رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل الثالث والستون بقلم مريم غريب
( 63 )
_ سيئات ! _
كان الوقت غروبًا.. و قد قلّ الازدحام بين الطرقات نوعًا ما... و لكن قبل أن تتوّغل سيارة الأجرة بالأحياء الشعبية بقلب المدينة
هتفت "سمر" تستوقف السائق بصوتها الغائم :
-على جنب هنا لو سمحت !
إنصاع لها الأخير و توقف على جانب الطريق، لتلتفت إلى شقيقتها الصغيرة التي كانت متكوّرة بحضنها و تغفو خلال الطريق ...
-ملك ! .. تمتمت "سمر" بخفوتٍ و هي تمسد على رأس الصغيرة بحنو توقظها
-لوكا.. إصحي يا لوكا. إصحي حبيبتي يلا
تتململ "ملك" ساحبة نفسًا عميقًا قبل أن ترفع وجهها لتنظر إلى أختها الكبيرة و تسألها بصوتٍ ناعس :
-نعم يا سمر.. هو إحنا وصلنا خلاص ؟
تبتسم لها "سمر" قائلة :
-لأ لسا يا قلبي.. بس لازم ننزل هنا الأول. عشان نجيب فلوس !
و حانت منها إلتفاتة عبر النافذة بجوارها إلى عارضة الذهب و المجوهرات هناك ...
-هانجيب فلوس منين ؟!
عاودت النظر لها من جديد.. لمست بطرف أناملها تلك القلادة التي تطوّق عنقها الناعم الصغير ...
-هاننزل و هاقولك ! .. غمغمت "سمر" محاولة إخفاء نبرة القهر بصوتها
ثم توجهت إلى السائق بلهجة مسموعة :
-معلش ياسطى هاتستنانا خمس دقايق بس. هانسيب الشنط هنا و مش هانطول عليك ماتقلقش
رد السائق الأربعيني و هو ينظر لها بالمرآة الأمامية :
-خدي راحتك يا مدام. إتفضلي أنا قاعد مستني !
شكرته "سمر" و أمسكت بيد شقيقتها و ترجلت من السيارة ...
سارت بها نحو متجر المجوهرات الفخم ذائع الصيت بالضاحية البحرية الساحرة.. لكنها توقفت على بُعد خطواتٍ و أمسكت بكتفيّ "ملك" لتجعلها تنظر إليها و هي تقول :
-ملك.. إنتي عارفة إن إحنا سيبنا القصر. مش كده ؟
أومأت لها الصغيرة قائلة و علائم الحزن تغزو محياها الجميل :
-آه عارفة.. إنتي قولتيلي من شوية. و قولتي إننا لازم نرجع بيتنا تاني !
أجفلت "سمر" عندما أحرقتها بوادر دموعٍ بعينيها، سرعان ما كبحت مشاعرها و سيطرت على نفسها و هي ترد عليها بصوتٍ مهزوز إنفعالًا :
-إحنا مشينا. بس مش راجعين بيتنا.. هانعيش في مكان تاني لوحدنا. بس لازم يبقى معانا فلوس عشان نقدر ناخد المكان ده و نعرف ناكل و نشرب.. صح ؟
وافقتها الصغيرة على الفور بلا تفكيرٍ :
-صح يا سمر !
أطبقت "سمر" جفونها بشدة مطلقة نهدة حارة من أعماقها، ثم فتحتهما ثانيةً و رفعت يديها إلى عنقها ممسكة بطرف القلادة، و قالت :
-السلسلة دي أنا لبستهالك السنة إللي فاتت في عيد ميلادك.. و يومها قولتلك إنها بتاعة ماما. و قولتلك تحافظي عليها كويس عشان هي ذكرى منها... بس يا لوكا. أنا مضطرة أخدها منك دلوقتي و أبيعها. مضطرة.. عشان مش معايا فلوس في جيبي خالص. و مش هقدر أعشيكي و لا أنيمك في حتة. إذا مابعتهاش !!
من تلقاء نفسها، رفعت "ملك" يديها و قامت بانتزاع القلادة و قدمتها لأختها قائلة :
-خديها يا سمر.. لو كان عندي سلسلة تانية كنت إديتهالك !
لم تستطع "سمر" إمساك الدموع أكثر من ذلك، و إنهمرت من عينيها كالشلالات، فضمتها إلى صدرها بقوة و هي تكتم نحيبها المتقطع قدر استطاعتها ...
دام الأمر لحظاتٍ.. ثم دفعت "سمر" بكل هذه المشاعر بأعمق نقطة داخلها و ابتعدت عن شقيقتها و هي تكفكف دموعها في كم كنزتهت قبل أن تراها
تابعت سيرها مجددًا تجاه المتجر و هي تخاطبها واعدة بصوتٍ صارم :
-هاجبلك أحسن منها يا ملك.. هاجبلك كل إللي نفسك فيه !
______________
تأخر كثيرًا حتى إهتدى عقله أخيرًا للتفكير في هذا الأمر ...
كيف له أن يتغافل عن شيء كهذا أساسًا ؟
شيء بهذه الأهمية... أجل.. التعرَّف إلى هوية الشخص الذي إلتقط ذلك المقطع المخزي بينه و بين الزوجة الثانية.. كيف لم يرد إلى ذهنه هذا لحظة وقوع تلك الأحداث ؟
كيف !!!!!
-عثمان !
ارتعد جسمه بخفةٍ لدى سماعه لنداء أمه الخافت، ثم شعر بيدها تحط فوف كتفه من الخلف ...
أدار وجهه فقط و رمقها بجانب عينه قائلًا بفتورٍ :
-أفندم يا فريال هانم !
فريال برقة : يلا يا حبيبي. العشا جهز.. أنا قاعدة مستنياك بقالي شوية
-طيب يا ماما.. إتفضلي إنتي. أنا هاخد مكالمة بس و هاحصلك بسرعة
ندت عنها نهدة يائسة و قالت :
-ما تتأخرش.. مش هاكل إلا لما تيجي !
و إنسحبت عائدة إلى حجرة الطعام ...
لم يمر الكثير.. إلا و قد علا رنين هاتفه بصخبٍ... إلتقطه من أمامه فوق سور الشرفة الأرضية
و دون أن ينظر إلى اسم المتصل، رد بصوته الجاف الصلد :
-وصلت من إمتى ؟
أتى صوت الطرف الآخر مرتابًا :
-عثمان باشا.. سمر هانم مارجعتش على البيت خالص. أنا واقف تحت من الصبح. من ساعة ما حضرتك كلمتني
كانت تعابير وجهه المرتخية ببلادةٍ قد إستحالت إلى العبوس المخيف الآن، كذلك لهجته و هو يصيح به بعلظةٍ كبيرة :
-إنت بتقول إيه ؟ يعني إيه الكلام ده ؟ يعني مارجعتش ؟ أومال راحت فين ؟؟؟!!!!
المتصل : و الله ماعرفش حضرتك. أنا عملت إللي أمرت بيه.. فضلت قاعد من العصر لحد العشا أهو و محدش جه. ده حتى الشباك مضلم و مقفول.. مافيش حد هاوب هنا و الله
تسارعت أنفاسه العنيفة و هو غير منتبهًا أو مكترثًا، فقط يجمع جلّ تركيزه حولها.. أين ذهبت ؟ هل هناك مأوى يمكن أن تلجأ إليه غيره ثم بيتها ؟ ... إلى أين يمكن أن تذهب ؟؟!!!!!
-إوعى تتنقل من مكانك ! .. هتف "عثمان" بحدة شديدة
-أول ما تيجي تكلمني فورًا. إياك تتوارب لحظة.. سامعني ؟؟؟
رد عليه الأخير منصاعًا... لكن صافرة الانتظار ضربت بأذنه فأبعده قليلًا و ألقى بنظرة على الرقم.. لم يجد مسجلًا
فأغلق الخط بوجه محدثه في الحال و أجاب الاتصال الآخر :
-آلو !
-أيوة. أستاذ عثمان البحيري معايا ؟! .. كان هذا صوت شابًا
عثمان باسراعٍ نزق :
-أيوة أنا. مين ؟؟؟
-مع حضرتك مكتب إدارة مصحة ( ...... ) للعلاج النفسي و إعادة التأهيل !
بُهت "عثمان" في هذه اللحظة و توقع عمَّن يمكن أن يخطره الأخير ...
-سامعك ! .. قالها "عثمان" ببرودٍ مريب
ليجيب الشاب بلهجته الرسمية :
-أستاذ عثمان الإدارة كلفتني أبلغك إن مدام نانسي حرمك هربت من المصحة إنهاردة.. اعتدت على طاقم الممرضين و سرقت طبنجة الأمن و خرجت. إحنا محتاجين حضرتك بكرة عندنا في المصحة عشان نقفل محضر رسمي !
تسمّر "عثمان" بمكانه غير قادرًا على الرد من شدة وطأة الأخبار التي يتلقّاها و المواقف الصعبة التي يتنقل إليها موقفًا تلو الآخر ...
عجبًا !
متى يتنهي عقابه يا ترى ؟ ألا تنتهي سيئاته أبدًا
______________
تعرّق بشدة أثناء نومه، ثم جاءت خاتمة تلك الرؤية بانضمام والدته إلى أبيه... لينهض مفزوعًا من فراشه
كان لهاثه مسموعًا، بينما تمتد يده لتشعل المصباح بجواره... رآى إبريق المياه أيضًا، فصب كأسًا و شربه كله
ثم قام من السرير على الفور مرتديًا خفيه ...
لم ينتظر لحظة و لم يتردد، أمسك بهاتفه و حمله إلى النافذة، فتحه و بحث عن رقم أخته و أجرى الاتصال
وضع الهاتف فوق أذنه و انتظر الرد ...
لكن صوت تلك السيدة برز بدلًا من صوت أخته لتؤكد على عدم إتاحة الخط المطلوب.. غير متاحٍ... و لكن لماذا ؟!!!
ساوره القلق أكثر و أكثر الآن... أعاد المحاولة.. و لكن نفس الشيء تكرر
أخذ يفرك بمكانه و ينظر بساعة الحائط من خلفه ..
الوقت متأخر.. الثانية بعد منتصف الليل... لابد بأنها قد نامت.. لا يستطيع أن يقلقها في هذا التوقيت
و لكن... هل بامكانه الانتظار حتى الصباح ؟ بالطبع لا... لن يتحمل
سحب "فادي" نفسًا عميقًا و توجه خارجًا من غرفته قاصدًا غرفة زوجته ! ......................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!