رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل السبعون بقلم مريم غريب
( 70 )
_ نظرة فإنتقام ! _
أخيرًا يكف صغيره عن البكاء تمامًا... لحظة أن وضعه بين أحضانه و ضمّه بحنانٍ لبضعة دقائق.. إستكان و ما لبث أن غفى فوق صدر أبيه لا يُلقى للدنيا همًّا
أطلق "عثمان" نهدة مطوّلة و هو يسند رأس طفله إلى وسادة صغيرة، ثم يبتعد قليلًا عنه حتى لا يزعجه.. يمدد جسمه بجواره و يغمض عيناه ناشدًا بعض الراحة بعد اليوم العصيب الذي مرّ به و المفاجآت التي لم يحسب لها حساب.. ظهور "نانسي" أمامه و الرجال الذين دفعت لهم ليحطموه.. ليدمروه عن آخره لولا هبوط ملاكًا من السماء يُدعى "صلاح"... لا يدري ما كان سيفعل من دون مساعدته
اليوم فقط تأكد "عثمان" بأن رصيده لم ينفذ كله عند الله.. و أنه سبحانه و تعالى رغم كل ما فعله يمده بالعنايات و يظلله برحمته أينما ذهب.. ماذا فعل ليستحق هذا أيضًا.. لا يدري !
انتفض "عثمان" بخفةٍ حين تناهى إلى سمعه صوت نقرة واحدة على باب غرفته.. إنفتح جفناه دفعة واحدة، في نفس اللحظة تدفع أمه الباب هاتفة بخفوتٍ :
-عثمان !
كانت لهجتها إستئذانية ...
و بالرغم من التعب و الارهاق اللذان يلمّان به كليًا، إلا أنه لم يبدي أيّ تذمر من زيارة أمه السريعة و نيتها بالالحاح عليه.. إرتفع بجزعه نصف قائمًا فوق الفراش
استند إلى مرفقه و هو يتطلع إلى "فريال" حيث كانت واقفة محلها عند عتبة الغرفة ...
-إتفضلي يا فريال هانم ! .. قالها "عثمان" بلهجة هادئة لطيفة
تقدمت "فريال" للداخل و قالت بحذرٍ و هي تغلق الباب خلفها :
-أنا صاحيتك يا حبيبي ؟!
هز "عثمان" رأسه للجانبين قائلًا :
-أنا لسا مانمتش.. ماكنتش هنام أصلًا. كنت مريح جمب يحيى بس ..
و تابع بسخرية مريرة :
-إستحالة واحد زيي يجيلو نوم من أساسه !
اختلج قلبها بلدى سماع نبرة اليأس و التخاذل بصوت إبنها... سارعت تجاهه مهرولة و هي تقول و عيناها تلتمعان بمسحة من الدموع :
-ليه يا حبيبي بس.. محمّل نفسك أعباء الدنيا كلها ليه يا عثمان. إرمي من فوق كتافك يابني ...
و جلست مقابله على طرف السرير.. مدت يدها و مسحت على شعره و وجهه متمتمة بصوتٍ مهزوز :
-أنا عارفة إنك بتستحمل و بتشيل المسؤلية كلها منغير ما تشتكي. عارفة إن أبوك رباك على كده و زرع فيك صفات كتير حلوة بغض النظر عن تصرفاتك طيشك لما كبرت و حسيت برجولتك.. بس محدش يقدر ينكر إن إبن كويس. و راجل شهم. و أخ طيب. و أب حنون.. لكن للأسف فضلت تكون زوج يا عثمان !
رمقها بدهشةٍ قائلًا :
-إنتي إللي بتقولي كده ؟ فشلت أكون زوج.. مش على أساس كنتي واخدة صفي يا ماما ؟!!
-واخدة صفك عشان إبني.. مهما عملت. عمري ما هاجي عليك. إنت حتة مني و من روحي. مقدرش أتخلّى عنك !
و صمتت حين خنقتها الغصة... إستغرق الأمر لحظاتٍ حتى تمكنت من الحديث مجددًا، لتستطرد بقوة أكبر :
-إنت غلط في حياتك كتير.. آه. لازم نعترف بده.. لكن لازم تبدأ نصلح أغلاطك.. إنت مش عايش في الدنيا لوحدك يا عثمان. و عيلتك كلها ليهم حق عليك. أولهم إبنك و سمر.. هما إللي باقيين لك. أنا لو كنت معاك دلوقتي. بكرة الله أعلم هكون فين. جمبك و لا جمب أبوك تحت الترا آ ...
-يا ماما أرجوووكي ! .. صاح "عثمان" بها منفعلًا و هو يرفع كفه مكممًا فمها
إرتعد الصغير "يحيى" إثر سماع صوت والده.. لكنه ما لبث أن غط بالنوم ثانيةً
بينما يتقرب "عثمانى من أمه، و بدون مقدمات يُلقي برأسه فوق كتفها مغمغمًا بضيقٍ شديد :
-أنا مش ناقص يا أمي.. و الله ما ناقص و لا ممكن أتحمل كلامك ده. أنا لأول مرة في حياتي عاجز.. بحاول أبعد عني الاحساس ده. ف ماتجيش دلوقتي تثبتيه جوايا يا فريال هانم.. أرجوكي !
قطبت "فريال" بوهنٍ مع كل كلمة ينطقها.. و لم يسعها بعد ذلك إلا إن رفعت كفها و تحسست ضماد رأسه قائلة بصوتٍ أقرب إلى الهمس :
-إيه إللي حصلك يا عثمان ؟ عملت إيه تاني.. أذيت مين عشان يئذيك بالشكل ده ؟!
يرتد "عثمان" للخلف ببطءٍ، ينظر لها دون الاجابة على تساؤلاتها.. لتعرض "فريال" عن الأسئلة كلها و تقول بجديةٍ :
-لازم ترجع سمر.. مهما حصل بينكوا. لازم ترجعوا. مش عشانكوا.. عشان يحيى يا عثمان. يحيى أهم حاجة في حياة كل واحد فيكوا. أنا كنت فاكرة إني كفاية عليه. و إني أنا إللي ربيته و لو أختار ف هايختارني أنا.. لكن طلعت غلطانة. سمر أمه. و أنا مش ممكن مهما عملت أقدر أخد مكانها. لأنه هايفضل محتاجلها هي طول عمره.. محدش هايقدر يملا مكانها أبدًا. سمر بالنسبة ليحيى زيي كده بالنسبة لك بالظبط.. فين سمر يا عثمان ؟
عبس وجه "عثمان" و هو يستمع جيدًا إلى كلمات أمه، حتى ألقت عليه بسؤالها ذاك... تنفس بعمق و رد غليها بثقة :
-هاتيجي يا ماما.. هاتيجي أنا عارف. ماتقلقيش !
______________
ألهتها مفاجأة ظهوره أمامها في وضح النهار هكذا ذلك الشخص بالذات.. لكنها سرعان ما أدركت وضعهما و شدت معصمها من بين قبضته بقوةٍ
تراجعت خطوتين للوراء و هي تهتف بعدائية تلقائيًا :
-ح١رتك بتعمل إيه هنا يا أستاذ نبيل ؟ معقول جاي لحد هنا و في الوقت ده صدفة ؟!!
ابتسم "نبيل" لها و قال بوداعة :
-إنتي ذكية جدًا يا سمر.. عندك فراسة قوية. رغم إنه مايبنش عليكي و لا على تصرفاتك. بس محدش يقدر ينكر ذكائك !
و ضحك.. بينما تستعر "سمر" غيظًا و غضبًا ...
-حضرتك هاتقول عاوز مني إيه و إلا هامشي من قصادك فورًا ! .. قالتها "سمر" بعصبيةٍ بَيّنة
يهدئها "نبيل" على الفور و هو يقول بلطفٍ :
-طيب بالراحة بس.. إنتي زعلتي من كلامي ؟ أنا بهزر معاكي طبعًا. أكيد مش قصدي أقول عنك كلمة وحشة. إنتي مش عارفة أنا بحترمك و بحبـ.. بعزك أد إيه يا سمر !
تصاعدت الدماء إلى وجهها بلحظة لدرجة أنه توتر قليلًا و سارع بالقول :
-طيب أنا هادخل في الموضوع علطول لأن شكلك قافلة مني جامد ماعرفش ليه ؟!
سمر بانفعالٍ : ياريت تقصر يا أستاذ نبيل لو سمحت أنا ماعنديش صبر.. عثمان إللي بعتك ورايا صح ؟
-عثمان ! .. علّق "نبيل" و ملامحه تنكق بالسخرية
قهقه بمرحٍ أجفلها، و أكمل :
-عثمان مين إللي يبعتني وراكي ؟ هو إنتي فكراه بيحبك بجد ؟ سمر.. Trust me. أي كلمة حب أو وعد سمعتيها من البني آدم ده. تأكدي إنها كدبة. و كدبة كبيرة كمان.. عثمان البحيري مايعرفش يحب و لا يوفي بوعوده. ده واحد مخرَّب ماينفعش حد يأمنه على نفسه !
عقدت "سمر" حاجبيها مستغربة كم الأحقاد الجليّة بحديث الأخير و نظراته و هو يتكلم عن والد إبنها... لم تعد تشعر بالراحة من تواجدها معه و لم تعد تفهم شيء و ما سبب وجوده هنا معها
توجست منه فإبتعدت خطوة أخرى للوراء و هي تقول بجمودٍ :
-تمام.. أنا أستأذنك بقى. ماعنديش وقت أكتر أضيعه مع حضرتك. سلام !
-إستني بس !!
استوقفها في الحال و هو يقطع المسافة بينهما ببضعة خطواتٍ، توقف فجأة عندما لاحظ الذعر بمحياها ..
رفع كفيه بحركة مسالمة و هو يقول :
-مدام سمر.. صدقيني. أنا جاي عشان أساعدك
سمر بنفاذ صبر :
-تساعدني إزاي يعني مش فاهمة !!!
نبيل مبتسمًا بخبثٍ :
-إبنك ! يحيى.. معقول ماوحشكيش. مش نفسك يبقى معاكي و ماببعدش عنك لحظة ؟!
تبددت مشاعر "سمر" السلبية كلها عند إتيانه على ذكر صغيرها ...
نسيت كل شيء و قالت بلهفةٍ :
-قصدك إيه ؟ ممكن تساعدني إزاي في الموضوع ده ؟؟!!
سحب "نبيل" نفسًا عميقًا و رد عليها بفتورٍ :
-أنا أقدر أعمل حاجات كتير عشان خاطرك.. لو عاوزة إبنك يبات في حضنك الليلة. هايحصل
سمر بذهولٍ : إزاي ؟ عثمان إستحالة يسبهولي.. ده عمره ما سابه معايا في أي مكان برا القصر
نبيل بثقة : أنا ممكن أخرجه من القصر و أجبهولك يا سمر
ضمت حاجبيها بشدة قائلة :
-إزاي بردو ؟ إزاي تقدر تعملها ؟ في وجود أبوه و جدته و المربية بتاعته و الحراسة.. إزاي تقدر تاخد إبني من وسط كل دول !!!
نبيل بنصف ابتسامة :
-قولتلك يا سمر.. أنا أقدر أعمل أي حاجة أنا عاوزها.. و كلمتي ليكي واحدة. لو مش مصدقة جربي بنفسك
حدقت فيه "سمر" بارتيابٍ الآن ...
كلامه لم يبث فيها إلا الهلع و الرعب، مجرد تخيل بأن شخصًا غريبًا قد يقدر على أخذ صغيرها من وسط منزله الحصين بهذه البساطة التي يتغنَّى بها ذاك الرجل
تفاقم رعبها بشدة فلم تستطع إلا أن تقول فورًا :
-دلوقتي.. دلوقتي حالًا. عاوزة إبني معايا دلوقتي ! .......................................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!