رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل الثاني والستون 62 بقلم مريم غريب

 

رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل الثاني والستون بقلم مريم غريب

( 62 )

_ بلا ندم ! _

بأسوأ سيناريوهات مشاجراتهم على مر أربعة سنوات منذ تعارفا، و حتى استباقًا للأحداث بمستقبلهما معًا ... 

لم يكن ليتخيّل.. أو يخطر على باله مجرد خاطرٍ عابر الوضع الذي فرضته عليه الآن.. مهما صار بينهما من مشاحنات و تبادل إهانات للمشاعر يبرأ اللسان عن ذكرها 

لقد خاب أمله تمامًا.. لا... لقد صعق مصدومًا لحظة سماعه خبر البلاغ الذي قدمته فيه زوجته.. لا لا... بل حين صرَّح العسكري بأمر الضبط و الإحضار 

رباه ! 

ماذا فعلت "سمر".. و كيف طاوعتها نفسها ؟! 

ذلك الموقف لن ينساه أبدًا.. أبدًا ... 

رغم الصدمة الشديدة التي تلقَّاها "عثمان" و أمه معه، إلا أنه أصر ألا تذهب زوجته إلى المخفر في عربة الشرطة، طلب إلى العسكري باسلوبٍ مهذب بأن يسمح له أن يقلها معه بسيارته مع عدم تعرضه لها بالقول أو الفعل ريثما يصلا و يمثلا أمام الضابط 

و ها هما الآن... بمكتب الضابط.. و جيشًا من المحاميين حضروا جميعًا بمكالمة هاتفية واحدة من "عثمان" ... 

الضابط يجلس خلف مكتبه الضخم رامقًا إياهم بنظراتٍ مذهولة، غرفة المكتب مزدحمة بشكل لا يُصدق.. في جهة تجلس المدعية في كرسي وحيدة.. و في الجهة الأخرى يجلس المدعى عليه متقدمًا على وكلائه رجال القانون ذائعي الصيت بالاسكندرية و خارجها 

لم يشأ "عثمان" الاطالة في هذا الأمر أيًّا كان، كان يريد الخروج من هذا المكان بأسرع وقت و كل ما شغله بالمقام الأول أن يخرج أمه و زوجته أولًا.. فهو حتى في هذه الظروف.. لا يزال يعبأ لأمرها ... 

بدون مقدمات و عندما لم يرى "عثمان" بادرة للحديث الموجز في نية الضابط، تحفز في جلسته موليًا إليه كامل إنتباهه و هو يمضي قائلًا بصوته العميق الهادئ : 

-أفندم يا حضرة الظابط.. جالنا ضبط و إحضار أنا مراتي. خير يا ترى ؟! 

يستعيد الضابط محياه ذي التعبيرات الجادة الآن و هو يمد جسمه للأمام قليلًا و يقول بلهجة استجوابية محايدة : 

-سيادتك عثمان البحيري ؟ 

أومأ "عثمان" مرة واحدة : 

-أيوة أنا 

-ممكن بطاقتك ؟
يمد "عثمان" يده داخل جيب سترته، يخرج جزدانه الثمين و يفتحه، يسحب بطاقته و يناولها للضابط على الفور ... 

يأخذها الأخير و يقلبها بين أصابعه و هو يلقي عليها نظرة فاحصة سريعة.. يرميها أمامه فوق المكتب، ثم ينظر تاليًا نحو الزوجة و يكرر نفس الطلب : 

-مدام سمر حفظي.. ممكن البطاقة ؟ 

بدون أن تتزعزع ملامح وجهها المشدودة قيد شعرة، أخرجت "سمر" بطاقتها من حقيبة يدها الصغيرة و ناولته إياها في صمتٍ ... 

راح الضابط يكشف على بطاقتها كما فعل ببطاقة زوجها .. 

على الطرف الآخر.. لم يحاول "عثمان" إلقاء نظرةٍ واحدة صوبها، لكنها هي فعلت.. لجزء من الثانية... حتى عاود الضابط النظر إليها من جديد قائلًا : 

-مدام سمر حفظي حضرتك طلبتي النجدة من حوالي ساعتين و قولتي إنك في خطر و حياتك مهددة.. صحيح ؟ 

-صحيح ! .. هكذا جاء جوابها صلدٍ قوي و من غير ذرة ترددٍ 

ينظر لها "عثمان" بنفس اللحظة.. يحملق فيها مدهوشًا.. مستنكر النظرات... ليستطرد الضابط بقية أسئلته : 

-إيه بالظبط إللي هددك.. و إيه علاقة زوجك بالموضوع. ليه ذكرتي إسمه في البلاغ ؟ 

مرت لحظات قليلة... ثم أدارت "سمر" رأسها و تطلعت بوجه زوجها أخيرًا و قالت و هي تنظر بعينيه مباشرةً : 

-أولًا ده مش زوجي.. ده طلقني من شهرين. و حابسني في بيته. بسيئ معاملتي و بيمد إيده عليا.. و إنهاردة في وجود والدته طلبت أخرج من البيت. منعني و هددني لو خرجت هاياخد مني إبني. حضرتك تقدر تجيب والدته و تسألها بنفسك هي واقفة برا ! 

ينقل الضابط نظراته نحو "عثمان" متسائلًا : 

-صحيح الكلام ده يا أستاذ ؟ 

و لكن "عثمان" لم يرد.. لم يحيد بناظريه عنها للحظة... و كانت عينيه لا زالتا ملؤهما الصدمة و الاستنكار 

بينما يعيد الضابط السؤال مرة ثانية، و ثالثة.. و لكن الأخير لا يجيب.. يسمع و لا يفتح فمه، فقط يستمر بالنظر إليها على نفس النحو، و كأنه يراها لأول مرة و بشكلٍ يفوق توقعاته و خياله !!!! 

-أستاذ عثمان ! .. هتف الضابط مناديًا بصوتٍ عالٍ هذه المرة 

ينظر "عثمان" له الآن.. لكنه لا يتفوّه بكلمة، فيصدر الأخير نهدة نزقة و يعرض عن استجوابه صائحًا بالعسكر الواقف عند باب المكتب : 

-إندهلي يابني والدة الأستاذ من برا .. 

-لأ ! .. برز صوت "عثمان" هنا بشدة و خشونة 

جمد الجميع عند نطقه بالاعتراض، استقطب النظرات كلها و بقى الضابط ينظر إليه بترقبٍ.. إلى أن نطق "عثمان" مجددًا بلهجة أشد قسوة : 

-كل ده حصل يا باشا.. أيوة أنا حبستها و هددتها. و طلقتها من شهرين.. و هي قدمت فيا بلاغ. إيه المطلوب دلوقتي بعيدًا عن شهاد والدتي ؟! 

رمقه الضابط بغرابةٍ، لكنه أشار ناحية "سمر" و قال : 

-في الحالة دي إستنادًا لاعترافك باتهامات مدام سمر حضرتك هاتمضي تعهّد بعدم التعرض ليها لحين إتمام الطلاق الرسمي و بعده كمان طالما هي مش عايزة أي احتكاك بينها و بينك .. 

و نظر الضابط إلى "سمر" مستفهمًا : 

-مش كده بردو يا مدام ؟ 

أومأت "سمر" قائلة بثباتٍ : 

-مظبوط يافندم 

-تسمح طيب ! .. تمتم "عثمان" باقتضابٍ و هو يمد يده ليسحب ورقة بيضاء من فوق المكتب 

إلتقط قلمًا و بدأ بكتابة الإقرار.. لم يستغرق منه دقيقة، ثم وضع إمضائه أسفل الورقة و وضعها أمام الضابط ... 

-تمام كده ؟ 

نظر له الضابط بدهشة أكبر... كان شعوره بالغرابة من هؤلاء القوم يتزايد بمضي اللحظات و الثوانٍ... لكنه رد عليه في الأخير : 

-تمام ! 

عثمان بجمودٍ : أقدر أمشي ؟ 

الضابط ببلاهةٍ : إتفضل ! 

ينهض "عثمان" بلحظةٍ، بسنما يعلو صوت "سمر" بعدائيةٍ : 

-يتفضل فين و إبني !! 

نظر "عثمان" إليها باستخفافٍ و قال مبتسمًا بسخرية : 

-إبقي خديه من المحكمة بقى. ده لو عرفتي تاخديه.. بالسلامة يا سمر .. 

و إستدار داعيًا طاقم المحامين : 

-يلا يا أساتذة ! 

-إيه إللي بيحصل ؟!!! .. صاحت "سمر" بانفعالٍ و هي تراقب رحيل زوجها 

بل طليقها ! 

و جماعته ... 

نظرت إلى الضابط مستطردة : 

-حضرتك هاتسيبه يمشي عادي كده إزاي ؟؟؟ 

الضابط ببرودة أعصاب : 

-الراجل مضى على التعهّد و ده إللي حضرتك طلبتيه. محدش له حاجة تاني عنده يبقى يقعد ليه ؟ 

-ليا عنده إبني !!! .. هتفت "سمر" بحدة أقرب للعصبية 

عبس الضابط ضاربًا قبضته فوق سطح المكتب و هو يقول محذرًا : 

-لو سمحتي يا مدام تتكلمي بهدوء. أنا مش جوزك إااي لسا ماشي ده. طلبتي حاجة و نفذناها. إبنك ده مش إختصاصي. روحي محكمة الأسرة و طالبي بيه و عيشي حياتك هناك.. إنما هنا مالناش في الكلام ده. شوفيلك محامي يمسك أمورك أحسن.. يلا مع السلامة بقى ! 

ضمّت "سمر" حاجبيها بشدة غير مستوعبة ما تسمعه و تعيشه... الأمو تعقدت بالآواخر هكذا.. و تلك المستجدات لم تحسب لها حسابًا 

و لكنها اختارت... و لا زالت مصرة على اختيارها.. لذا ستعافر حتى النهاية..و ستتحمل النتائج مهما كانت صعبة و مجحفة بلا ندمٍ... هذه المرة ي لها ! ................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

_ إنسحاب ! _

ربما وصل أمره إلى حد الهوس... أو أكثر بقليل من هذا... فما المُسمى الذي يمكن أن يُطلق على تلك التصرفات ؟ 

أن يمسك بهاتفه الآن و يشاهد على الطرف الآخر في بث مباشر تحركاتهم خطوة بخطوة !!! 

كانت ابتسامة كبيرة.. مرضية، تجلل وجهه و هو يتبيّن غريمه يخرج من مخفر الشرطة، يكاد لا يرى أمامه من فرط الغضب الذي بدا عليه بصورة جلية... كان يسحب أمه في يده حتى أصعدها إلى السيارة.. ثم صعد هو الآخر و تفرق جيش المحاميين تابعيه... ذهب أولًا، فذهبوا هم أيضًا 

لم تمر دقيقة إلا و خرجت زوجته بدورها... بل طليقته.. استرعت جلّ إنتباهه على الفور.. إستحالت تعابيره المتهللة بلحظة إلى الوجوم، عندما رآها تعبر بوابة المخفر مطأطأة الرأس هكذا.. شيء ما بداخله وخزه 

بدت حزينة.. و كأن صدرها يضيق بها... كانت ملؤها كآبة تكفي الناس و تفيض.. بمعنى أصح.. كانت منطفأة... كليًا ! 

ضيّق عينيه و هو يتابع بتركيزٍ شديد سكناتها و حركاتها... مضى بعض الوقت و هي لا تزال تقف بلا رغبة في التقدم أو التحرك خطوة واحدة.. لكنها فعلت في الأخير.. عندما أدركت بأنها حقًا صارت وحيدة... كأنما إنفصلت عن العالم بأسره 

انتفض جسمها نفضة خفيفة قبل أن تهرع هاتفة و مشيرة لسيارة أجرة... إستقلّت بها في الحال.. و فور تأكده من رحيلها، تكلم بصوتٍ حاد و مسموع : 

-خلاص كده.. دورك إنتهى ! 

ثوانٍ و تغيّر المشهد ليبرز وجه شخصٍ ما، رجلٌ ربما يعمل تحت يده.. رد عليه بلهجة مهذبة : 

-لو تحب أطلع وراها يا باشا .. 

-لأ ! .. صاح بصرامةٍ 

-إمشي إنت دلوقتي.. لو عوزتك تاني هاكلمك 

و أنهى المكالمة معه .. 

ترك الهاتف من يده، استرخى فوق كرسي مكتبه الضخم.. و تلقائيًا استعرض عقله أمام عينيه أحداث تلك الليلة ... 

Flash Back .. 

-إيه يا هالة مال آ ا ! .. بتر عبارته عندما تتبع نظراتها و وقف عند المشهد الصادم 

لكنه أشاح بوجهه قبل وقوع اللقطة الفاضحة ... 

-يا نهار إسود. إيه إللي بيحصل ده ؟؟!!! 

راقبت "هالة" تطور الوضع بين "عثمان" و "نانسي"... و كيف عمد "عثمان" إلى مهاجمتها لتكف عمّا تفعله.. لكنها قاتلته بشراسةٍ حتى تمكنت من تعرية جسمها بالكامل.. ليحملها هو بين ذراعيه و يندفع داخل غرفة المؤونة و يختفيا هما الإثنان ... 

كانت "هالة" قد غفلت أثناء تلك اللحظات إلى ما توجه "نبيل" بفعله.. إذ بدون أن يلفت إنتباهها و لو بأقل جهد.. إستلّ هاتفه بخفة يد، و فتح الكاميرا الأمامية مسرعًا ليلتقط مقطعًا قصيرًا، لكنه كافيًا جدًا لقضاء حاجته.. في الواقع... كان هذا أكثر مِمّا تمنى !!! 

أدارت "هالة" رأسها إليه.. فكان قد أعاد الهاتف بمكانه و عاود الالتفات متظاهرًا بالصدمة و الحياء ... 

-خالو.. لو سمحت. بليز إلحق سمر ! 

عبس "نبيل" مرددًا : 

-سمر ! 

بيّد أنه لم يفهمها جيدًا، فأوضحت على الفور : 

-سمر جاية دلوقتي.. رايحة عندهم. إلحقها و عطلها بأي شكل بليز !! 

اكتسى وجهه بتعبيرٍ غريب.. لكنه فهمها الآن... فرفع ذقنه قليلًا و هو يقول باقتضابٍ : 

-متأكدة ؟ .. ده إللي إنتي عاوزاه ؟! 

أجابت "هالة" بلا تردد : 

-أيوة.. عشان خاطري روح بسرعة. عشان خاطري يا خالو ! 

رماها بنظرة متجهمة أخيرة.. ثم إستدار مهرولًا تجاه المنزل 

لتطلق "هالة" عنان ساقيها و تعدو راكضة بأقصى سرعة لديها ... 

Back ... 

يفيق "نبيل" من الذكرى مصدرًا نهدة حارة من صدره... يقوم واقفًا عن الكرسي.. عند شعوره بالاختناق هو الآخر 

قرر إنهاء الدوام الآن.. لا عمل اليوم... و سيذهب إلى أيّ مكان يستطيع فيه أن يفكر و يخطط جيدًا للخطوة التالية ! 

______________

اقتحم البيت كاعصارٍ ... 

فور أن وطأت قدماه بالداخل، لم يقابله جمادٍ سواء رديئًا أو ثمينًا و إلا نال من بطشه و غضبه.. إنه حرفيًا قد إنهال على كل شيء تكسيرًا بركلاته و قبضاته العنيفة 

لولا أمه التي أدركته بسرعة و وقفت أمامه ممسكة بذراعه صائحة : 

-عـثمـــــان ! بس يا عثمان.. كفاية. بقولك كـفـــــايـة !!! 

-بــــس إنـتـــــي يـا مامـــا !!!! .. استدار "عثمان" صارخًا بوجهها بضراوةٍ

تصاعدت الدماء إلى رأسه و برزت أوردته كلها، فخافت "فريال" و هي تنظر إليه.. لم تخاف منه، بل خافت عليه، أيقنت بأن حالته هذه المرة ليست ككل مرة 

ربما تفقده، رباه ! 

كما فقدت أباه... لا.. لا يمكن أن يحدث هذا... لا يمكن !!! 

-إوعي تقوليلي بس و لا كفاية ! .. قالها "عثمان" بصوتٍ كالفحيح و قد تشنج جسمه بالكامل من قمة الغضب و صار يهتز إنفعالًا 

-مش عايز أسمع و لا كلمة. مش هاتيجي معايا سكة خالص. وفري كلامك كله.. سمعاني ؟؟؟ 

ازدردت ريقها بتوتر و هي تومئ برأسها قائلة : 

-فهماك يا حبيبي.. فهماك. صدقني أنا مش هاتكلم معاك في حاجة. كل إللي أنا طالباه منك إنك تهدا بس 

عثمان بسخرية : أهدا ؟ إنتي مش حاسة باللي جوايا !! 

مدت "فريال" يديها قابضة على كفه، و قالت بلطفٍ لا يخلو من الاستجداء و التوسل : 

-حاسة.. و الله حاسة بيك. أنا محدش في الدنيا ممكن يحبك أو يحس بيك أدي.. عشان خاطري. عشان خاطر أمك.. إهدا. أنا مش هاستحمل أشوف فيك حاجة. لو وقعت تاني المرة دي مش هقوم يا عثمان ! 

كتمت شهقة نزقة بحلقها، حين رأت تجمع دموع الغضب و اليأس بعيني إبنها.. إنه ينصاع لها الآن... و إلا لما سمح للمشاعر بأن تتملك منه بهذا الشكل و خاصةً أمامها 

لكنه لا يهدأ، بل يكبت الثورة كلها بداخله، فقط تلبيةً لرجاء أمه ... 

-حقك عليا أنا يا حبيبي ! .. غمغمت "فريال" بصوتٍ باكي 

-تعالى. حقك عليا أنا .. 

و طوّقت عنقه مجتذبة إياه ليستفر داخل أحضانها الدافئة ... 

بقى "عثمان" ساكنًا متخشبًا تمامًا بين ذراعيها، فقط أخذ يدفس وجهه عميقًا بتجويف كتفها و هو يهمهم قائلًا بصوت أجش : 

-لأ.. مش عليكي إنتي. مش عليكي يا فريال هانم ! 

فريال بوهنٍ : طيب.. إللي تشوفه. بس عشان خاطري.. إسمع كلامي. كفاية عليا خضتي عليك. أنا رجليا شايلاني بالعافية يا عثمان 

ما إن سمع كلماتها الأخيرة حتى تبدّل حاله بطرفة عين، ليفك ذراعيها من حوله بلحظة و أمسكها بمرفقها بيد، و لف ذراعه الأخرى حول خصرها و مشى و هو يسندها وصولًا إلى صالون البهو الفسيح 

أجلسها هناك و ركع امامها ممسكًا بيديها و هو يقول بلهجة أقل حدة : 

-ماما. المواضيع دي ماتخصكيش.. ماتفكريش. ماتشغليش نفسك لو سمحتي. كل ده خارج عنك 

فريال باستنكارٍ : خارج عني إزاي ؟ إنت إبني. و في مشاكل كبيرة. أنا حاسة إني هموت من كل إللي بيحصل ده 

-لأ.. لأ ماتقوليش كده. بصي. طز في أي حاجة و كل حاجة. طز فيا أنا شخصيًا.. سبيني بس شوية و هاحل كل ده. خليكي واثقة فيا. أنا إللي مش حمل حاجة تحصلك أو تمسَّك بس يا ماما ! 



تكوّنت ابتسامة مهزوزة على ثغرها، رفعت يدها و أخذت تمسح على شعره الأملس الثائر بحنو قائلة : 

-مش عايز حاجة تحصلي.. يبقى تسمع كلامي. و ماتعملش حاجة تاني من ورايا. قبل ما تاخد أي خطوة تقولي الأول يا عثمان 

أطبق فكيه بشدة محاولًا الإلمام باعصابه قدر استطاعته من أجلها... و لأجلها فقط نطق بهذا الهدوء : 

-حاضر.. أوامرك. أوامرك يا فريال هانم ! 

و نهض فجأة موليًا ظهره إليها ... 

لكنه قبل أن يبتعد خطوة واحدة، استوقفته بقلقٍ واضح : 

-رايح فين ؟!! 

أدار وجهه فقط نحوها و قال بصوتٍ لطيف : 

-هاطلع أقول لمس كاتيا تجهز شنطة ملك عشان أبعتها على بيتها.. عن إذنك ! 

أرادت "فريال" أن تعترض على هذا القرار، لكنها خشت النتائج.. فأطبقت فمها و لم تزيد حرفًا ... 

-أعمل إيه بس يا ربي ؟!!! .. تمتمت لنفسها بحزن و ضيق شديدين 

و لم تكد تلتقط أنفاسها بعد ... 

لتجد إحدى المستخدمات تظهر أمامها من العدم، فتشهق بذعرٍ متمتمة : 

-بسم الله الرحمن الرحيم.. إيه ده يا سمية إنتي كمان. طلعالي كده ليه مش تكحي حتى يابنتي !! 

بدت الفتاة بشحوب وجهها و ارتباكها هذا للسيدة بأنها على دراية بالحرب الدائرة بين آل البيت.. لكنها لم تجادل كثيرًا، بل أفرغت جعبتها مرة واحدة بقولها : 

-فريال هانم.. سمر هانم واقفة على الباب. عاوزة حضرتك ! 

و لم تنتظر الفتاة ثانية أخرى و ولّت مدبرة من حيث جاءت ... 

بينما يتجهم وجه "فريال" و ترتفع رأسها لا إراديًا لتنظر نحو الدرج.. ثم ما لبثت أن قفزت من مكانها فورًا، انطلقت راكضة صوب باب المنزل و هي تتلفت حولها مطمئنة لعدم تواجد إبنها بالقرب منها 

و أخيرًا... وصلت.. و اصطدمت برؤية "سمر" مباشرةً !!! 

-فريال هانم ! .. قالتها "سمر" مستهلّة حديثها بشجاعةٍ واهية 

سرعان ما تداعت تمامًا لحظة بزوغ نظرة لم تألفها أبدًا من عيني تلك السيدة الرقيقة.. نظرة عجزت عن إيجاد وصف ملائم لها لشدة غرابتها عليها... لكن ما تأكدت منه بأن التي تقف امامها الآن.. ليست السيدة "فريال" التي عرفتها.. لا.. ليست هي ... 

-عاوزة إيه يا سمر ؟ .. إنبعث صوت "فريال" صلدًا جافًا 

إبتلعت "سمر" غصة، لتقول بصوتٍ أبح : 

-عاوزة إبني.. عاوزة أختي ! 

تنهدت "فريال" بثقلٍ، و قالت و هي تعقد ذراعيها أمام صدرها : 

-أختك ماشي.. لكن يحيى لأ يا سمر 

ضمّت "سمر" حاجبيها مغمغمة بخشونةٍ : 

-حضرتك أكيد مش قاصدة تكلميني كده و لا تقوليلي الكلام ده.. أكيد مش هاتآيدي إبنك. مش هاتخليه يحرمني من إبني 

فريال بهدوء : مين قال إنك هاتتحرمي منه ؟ أنا لا يمكن أسمح بحاجة زي دي 

سمر بعصبية : أومال بتقوليلي لأ مش هاخده ليه ؟؟!! 

عاودت "فريال" نفس النظرة الغريبة و اللهجة الجافة الحادة و هي ترد عليها : 

-عشان ده بيته و بيت أبوه. هايتربى هنا و هايكبر هنا زيه.. ده ماخرجش قبل كده لما خرجتي و بعدتي عنه أكتر من سنة. تفتكري ممكن يخرج دلوقتي و إنتي هاتبعدي علطول ؟! 

تصريحها الأخير كان بمثابة طعنةٍ نجلاء أخترقت صدرها، التأكيد على أنها قد خسرت حياتها.. إستقرارها وحبها .. 

أعتصرت جفنيها بشدة، ثم باعدت بينهما بعد برهةٍ لتنظر إليها من جديد.. و تقول بصوتٍ جريح : 

-أنا مش مصدقة إنك إنتي دي إللي واقفة قدامي.. يا طنط. يا ماما فريال ! 

فريال بجمودٍ : كان لازم تفكري فيا قبل ما كنتي تتصرفي كده. قبل ما يطاوعك قلبك و تجرجري إبني في الأقسام.. إنتي عارفة. عثمان رغم كل إللي عمله في حساته من لعب و شغب. عمره ما عتَّب قسم و لا عرف طريقه. منتظرة مني إيه ؟ أصقفلك و أخدك في حضني و أطبطب عليكي ؟ لأ.. ده كان زمان. حضني ده أولى بيه دلوقتي إبني و حفيدي. إللي هانوا عليكي. لكن عمرهم ما يهونوا عليا أنا و لا أسمح لحد يقرب منهم بسوء ...

و لأول مرة تشاهد "سمر" محياها الأرستقراطي الجميل يقسو تمامًا و هي تعلن بصرامةٍ : 

-و هي دي الحقيقة يا سمر.. إنتي مهما بلغت غلاوتك. مش هاتكوني أغلى من إبني ! 

أغرورقت عيناها بدموع العجز مرةً أخرى،كالبلهاء تمامًا.. لم تستطع السيطرة على نفسها مجددًا و هي تحاول معها للمرة الأخيرة : 

-طيب أنا كمان أم زيك. و إبني غالي عليا.. أنا عارفة إن عثمان يقدر ياخده مني. بس إنتي ممكن تـ آ .. 

-إنتي تبقي غلطانة لو فاكرة إني ممكن أقف في صفك ضد إبني ! .. هكذا قاطعتها "فريال" بتقريعٍ أطفر مزيدًا من الدموع بعينيها 

و رغم ذلك لم يرق قلب الأخيرة لها، بل أكملت عليها : 

-خلاص يا سمر.. إنتي بإيدك نهيتي كل حاجة و اختارتي. و عثمان إنسحب من حياتك زي ما طلبتي. دورك تنسحبي إنني كمان. لو هاتسببوا آذية لبعض. يبقى بناقص أي علاقة تربط بينكوا غير إبنكوا.. إمشي يا سمر. و لما تعوزي تشوفي يحيى الباب ده هايفضل مفتوحلك. و أنا هاعرف أهدي عثمان من ناحيتك. و أخلي ينسى إللي حصل و ينساكي واحدة واحدة 

إنهمرت دموعها في هذه اللحظة... و وصلت شقيقتها الصغيرة بنفس الوقت تمسك بيد مربيتها.. كانت تتطلع حولها واجمة.. و كأنها تستشعر المكاره التي حلّت على حياتها و حيوة الجميع ... 

سارعت "سمر" بكفكفة دموعها في كم كنزتها لكي لا تراها "ملك".. ثم قالت بصوتٍ مكتوم و هي تمد لها يدها الأخرى : 

-يلا يا لوكا.. يلا يا حبيبتي ! 

مرت "ملك" من جانب "فريال".. أودعت راحتهاالصغيرة بكف أختها في صمتٍ... بينما تمضي "فريال" قائلة باقتضابٍ قبل أن تلتفت لتعود أدراجها إلى الداخل : 

-كاتيا وصلي شنطة ملك للتاكسي إللي هناك لو سمحتي ! 

إنصاعت لها المربية السويدية و واكبت الشقيقتان حاملة في يدها حقيبة الملابس المتوسطة ... 

كان سيرهن بطيئ.. ينم عن هزيمة و خضوع مخزٍ... و لكن بالرغممن هذا.. لم يشعره هذا بتحسن 

"عثمان"... من حيثكام يقف بالشرفة العلوية مراقبًا رحيل طليقته و أختها الصغيرة.. لم يسعه إلا الوقوف كما هو، و إشباع ناظريه من رؤيتها 

فمن ذا يدري... متى يراها و ينظر لها هكذا كما يحب و يرضى دون أن يمنعه كبرياؤه، أو يعتصره غروره و يشله، فيعرض عنها.. لا يصدق.. بأنه فعل و قد صار هذا حقًا.. لقد تسرّبت من بين يديه... كالزئبق ! ........................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

تعليقات



×