رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل الثالث والسبعون بقلم مريم غريب
( 73 )
_ بيت الماسة ! _
رانت على ملامح الطبيب علائم الدهشة و هو يقول :
-أيوة يا عثمان بيه. مدام حضرتك حامل في الشهر التالت و يمكن في الرابع كمان.. إزاي ماتعرفوش لحد دلوقتي ؟!!
لم يزول مفعول المفاجأة عن "عثمان" كليًا... لكنه إستطاع الرد على الأخير بالانتباه الكافٍ :
-لأ يا دكتور.. ماكناش نعرف. محدش فينا كان يعرف !
يمط الطبيب فمه قائلًا :
-عمومًا أنا كتبتلها على فيتامينات و أدوية مقوّية لازم تواظب عليها لمدة إسبوع. و باذن الله في إنتظاركوا الاسبوع الجاي في عيادتي عشان الكشف التاني و تحديد جلسات المتابعة
أومأ له "عثمان" على الفور و قال مؤكدًا :
-أكيد هانيجي لحضرتك.. ألف شكر يا دكتور. شكرًا
-العفو يا باشا ده واجبي و شغلي ..
و حاسبه "عثمان" ثم بعث معه بإحدى المستخدمات لتواكبه للأسفل.. بينما يحل "فادي" إلى جانب صهره مرةً أخرى و هو يقول بقلقٍ :
-أنا مقدرش أقعد كده و أختي الصغيرة ماعرفش طريقها. دي طفلة ماتعرفش تروح و لا تيجي !
ما كاد "عثمان" يتنفس حتى.. ما كاد يلتقط أنفاسه على الأقل بعد كل تلك الأحداث الأخيرة التي و كأنها عقدًا و فرط مرةً واحدة ...
تنهد بثقلٍ و هو يستدير نحو الشاب الذي يحمل الكثير من ملامحه أخته الجميلة.. ثم قال بصبرٍ و حِلم :
-قولتلك ماتقلقش يا فادي.. ملك هاترجع. أكيد سمر حطاها في مكان آمن. و هي دلوقتي فاقت شوية بس لما تقدر تتكلم و تقولنا هي فين أنا بنفسي هاروح أجيبها
فادي بوهنٍ : بس أنا قلبي مش مطمن. كل ما الوقت بيفوت و أنا آ ا ...
لم يكاد يكمل جملته.. إذ جاءت الخادمة الشابة و قاطعت حوارهما بلهجةٍ خاشعة :
-عثمان بيه.. في واحدة ست جت تحت عاوزة تقابل حضرتك
إنعقدا حاجبيّ "فادي" باستنكارٍ حانق لدى سماع ذلك، يلاحظ "عثمان" ردة فعله فيرتبك قليلًا على إثرها.. لكنه يتمالك أعصابه و يتوّجه للأخيرة متسائلًا بثباتٍ و قوة :
-ست مين ؟ ما قالتش إسمها ؟
أجابت الفتاة بايماءة قصيرة :
-قالت.. إسمها يارا شُهدي. و كمان معاها ملك هانم !
-ملك معاها !!! .. صاح "فادي" بغتةً و قد تهللت أساريره
إنطلق جريًا إلى الأسفل ...
أما "عثمان" فعبس وجهه بغضبٍ و هو يغمغم من بين أسنانه مخاطبًا الأخيرة :
-ماقولتيش كده من الاول ليه ؟ لازم واحدة ست عاوزة تشوفك دي.. أنا ناقص بلاوي !
أرادت الفتاة أن تبرر في غمرة الاضطراب الذي سببه لها، لكنه لم يعطها الفرصة و إنصرف من أمامها فورًا متبعًا "فادي" ...
و بالفعل.. ما إن نزل حتى رآى تلك السيدة تقف بمنتصف البهو و تبتسم بهدوء و هي ترى الطفلة الصغيرة ترتمي بين أحضان شقيقها الأكبر و تعبر له عن شوقها إليه باسلوبها الطفولي المحبب
لم تبدو غريبة الهيئة عن "عثمان"... فقد خيّل إليه بأنه رآها من قبل.. ربما بجريدة أو مناسبة إجتماعية... لا يدري بالضبط.. لكنها مألوفة جدًا.. وجهها الجميل المتسم بتعابيرٍ جريئة و حتدة لا يمكن ينتسى بسهولة حتى لو رآه المرء لمرةٍ واحدة ...
-أهلًا و سهلًا ! .. قالها "عثمان" بلهجته اللبقة حين صار بالقرب منهم
وقف على مقربة من "يارا" و مد يده لها بالمصافحة :
-مدام يارا شُهدي. صح ؟
ترفع "يارا" ذقنها نحوه و ترد بصوتها العذب الرصين :
-أيوة أنا.. حضرتك أكيد عثمان البحيري. زوج مدام سمر
هكذا عرفته من أول نظرة بفراستها المعهودة و دقة نظرتها.. هذا هو الحبيب و المعذّب إذن يا "سمر" !
مدت "يارا" يدها و صافحته سريعًا، ليبتسم "عثمان" لها بخفةٍ و يقول :
-أيوة بالظبط.. أنا عثمان البحيري. بصراحة ماسبقليش الشرف إني أتعرف على حضرتك. بس عاوز أقولك شكلك مش غريب عليا إطلاقًا
أومأت له "يارا" و هي ترفع يدها لتدفع بشعرها من الأمام بحركة عفوية و تقول :
-آه طبعًا أكيد وشي مش غريب عليك. أنا مؤسسة براند ( YS ) للبيرفيوم. أنا إللي بصنعه بنفسي و أنا كمان ألواجهة الإعلانية لمنتاجاتي. ف أكيد شوفتني في اعلان على الTV أو على Cover مجلة أو في أي حتة !
و هنا تمامًا تذكرها بالفعل و قد نجحت بالتغريف عن نفسها جيدًا ...
-أيوة صح كده. متهيألي فعلًا إني شوفتك في حاجة من دول. أهلًا و سهلًا بيكي ! .. ثم قال غير قادرًا على أخفاء حيرته :
-بس ده ياخدني لسؤال مهم.. سمر وصلت لحضرتك إزاي ؟ أقصد إزاي الظروف جمعت بينك و بينها و كمان تسيب معاكي ملك و تجبيها بنفسك لحد هنا !!
ردت "يارا" بثقة كبيرة :
-أنا و سمر أصدقاء يا عثمان بيه !
-أصدقاء !! .. كرر غير مصدقًا و كأنه لم يسمع الجملة جيدًا
أكدت "يارا" بحزمٍ :
-آها أصدقاء. سيادتك مستغرب ليه ؟ أنا أصلًا مقيمة في القاهرة و جيت إسكندرية من كام يوم في إجازة. ف جت تقعد عندي يومين هي و ملك. بس خرجت تتمشى الصبح و مارجعتش فقلقلت عليها و طبعًا عارفة إن ده عنوانها و بستها و أسرتها موجودين هنا.. ف ماكنش قدامي حل غير إني أجي و أجيب ملك و نشوفها جايز تكون جت على هنا
رغم عدم إقتناع "عثمان" بأغلب ما سردته تلك السيدة النبيلة، لكنه قال بلهجة ممتنة :
-هي جت على هنا فعلًا. أنا و هي كنا زعلانين شوية مع بعض بس إتصالحنا خلاص.. و كانت لسا هاتقولي سايبة ملك فين و مع مين بس حضرتك شرفتينا الأول. متشكر جدًا على تعبك معانا
يارا و قد بدت عليها الراحة الغامرة الآن :
-لأ و لا أي حاجة. أنا كفاية إطمنت عليها.. و إن شاء الله أبقى أجي أشوفها مرة تانية
عثمان بجديةٍ : ده تلميح منك عشان تمشي بالسرعة دي.. لأ مايحصلش بجد. لازم تقعدي تتغدي معانا. محدش يدخل قصر البحيري و يطلع بالطريقة دي و بعدين إنتي ضيفتنا
صممت "يارا" على موقفها و لكن باسلوبها الرقيق المهذب أيضًا :
-معلش بس أنا مش هقدر و الله أستنى أكتر من كده. عندي بنتين و سايباهم مع حد ماعرفوش أوي ف قلقانة عليهم.. لازم أمشي حالًا. ياريت بس توصل سلامي لسمر و تقولها يارا رجعالك تاني ..
و سحبت من جزدانها بطاقة صغيرة و ناولته إياها قائلة :
-و من فضلك إديها الكارت ده. عليه أرقامي كلها.. عشان لو إللي معاها ماعرفتش توصلي بيه
عثمان بلطفٍ : حاضر. يوصل كل ده يا مدام يارا.. و مرة تانية شكرًا على كل إللي عملتيه مع سمر !
إبتسمت " يارا" و هي ترمقه بنظرتها الثاقبة للمرة الأخيرة، الآن تعلم بأنها لم تفلح بخداعه كليًا و أنه يعرف بأنها و "سمر" ليستا صديقتان كما قالت.. مع هذا لا يجب أن تقرّ له بصحة ظنونه، كفاه غرورًا، هذا الزهو بالذات و التفاخر الذي يتحرك بعمق نظراته، يتعيّن ألا يؤيده العاقل !!
رحلت "يارا" أخيرًا ...
فنظر بجواره حيث ألفى "فادى" و الصغيرة "ملك" قبل قليل..لكنه لم يجد كلاهما
فإذا به يسمع همهمات من خلفه، ليلتفت فورًا و يرى الإثنان هناك.. "فادي" يجلس بكرسي الصالون المقابل و يضع "ملك" فوق قدمه.. يحتضنها تارة و يتهامسان تارة
تنفس بعمقٍ و قد بدأ التعب يزحف إلى أعصابه و عضلاته.. فهو لم ينال قسطًا قليلًا من الراحة منذ بكرة الصباح... عوضًا عن كل ما صار اليوم !!!
-خد ملك و طلعها تشوف أختها يا فادي ! .. قالها "عثمان" آمرًا بهدوءٍ
تطلع "فادي" إليه و قال بنفس الهدوء :
-و إنت مش هاتطلع تشوفها كمان ؟
رد "عثمان" دون أن يرف له جفن :
-لأ.. مش هاينفع تشوفني قدامها دلوقتي. هي محتاجة أقرب إتنين ليها. ملك و يحيى. أنا هاروحلها بعدين. كمان شوبة على الأقل
أومأ "فادي" بتفهمٍ، ثم سأله و هو يقوم حاملًا شقيقاه الصغرى على ذراعه السليمة :
-الست إللي جت دي ماعرفتش إيه حكايتها.. سمر كانت معاها بتعمل إيه ؟!
أعجبه سؤاله كثيرًا، الآن قد عاد و صارت أفكارهما العميقة المعقدة تتشابه و تضافر مجددًا.. لاحت طيف ابتسامة على ثغره و هو يطمأنه قائلًا :
-ماتقلقش.. أمان و شخصية معروفة. و بعدين كده كده لينا كلام مع أختك و هانفهم كل حاجة. بس لما تهدا و تفوق و تبقى كويسة !
_______________
عِرق تلك العائلة يمتاز بالارادة الحديدية.. و خاصةً نسائها... إذا أردن شيئًا فلا يمكن أن يسمحن بأيّ عائق يمنعهم
و لكنها حقًا تشكر الظروف التي سهلّت عليها التسلل من القصر خلسة، في خضم إنشغال الحميع بالكنَّة و التعحيل في طلب طبيبًا يفحصها.. شقيقها و زوجها و والدته و طفلها
الجميع من حولها.. فمن ذا الذي يمكنه أن يلاحظ غيابها هي !
و هكذا استطاعت الفرار منهم و الذهاب إلى المشفى التي نقل إليها خالها.. لم تكن حالته خطيرة.. مجرد رضوض و كدمات شديدة بالوجه ...
فضلًا عن الصدمة التي حلّت عليه بالصمت الآن، حتى و هي تجلس أمامه بغرفة الفحص.. تحثه ليتكلم معها بشتَّى الطرق.. فلما يأست قالت بنفاذ صبرٍ و بخشونة غريبة عليها :
-خالو.. إللي إنت عملته مش هايعدي. عارف معناه إيه عثمان يسيبك و مايقدمش ضدك بلاغ ؟ عثمان هايقتلك.. لازم تمشي. لازم تسيب إسكندرية و مصر كلها !!!
لا يزال على وضعيته.. كأنما هي تخاطب الهواء... و لكن قبل أن تتفعل ثانيةً.. خرج صوته بآلية تامة :
-عارفة يا هالة.. رغم كل إللي حصل. و رغم إللي عملته و كنت هاعمله.. أنا مبسوط إنه وصل في الوقت المناسب و نقذها مني !
قطبت "هالة" حاجبيها باستغرابٍ... بينما يستطرد "نبيل" محدقًا بالفراغ أمامه :
عمري ما كنت هسامح نفسي لو كنت كسرتها هي بالذات بالطريقة دي.. سمر.. سمر ماتستهلش كده. و لا تستاهل تعرف حد زي عثمان و لا زيي.. سمر دي ملاك. ماسة. مالهاش مكان وسط البشر إللي زينا أساسًا ...
و أخيرًا تحرك من سكونه و أدار وجهه لينظر بعينيها مباشرةً و هو يضيف بلهجةٍ جوفاء :
-تعرفي كمان.. أنا تعمدت أخدها على الشقة إللي جبتهالك. عشان يبقى عندي أمل إن حد هايجي يلحقها قبل ما أعمل فيها كده.. كلمت عثمان و فرجتهاله صوت و صورة عشان أضمن إنه هايعمل المستحيل و يجي ياخدها.. و فعلًا. ربنا ما أرادش تتوسخ أكتر من كده. أنا مبسوط أوي يا هالة. مبسوط !
و أشاح بوجهه عنها مكررًا الكلمة :
-مبسوط.. مبسوط.. مبسوط !!!
كانت جميع المشاعر السلبية قد تلاشت آثارها عن وجه "هالة" و هي تمعن النظر بخالها و تقيّم حالته ...
هذه الهلاوس كلها سببها "سمر"... لقد بدأت تتناسى الكراهية التي ربطت بينهما فيما مضى.. لِمَ تساهم المواقف بتجديدها ؟ لِمَ هي مؤثرة بجميع الرجال إلى هذه الدرجة ؟ ماذا تملك ؟ ماذا يوجد فيها زيادة عن أخرى غيرها ؟
ماذا ؟؟؟
_______________
يومان ...
لم يمر أكثر من يومان على الحادث المؤسف و الفظيع الذي تعرضت له.. كانت حالتها النفسية هذه المرة و حقًا في الحضيض
لم تأكل و لم تشرب إلا بضع قطراتٍ من الماء فقط لتظل حيّة... ما عزز شعورها بالحزن و الأسى أكثر هو عدم رؤيته إلى الآن.. لفد أفاقت و وجدت نفسها هنا.. في بيته.. في سريره مجددًا
لكنه هو ليس هنا... أجل هي مطمئنة.. لكنها خائفة بنفس الوفت.. فماذا لو أنه صار زاهدًا بها.. أتراه يحتقرها الآن ؟ لم يعد راغبًا بها.. الأمر لم يعد منوطًا بها.. بل به هو، فعندما يصل الوضع إلى هذه النقطة، نقطة الشرف و الكرامة تتبخر كل المعاني الأخرى و لم يعد سوى الجفاء و القسوة
و هي تشعر بهما جيدًا.. حولها إخوتها و طفلها... كانوا في وقتٍ خلا و حتى الآن كل شيء تريده من الدنيا.. لكنها اكتشفت أيضًا بأنها لا يمكن أن تحيا بدونه.. في الأصل ماذا كانت لتفعل بدونه... لم ينقذها مرة أو مرتين.. إنه ظهر بحياتها ليحميها و يصد عنها نوائب الحياة طالما تسير على قدميها و تتنفس.. تحبه... تأمنه على نفسها.. لا تستطيع تدبر حالها بدونه.. لا تستطيع المضي في الحياة بنفسها و أختها و طفلها بدونه.. و لا تستطيع العيش بدونه !
-يلا يا سمر ! .. كان هذا صوت "فريال"
كانت تجلس على طرف السرير مقابل كنَّتها التي إحتوت حفيدها بين ذراعيها، تحاول عبثًا إقناعها بتناول وجبة الفطور.. لم تستقبل و تقبل أصلًا
تضم "فريال" حاجبيها بشدة متمتمة :
-يا حبيبتي.. ماينفعش كده. صايمة عن الأكل يومين يا سمر.. كده يجرالك حاجة. و الله أقول لعثمان يتصرف معاكي. إن شالله يوديكي مستشفى بقى و يعلقولك محاليل. إنما بالشكل ده أنا مقدرش أشوفك كده كل يوم بتدبلي قدام عيني.. عشان على في بطنك على الأقل !
و لكن لا حياة من تنادي ...
لم تفتر له فاهٍ أبدًا.. لتزفر "فريال" بضيقٍ و تعيد الصحن إلى الصينية... في نفس اللحظة تسمعا الاثنتان صوت باب الغرفة يُفتح
و كأنها حدسها نبأها بالزائر، فخضع بصرها و لم تجرؤ على النظر للاستكشاف.. بينما تصيح "فريال" على الفور :
-كويس إنك جيت.. كويس إن جيت يا عثمان. تعالى شوف سمر. أنا مش قادرة عليها خالص !
تترقب "سمر" و تسمع صوت تحركاته تجاهها، و يرتجف بدنها عند سماع صوته القوي باللحظة التالية :
-سبيها براحتها يا فريال هانم. سيبيني كمان معاها شوية من فضلك.. و خدي يحيى معاكي
إنصاعت "فريال" لطلب إبنها، فلم تعترض "سمر" عندما أقبلت الأخيرة لتأخذ الصغير من بين ذراعيها.. دقيقة واحدة و كانت الغرفة خالية لهما، و الباب مغلقًا على كليهما
لا زالت مكرقة الرأس، شعرها يغطي وجهها من الجانبين، بينما يقترب "عثمان" ساحبًا في يده كرسي صغير.. وضعه بجوارها تمامًا و جلس قبالتها
كانت عربة الطعام أمامه أيضًا، فبلا ترددٍ مد يداه و أمسك بالصحن و الملعقة.. غرف و قرب يده من فمها مدمدمًا بصوته الهادئ اللطيف :
-ممكن تاكلي.. مش هاغصب عليكي. بس على الأقل وجبة واحدة في اليوم. من فضلك !
لم يسعها مع سماع طبقة صوته الحنونة و طلبه المترفق بها إلى هذا الحد إلا القبول بالنهاية.. ليكون هو الوحيد الذي حقق ارادته عليها و الوحيد الذي له سلطانٌ على مشاعرها و قلبها
ظلت تأكل من يده و كان صبورًا و حليمًا معها إلى أقصى حد.. حتى أنهت الطعام كله.. فسحب منديلًا ورقيًا و أخذ يربت على فمها و ينظفه منزبقايا الطعام و كأنها طفلة بالضبط ...
-بالهنا و الشفا ! .. تمتم "عثمان" بوداعة
لتجسر في هذه اللحظة و تتطلع إليه من بين خصيلات شعرها المتشابكة، تحبس أنفاسها حين يفاجئها هنا و يرفع كفه مزيحًا شعرها كله وراء أذنها قائلًا :
-شعرك بدأ يطول أوي.. أنا مابحبوش طويل !
أغرورقت عينيها بالدموع و هي تنظر له بذات الصمت الذي لم يتبدل منذ يومان... لم يقل محياه ذبولًا عنها و حول عيناه بان الأرق و الارهاق
إلا أنه الآن قد وجد القدرة على التبسم لها و القول بمرارةٍ بًيّنة :
-أنا آسف يا سمر ...
إختلجت أنفاسها و جمدت ملامحها على تعبير الصدمة و الذهول... هو الذي يطلب المعذرة منها و السماح ؟ لعلها مشوّشة كثيرًا بحق و لم تدرك جيدًا أبعاد الوضع برمته
في الجهة الأخرى يتابع "عثمان" و لا زال يمسح على رأسها بحنانٍ و يبث في الطمأنينة بنظراته اللامعة :
-أنا بجد آسف.. على كل حاجة. كل حاجة وحشة حصلتلك أنا كنت سبب فيها. إنتي شوفتي معايا حاجات كتير.. بس الوحش كان كان أكتر من الحلو. و أنا عارف إنك ماتستهليش إلا الحلو بس يا سمر.. أنا عذبتك. يمكن خدعتك في الأخر.. و كنتي هاتضيعي حقيقي بسببي. بس عارفة ؟ أنا مستعد أموت و لا إللي كان هايجرالك ده يحصل. و لو كان حصل أنا كنت ....
و صمت فجأة عاجزًا عن إكمالها.. أطبق جفونه بقوة، بينما تفيض الغبرات من مآقيها بشدة على إثر كلماته، تسمع يسحب نفسًا عميقًا و يزفره ببطء، ثم تراه يرفع رأسه من جديد و يحدق بها
ترقرق الدموع بعينيها لم يسمح لها برؤية وجهه بصورة جيدة، فإذا به يكفكف وجهها و عيونها بكفيه و هو يتقرب منها مسندًا جبينه فوق جبينها و يهمس :
-ماتعيطيش.. مش عاوز أشوف دموعك. إنتي كويسة مافيش حاجة حصلت.. أنا سيبتك اليومين دول عشان تهدي و أقدر أتكلم معاكي. عشان أضمن إنك هاتقبلي تشوفيني قصادك تاني.. سمر ...
أصدرت نحيبًا حادًا الآن، فضمها بسرعة إلى صدره و حاوطها بقوة بذراعيه و هو يتمتم لها فوق أذنها تمامًا :
-حقك عليا أنا.. أنا الغلطان. مهما حصل. ماكنش لازم أسيبك تمشي. إنتي ماينفعش تبعدي عني لحظة أصلًا.. حقك عليا يا حبيبتي !
و سمح لها بالبكاء لفترةٍ طويلة دون يفلتها ثانية واحدة ...
حتى هدأت نسبيًا، فأرخى ذراعيه قليلًا من حولها ليرتد بوجهه و يتمكن من النظر بوجهها المحمر إنفعالًا و صبوةً.. قوّس فمه للأسفل و هو يعدها من أعماق فؤاده المتيّم بغرامها :
-أوعدك. مافيش حاجة وحشة تاني هاتحصلك.. ماتخافيش يا سمر. طول ما أنا جمبك إوعي تخافي.. و هاجبلك حقك !
اضطربت قسماتها و قبضت أصابعها على تلابيبه بخوفٍ، فما لبث أن هدأها :
-قولتلك ماتخافيش.. أنا عمري ما هاسيبك تاني أبدًا. أبدًا ! ..................................................................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!