تستاهلش الواحد يحرق دمه معاك، بس أنا حذرتك قبل كده وقولتلك، لو أذيت بنتي بكلمة، أنا اللي هقفلك"
صرخت رودينا بتوسل
"مامي، بليز كفاية، مفيش حاجة حصلت، حضرتك فاهمة غلط"
تدخل والدها بحيرة واضحة
"إيه اللي بيحصل؟ ما تفهموني؟"
أجابته زوجته وهي تهم بالخروج
"خلي البيه يقولك عمل إيه في بنتك، أصله فاكر نفسه اشترى جارية يعمل فيها اللي هو عايزه"
جذب ياسين يد رودينا برفق، ووضع ذراعه حول كتفيها بابتسامة باردة وقال لوالدتها
"رودي حبيبتي مش جارية، دي مراتي وجوه عينيا وفوق راسي، وبالتأكيد حضرتك فاهمة غلط، معلش بقى يا طنط، مش هقدر أفهمك لأن حضرتك من الجيل القديم اللي عايش على الفطرة، أنا ورودي لسه شباب وبنجرب كل جديد عشان ما نحسش بملل ولا زهق"
ألجمت وقاحته لسان والدتها، فاختنق وجهها بالغضب حتى احمرَّت وجنتاها. نظرت إلى زوجها وأمرت بحزم
"ابقي حصّلني"
كان الأب في موقف لا يُحسد عليه، ألقى السلام بتوتر ثم لحق بزوجته، تاركًا ابنته وزوجها وسط معركة صامتة.
ما إن أغلق ياسين الباب حتى التفت إليها، وعيناه تشعان غضبًا كاد يحرق الأخضر واليابس.
تراجعت بخوف واخبرته بسرعة
"والله يا ياسين ما قولتلها حاجة، هي لما شافت رقبتي وإيديا، جه في بالها إنك اعتديت عليا، صدقني، ما قلتلهاش حاجة"
صرخت فجأة حين قبض على ذراعيها بقوة، وهدر من بين أسنانه
"بصي عشان مش هعيد الكلام تاني، أمك دي ما تجيش هنا طول ما أنا في البيت، عايزة تشوفيها، روحيلها، وكبيرك ساعة زمن وترجعي، وماتجيش تقوليلي على أي مناسبة تجمعني بيها، أنا ما رضتش أتكلم عشان خاطرك وخاطر أبوكي، ها وصل الكلام؟"
هزت رأسها برعب، فصرخ بها ليعيد التأكيد
ــ "ما سمعتش؟"
ردت بصوت أعلى
"أه، أه، فهمت"
ترك ذراعيها وأغمض عينيه للحظة كأنه يحاول كبح جماح غضبه، ثم قال بلهجة تحذير
"وعلى فكرة، أنا ما نستش الكلام اللي قولتيه قبل ما أروح أجيب ياسمينا، لسه هحاسبك عليه، بس مش دلوقتي، وأتمنى ما أسمعش حاجة زي دي تاني، و لا تجيبي سيرة مراتي الله يرحمها و لا بخير و لا بشر، لأنك ساعتها هتشوفي وش عمرك ما هتتمنيه حتى لألد أعدائك"