رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل السابع والستون بقلم مريم غريب
( 67 )
_ متيّم عشقًا ! _
لا يمكن أبدًا أن تنسج خيوط الشك حول أقوال الحكماء.. خاصةً عندما يتحدثون عن الآلام و المعاناة... قد تكون لهم أسبابهم !
و رغم كل شيء فإن الفيلسوف و الطبيب النفسي الشهير "تشيخوف" لم يخطئ أبدًا حين قال... "يشعر الأشخاص الذين جمعتهم المأساة المشتركة بنوعٍ من الارتياح عندما يجتمعون معًا".. و الدليل على ذلك الكيمياء القوية التي تفاقمت بين كلًا من "يارا" و "سمر"
لم تلبثا برفقة بعضهما بضع ساعاتٍ، لكنهما بدتا و كأنهما صديقتان منذ القِدم ...
-إنتي لسا بتحبيه ؟
كان هذا هو السؤال المباشر و الوحيد الذي طرحته "يارا" على "سمر" بعد أن جلست و إستمعت لحكاياتها و رواياتها الدرامية المأسوية قرابة الساعتين دون أدنى مبالغة ...
كانت "سمر" قد أوشكت على إستنفاذ علبة المناديل الورقية التي وضعتها بحجرها.. عندما سحبت محرمًا جديدًا لتمسح عبراتٍ أخرى إنسكبت فوق خديها.. جمدت يدها فجأة و هي تدير رأسها لتنظر إلى "يارا" بصمتٍ
و لكن صمتها لم يدوم طويلًا... تنحنحت لتنظف حنجرتها.. ثم قالت بصراحة كما وعدتها في بادئ الحديث :
-أيوة.. مع الأسف. مش قادرة أخرجه من قلبي.. بحبه. أيوة بحبه !!!
و إنخرطت في موجة جديدة من النحيب المكتوم ...
تجاهلت "يارا" بؤسها المثير للشفقة حاليًا، و أشاحت بوجهها للأمام قائلة بتنهيدة مطوّلة :
-طيب بصي يا حبيبتي.. هو طبعًا مافيش شك إن جوزك غلط. و مش غلطة واحدة بس.. لأ. تقريبًا من ساعة ما عرفك و هو مش بيبطل يغلط في حقك.. بس من حكاويكي عليه.. ممكن أقدر أقول إنه بيبدلك نفس الشعور. بيحبك يعني. لأن صدقيني أي إتنين في ظروفكو دي اتعرفو على بعض كده و اتجوزو عرفي علطول منغير تعارف حتى. إستحالة ينجح بينهم أي مشروع و خاصةً لو كانت علاقة جواز أو حب. يعني كانت الجوازة العرفي دي اهدافها محددة. انتي ليكي مصلحة عنده و هو بيدور على متعة و وسيلة إلهاء مؤقتة تنسيه جرح رجولته اللي إتسببت فيه مراته السابقة. محدش فيكو كان عامل حساب إنه يقع في غرام التاني.. بس في النهاية حصل. و ناتنسيش بردو إن كان فيكي كل الأسباب إللي تهليه يحبك. أولهم إنك ماكنتيش شبه البنات اللي عرفهم. طاهرة و هو أكيد اكتشف ده. و محترمة و طيبة و كنتي مجبرة على جوازك غير الشرعي منه لانه هو نفسه اجبرك و ضغط عليكي باختك !
لم تكف "سمر" عن رمقها بتلك الطريقة البلهاء، حتى فرغت.. تكوّن السؤال تلقائيًا على لسانها :
-بس.. هو ماحبنيش علطول. أنا أصلًا ساعات بشك إنه بيحبني زي ما بيقول !!
يارا بثقة : بيحبك.. بيحبك يا سمر. مافيش راجل شرقي يقبل يرقَّي علاقة طياري في حياته لعلاقة رسمية إلا إذا كان بيحب
ابتسمت "سمر" بسخرية و قالت :
-قولي كلام غير ده طيب عشان أصدق وجهة نظرك. ده أتجوز واحدة كانت مع عمه.. فاهمة يعني إيه كانت مع عمه
رفرفت "يارا" باهدابها بتكاسلٍ و هي تقول بجلدٍ و صبر :
-سمر يا حبيبتي.. إوعي تستهوني بمشاعر البشر. أي إحساس و لو بالنسبة لك كان تافه. طالما ماجربتيش تعشيه زي غيرك إوعي تحكمي عليه أبدًا
-مش فاهمة ! .. تمتمت "سمر" بغرابةٍ
-قصدك إيه ؟!
أوضحت "يارا" أكثر :
-قصدي إن لكل إنسان فينا هفوة.. غلطة كبيرة يا بيرتكبها بنفسه أو بتحصله نتيجة أفعال ناس تانية تخصه أو بعاد عنه.. الغلطة دي بيفضل الواحد متعذب بيها و بيعذب نفسه و يجلدها طول ما هو عايش على وش الدنيا. سلسلة من الوجع و تأنيب ضمير و معاناة حقيقية.. و جوزك كاتت غلطته هي علاقته الفاشلة بمراته الأولى و قصة إنتقامه الغلط منها. هو افتكر إنه بيرد كرامته. غروره سيطر عليه و خصوصًا إن كل حاجة في حياته بتساعده يحس أكتر بغروره. مستواه و اسم عيلته و شخصيته نفسها. انتقم بكل قوته و جبروته.. بس حس بحجم الخطأ بعدين. بعدين دي لما ظهرت أخت طليقته في حياته و شاف إللي وصلت له بسببه. هنا بس اكتشف جريمته و ضميره صحي. هو من وجهة نظره جوازه منها بهدف إصلاحها زي ما قالك كان حل. افتكر انه بكده هايكفر عن ذنبه و يرتاح لو قدر يرجع البنت زي ما كانت.. آه جوازه منها ماكنش صح. بس ده إللي عقله هداه يعمله. ماتعرفيش يا سمر ملابسات القصة كلها إيه. و زي ما قولتلك. ماتقدريش تحكمي على حاجة ماعشتيش فيها
حدقت "سمر" فيها ملء عيناها و قد جفّت دموعها تمامًا، كان تركيزها منصبًا على الكلمات التي مرت عبر أذنيها.. تفكر فيها جيدًا ...
إلى أن نطقت في الأخير بحيرة و عجز بيَّن :
-يعني أنا أعمل إيه.. بعد ده كله بردو. أتصرف إزاي !!!!
مالت "يارا" صوبها قليلًا و هي تقول بجدية :
-طالما وصلتي للنقطة دي.. يبقى لازم إنتي إللي تقرري هاتعملي إيه يا سمر. مافيش رجوع عن خطوة واحدة.. و قراراتك الجاية لازم تكون مدروسة. لو فضلتي عشوائية كده هاتعيشي عمرك كله بنفس الاسلوب و هاتكوني زي ما انتي.. و لا كأنك حققتي أي حاجة !
صدقت "سمر" ما تقوله لها "يارا"... لم تحيد بناظريها عن عينيها القويتين و هي تقرّ و تقول بعقلها بأن هذا ما يتوحب عليها فعله حقًا
يتحتم أن يصدر عنها القرار النهائي في هذه المسألة.. مسألة واحدة.. تتوقف أمامها حياة بأكملها ....
°°°°°°°°°°°°°°°°°
آفة وحيدة للتراث البديع المطل على بقية وحدات القرية الساحلية الساحرة... و هي أن بامكان الجيران مشاهدة بعضهم بعض عبر النوافذ و الحدائق المجاورة
و هذا بالضبط ما سعى إليه ذو الأعين المتلصصة و ما أسعده بشدة، حين أختار موقعًا استراتيجيًا كي ما يتمكن من مراقبتها كما يفعل الآن، و هو يقف بنافذة غرفته المقابلة !
و من غيره ؟
من الذي ألقى بالقنبلة و من ثم اختفى من الوسط، ليعود بعد مدة قصيرة.. بعد خروجها من القصر بأختها الصغيرة فقط ...
صحيح أنه أمر جاسوسه بأن يتركها و شأنها و يكف عن إتباعها أينما ذهبت، لكنه عوض ذلك حل بمكانه.. فأصبح هو من يتبعها، إذ كان ينتظرها خارج أسوار القصر متخفيًا، و ما إن خرجت حتى ذهب في إثرها مباشرةً
كان خلفها بكل خطوها تخطوها.. من متجر المجوهرات، مرورًا بمكتب العمالة المنزلية، وصولًا إلى هنا... ترك كل شيء ليكون فوق رأسها هنا
لكن و ماذا بعد ؟
ما هي خطوته التالية... ما هي !!!!
______________
كم كره "فادي" رؤيته.. و كم واتته رغبة مُلحة في الانقضاض عليه و هو يرقد هكذا لا حول له و لا قوة و إبراحه ضربًا... لكنه سيطر على نفسه بصعوبة
أغمض عينيه و هو يسحب نفسًا عميقًا، ثم فتحهما ثانيةً.. حنى جزعه قليلًا ليطل فوق رأسه المدفوس بالوسادة، إتخذ وجهه تعابير الازدراء خاصةً عندما تسللت إلى أنفه رائحة الكحول الفائحة من ثياب ذاك الجبار النائم ...
-أستغفر الله العظيم ! .. تمتم "فادي" بضيقٍ و هو يرفع يده السليمة و يبدأ بدفع كتف الأخير هاتفًا بنزقٍ :
-قوووم.. إنت يا باشا. إنت.. إصحى و فوقلي كده.. قوووووم !
يتأثر "عثمان" بمحاولات "فادي" لايقاظه شيئًا فشيء، و لكنه يفاجئ شقيق زوجته بتصرفاته اللاوعية.. إذ جحظت عينا "فادي" حين إمتد ساعد صهره ليجتذبه من تلابيبه فيختل توازنه و يسقط فوقه، بينما يغمغم "عثمان" بلهجة معذبة :
-سمر.. يا حبيبتي. أنا كنت عارف إنك هاتيجي.. أنا آسف. وحشتيني أوي يا سمر ...
يحمرّ وجه "فادي" و هو يحاول إبعاده عنه و النهوض صائحًا بانفعال :
-ســمر إيـــه.. شــــيل إيدك دي. إنت ياباااااا. إوووووعى كدة الله يخربــيتـك !!!!
و في غمرة تحركاته العنيفة، تحررت يده السليمة، ليرفع كفه و بدون تفكيرٍ يهوى على وجه زوج شقيقته بصفعةٍ شديدة... لم تؤذيه.. أو بمعنى أصح لم تؤلمه كثيرًا.. لكنها أوقظته في الحال ...
-آععععععع إيـــه ددددددده !!!! .. هكذا عبّر "عثمان" عن صدمته و قرفه عندما أفاق قليلًا و اكتشف الوضع الذي جمعه بشقيق زوجته
لم ينتظر لحظة أخرى.. نطحه بساقه بجماع نفسه على الفور.. لينقلب "فادي" على ظهره فوق الأرض بقوة آلمته ...
-آاااااه يا ××× ! .. أطلق "فادي" هذا السباب متأوهًا
بينما يقوم "عثمان" من الفراش ببطءٍ و هو يكافح ليستعيد وعيه كاملًا ...
-أنا فين ؟!! .. غمغم "عثمان" و هو يتطلع حوله بذهولٍ لبعض الوقت
يتحامل "فادي" على نفسه و ينهض من فوق الأرض، يرد عليه و هو يرمقه ينظرات نضّاحة بالغضب :
-طبعًا.. طول ما النجاسة بتجري في دمك مش هاتفهم و لا تعرف أي حاجة. إنت في بيتي يافندي.. فين إخواااااتي إنطق ؟؟؟؟
راح "عثمان" يترنح أمامه و هو يقول بلسانٍ ثقيل متهكمًا :
-إخواتك ! دلوقتي افتكرت إن ليك إخوات.. بعد ما هربت و سيبتهم. فادي. إنت أو××× واحد شوفته في حياتي. إنت ماينفعش تكون أخ أصلًا ..
إحتقن وجه "فادي" بالدماء و هو ينظر إليه بعد أن أطلق بوجهه هذه الأقوال التي ما كان لينطقها إن كان بوعيه.. و لكن الخمر أنطقته ...
مع هذا لم يمررها "فادي" له... شد على نواجذه و هو يقترب منه خطوة على سبيل التهديد و يصيح :
-إنت بتقول إيه.. إنت سامع نفسك أصلًا... مين فينا إللي و××× ؟ و رحمة أمي لولا بتحبك و لولا إني خال إبنك لكنت دفنتك حي من زمان. أنا ماسك نفسي عليك بالعافية أصلًا
واصل "عثمان" الاستخفاف به و الانتقاص منه قائلًا و هو لا يزال يترنّح :
-إتلهي على خيبتك.. إنت مفكر نفسك راجل ياض ؟ واحد زيك مالوش أي لازمة في الحياة. عديم المسؤولية. إنت عايش عااااالة. عالة على أختك و عليا. إنت عملت إيه في حياتك ؟ قدمت إيه لاخواتك ؟ و لا أي حاجة.. أنا لو مكانك أدفن نفسي و لا أروح في أي داهية. لسا بتبجح و تجز على سنانك يالا !
و أشاح بكفه في دلالة إضافية على قلة إكتراثه به، ثم إلتفت ليلتقط سترته من فوق الفراش.. ألقاها على كتفه و مر من جانب "فادي" المصدوم من كلماته بخطوات غير متزنة
شق طريقه خروجًا من المنزل بأكلمه، ذهب حيث ركن سيارته ليلة أمس بشارع خلفي.. فتش بجيوبه حتى وجد سلسلة مفاتيحه... فتح السيارة.. جلب أولًا زجاجة مياه من داخلها.. فتح و مال للأمام ليفرغها كلها فوق رأسه علّه يصحو أكثر
نجحت محاولته نسبيًا، فألقى بالزجاجة بعيدًا، ثم إستقل سيارته و إنطلق ...
______________
في القاهرة... بمنزل "صالح البحيري"
تترك "صفية" هاتفها بعد أن أنهت المكالمة مع والدتها ...
إلتفتت نحو "صالح" الذي بدوره يحاول إجراء الاتصال بابن عمه لمراتٍ لا يحصيها العدد، لكنه مجددًا لا يجيب !
-عملت إيه يا صالح ؟!! .. تساءلت "صفية" بقلقٍ متزايد
أجاب "صالح" عليها و هو يواصل محاولاته :
-وراه.. لسا وراه يا صافي. مش عارف أخوكي ده هايفضل مدوخنا لحد إمتى.. مافيش أي حاجة نافعة معاه. لا حلوة و لا حشة
تأففت "صفية" بضيقٍ قائلة :
-مش وقته الكلام ده.. مامي قلقانة عليه جدًا. بتقول صحيت مالقتهوش و لما سألت الأمن قالوا نزل بليل متأخر و مارجعش. و كلنا بنتصل بيه أهو و مابيردش.. أكيد في حاجة
تطلع "صالح" إليه منبهًا :
-إوعي تقولي الكلام ده لفريال هانم. و بعدين إنتي بتظني السوء ليه.. إستني بس شوية و هو هايظهر لوحده. تلاقيه غطسان في حتة. ما خلاص طلق مراته و رجع عثمان القديم تاني
-لأ.. لأ بردو نطمن. بليز.. بليززز يا صالح إتصرف اعمل أي حاجة ..
يتنهد "صالح" بنفاذ صبر... لكن تضيئ بذهنه فكرة، فيقول من فوره :
-طيب أنا ممكن أكلم مراد.. جايز راحله أو حتى كلمه !
______________
ربما لو أخبره أحدًا بأنه سوف ينتكس بيومًا ما بعد أن اهتدى على يديها.. ما كان ليصدق... لكن كيف يفعل و هو الآن يعيش نفس اللحظات الخبيثة الماجنة من جديد !!
و في هذه الساعة المبكرة من النهار.. ها هو يجلس بالبار العتيق و الشهير... لكنه يحتسي قهوته أولًا.. لم تكن لديه نية بمعاقرة الشراب الآن.. فهو بحاجة لعقله صاحيًا لبعض الوقت... يريد أن يفكر ...
زفر "عثمان" بحنقٍ حين شعر بهاتفه يهتز بجيب سترته مرةً أخرى.. أضطر أخيرًا لاستخراجه... كان واثقًا من أنه "صالح" الذي لا يزيح اصبعه عن زر الاتصال طرفة عين تقريبًا
رد على المكالمة بعصبية كبيرة :
-أفندم يا صالح بيه. أفندم عاوز مني إيه و إيه كل الزن ده ؟؟؟؟
-السلام عليكم يا عثمان !
جمده الصوت في الحال.. الصوت الذي لا ينتسى بسهولة.. لا يعتقد أساسًا أن بإمكانه نسيانه على الاطلاق ...
-دكتور أدهم ! .. ردد "عثمان" إسمه بخجلٍ مفاجئ أدهشه
كأنه خشى لو علم الأخير بما هو فيه و ما يفعله ...
يرد "أدهم" بصوته الهادئ الحازم :
-أيوة با أستاذ أنا.. إيه فينك كده. و ليه سايبنا كلنا قلقانين عليك ؟!
إزدرد "عثمان" ريقه بتوترٍ و قال :
-آ أنا.. أنا بس عندي مشكلة كده.... معلش يا دكتور. مش عارف أكلمك أو أرتب كلامي. لسا صاحي من النوم !
صمت قصير... ثم قال "أدهم" بصرامةٍ :
-طيب يا عثمان.. ممكن تجيلي ؟ أنا عاوزك عندي شوية !
تفاجأ "عثمان" من طلبه.. و قال بعدم فهم :
-أجي فين يا دكتور ؟
-عندي هنا. في بيتي. في القاهرة.. يلا تعالى أنا مستنيك. و مراد كمان قاعد معايا أهو
-هي سمر عندك ؟؟؟ .. نطق "عثمان" متسائلًا بتلهفٍ
لم يعطيه "أدهم" جوابًا شافيًا و قال :
-تعالى بس.. تعالى و هانتكلم الأول و نشوف حل لمشكلتك. يلا مستنيينك !
-أنا جاي حالًا. سلام !
و أغلق معه ...
رمى بحفنة من المال إلى ساقي البار، ثم قام و إتجه مهرولًا إلى الخارج.. قفز بسيارته و شغل المحرك، ثم إنطلق بسرعة متجهًا إلى طريق الاسكندرية / القاهرة الصحراوي
قدح القهوة ذاك الذي شربه ساعده كثيرًا بتركيزه على القيادة، كان يقود بأقصى سرعته و هو لا يرى أي شيء أمامه سوى صورة زوجته.. كيف غفل عن ذلك الاحتمال ؟ كيف لم يفكر بأنها يمكن أن تقصد بيت الدكتور "أدهم" ؟
ألم تكن زوجته داعمة لها بوقتٍ ما ؟ بل و تعصّيها عليه أيضًا... كل هذا لا يهمه الآن.. إنه يريدها فقط... يريد أن يمسك بها مجددًا... لا يريدها أن تغيب عن عينيه مرةً أخرى.. أبدًا ....
أنتزع بوق سيارات مزعج "عثمان" من أوج تركيزه.. ليلقي نظرة بمرآة السيارة... فإذا به يرى سيارتين من فئة اللاند روفر تجيئ من خلفه و تشكل حوله هلالًا.. ما لبث أن تحوّل إلى طوق
فأضطر لإيقاف سيارته ...
تسربت الريبة بداخله و هو يتلفت حوله مستكشفًا الأمر، كانت هناك عصا حديدية دائمًا ما يضعها للطوارئ بدوّاسة السيارة.. ألقى نظرة عليها يطمئن لوجودها بالقرب
تنفس بعمق، ثم فتح الباب و نزل ...
و الآن فعليًا.. هو يواجه مجموعة من الحوائط البشرية، ذلك ما أكد شعوره بالريبة.. لم يتضح و يتحلّى كليًا، إلا حين رآها تترجل من إحدى السيارتين
في البادئ حجبت النظارة الشمسية الكبيرة وجهها... لكنها سرعان ما انتزعتها و هي تطلق الأمر بإشارة من يدها.. لم تعطيه فرصة لينتبه حتى
وصل إليه بلمح البصر إثنان من الرجال، رغم قوتهما التي تضاهي قوته و تتفوق عليه.. لم ينفك يشد أطرافه بعصبية كبيرة من بين القبضات العنيفة التي أمسكت به بإحكامٍ.. و في نفس الوقت لم يستطع بأن يحيد ناظريه عنها طرفة عين
إذ كانت قد مثلت أمامه مباشرةً الآن، مسافة قدمين تفصله عنها.. لكنها كانت كافية جدًا لوصول صوتها الناعم الرنّان إلى أذنيه و هي تقول و قد لمع بعينيها بريق الانتقام :
-وحشتني أوي يا عثمان. ماهنش عليا أسافر قبل ما أودعك.. يا ترى لسا فاكر وعدي ليك ؟
-نانسي ! .. تمتم من بين أسنانه المطبقة بشدة
لتفلت من بين شفاهها ضحكة قصيرة، ثم تستطرد بحبورٍ مريض :
-أيوة طبعًا.. نانسي يا حياتي. نانسي إللي قبل ما ترميها في مصحة نفسية أقسمت إنها هاترجع و هاتكون نهايتك.. أنا هانهيك يا عثمان !!!
لم يبدي "عثمان" أي خوف من تهديدها الصريح و قال مظهرًا خيبة أمل حقيقية :
-معقول.. بعد كل إللي عملته عشانك. لسا جاية و عايزة تنتقمي مني ؟ ده جزائي بعد ده كله يا نانسي ؟ معقول لسا فاكرة إني آذيتك !!!
-تؤ.. مآذتنيش طبعًا. إنت دمرتني.. دمرت حياتي كلها. و دلوقتي معاد حسابك !
و إستحالت نظراتها الرقيقة إلى أخرى وحشية لا تبقي و لا تذر ...
-نـانســـــي !
آتى ذلك النداء من الخلف، من حيث جاءت هي.. تطلع "عثمان" بنفس اللحظة التي إلتفتت فيها "نانسي" لينظرا معًا إلى صاحبة الصوت
و قد كانت صديقتها المقربة، أشارت لها نحو ساعة يدها الثمينة هاتفة :
-معاد الطيارة يا ناني ..
أومأت لها "نانسي" مرة واحدة، ثم عاودت النظر إلى "عثمان" مستطردة بابتسامة شر كبيرة :
-عارف.. مافيش أي متعة في الدنيا تساوي متعتي و أنا بشوفك بتتبهدل و تتسحل حرفيًا. بس للأسف. معاد طيارتي كمان ساعة بالظبط.. مضطرة أسيبك. بس هاسيبك و أنا عارفة إني مش هاشوفك واقف قدامي كده لما أقابلك تاني ...
و اقتربت منه كثيرًا، اسندت كفها على صدره، ثم شبت على أطراف اصابعها قليلًا لتطبع قبلة حارة فوق شفاهه... مرت برهة قصيرة و ارتدت للخلف بضع خطوات و هي تقول بغمزة :
-باي يا عثمان !
و أخذت تتراجع بظهرها حتى وصلت إلى سيارتها، و لم يعد أيًّا منهما يرى الآخر.. إذ رحلت و لم تنظر ورائها مجددًا ...
__________
بعد أن أنهى تبديل إطار سيارته على الطريق، صار باستطاعته الرد على اتصالات زوجته المستمرة ...
عاد إلى أجواء التكييف الباردة داخل السيارة، استعاد نشاطه من جديد و هو يرد عليها بلهجته المتيّنة عشقًا بها :
-إيه يا حبيبي.. و الله لسا طالع. بس العجلة عملتها معايا.. لأ.. لأ مقدرش طبعًا.. جاي بسرعة أهو.. صلاح عمره ما يقول لقلبه لأ !
و ضحك قليلًا، قم ودعها قائلًا :
-أنا كمان بعشقك يا قلبي.. حاضر.. لا إله إلا الله
أغلق المدعو "صلاح" الخط و تابع قيادته مدندنًا مع المذياع غنوة صيفية متدوالة هذه الأيام... لكن فجأة يسترعي إنتباهه من بعيد عراكٍ !
كلما اقترب يرى بوضوح على جانب الطريق، بنقطة شبه لا مرئية للمارة.. بضعة رجال يهاجمون رجلٌ بمفرده
لا يعلم كيف جعله الله يشاهد هذا... لكنه لم يتردد لحظة.. أوقف سيارته فورًا و سحب مِديته من الدرج الصغير.. ثم ترجل متجهًا ناحيتهم ! ............................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!