رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل الخامس والستون بقلم مريم غريب
( 65 )
_ كانت هنا ! _
كان يجلس بقاعة الانتظار الملآى بالمسافريين على أهبة الاستعداد، التوتر يتلاعب باعصابه، الضيق يجثم فوق كاهله... إنتباهه كله مُركزًا مع مكبرات الصوت و الشخص الذي يدلي بقائمة ترتيب الرحلات
قدمه اليسرى لم تتوقف عن الاهتزاز لحظة في حركاتٍ تنم عن عصبيته الدفينة، كذلك "هالة" التي جلست إلى جواره تراقبه ثانيةً بثانية.. واظبت على تهدئته بأن أخذت تربت على كتفه بلطفٍ بين الفينة و الأخرى.. لكنه بدا غير شاعرًا أو آبهًا بها ...
حتى علا نداء الرحلة المتجهة إلى "القاهرة".. هب "فادي" قائمًا و هو يهتف باقتضابٍ مخاطبًا زوجته... أو طليقته :
-يلا !
نهضت "هالة" بدورها مسندة أسفل بطنها بكفها و مصدرة آهة مكتومة.. تبعت "فادي" مهرولة إلى أن وصلا عند بوابة الطائرة، سلما بطاقات السفر و دخلا على الفور ...
إستقرا كلاهما بالمقاعد الخاصة بهما.. كانت "هالة" تحل بجوار النافذة... لم تكد تلتقط أنفاسها إثر الركض وراءه و المجهود البسيط الذي بذلته، حتى باشرها "فادي" بسؤاله الخشن :
-إنتي كنتي عارفة كل إللي حصل ده من الأول ؟ أول ما جيتي هنا كنتي عارفة المشاكل إللي بينهم و ماقولتليش !!!
لم يكن ينظر إليها مباشرةً، إنما أدار وجهه قليلًا و رظقها بجانب عينه ...
تنهدت "هالة" بثقلٍ قبل أن تقول بتلعثمٍ خفيف :
-أنا طبعًا كنت هاقولك. كنت ناوية أقولك حاجات كتير و أتكلم معاك.. بس آ ا ...
-بس إيه ؟؟؟ .. قاطعها بحدة شديدة
ثم استدار كليًا ناحيتها و أردف بغضبٍ :
-إزاي تبقي عارفة إن أختي في المشاكل دي كلها. أن جوزها عمل فيها كل ده. إنه إتجوز عليها و مسوّد عيشتها.. و ماتقوليليش ؟؟!!!
-ده على أساس إنك إدتني فرصة لأي حاجة !!!!
إنطلق ذلك الصياح من فم "هالة" بعد إنقطاع صوته تمامًا، لم يتغيّر تعبير وجهه قيد شعرة.. بينما تستطرد و قد تملكها الغضب هي الأخرى :
-من ساعة ما جتلك و إنت حاطط حدود بيني و بينك. كل ما أحاول أقرب منك تصدني و مفهمني من الأول إنك مش عايزني و مقعدني جمبك بس عشان إللي في بطني. إستحملتك و قلت حقه يزعل و يطلع إللي جواه مني. قلت شوية و يهدا و يرجع فادي إللي أعرفه. إستحملت و لحد إنهاردة كنت مستحملة. لكن خلااااص. فاض بيا. كل حاجة هاتحملني مسؤوليتها حتى أختك و مشاكلها.. لحد هنا و Stop بجد.. أنا كتر خيري أساسًا لحد كده. لما نرجع إبقى شوف إنت هاتعمل إيه و خلينا نخلص بجد من موضوعنا ده عشان أنا تعبت. تعــبـت !
لم تنتبه "هالة" حتى رأته يتلفت حوله، ألقت نظرة سريعة حيث ينظر.. لتجد بأن جميع الركاب نظراتهم مصوّبة ناحيتهما ...
أجفلت باضطرابٍ طفيف، لكن لم تتراجع عن كلمة واحدة مِمّ قالت.. و أشاحت بوجهها للجهة الأخرى و بقيت تحدق فقط في اللاشيء عبر النافذة البيضاوية
و بعد قليل أقلعت الطائرة، و لم يحاول أيّ منهما تبادل حرفًا آخر.. و بيّد أن الأمور ستبقى هكذا حتى يصلا إلى أراضي الوطن ...
______________
لم يكن ليتخيّل بيومٍ من الأيام بأنه سوف يأتي الوقت الذي يحتاج فيه إلى تلك النسخة الاحتياطية من مفتاح منزلها !
و لكن.. ها هو ذلك الوقت قد أتى... و ها هو "عثمان البحيري" ينسل خلسةً في الليل من قصره المنيف، و يذهب بقدميه إلى بيت زوجته المتواضع
يفتح باب الشقة ببطءٍ، ثم يلج و يغلقه بهدوءٍ كي لا يحدث أيّ جلبة... يشعل الضوء بالمدخل و يقف متأملًا لهنيهة حال المكان و الفوضى التي تعمه.. منذ رحيل شقيق زوجته و البيت لا يزال متضررًا هكذا.. حيث قطع الأثاث المحطمة مبعثرةً في كل مكان.. و شظايا الزجاج تفترش الأرض، و التحف الرخيصة، و المزهريات و كل شيء ليس بمكانه
سحب "عثمان" نفسًا عميقًا و تجاهل كل هذا.. توجه رأسًا صوب غرفتها... في كل خطوة يخطوها يرفرف قلبه بين أضلاعه.. يأمل و لو كذبًا بأنه إن فتح ذلك الباب فسيجدها بالداخل
لكن مع الأسف... لم تكن هناك.. و لم يكن لها أيّ أثر
الخواء.. و الخواء وحده الذي يحيط به !
أشعل "عثمان" الضوء و تقدم متجولًا بأنحاء الغرفة.. هائمًا على وجهه... كأنما يطارد شبحًا.. أخذها طولًا و عرضًا على غير هدى... حتى توقف أمام خزانتها المواربة
مد يده و فتحها عنها آخرها... لم يجد بها سوى غرضًا أو اثنين من أغراضها الخاصة.. إنما من بينهم إلتقطت عيناه ذاك القميص الأبيض الخفيف.. قميصه !
حنى جزعه للأمام و أتى بالقميص.. أمسك بيه بيديه و رفعه امام ناظريه... في تلك اللحظات لم يسعه سوى استحضار ذلك الوقت الذي جمعه بها.. يومًا.. بل أيام معها.. من أجمل أيام حياته كلها ...
Flash Back ...
كان الوقت ظهرًا و الشمس ساطعة في صدر السماء الصافية، فوق صخورٍ ملساء على الحواف الجبلية للجزيرة البيضاء الساحرة.. "سانتوريني" ...
جلس "عثمان" مختارًا بقعةٍ تبعد عن الأنظار كيما يتسنى لزوجته خلع الحجاب و السترة، لتجلس بين ذراعيه، فوق حضنه، بذاك الفستان الربيعي المكشوف، و شعرها متوسط الطول يداعب صفحة وجهه و عنقه، و عبيره المنعش يدغدغ حواسه و يزيده قربًا منها
و في لحظاتٍ من الصفاء و الألفة الدافئة بينهما، ظلا ينظران معًا و يتمتعان بأجمل الاطلالات على البحر الفيروزي الثائر مباشرةً، و مشاهدة القوارب الزرقاء و البيضاء تمر بعيدًا و الطيور تحلق فوقها
كان كل شيء ساحرًا وجميلًا و مكتملًا بوجودهما بيرفقة بعضهما البعض بعد فترةٍ طويلة من الفراق و آلام الهجران و الحرمان.. ما أجمل الوصال بعد كل هذا.. و الاطمئنان بين أحضان الحبيب الذي لم لن يفقه القلب غير حبه.. إذ تعلم الغرام على يديه و أجاد فنونه.. بفضله.. كل شيء بفضله هو ...
-مبسوطة يا سمر ؟
أخذ سؤاله المطروح بنعومةٍ و حنانٍ منقطع النظير وقته حتى تمكنت "سمر" من إدراكه جيدًا في غمرة السعادة التي أثملتها ...
رفعت وجهها لتقابل نظراته الجذّابة المتيّمة بها، و قالت برقةٍ تليق بها تمامًا :
-أنا عمري ما حسيت بطعم الحياة بجد إلا معاك. عمري ما عرفتها إلا معاك أصلًا. إنت أول كل حاجة حلوة حسيت بيها. و كفاية عليا إنك جمبي.. طبعًا مبسوطة. و إنت لوحدك تكفيني !
ابتسم لها بحب و أمسك بيدها، رفعها لفمه و لثم كفها بقبلة عميقة ثم حنى رأسه ليطبع أخرى فوق جبهتها و يهمس قرب أذنها برومانسية :
-و أنا ماحبتش غيرك يا سمر.. كلمتي الأولى و الأخيرة. بحبك و مش هاحب غيرك ...
إلتمعت عيناها و هي تسأله بجدية :
-بجد بتحبني يا عثمان ؟!
فرد على الفور :
-مش شايف غيرك.. أقولك الحقيقة ؟ حاولت أشوف بعد ماسبتيني و أخترتي أخوكي. مقدرتش. إنتي جميلة. و في أجمل منك. بس عيني مش شايفة الأجمل. شايفاكي إنتي بس. انتي مش طالعة من البيئة اللي طلعت أنا منها. في غيرك زيي و أنسب.. بس قلبي مش شايف الأنسب.. هو ده الحب يا سمر. عيونه مش بتشوف نواقص و لا ثغرات. و أنا بحبك كلك على بعضك. بشكلك. بقلبك. بروحك. بضعفك و عنادك و حنيتك.. بكل حاجة فيكي ...
كانت تحدق فيه خلال حديثه و كأنها مسحورة... حتى فرغ و بقى يتأمل وجهها الجميل و تعابيرها الذاهلة لبرهةٍ.. ثم سألها بدوره :
-و إنتي يا سمر.. بتحبيني بجد ؟!
أجفلت في هذه اللحظة و ارتبكت قليلًا.. ثم أجابت بعد مدة قصيرة :
-أقولك الحقيقة بس ماتضحكش عليا !
إتسعت ابتسامته أكثر الآن، فتأففت قائلة :
-إنت بتضحك من دلوقتي.. خلاص مش هقول
قهقه "عثمان" بخفةٍ و سرعان ما سيطر على نفسه و قال و هو يمسك بيديها بحزمٍ :
-خلاص. خلاص يا سمر Sorry.. أوعدك مش هضحك تاني. يلا قولي. عشان خاطري !
و منحها تلك النظرة التي ورثها من أمه.. تلك النظرة التي لا تستكيع أن ترفض بعدها أيّ قد يطلبه كليهما منها ...
أطلقت "سمر" تنهيدة حارة، ثم قالت مواصلة النظر إلي عينيه :
-أنا طبعًا قبل ما أعرفك عمري ما فكرت في إرتباط أو أي حاجة من دي.. عمري ما تخيلت نفسي مع حد أصلًا زي بقيت البنات و عمري ما كان عندي فارس أحلام بقى و كده و لا أي مواصفات. كنت واقعية و أحلامي على أدي. و دايمًا بحط مصلحة إللي مني قبل ما مصلحتي و بفكر فيهم قبل تفكيري في نفسي.. بس لما قابلتك. و حبيتك رغم الظروف إللي مرينا بيها. مابقتش قادرة أشوف حد زيك.. قصدي. كراجل. إنت الراجل الوحيد. و الأول و الأخير في حياتي. أي راجل غيرك في نظري مش راجل فاهمني ؟!
لم يتحمل "عثمان" إمساك نفسه عند سماع عبارتها الأخيرة فقط... لينفجر ضاحكًا بقوة و جسمه يهتز بشدة ...
عبست "سمر" غاضبة و سحبت يديها من قبضتيه في الحال مغمغمة بغيظٍ :
-مش قولتلك هاتضحك عليا ؟ أنا غلطانة.. إوعى كده !
و أخذت تقاوم يديه و هو يحاول الامساك بها مجددًا، لكن إحد محاولاته نجحت و أسرها بين ذراعيه مرةً أخرى و هو يقول و لا زال يضحك :
-خلاص.. خلاص بقى يا سمر. مش قصدي و الله.. خلاص يا حبيبتي. أنا آسف بجد !
أتت مجهوداته في مراضاتها ثمارها و لانت له بالفعل، استرخت ثانيةً بين أحضانه و تركته يلاطفها و يذيبها كيفما يشاء ...
لكنه بتمرس مدروس يعرف إلى أيّ حد يتوقف، و بدون أن تشعر بانفصاله عنها حتى.. قام واقفًا و سحبها معه بخفةٍ مطوقًا خصرها بذراعيه بشدة
شهقت "سمر" من المفاجأة و فتحت عيناها على وسعهما ...
-إيه ده في إيه ! .. تمتمت مذهولة
عثمان مبتسمًا : تعالي ننزل البحر
لهثت "سمر" من تخيّل قوله و ردت بتوتر :
-إنت عارف إني مابعرفش أعوم و بدوخ لو قربت منه أوي !
طمأنها ماسحًا على شعرها و جانب وجهها بحنو :
-ماتخافيش.. أنا معاكي. و لا مش واثقة فيا ؟ و بعدين ما أنا جبتك مرة من تحت الموج ب2 متر و الدنيا كانت بتشتي و عتمة كحل.. مش فاكرة و لا إيه !
و غمز لها ...
-ليلة ما هربتي مني و نطيتي من اليخت !!
تخضبت وجنتاها بحمرة الخجل و هي تتذكر ذلك.. لتخفض رأسها و تخبئ وجهها في صدره... فيبتسم مقبلًا رأسها و يغمغم لها :
-بالمناسبة.. ليلتها عرفت إني بحبك لأول مرة. ماتردتش لحظة و أنا بنط وراكي في البحر. و كان عندي إستعداد أضيع. أموت. بس ماطلعش منغيرك !
ارتدت للخلف لتنظر إليه من جديد... كل هذه الاعترافات.. كل المشاعر... الافصاح عنها دفعة واحدة يدهشها حقًا..و يسعدها أكثر بكثير ...
-يلا بقى ! .. هتف بها مشجعًا
ثم شبك أصابعها بأصابعها و شدها خلفه، ركضا تجاه المنحدر وصولًا إلى الشاطئ... تركها لحظاتٍ ليخلع قميصه و يلقيه بعيدًا عن المويجات و الرمال الرطبة.. أمسك بيدها ثانيةً و غافلها لجزء من الثانية، لتفاحأ به يحملها بين ذراعيه.. صرخت بحماسٍ و مرح و هو يركض بها حتى غمرتهما المياه
تعلٌقت به طوال الوقت، لم تفك ذراعيها من حوله أبدًا بسنما يسبح و يغطس بها.. يبث فيها الشجاعة و روح المغامرة و حب البحر و الاستسلام له
فلا مأمن منه سوى بمطاوعنه و الخضوع لسلطانه و تحمّل تقلباته... و هكذا بقيت "سمر" لمدة من الزمن أسيرة البحر و أسيرة أحكام و رغبات زوجها الحبيب
إلى أن أصدر قرار خروجهما.. ليعودا إلى الشاطئ مجددًا.. كلاهما ينفض قطرات الماء عن جسديهما و رأسيهما
سبقها "عثمان" مهرولًا ليحضر قميصه الجاف من فوق الرمال، ثم عاد إليها مادًا يده به ...
-خدي إلبسي ده ! .. قالها "عثمان" لاهثًا بقوة
نظرت "سمر" بغرابة إلى يده، ثم نظرت إليه قائلة بلهاثٍ هي الأخرى :
-ألبس قميصك ؟ و إنت تلبس إيه.. عاوز تمشي كده في الهوا و تاخد برد. لأ طبعًا ماينفعش
عثمان باصرارٍ : بقولك خدي يا سمر. إنتي عارفة مابحبش أعيد كلامي مرتين.. هاتلبسي القميص زي ما قولتلك. يلا
-يا حبيبي ما أنا معايا تونيك. هاطلع أجيبه و أجيب الإيشارب في إيه بقى !
عثمان بصرامة : التونيك ده قصير يا هانم و فستانك مبلول و لازق على جسمك. قميصي كبير و واسع عليكي. يلا خدي.. إلبسي
رفعت "سمر" حاجبيها مدركة قصده، و بدون أن تجادله أكثر أذعنت له و أخذت القميص، إرتدته ...
-أنا خايفة عليك لا تبرد طيب ! .. تمتمت "سمر" بقلقٍ و هي تنظر إلى جزعه العاري
ابتسم "عثمان" قائلًا :
-لأ ماتخافيش.. أنا أجمد من كده !
و غمز لها ثانيةً ...
ضحكت من قلبها و أقبلت عليه، تأبطت ذراعه و غمغمت بدلال :
-خلاص يبقى تنسى القميص ده.. أنا صادرته و مش هاديهولك تاني. بقى بتاعي !
مال "عثمان" صوبها قليلًا و همس أمام وجهها :
-إذا كنت أنا شخصيًا بتاعك.. براحتك. صادري قمصاني و هدومي كلها يا بيبي مايهمكيش !
و ضحكا معًا ...
Back ...
أفاق "عثمان" من الذكرى الغالية و هو يشعر بقطراتٍ ساخنة تنهمر فوق خديه ..
أجفل و رفع يده متلمسًا وجهه، ليكتشف بأنها لم تكن سوى دموعه !
لم يحاول كفكفتها حتى... إنما مشى نحو سريرها.. إتخذ منه مجلسًا.. ثم تمدد فوقه برفقٍ... وضع رأسه فوق وسادتها و دفن وجهه بها مستنشقًا بعمقٍ رائحتها و آريجها العالق هناك.. بيننا يتدفق سيل دموعه أكثر و لكن من غير بكاء
يبدو حقًا أن الأمور هذه المرة قد تجاوزت قدرته على التحمّل.. ليست ككل مرة... أصبح هذا جليًا الآن.. بعد أن كانت هنا.. صار هو وحيدًا تمامًا.. بدونها ! .................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!