رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل الستون 60 بقلم مريم غريب

 

رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل الستون بقلم مريم غريب

( 60 )

_ لا تربح أبدًا ! _

أغلقت سحاب حقيبة سفرها المتوسطة، استدارت لتلتقط سترتها الطويلة من فوق المشجب الخشبي، وضعتها فوق كتفيها و هي تلقي بنظرة سريعة على شكلها بالمرآة، أخذت تضبط تسريحة شعرها و تهندم من ثوبها الأنيق مسرعة 

ثم عادت لتمسك بأغراضها، علّقت حقيبة على كتفها، و حقيبة الملابس أمسكت بمقبضها و راحت تجرها خلفها فوق الأرض مرورًا إلى الخارج ... 

و خلال سيرها، لم تتكبّد حتى عناء الالتفات و لو مرة وراءها، مشت مرفوعة الرأس مفعمةً بالكبرياء.. إلى أن صارت أمام باب الشقة... مدت يدها لتفتح.. لكنه علق ! 

أجفلت بارتباكٍ الآن و عاودت المحاولة مرة ثانية، و ثالثة و رابعة .. 

لا يزال عالقًا... ما هذا بحق الله !!! 

-خير يا ترى ! 

كان هذا الهتاف ذي اللهجة الفاترة لـ"فادي" ... 

سحبت "هالة" نفسًا ثقيلًا و أطلقته في زفرة نزقة، ثم إلتفتت نحو مصدر صوته.. لتجده يقف بالجهة المقابلة مسندًا ظهره إلى عمود الجرانيت و شبح ابتسامة يزيّن ثغره الدقيق 

تلمح "هالة" بين أصابعه لمعانٍ ما، فتفطن بأن مرادها يكمن هناك.. بقبضة يده ... 

يلاحظ "فادي" نظراتها المصوّبة نحو سلسلة المفاتيح الملفوفة بين أصابعه، تتسع ابتسامته أكثر و هو يقول دون أن يحيد بناظريه عنها طرفة عين : 

-على فين العزم كده يا هالة هانم ؟ 

حافظت "هالة" على جمود تعابيرها و هي ترد عليه بصوتٍ جاف : 

-أظن قولتلك إني راجعة مصر 

دمدم "فادي" بايماءة قصيرة : 

-إممم.. طيب إنتي حجزتي التذكرة أصلًا ؟ القوالة دي مافتش عليها يومين ! 

هالة باقتضابٍ هازئ : 

-أنا كلمت خالو نبيل و خليته يحجزلي كام يوم في أوتيل. هاخد Tour في البلد و أتفسح شوية. أعوض الشهور إللي قعدتها لوحدي بين أربع حيطان.. و بعدين هاسافر 

-مافيش سفر ! .. هكذا أعلن "فادي" بمنتهى الهدوء و الثقة 

لوهلة جحظت عيني "هالة" من وقع كلماته المفاجأة لها ... 

لكنها ما لبثت أن عادت إلى حالتها السالفة و ردت بحدة بيَّنة : 

-لأ Sorry ماسمعتش كويس.. مافيش إيه ؟!! 

كرر "فادي" ببرودٍ هذه المرة : 

-مافيش سفر يا مدام. نقولها كمان.. مافيش سفر. مافيش سفر 

-ليه بقى إن شاء الله ؟! .. تساءلت "هالة" مستنكرة و هي تترك مقبض الحقيبة لتعقد ذراعيها أمام صدرها 

و أردفت بسخرية : 

-و بأمارة إيه أصلًا ؟ سيادتك مش طايقني و مش عايزني جمبك. إنت بتلعب بيا و لا إيه.. و لا فاكرني هاسمع كلامك ؟ We're Done خلاص يا فادي. و إنت إللي نهيت علاقتنا بنفسك 

وافقها قائلًا : صح.. إنتي صح. إنتهينا فعلًا. بس طول ما ده لسا في بطنك ! 

و أشار بذقنه ناحية بطنها الضامر خلف ثوبها، و أكمل : 

-رجلك على رجلي.. لحد ما تولدي كمان 

رفعت حاجبها معلّقة باستهجانٍ : 

-لا و الله ! كمان لحد ما أولد ؟ إنت بتهزر صح !! 

هز رأسه للجانبين قائلًا ببساطة : 

-مافيش هزار في الموضوع ده بالذات. ماتنسيش إن لسا ليا عندك.. إبني 

جاءت لتفتح فمها ثانيةً، ليقاطعها بصرامةٍ : 

-خلاص إنتهى.. أنا مش بناقشك أساسًا. و لا بجر معاكي ناعم لو ده إللي مخك هاياخدك عليه.. أنا بحافظ على حقي الوحيد إللي باقي عندك. إنتي لسا مش لازماني حطي ده في دماغك. بس إبني هايخليكي كده على الأقل قدام الناس 

بقيت ملامحها ساكنة و نظرات عينيها تشيع غموضًا على إثر كلامه، بينما يتصرف تاليًا أسرع مِما ينبغي و هو يقول موليًا ظهره لها : 

-رجعي شنطتك يلا.. مافيش سفر. قرب الولادة كده كده هانرجع. إبني هايتولد في بلده ! 

و لم ينتظر لحظة أخرى بعد ذلك، توجه إلى غرفته مباشرةً ... 

لتبقى "هالة" بمكانها، تتهدل قسماتها و تنعقد بتعابيرٍ متضاربة.. متفاوتة بين الدهشة و الاهتمام.. الاستغراب و الآسى... هذا الحب.. هذه العلاقة تقتات على مشاعرها بضراوةٍ منقعة النظير 

هذا ذنبها.. و لكن ما الذي يتطلبه الأمر للتكفير عنه !!!!

______________ 

لا يوجد شيء تجيده بدقة كبيرة _ خاصةً بعد إنفصالهما _ أكثر من حفظ مواقيت كافة نشاطاته اليومية ... 

و التي تتمثل في عدد وجباته و في أيّ ساعة ت٢له كل وجبة، إذ أنها هي التي تشرف بشكلٍ مبطن على كل ما يُقدم له طعام كان أو شراب 

و أيضًا ساعات نومه و يقظته 

و الأهم من ذلك مواعيد خروجه من المنزل للذهاب إلي عمله.. حيث كانت معاقبته لها بالبادئ لطلبها الطلاق هو عدم ظهوره أمامها، كان يحرمها من مجرد النظر إلى وجهه 

ظنّت أن باستطاعتها التعايش مع هذه المساومة غير النبيلة، لكنه كالعادة يعرف كيف يطرق على أوتارها الحساسة.. بل أنه بالفعل يعرفها كما قال، عندما اخبرها إن هو إلا اسبوعًا و ستهرول إلى ذراعيه متوسلة العودة.. ربما تغلّبت على نفسها في هذا و تخطت شهران بعيدًا عنه 




بالرغم من العذاب الذي كابدته خلال تلك المدة.. لكنها نجحت بتحدي نفسها... لكن في طرف آخر، كانت ضعيفة جدًا، كما هي الآن ! 

إذ منذ بكرة الصباح و هي تقف على قدميها هكذا، وراء الحائل الخشبي المزخرف بشرفة المنزل الكبيرة متخفّية خشية أن يراها و هو يخرج في هذه اللحظة متجهًا نحو سيارته الواقفة بالباحة 

الشوق في عينيها و كأنه سهام تخشى لو تصيب بروج استشعاره الحساسة فتلفت إنتباهه لها و يفضح أمرها.. يوميًا تقف هذا الموقف فقط حتى تراه و تشبع ناظريها منه، هو طليقها.. لكنها في قرارة نفسها لا تعترف بذلك، لا يزال زوجها، الرجل الوحيد الذي تحب، الرجل الوحيد الذي وطأ أنوثتها و أشعرها بالحب و الغرام 

عليها الاعتراف... الجيد الذي رأته منه أضعاف السيئ بكثير.. ليس من المنطق أن تنكر فضله عليها بهذه السهولة 

لعله رصيد.. فكرت أنه قد يكون رصيد إدخار... لكنها تتمنى ألا ينفذ أبدًا.. تتمنى ألا يزول هذا الحب من قلبها.. لآخر لحظة تدعو بذلك.. تستجديه بكل جوارحها .... 

-صباح الخير ! 

انتفضت "سمر" مذعورة لدى سماع هذا الصوت الرجولي المألوف ... 

استدارت بلحظة، لتكتشف أن ذاك المدعو "نبيل" كان يقف على مقربةٍ منها.. ربما منذ فترة و ني لم تفطن إليه ... 

-أفندم ! .. لا شعوريًا وجدت نفسها تنطق بتلك الطريقة الجلفة 

لم تلاحظ بأنه أيضًا كان يرتدي الثياب الرسمية تأهبًا لارتياد العمل، بينما يتوتر "نبيل" قليلًا فيقول مغطيًا على التوتر بابتسامة بسيطة : 

-بصبّح عليكي يا مدام سمر ! 

صمتت و لم ترد، فقط ترمقه بوجومٍ و تفكر كيف تنسحب بأسرع ما يمكن ... 

قرأ "نبيل" شيء من هذه الانفعالات الصامتة بنظراتها، لتتسم ملامحه بجدية أكثر و هو يقول بتحفظٍ : 

-أنا آسف على الدخلة طيب.. شكلي خضيتك. أنا مقصدش و الله. بس فعلًا إتأكدت إن فيا شيء لله.. أنا أصلًا بقالي يومين نفسي أشوفك 

حدجته بنظرة زاجرة مصدومة، ليسارع بتصليح عبارته باضطرابٍ شديد : 

-لأ لأ قصدي كنت عاوز أكلمك في موضوع مهم.. يخص فادي و هالة ! 

-فادي كويس ؟!! .. تساءلت "سمر" باندفاعٍ و قد نست مؤقتًا حذرها منه 

-أخويا جراله حاجة ؟؟؟ 

طمأنها "نبيل" على الفور : 

-لا لأ هو تمام.. إطمني مافيهوش حاجة. إنتي عارفة طبعًا إن هالة راحتله دبي و قاعدة معاها فوق الشهرين .. 

أومأت تستحثه على الاسهاب أكثر، فتابع : 

-أنا كان بقالي كتير ماكلمتهاش بصراحة.. و من يومين اتفاجئت إنها بتكلمني. بتقولي حصل شد بينها و بين فادي. و أنها عايزة ترجع مصر في أسرع وقت. أنا هاودتها و قولتلها إني هابعتلها تذكرة. الحقيقة مش عاوزها تخرب على نفسها للمرة التالتة. و كنت جايلك عشان ألاقي معاكي حل 

تنفست "سمر" الصعداء و قالت و هي تتحرك من مكانها لتخرج بعيدًا عن محيطه الضيق : 

-أستاذ نبيل.. أنا مش عارفة حضرتك واخد بالك و لا لأ. بس أنا و اخويا علاقتنا مؤخرًا مابقتش طبيعية. أنا واخدة منه موقف. و مش ناوية أتراجع عن الموقف قبل ما يرجع و يبرر سفره المفاجئ و إهماله ليا أنا و أختي الصغيرة بالشكل ده. أنا آسفة مش هقدر أفيدك في حاجة زي دي ! 

و تقدمت خطوة للأمام لتعود إلى الداخل، لكنه مد يده بنية وقفها.. انتفضت "سمر" قافزة للخلف و هي تنظر ليده، ثم له 

ارتبك "نبيل" من جديد و هو يقول : 

-لحظة بس يا مدام سمر.. أنا مش بضايق حضرتك و الله. لكن أعتقد إن ده أخوكي و مصلحته تهمك زي ما هالة من دمي و مصلحتها تهمني بالظبط 

سمر بانزعاجٍ : يعني المطلوب مني أعمل إيه مش فاهمة.. أنا مابقاش ليا كلام مع فادي زي الأول 

-مش لازم تتكلمي. إيه رأيك تروحيله ؟ 

سمر مجفلة : أروحله ! أروحله فين ؟ قصدك أسافرله دبي ؟ 

نبيل مؤيدًا : بالظبط.. دي فرصة هايلة. و بالمرة تصفو خلافكو. إنتوا مهما كان إخوات 

فكرت "سمر" للحظاتٍ و قالت : 

-أيوة بس أنا عمري ما سافرت لوحدي .. 

ابتسم "نبيل" قائلًا بوداعة : 

-يا ستي اطمني خالص.. أنا هسافر معاكي كده كده. بس محتاج أوراقك و نرتب الرحلة و إن شاء الله نكون عندهم على أول الاسبوع بالكتير 

-نسافر إيه حضرتك !! .. عقّبت "سمر" باستنكارٍ 

-أنا مش ممكن أسافر مع حد مافيش بيني و بينه أي علاقة. ثم عثمان لا يمكن يقبل بحاجة زي دي.. ده يسود عيشتي لو فكرت أعرض عليه الغكرة بس 

عبس "نبيل" باستغرابٍ و قال : 

-ثانية واحدة. عثمان إيه دخله أصلًا ؟ متهيألي ده موضوع يخصك لوحدك. ليكي الحرية تقرري من دماغك. إنتي مش تحت وصايته 

سمر بحدة : أنا حرة إزاي لأ طبعًا مش حرة. عثمان له حق عليا و على تصرفاتي.. إزاي بتقول كده يعني ؟!! 

سألها مدهوشًا : مش إنتي و هو اطلقتوا ؟! 

ردت "سمر" بصوت أكثر خشونة من العادة : 

-ده أي كلام.. إحنا ياما بنتخانق و بنزعل سوا. بس دايمًا بنرجع. لا هو يقدر يستغنى عني و لا أنا يملا عيني راجل غيره. ده جوزي و أبو إبني.. و حبيبي ! 

تجهم وجه "نبيل"... لكنه و قبل أن يرد بكلمة أخرى أعتذرت "سمر" منه لتنسحب قائلة : 

-معلش يا أستاذ نبيل أسمحلي أنهي الحوار. أنا سايبة إبني في الأوضة لوحده و ممكن يصحى في أي لحظة.. لازم يلاقيني جمبه.. عن إذنك ! 

و تجاوزته مسرعة نحو الداخل ... 

ليدير رأسه محدقًا في إثرها بنظرات مصممة أكثر، و قد ازداد تشبثًا بأفكاره أكثر و أكثر ! ........................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

تعليقات



×