رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الرابع
سرت بين دروب الحياة المعتمة بحثًا عن الأمان...فوجدتك أنتَ فأصبحت لي حنية الزمان.
عشنا طوال الحياة نبحث عن الهناء حتى نسينا أنها دارًا للشقاء، فكيف تجد في تلك الدنيا ما يَسرك و أنتَ مجرد شخص كُتِبَ عليه العناء، و ها قد حان وقت الفراق...هل كنت تظن أنك محظوظٌ بالبقاء؟
"البقاء لله آنسة هدير، مادام فاطمة تعيشي أنتِ"
تفوهت الممرضة بتلك الجملة بنظرة عين منكسرة و بنبرةٍ مهتزة مما جعل «جميلة» تذرف دموعها عند صراخ «هدير» وهي تقول بصوتٍ عالٍ:
"أنــتِ بِــتـقــولـي إيـــه؟ دي بتكدب يا جميلة متصدقيهاش... ماما قالتلي أنا مش هسيبك، والله بتكدب....والله بتكدب، هي بتحبني و مش هتسبني...أنـــتِ كــدابـة...كَــ"
عند كلماتها الأخيرة التي خرجت منها بصوتٍ متهدج، سقطت مغشيةً عليها وكأنها ترفض تصديق ذلك الواقع الأليم الذي صدمها بموت أعز الناس على قلبها، أما «جميلة» فبعد ما صرخت باسمها مرارًا ببكاء، حملتها على الأريكة بمعاونة الممرضة ، ثم وقفت بعدها في المنتصف لاتدري ماذا تفعل و كأن طبول الحرب قُرعت فوق رأسها وهي تبكي لا تدري ماذا تفعل، لذلك ركضت فورًا درجات السلم بعدما خرجت من الشقة و كأن عقلها توقف عن العمل حتى غفلت عن استخدام المصعد، وصلت شقة «محمد» وجدت زوجها يجلس برفقة «وليد» و باب الشقة مفتوحٌ على مصراعيه، ركضت تحتضنه وهي تقول ببكاء من بين شهقاتها:
"طنط فاطمة ماتت يا طارق...ماتت قصادي...ماتت و هدير...هدير...أغمى عليها تحت"
صُعق كليهما من ما تفوهت به و اتسعت حدقتيهما، فزاد بكاءها بينما «وليد» تحرك آليًا يركض على سلم البيت حتى وصل أمامها، وقف أمام الفراش مذهولًا لايدري ماذا يفعل، ثم وجه بصره نحو الأريكة وجد «هدير» عليها و الممرضة تحاول ايفاقتها، لكن دون جدوى، لم ينبته لأيًا مما يصير حوله حتى وجد العائلة بأجمعها مجتمعة حوله و صرخات النساء بدأت تعلو تزامنًا مع بكاءهم، فكان المشهد موجعًا للقلب، و يا لها من لحظةٍ مُهيبة تقشعر لها الأبدان، ولكن ما مزق نياط قلوب الجميع، حينما ركضت «هدى» إلى فراش والدتها تزيل الغطاء عن وجهها وهي تقول بصراخ:
"لأ...علشان خاطري متعمليش كدا فيا...متمشيش و تسيبيني... والله مش هزعلك ولا هزعل منك تاني... أنا بحبك أوي والله...غصب عني كنت بزعلك مني...قومي يا ماما....قومي متسبينيش لوحدي...متكسرنيش ببعدك عني....قـــومــي"
صرخت بكلمتها الأخيرة فوجدت «وئام» يحتضنها وهو يبكي بقوة، فوجدها تتشبث به بقوة وهي تقول بصراخ:
"سابتني يا وئام....سابتني و مشيت....كنت عاوزة أقولها أني بحبها، والله بحبها أوي، طب خليها تصحى و أنا مش هزعلها تاني...هي كان نفسها تبقى تيتة....والله قربت خلاص...خليها تصحى بقى علشان خاطري..."
زاد بكاءه هو الآخر وهو يتمسك بها ثم وقف وهي بين ذراعيه تبكي بقوة، فقالت له «سهير» ببكاء:
"خدها من هنا يا بني، الموقف صعب مش هتتحمله، و لسه عمك محمود في الجامع....خدها فوق عندي"
أومأ لها في هدوء ثم حملها بين ذراعيه وهي تبكي و كأنها في عالم آخر لا تدري ما يحدث حولها سوى صوت البكاء، أما هي فكانت تُتمتم بكلمات غير مفهومة من بين بكاءها، فـ سار هو بها حتى وصل شقتهم، ثم وصل غرفته، فـ وضعها على الفراش الخاص بغرفته في شقة والده، وقبل أن يتركها وجدها تتمسك به وهي تُتمتم و كأنها في عالم آخر:
"متمشيش أنتَ كمان...علشان خاطري...هي مشيت...خليك أنتَ"
تنهد هو بألمٍ ثم استلقى بجانبها وهو يأخذها بين ذراعيه مُربتًا على رأسها، أما هي فاستسلمت لتلك الدوامة السوداء التي تهرب إليها من آلامها، تنهد هو بأسى وهو ينظر لها بتمعن، فكيف سيستطع التخفيف عنها في آلامها، ففي نهاية الأمر هذه والدتها، التي لو ظلت العمر بأكمله تبكي على فراقها لن توفيها حقها، زفر بقوة ثم سحب نفسه من جانبها حينما سمع طُرقات على باب الشقة، خرج من الغرفة ثم توجه إلى الصالة بجسدٍ واهن و كأن عمره أصبح الضعف في خلال ثوانٍ، فتح باب الشقة فوجد «وليد» يحمل «هدير» بين ذراعيه و «عبلة» خلفه، فتحدث «وليد» يقول بنبرة متحشرجة:
"مراتك فين يا وئام؟"
رد عليه «وئام» بنبرة حزينة:
"نايمة في أوضتي جوة، هي مش حاسة بحاجة و عمالة تخرف بالكلام"
أومأ له «وليد» ثم قال:
"طب تعالى معايا افتحلي باب أوضتي، تعالي ورايا يا عبلة"
أومأ له كليهما في هدوء وهما يلحقان به، فدخل هو غرفته ثم وضع «هدير» على فراشه وهو ينظر لها بأسى ثم تنهد بضيق، بينما «عبلة» اقتربت تُغطي جسدها ثم ربتت على رأسها بحنو، فسألهما «وئام» بنبرة متحشرجة إثر كتم بكاءه:
"هي هدير حصلها إيه؟ أنا كنت مركز مع هدى"
تنفس «وليد» بقوة ثم قال بنبرةٍ حزينة لأجلها:
"هي اللي خدت الخضة علشان كانت معاها في الأوضة، فأغمى عليها علطول، ولما حاولنا نفوقها صحيت تصرخ و تصوت الممرضة بقى ادتها حقنة مهدئة و أنا جبتها هنا علشان لسه ورانا مشوار طويل، كفاية عمك تحت مقطع قلوبنا كلنا"
تنهد «وئام» بضجرٍ ثم قال بهدوء:
"طب دلوقتي هنعمل إيه؟ الدنيا ليل"
ردت «عبلة» عليه بهدوء:
"طارق راح يجيب حد من اللي شغالين في الصحة عمو مرتضى قاله عليه، علشان على ما الصبح يطلع تكون كل حاجة جاهزة"
أومأ لها «وئام» ولم يعقب بل أخرج هاتفه حينما سمع رنينه، بينما «وليد» التفت لها يقول بتوسل:
"عبلة معلش علشان خاطري أنا، خليكي هنا مع هدى و هدير علشان لو واحدة فيهم فاقت، أنتِ كدا كدا مش هتعملي حاجة تحت، و أنا هجيب سلمى و خلود معاكي هنا"
أومأت له في تفهمٍ ولم تعقب، بينما «وئام» زفر بضيق ثم قال بهدوء:
"طارق بيرن عليا عاوزني أنزله علشان نروح نجيب حاجة الدفن، خلي بالك منها يا عبلة بالله عليكِ دي أمانتك"
أومأت له بعيناها الدامعة، فتركهما هو بعدما نظر لها بامتنان، أما «وليد» فاقترب منها يقول معتذرًا:
"أنا عارف إنك عاقلة و واعية، هدير في موقف صعب و محتاجة وجودنا كلنا جنبها و خصوصًا أنا، استحملي معلش، أنا شيلتها علشان محدش فيه دماغ يعمل كدا، وهي حرام تفضل مرمية كدا، كفاية الصدمة"
أومأت له هي بهدوء ثم أضافت تقول في تفهمٍ:
"أنا عارفة يا وليد مش محتاج تبرر، الله يعينها على اللي هي فيه، دي أمها برضه، وأنتَ راجل مع الكل"
تنهد هز بأريحية ثم احتضنها بقوة بعدما ألقت هي بحديثها أمامه، وهو من ظن أنه سيدخل معها في نقاشات عديدة حتى يبرر لها موقفه، لكنها خالفت توقعاته حينما تفهمته، تنهد هو بعمقٍ لكنه اندهش على الفور حينما شعر بجسدها يرتجف بين ذراعيه، لذلك ابتعد عنها ينظر لها مليًا، فوجد نحيبُها يرتفع بشدة، أمسك هو وجهها بين كفيه وهو يسألها بلهفة:
"مالك يا عبلة؟ بتعيطي ليه طيب؟"
ردت عليه هي ببكاء بعدما مسحت دموعها بظهر كفها:
"هدير و هدى صعبانين عليا،و أنا بخاف من الموت، و مش عارفة هعمل إيه لو صحيوا فجأة"
احتضنها هو من جديد ثم قال وهو يربت على ظهرها:
"ربنا يصبر قلوبهم يا عبلة، و أنتِ متخافيش أنا معاكي هنا و مش هغيب عنك، بس خليكي قوية علشانهم هما....و علشان أنا بستقوى بيكي"
أومأت هي له بقوة وهي تنظر له بعينيها الدامعة، فأومأ لها هو الأخر ثم قال بهدوء:
"أنا هنزل علشان أشوف الدنيا تحت، و أنتِ خليكي هنا معاهم لحد ما خلود و سلمى يطلعوا معاكي"
أومأت له في هدوء، بينما هو سألها و كأنه انتبه للتو:
"محدش عرف خديجة لسه صح؟"
أومات له موافقة في هدوء، فرد عليها بنفس الإيماءة ثم رحل من أمامها حينما وصله صوت هاتفه يصدح برقم «أحمد»، انتظرت هي حتى اختفى اثره ثم جلست على الأريكة تنتظر «خلود» حتى تجلس معها في رعاية بنات عمها.
______________
في شقة «رياض» كان الوضع مُخالفًا للوضع في بيت آلـ الرشيد ، حيث الضحكات المنتشرة و السخرية من «رياض» على الشباب، وقف «رياض» أمام باب الشقة وهو يقول بمرحٍ:
"نورتوني يا جاموسة منك ليه، مشوفش وشكم هنا تاني بقى"
رد عليه «ياسر» بسخرية:
"على فكرة أنتَ اللي جايبنا هنا، احنا قولنالك مش عاوزنين و أنتَ اللي صممت"
تدخل «عامر» يضيف هو الآخر بسخرية:
"لأ و قال إيه يقولك انتو ولادي زي ياسين، مقدرش آكل من غيركم، وهو أساسًا مأكلني بالقسط"
ضحكوا عليه جميعًا بينما «رياض» تحدث بحنقٍ:
"برة يا كلب منك ليه و معاكم ابني كمان، كفاية عليكم كدا، روحوا عند فهمي يلا"
أتت «زهرة» من الداخل وهي تقول بمرحٍ:
"متصدقوهوش دا كداب والله، دا قالي اجهز ليكو الأكل علشان تاخدوه معاكم"
نظروا له جميعهم بتعجبٍ ممزوج بالحب، فقال هو حتى يخفي خجله:
"الله اومال هسيب الأكل دا كله ناكل فيه أنا و زهرة؟ وبعدين دا مش علشانكم، دا علشان البنات ماكلوش كويس"
ردت عليه «ريهام» بحب:
"والله العظيم مفيش أطيب منك، كلنا بنحبك أوي بجد"
تدخل «خالد» يقول بضيق زائف:
"هو أنا علبة مخلل قصادك يا ريهام؟ مش مالي عين أهلك؟ وبعدين بتحبوه على إيه، دا جايبلنا شلل"
تدخل «ياسين» يقول بسخرية:
"شلل بس ؟ شلل و بوادر جلطة، و هترسى في الأخر على موت حد"
رد عليه «رياض» بضيق:
"طب يلا يا اخويا أنتَ وهو، ورايا شغل بكرة مش فاضي ليكم"
ودعه الجميع بعدما احتضنوه وهو ينظر لهم بفرحٍ، أما الفتيات أخذت طعامها من يد «زُهرة» ثم نزلن خلف ازواجهن و معهم «خديجة» أيضًا، وقفوا في الأسفل جميعهم، فقال «ياسين» بهدوء وهو مُبتسمًا:
"طبعًا معروفة، ياسر مع خالد في عربيته، و عامر معايا في عربيتي"
أومأ له الجميع، فقال «عامر» بمرحٍ ساخر:
"فين ميمي تدينا واحدة ربنا يبعد عنكم كل عين يا حبايب قلب أمكم، هي كل ما تشوفنا سوا تقول كدا"
تدخل «خالد» يضيف بمرحٍ هو الأخر:
"و خصوصًا قصاد مرات عم لطفي، عندها اقتناع انها بتحسدنا مع بعض، وهي فعلًا بتحسدنا بس ليه سوء الظن فيها"
ضحكوا جميعًا عليه حتى هو اتسعت ضحكته، بعدها ركبوا السيارتين كما قال «ياسين»، بعد نصف ساعة توقفت السيارتين خلف بعضهما، نزلوا جيمعم من السيارات و كلًا منهم يأخذ زوجته حتى يتوجه إلى مسكنه، صعد «ياسين» إلى شقته وهي خلفه، جلس هو الأريكة وهي بجانبه تتنهد بعمقٍ ثم قالت:
"يـــاه أخيرًا... رجعت شقتي"
ضحك هو بقوة ثم قال متعجبًا:
"ليه محسساني إننا كنا مهاجرين، دا يدوبك يوم واحد"
ردت هي عليه بمرحٍ:
"الواحد مبيرتحش غير في بيته يا ياسين"
ابتسم هو ثم أضاف بسخرية:
"هو لحق يبقى بيتنا؟ لو حسبناها هنلاقي اننا مقعدناش فيه يومين على بعض"
حركت كتفيها ببساطة وهي تعقب على حديثه:
"و إيه يعني هو برضه بيتي، و بيت حبيبي كمان"
نظر لها هو بحبٍ ثم قال بنبرة مرحة:
"الله أكبر إيه الحلاة دي كلها، و الله أنتِ اللي بيتي يا خديجة، صحيح كنت عاوز أسألك على حاجة؟"
قال جملته الأخيرة و كأنه انتبه للتو مما جعلها تنتبه له بكامل حواسها وهي تقول بهدوء:
"اسأل فيه إيه، طمني؟"
ابتسم لها حتى يطمأنها هو ثم قال بهدوء:
"أنتِ لما اختفيتي جوة واحنا قاعدين برة روحتي فين؟ أنا معرفتش اسأل عليكِ ماما، بس سمعت صوتكم عالي شوية، حصل حاجة بينكم؟"
ابتسمت هي له ثم قالت بهدوء حتى تطمئنه:
"كل الحكاية إن أنا كنت بغسل المواعين و بروق المطبخ بس مامتك كانت رافضة و فضلت تقولي إنها مش جيباني علشان اتعب، بس أنا صممت و عندت معها لحد ما خلصت"
ابتسم هو بفخرٍ ثم سألها من جديد:
"طب و أنتِ اقنعتي زُهرة إزاي؟ دي دماغها ناشفة و مش بنعرف نسد معاها"
اتسعت بسمتها ثم اقتربت منه تقول بنبرة هامسة:
"دا سر بقى، قولتلها لو فعلًا بتعتبريني بنتك يبقى تسيبيني أغسل الحاجة، علشان أنا لو في بيتنا ماما عمرها ما هتقولي متعمليش حاجة، هي بقى ضحكت و خرجت"
اتسعت بسمته وهو يقول بمرحٍ:
"بقينا جامدين و بنعرف نتعامل عادي أهوه، اومال كان مالك بقى"
حركت كتفيها ببساطة وكأنها تخبره بعدم معرفتها فوجدته يفتح ذراعه لها وهو يقول بحب:
"تعالي يا خديجة، وحشتيني"
اقتربت منه تعانقه فوجدته يقول بفخرٍ:
"كل شوية اكتشف فيكي حاجة أحلى من اللي قبلها، ربنا يباركلي فيكي و يكملك بعقلك يا رب، بفرح بيكي كأني أب بنته بتكبر قدامه، إحساس حلو بصراحة لواحد زيي كان بيدور على الونس"
رفعت رأسها تنظر له بتشككٍ وهي تقول بمزاح:
"اومال ليه حاسة أني هزهقك مني، ساعات بحس كدا والله أني هكتم على مراوحك"
سألها هو بسخرية حتى يمازحها:
"تكتمي على مراوحي حتة واحدة ؟!! لأ يا ستي مش هتكتمي على مراوحي ولا حاجة، خليكي بس معايا و كله هيبقى زي الفل"
أومأت هي له بقوة ثم تنهدت بعمقٍ، بينما هو أغلق عينيه وهو يبتسم، فوجد هاتفه يصدح عاليًا، فتح عيناه على مضضٍ وهو يقول بسخرية:
"والله العظيم لو طلع رياض وعاوز يهزر، هقفل السكة في وشه علشان قلبي اللي هيقف منه دا"
ابتسمت هي باتساع فوجدته بعتدل في جلسته بعدما أخرج هاتفه وهو يقول باندهاش:
"إيه دا وليد؟ بيتصل ليه دلوقتي؟"
اذدردت لُعابها بخوفٍ ثم قالت:
"يمكن رن عليا و أنا مسمعتوش، رد عليه كدا يا ياسين، الساعة واحدة و أنا قلبي اتقبض"
أومأ لها بهدوء ثم فتح الخط، فأخبره «وليد» بما حدث بهدوء، فرد عليه «ياسين» بذهول:
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا يرحمها ويغفر لها، أنا جاي دلوقتي أهوه"
قال جملته ثم أغلق الهاتف و قبل أن يقف و يهم بالمغادرة نظرت هي له بذعر وهي تسأله بنبرةٍ مهتزة:
"مين اللي ماتت يا ياسين، رد عليا؟ حد من عندنا؟"
أومأ لها ثم قال بهدوء:
"فاطمة مرات عمك محمود تعيشي أنتِ"
شهقت هي بقوة ثم وقفت منتفضة و هي تقول باندهاش و بنبرةٍ أوشكت على البكاء:
"أنتَ بتقول إيه؟ ماتت ازاي، دا وليد قالي أنها تعبانة شوية بس"
وقف هو مقابلًا لها ثم قال مواسيًا لها:
"اهدي يا خديجة..دي اعمار بيد الله سبحانه وتعالى، و بعدين أنتِ هتعيطي ليه، دا قضاء ربنا، يلا غيري هدومك علشان نروح عندكم، هتلاقي بناتها حالتهم صعبة"
لم ترد عليه بل بكت بقوة وهي ترتمي على الأريكة، بينما هو جثى على ركبتيه أمامها وهو يسألها بهدوء:
"مالك طيب يا خديجة؟ بتعيطي ليه؟ مش فاطمة دي مرات عمك اللي كنتِ زعلانة منها"
ارتمت هي عليه وهي تقول ببكاء:
"علشان كدا بعيط.... مكنتش عاوزاها تموت وهي زعلانة أني مش بكلمها، والله كنت هسامحها و كنت هروح ازورها، بس والله مكنتش قادرة أواجهها"
ربت هو عليها وهو يقول بهدوء:
"ادعيلها ربنا يرحمها و يغفر لها، و قولي إنك مسامحة علشان هي دلوقتي في دار الحق و احنا في دار الباطل، الدنيا دي متستاهلش إن حد يفارقها و هو سايب حد وراه مش قادر يسامحه"
ابتعدت هي عنه وهي تسأله بتلهفٍ من بين بكاءها:
"يعني أنا لو سامحتها كدا خلاص صح؟ و هي هترتاح؟ والله لو كدا مسمحاها، و مش زعلانة منها هي كمان"
أومأ لها موافقًا ثم قال:
"جدعة يا خديجة، يلا بقى غيري هدومك علشان نلحق نروح البيت، أكيد محتاجين وجودنا معاهم كلهم، قومي يلا"
تركته هي بعدما حثها بحديثه ولكنها تحركت بآلية شديدة و کأنها مُبرمجة على ذلك تشبه الجسد لكن بلا روح، بينما هو نظر في أثرها بحزن شديد فهو يعلم تمام المعرفة ما تشعر هي به، يعلم أنها ستلوم نفسها، و انها ستحاول بكامل طاقتها تعويض بنات عمها، لكن ما تأكد هو منه أنها ستدخل في نوبة حزن شديدة حتى تعود لمرحها المعتاد معه.
____________
في بيت آلـ الرشيد كان الوضع صعبًا للغاية، النساء في العائلة يقمن بتجهيز مراسم الدفن، و الرجال كلًا منهم يحاول ملاحقة الوقت حتى يتم تشييع جثمان الفقيدة في الصباح الباكر، عدا «محمود» الذي جلس أمام غرفتها ينظر على الغرفة بأعين خاوية و هو يرفض تصديق ما حدث، لا يدري ماذا يفعل فهو فقد شريكة عمره، حتى و إن كانت مخطئة في حق الآخرين، إلا أن عشرته معها و معظم وقت عمره كان برفقتها تلك التي أحبها بصدق و أخلص لها، فارقته هي قبل أن يرد عليها و يخبرها أنه سوف يسامحها، و عند تذكره تلك النقطة، تمردت دموعه رغمًا عنه و فرت على وجنتيه ثم رفع رأسه يقول بأسى:
"مسامحك يا فاطمة...والله مسامحك...يعلم ربنا إن قلبي أني مسامحك من كل قلبي"
قال حديثه ثم تنهد بألمٍ وهو يغادر المكان، نزل يقف أمام باب البيت فوجد سيارة «ياسين» تقف أمام البيت، نزل هو من السيارة وهي خلفه، فاقترب هو من «محمود» وهو يقول بأسى:
"البقاء لله يا عمي، ربنا يصبر قلوبكم و يدخلها فسيح جناته"
أومأ له «محمود» ولم يعقب، بل نظر لـ ابنة اخيه و كأنه يود التأكد منها من مسامحتها لزوجته المتفية، فوجدها تقترب منه وهي تقول ببكاء:
"ربنا يرحمها يا عمي و يسامحها، أنا مسمحاها والله، و مش زعلانة غير على فراقها من قبل ما أشوفها"
رد عليها هو ببكاء:
"ربنا يكرم أصلك يا بنتي، ادعيلها يا خديجة بالله عليكِ إن ربنا يسامحها"
أكدت هي حديثه بقولها المتهدج:
"بدعيلها والله، ربنا يرحمها و يصبر قلوب الكل على فراقها"
أومأ لها ثم دخل الجزء الخاص بالمناسبات الخاصة بالعائلة، أما «ياسين» وقف أمامها ثم مد يده يمسح دموعها وهو يقول بهدوء:
"اطلعي أنتِ عند الستات و أنا هقف هنا مع الرجالة، لو فيه حاجة عاوزاها كلميني و أنا هجبهالك، خلي بالك من نفسك بس"
أومأت له في هدوء ثم أطاعته و ذهبت من أمامه بحزن و بكتفين متهدلين، أما هو تنهد بهدوء ثم توجه إلى رجال العائلة حتى يعاونهم.
أما هي صعدت إلى النساء في الأعلى فوجدتهن في حالة صعبة، حيث كانت أعينهن منتفخة من البكاء خارج غرفة «فاطمة»، فارتمت بين ذراعي والدتها وهي تبكي بقوة، من رهبة الموقف و المنظر حولها، ربتت والدتها على كتفها وهي تبكي معها، في تلك اللحظة دخلت «مشيرة» ببكاء هي الأخرى ثم جلست على مقعد بجانب باب الشقة دون أن تتفوه بحرفًا واحدًا، بل كانت تبكي في صمت، صعد «وليد» إلى الشقة وهو يقول بهدوء و بنبرةٍ متحشرجة:
"هندفنها الصبح بدري خليكم جاهزين و حد فيكم يخلي باله من هدى و هدير علشان مش هناخدهم معانا"
سألته «مروة» ببكاء و كأنها تود لفت نظره:
"إزاي يا وليد؟ دي أمهم برضه يا حبيبي، مش هيروحوا دفنتها ازاي؟"
رد عليها هو مُردفًا بنبرةٍ جامدة:
"علشان هي أمهم مش هينفع آخدهم، واحدة حامل و التانية واخدة مُهديء، عمتي مشيرة و بنات العيلة هيفضلوا معاهم، و باقي ستات العيلة هتيجي تحضر الدفنة عادي الصبح"
وقفت «مشيرة» تسأله بتلهف من بين شهقاتها:
"هدير فين يا وليد؟ طمني عليها، هي عاملة إيه؟"
نظر هو لها بتعجبٍ فوجدها تقول بانفعال:
"متبصليش كدا، هدير أنا اللي مربياها على إيدي يعني في غلاوة بنتي، ابوس ايدك خدني عندها، عاوزة أطمن عليها"
تنهد هو بعمقٍ ثم قال:
"حاضر يا مشيرة، هاخدك ليها، و أنتِ يا خديجة تعالي معايا عند البنات فوق، علشان هدى صحيت و وئام طلع ليها"
أومأت له ثم وقفت أمامه وهي تحتضنه بقوة تزامنًا مع شهقاتها، فتنهد هو بأسى ثم ربت عليها وهو يقول بهدوء حتى يُطمئنها:
"علشان خاطري بطلي عياط، أنا واخدك علشان تهديهم ولا علشان تزودي تعبهم؟"
ردت عليه هي بصوتٍ مكتوم من كتم رأسها في كتفه:
"بعيط علشان أنا بخاف...و أنتَ عارف كدا...و هما صعبانين عليا أوي"
ربت هو عليها ثم قال بهدوء:
"طب علشان بنات عمك اللي محتاجينك فوق بطلي عياط و اطلعي اقعدي معاهم، يلا يا حبيبة أخوكي"
أومأت هي له ثم ابتعدت عنه، بينما «مشيرة» نظرت في أثرها وهي ترحل من أمامها بحزن، فقال هو بسخريته المعهودة، بعدما اقترب منها يتحدث بنبرةٍ هامسة:
"عندك فرصة تثبتي إنك بقيتي مشيرة تانية، وريني بقى السم اللي جواكي خلص ولا دي استراحة....مُحارب؟"
نظرت له باندهاش فوجدته يومأ لها بقوة و كأنه يؤكد صدق حديثه بعدما اتكأ على كلمته الأخيرة، فأومأت هي له بهدوء حينما فهمت مقصده ثم انسحبت من أمامه حتى تصعد للفتيات، فتنهد هو بعمقٍ ثم نزل مرةً أُخرى حتى يُكمل التجهيزات.
_____________
انتهى ذلك اليوم على تلك الأحداث، حيث كانت «خديجة» جالسة أمام «هدير» تتابع سكونها، أما «هدى» فجلست «مشيرة» بجانبها حتى تخفف عنها، فارتمت الأخرى بين ذراعيها تبكي بقوة لعلها تستمد منها العون، استمر الليل في صمت و الفتيات يكررن الكرة في الاطمئنان على هدى و هدير معًا، و أتى الصباح الذي تجهز له الجميع حتى يتم تشييع الجثمان.
في مكانٍ آخر و تحديدًا في المقابر صباحًا، كان هو جالسًا أمام قبرها يتلو القرآن الكريم من المصحف في يده، وبعد الانتهاء من التلاوة وضع باقة الزهور فوق قبرها وهو يقول بنبرةٍ تحمل الأسى بين طياتها:
"أنا جيت علشان أوفي بوعدي ليكي و هو إن أنا أزورك كل سنة، بس أنتِ موفتيش بوعدك معايا يا ريم، سبتيني و أنتِ عارفة أني لوحدي، قولتلك إني خايف عليكي و برضه عملتي اللي في راسك، و شيلت أنا ذنبك و برضه بتألم من غيرك، والله كنتِ مالية عليا حياتي، ليه تختاري حاجة في علم الغيب و تسيبي واحد ملوش غيرك"
تنهد هو بأسى وهو يمد كفه يمسح دمعة هاربة من مقلته تمردت عليه حتى تثبت له أن البكاء هو الحل، وقف هو يطالع القبر بأعين حزينة لا يود فراقه، ولكن في تلك اللحظة حدث ما لم يتوقعه حينما سمع صوتها الذي يبغضه يأتي من خلفها وهي تقول بنبرةٍ متهكمة:
"يا بجاحتك يا شيخ ؟! تقتل القتيل و تمشي في جنازته؟ لو فاكر بالشويتين دول هتضحك عليا تبقى غلطان يا سي حسن"
ضغط هو على جفنيه بشدة تزامنًا مع نطقه بسبة نابية من فمه لم تصل لها، ثم التفت ينظر لها وهو يقول بضيق:
"نعم يا ست فردوس خير؟ هو أنتِ مش وراكي غيري في الحياة؟ ما تشوفي حالك بقى بعيد عني"
ابتسمت هي بسخرية ثم قالت بصوتٍ منفعل ممتزج بالتهكم:
" وهو أنتَ عاوز تضيع بنتي من ايدي و اسكتلك؟ لو حصل إيه هتفضل في عيني أناني و مجرم، ربنا ينتقم منك يا شيخ و دوق حرقة قلبي، بس إزاي و اللي زيك طول عمره لوحده، كفاية إنك تموت لوحدك كدا من غير حد يسندك"
ارتفع الدم في عروقه فم شدد على قبضته حتى ابيضت مفاصله أثناء حديثها وقبل أن تسترسل في حديثها من جديد وجدته يقترب منها يمسك مرفقها وهو يقول بصوتٍ جهوريًا:
"قسمًا بالله لو ما قفلتي بوقك لأخرسك أنا بمعرفتي، بنتك ماتت قضاء و قدر، و أنا مليش دعوة بموتها، بنتك اللي خالفت كلامي و وقفت العلاج علشان تحمل، و عندت مع الدكاترة و معايا، رغم إن الدكتور قالها إن الرحم ضعيف مش حمل جنين، برضه عملت اللي في دماغها و حملت و خبت عليا لحد ما وضعها بقى صعب و الجنين كبر و الرحم انفجر و ماتت، و اعترضت على قضاء ربنا و مرضيتش بالنصيب، و قالت لكل الناس إن أنا اللي عاوز أكون أب علشان متشيلش اللوم لوحدها، و قصاد كل الناس طلعت أنا ابن *** مفتري، بس خلاص بقى أنا جبت أخري، حرام عليكي كلامك اللي زي السم دا، عارف إن اللي زيي لعنة على اللي بيقرب منه، فابعدي أنتِ عني علشان متبقيش ملعونة أنتِ كمان، و لو مش مصدقاني أنتِ عارفة دكتورة بنتك فين، ابقي روحي خدي بصة عليها وهي تقولك"
نظرت هي له بحدقتي على وسعيهما مما تفوه به، فوجدته يبتسم باتساع وهو يقول شامتًا بها:
"مفاجأة مش كدا ؟ بنتك لو تهمك فعلًا كنتي زعلتي عليها بجد، مكانش فرق معاكي عفش ولا شقة، يا شيخة دا بنتك ماتت الجمعة يوم التلات كنتي سايبالي الشقة على البلاط، أنتِ فاكرة نفسك أم أنتِ ؟"
فرت دموعها على وجنتيها فوجدته يترك ذراعها وهو يقول بسخرية:
"ادعيلها ربنا يرحمها و يسامحها، بدل ما تشغلي بالك بيا و بحياتي"
تركها ثم غادر من أمامها تاركًا إياها تبكي بقوة بعدما جلست بجانب المقبرة، أما هو ركب سيارته ثم أخرج هاتفه يفتحه، بعدما قام هو بغلقه الأمس، فوجد عدة مكالمات فائتة من رقم «وليد» و «وئام»، انتابه القلق، لذلك قام بمهاتفة الأول، فأبلغه بما حدث، فـ رد عليه «حسن» بضيق:
"و مقولتليش ليه من امبارح يا وليد؟ هو أنا غريب عنكم، اكيد كنتوا هتحتاجوني معاكم"
رد عليه الأخر بضجرٍ:
"أنتَ غبي يا حسن؟ من امبارح تليفونك مقفول مش عارف أوصل لأهلك، أعمل إيه يعني؟ على العموم احنا رايحين على المقابر أهو، و أنتَ حصلنا على هناك"
رد عليه «حسن» بسرعة كبيرة:
"المقابر دي بيروحها الغريب، لكن أنا أخوكم، هاجي على بيتكم علشان نروح سوا و علشان العربية أكيد هتحتاجوها"
وافقه «وليد» ثم أغلق معه المكالمة، بينما هو تنهد بأسى وهو يفكر في عائلة الرشيد وفي تلك المحنة التي حلت على رؤوس الجميع، فوجد تفكيره يتطرق لها و يفكر بها تلك التي حاولت الانتحار من قبل و أوقعه القدر في طريقها حتى يلحقها، فجأة نهر نفسه بشدة وهو يقول بصوتٍ عالٍ:
"أنتَ فـ إيه ولا فـ إيه يا زفت أنتَ كمان؟ ناقصة عبط منك هي؟"
قال جملته ينهر نفسه ثم توجه في طريقه نحو بيت آلـ الرشيد حتى يقف مع أصدقائه و يؤازرهم في محنتهم تلك.
_____________
فية بيت آلـ الرشيد تجهزوا جميعًا حتى يتم تشييع الجثمان، بعد وضعها في الجسد الخشبي، ذلك الجسد الخشبي الذي تنتهي به حياتنا، كانت «هدى» واقفة تبكي بقوة أمام الشقة، أما «هدير» فوقفت بلا روح تشبه جُثة والدتها ولا تختلف عنها كثيرًا، حتى أنها لم تبكي ولا حتى تفوهت بحرفًا واحدًا، فقط واقفة تشبه التماثيل الصامتة، مجرد جسد، و عند دخول الرجال الشقة حتى يتم أخذ الجثمان، حاولت «هدى» الركض من بين ذراعي عمتها وهي تقول بصراخ:
"لأ...عـــلــشـان خـــاطـري...متخدوهاش مني، والله بحبها.... بحبها أوي.... والله مش هزعلها تاني مني"
خرج حديثها بصوتٍ متهدج من بكاءها، فاقترب منها زوجها يحتضنها، فوجدها تتمسك به وهي تقول ببكاء:
"خليها تصحى علشان خاطري، والله بحبها...دي أمي يا وئام...دي أمي و بحبها و كنت هجبلها الطفل اللي كان نفسها فيه"
وقف «طارق» بجانبه وهو يقول بهدوء:
"خدها جوة و تعالى ورانا علشان لو حاولت من هنا للصبح مش هتعرف تسيبها"
أومأ له ثم أخذها إلى الداخل حتى يجلسها فوجدها تصرخ به بهياج وهي تقول:
"أنا هروح معاكم، مش هسيبها...فاهم، هاجي معاكم"
تنهد هو بأسى تزامنًا مع رفعه كفيه يمسح وجهه بقوة ثم قال بعدما زفر بقوة:
"تعالي يا هدى، دا حقك برضه و دي أمك، بس علشان خاطري مش عاوز انفعال ولا عاوز عياط، ارضي بقضاء ربنا و متعترضيش على حكمه"
وجدها تبكي بقوة وهي ترد عليه بحزن:
"غصب عني دي أمي، صعب عليا والله فراقها على قلبي، هي كانت بتحبنا أوي، و أنا طول عمري ضدها و قاسية عليها...بس كان عندي أرحم إني أشوف جثتها خارجة قصاد عيني كدا...صعب... والله صعب"
احتضنها هو بين ذراعيه ثم قال:
"أنا عارف و مقدر إنه صعب، بس هي كان نفسها تبقى تيتة، يبقى تحافظي على نفسك علشان ربنا يكرمك و هي تفرح في قبرها"
أومأت له ثم أجهشت في البكاء من جديد، فأخذها هو وخرج بها من الغرفة، قابلته «زينب» وهي تقول ببكاء:
"مش هينفع تيجي معانا يا وئام، سيبها هنا يا بني علشان متقعش من طولها هناك، هي مش حمل تعب تاني"
رفعت رأسها بتأهبٍ تنظر له منتظرة رده، فوجدته يقول بهدوء لزوجة عمه:
"معلش يا طنط زينب، بس علشان أكون مطمن عليها قصاد عيني، وهي وعدتني إنها هتسكت، معلش مش هقدر أطمن عليها وهي كدا"
أومأت له «زينب» ثم خرجت من الشقة تلحق بالجميع بعدما خرجوا من الشقة، فتبعها هو وزوجته معه مستندة على ذراعيه، وبعد مرور دقائق ذهبت السيارات من أمام بيت آلـ الرشيد بالرجال و «حسن» معهم بسيارته التي ركب رجال العائلة، أما سيارة «الجثمان» فكان بها «محمود» يجلس بجانب زوجته وهو يبكي و معه «وليد»، أما «ياسين» فكان معه «زينب» و بقية نساء العائلة حتى يتوجهوا إلى المدافن.
في داخل البيت و تحديدًا في الطابق الأول كانت الفتيات ترتدي الملابس السوداء و هن يجلسن و كلًا منهن تبكي بقوة عدا «هدير» التي نظرت أمامها و كأنها ترفض ذلك الواقع الأليم، فدخلت في قوقعة أخرى تحفظها من ذلك العالم الموجع، اقتربت منها «خديجة» تجلس بجانبها وهي تقول بنبرةٍ متحشرجة:
"علشان خاطري يا هدير عيطي و اصرخي و اتكلمي، متسكتيش كدا، سكوتك غلط، قولي أي حاجة طيب، طب زعقي في أي حد فينا طيب"
ظلت «هدير» على وضعها و لم تحرك ساكنًا، ولم تهتم لما تفوهت به ابنة عمها، فاقتربت «عبلة» هي الأخرى تقول بهدوء:
"طب تيجي تنامي شوية فوق؟ أنتِ من الفجر صاحية كدا، تيجي تاكلي طيب"
رفعت رأسها تلقيها على ظهر المقعد بأعين مفتوحة ولم تغير من وضعها السابق، فتنهدت كلتاهما بأسى، عليها أما «مشيرة» فكانت تنظر حولها تراقب ابنتها التي كانت تقوم بتجهيز الطابق الأرضي حتى يتم أخذ العزاء به.
______________
في منتصف اليوم أسفل بيت «رياض» توقفت سيارة «خالد» ومعه أصدقاءه فتحدث «عامر» يسأل بضيق:
"أيوا يعني ليه الشحططة دي؟ ما نروح احنا وخلاص من برة برة"
رد عليه «خالد» بضيق:
"يوه منك يا عامر، قولنا جينا هنا علشان رياض و زهرة يجوا معانا، و احنا رايحين علشان نكبر بأخونا قدام الناس، هنقول تاني"
لوح له «عامر» بذراعيه ولم يتفوه بل نظر له بوجهٍ ممتعض في المرآة، وبعد ثوانٍ وجد «رياض» يفتح الباب بجانبه حتى يجلس معهما، و زوجته جلست بجانب «خالد» في الأمام، بعد القاهما التحية عليهم، فمال «عامر» على أذن «ياسر» يقول بهدوء:
"واد يا ياسر هما لابسين كدا ليه؟ هما رايحين عزا الأميرة ديانا؟"
وكزه «ياسر» في كتفه وهو يقول بحنقٍ:
"يابني اسكت بقى أنتَ فاضي، لم نفسك شوية مش وقته"
انتبه «رياض» لصوتهما فقال بنبرةٍ متوعدة:
"بتقول إيه يا زفت أنتَ و هو؟ سمعوني معاكم كدا علشان أأدبكم"
ابتسم له «عامر» باستفزاز وهو يضيف قائلًا بسخرية:
"لأ ابدًا يا حج رياض، بس هو أنتَ لابس بدلة ليه؟ أنتَ رايح عزا حسن كامي في الأوبرا، عيش عيشتك بقى"
ضحك جميع من بالسيارة، فقال «رياض» بحنقٍ منه:
"ماهو أنتَ جاهل و معندكش زوق، تفتكر هروح العزا لابس إيه؟ جلبية سودا؟ هو أنتَ مروحتش عزا قبل كدا؟"
حرك «عامر» كتفيه ببساطة وهو يقول بسخرية مُقلدًا طريقة «رياض» في بداية حديثه:
"لأ مروحتش عزا قبل كدا، غير من زمان، بس نقول إيه بقى ابنك بومة، داخل العيلة برجله الشمال، بعد اسبوعين رايحين عزا في عيلة مراته"
التفتت له «زهرة» تقول بضيق:
"لم لسانك يا حيوان عن ابني، بدل ما أديك بالقلم على وشك"
حمحم هو باحراج ثم قال بمرحٍ:
"لامؤاخذة يا حجة زهرة، نسيت إنك معانا"
صرخت هي في وجهه وهي تقول بحنقٍ:
"آاااه...متقوليش يا الكلمة دي، قولي يا حجة بس، من غير اسمي"
لوح لها بذراعه ولم يعقب عليها، بينما «خالد» نظر في المرآة وهو يقول بنبرة قوية:
"أستاذ عامر و أستاذ ياسر، و رب الكعبة لو لمحت حد فيكم بيضحك في العزا ولا بيبصلي، هخلي عزاه تاني يوم علطول و نبقى نضحك براحتنا بقى"
رد عليه «عامر» بوجه ممتعض و طريقة تشبه طريقة الأطفال:
"خلاص محدش فيكم يقعد قصادي، و متخليش ياسر يبصلي في العزا"
رد عليه «ياسر» بحنقٍ:
"هو أنتَ كل حاجة تجيبها فيا ؟ أنتَ اللي بيجيلك حول في المشاعر، في حد يضحك في العزا"
رد عليه «عامر» بمرحٍ:
"والله دا بيبقى فال حلو و المرحوم ليلته بتبقى بيضا"
تدخلت «زهرة» تقول بضيق:
"يا بني هتشلني، أنا اللي هخلي ليلتك بيضا على دماغك النهاردة"
رد عليها «خالد» بهدوء بث الرعب في قلبه:
"خليه يجيب أخره، علشان أنا أخري جاب أخره من عامر، يمين بالله لو لمحته بس بيتنفس بصوت عالي، هكتم نفسه خالص"
سأله «عامر» بلهفة ممتزجة بالقلق:
"طب....طب اقول إيه؟ يعني اقف اعمل اي علشان بجد طول عمري بتاع افراح، و بعدين هو مش المفروض ندخل بفاكهة ولا حاجة؟ هندخل العزا بايدينا فاضية؟"
رد عليه «ياسر» بهدوء ساخر:
"هو أنتَ داخل حياة الكبار دي بقالك قد إيه؟ عرفني بس علشان أساعدك"
أضاف «خالد» بسخرية هو الأخر:
"حياة كبار مين يا عمي، دا لسه على عتبة الحضانة مخرجش منها، عاوز يروح العزا بفاكهة، فاكر الجثة رجلها مقطوعة"
ضحك الجميع بقوة ممتزجة بيأسٍ فنظر هو حوله بقلقٍ ثم قال بنبرةٍ مهتزة إثر خوفه:
"ربنا يسترها...خير إن شاء الله"
_____________
في بيت آلـ الرشيد بدأت الناس تتوافد على البيت حتى تقوم بتقديم واجب العزاء ومنهم اصدقاء «ياسين» و والديه، فدخل الرجال العزاء، أما «زهرة» فصعدت للنساء بعدما عادوا من المقابر، بدأت القدم تقل عند النساء و تزداد عند الرجال، أما في الأسفل فوقف «ياسين» بجانب والده و أصدقائه في مكانٍ منزوي عن الأنظار، فقال «رياض» بحكمة:
"عين العقل إنك معاهم من الصبح، أنا كلمت ممتاز و عرفته اللي حصل والراجل قدر موقفك علشان الشغل، متشيلش هم"
رد عليه «ياسين» بامتنان:
"ربنا يباركلي فيك يا رياض، كويس إنك عملت كدا علشان مكانش فيا دماغ اكلم حد في الشغل"
اقترب منه «خالد» يقول بهدوء:
"أنا جايب معايا فلوس ليك، محتاج حاجة تاني؟ لو عاوز عرفني"
رد عليه «ياسين» بهدوء:
"أنا كنت هطلب منك فلوس فعلًا، علشان اللي معايا مش عارف هيكفي ولا لأ"
تدخل «عامر» يضيف بهدوء:
"احنا فكرنا فـ كدا علشان كدا جمعنا ليك مبلغ، و لو عاوز حاجة تاني كلم أي حد مننا هيجيلك علطول"
اضاف «ياسر» بعدما ربت على كتفه:
"شوف كدا حد من العيلة هنا عاوز حاجة؟ علشان نجبها ليهم قبل ما نمشي؟ وخليك أنتَ معاهم"
حرك هو رأسه نفيًا ثم قال:
"الشباب هنا مش مخليين حاجة ناقصة ولا بخلوا بجهدهم، ربنا يقويهم كلهم"
في تلك اللحظة اقتربت منهم والدته ثم قالت بهدوء:
"أنا هبقى أجي بكرة مع البنات يا حبيبي علشان عاوزين يعزوا خديجة"
أومأ لها ثم قال بعدما زفر بقوة:
"فيكم الخير يا ماما، ربنا ما يكتب علينا وجع القلب"
ردت هي عليه بأسى لأجل الفتاتين:
"والله يا بني قلبي وجعني أوي على هدير دي، و على هدى كمان مبهدلة نفسها، ربنا يصبر قلوبهم"
رد عليها هو بنفس الأسى:
"ربنا يصبرهم يا رب، و يهون على قلوب الكل هنا"
ردت عليه هي بسرعة:
"و خديجة برضه شكلها تعبان أوي يا حبيبي، شكلها مهبط خالص خلي بالك منها علشان هي تقدر تقف معاهم هنا"
أومأ لها بهدوء، فوجدهم يودعونه حتى يرحلوا، انتظر رحيل السيارة ثم جلس بجانب الرجال بعدما عاد لمجلسهم الخاص بالعزاء.
في شقة النساء بالاعلى، اقتربت «خلود» تجلس بجانب «خديجة» وهي تقول بهدوء و بنبرةٍ هامسة:
"خديجة، الدوا بتاع هدى خلص و أنا مش معايا فلوس، و عاوزين عصير كمان و جِبن علشان أعرف أأكل البنات مش عاوزين ياكلوا من أكل العزا"
أومأت لها «خديجة» ثم قالت بنفس النبرة الهامسة:
"خلاص يا خلود، هاتي علبة الدوا و أنا هنزل أجيبها و أجيب أكل و حاجات علشان هدى و باقي البنات"
أعطتها «خلود» الروشتة الطبية دون أن يراها أيًا من الموجودين، فسحبت هي نفسها من أمام الجميع ثم نزلت على قدميها حتى تجلب المشتريات، نزلت هي بهدوء حتى لا يراها أيًا من الرجال، و لكن لسوء حظها أو حسنه لا تدري كان هو واقفًا أمام بوابة البيت مباشرةً بجانب «وليد» يستقبلان الناس سويًا، لكنه هو من وقعت عينيه عليها، فانسحب من جانب أخيها بعدما أشار لها حتى تسبقه، أومأت هي له في هدوء ثم سارت بعيدًا عن البيت، و بعد خروجها من مقدمة شارعها وجدته خلفها يقول بهدوء:
"استني يا خديجة رايحة فين؟ حصل حاجة ولا إيه؟"
التفتت هي له تقول ببراءة:
"الدوا بتاع هدى خلص فجأة و كمان هجيب حاجات من السوبر ماركت علشان الشقة شبه فاضية"
أمسك هو كفها ثم قال بهدوء:
"طب تعالي معايا، أنتِ كمان شكلك تعبان و مش واكل كويس، وبعدين مكلمتنيش أنا ولا حد من أخواتك ليه؟"
حركت كتفيها ببساطة وهي تقول بهدوء:
"اتحرجت أكلم حد فيكم في العزا، و بعدين مش مستاهلة يعني المحلات في شارعنا مش بعيدة عني"
تنهد هو ثم سار معها وهي بجانبه و كفيهما متشابكان معًا، وصل إلى الصيدلية بعدما أرشدته هي، فدخلا معًا، أعطت هي الروشتة للطبيب حتى يأتي لها بالدواء، أجمع الطبيب لها المحتويات المطلوبة، ثم مد يده لها، فأخذها منه هو أما هي فأوشكت على اخراج النقود من حاويتها فوجدته يمسك كفها بقوة ثم أخرج النقود من معه و أعطاها للطبيب، نظرت هي في له باندهاش، فوجدته يبتسم للطبيب بعدما أخذ منه الباقي، ثم سحبها و خرج من المكان، بعد خروجهما سألته هي بحنقٍ:
"أنتَ ماسك ايدي كدا ليه طيب؟ و مكشر في وشي ليه، أنا معملتش حاجة ليك علشان كل دا"
التفت هو يقول لها بضيق:
"هو أنا مش مالي عينك يا خديجة؟ جايبة معاكي ابن اختك الصغير علشان تدفعي أنتِ الفلوس؟"
نظرت هي له بتعجب وهي تردف بهدوء:
"أنا مكانش قصدي حاجة والله، دي حركة تلقائية و بعدين أنتَ ذنبك إيه تدفع فلوس الدوا لبنت عمي، حرام عليا، كفاية سهرك من امبارح في الشارع"
رد عليها هو بضيق بعدما عض شفته السفلى:
"يا ستي أنا حر، و بعدين طول ما أنا معاكي مفيش جنيه تصرفيه أنتِ، وبعدين سهر إيه اللي بتقولي عليه، أنا اعتبرت نفسي من عيلة الرشيد خلاص، ولا مش لايق عليكم بقى ؟"
ابتسمت هي رغمًا عنها ثم قالت بهدوء:
"ربنا يحفظك يا ياسين و يبارك فيك ليا يا رب"
ابتسم هو لها ثم قال:
"طب يلا علشان نجيب باقي الحاجات، تعالي معايا"
أومأت له بهدوء ثم سارت معه وهي تتمسك بذراعه، دخل هو السوبر ماركت ثم جلب العديد من المشتريات لها و للفتيات في العائلة، كانت تنظر له هي بتعجبٍ وبعد خروجهما من المكان سألته هي باندهاش:
"ياسين أنتَ جايب كل دا لمين؟ أنتَ جبت نص السوبر ماركت معاك، كدا كتير أوي"
تنهد هو بعمقٍ ثم قال بضيق:
"يا ستي هو أنا أشتكيت؟ و بعدين محدش فيه دماغ علشان ينزل يجيب حاجات من تحت تاني، و أنتِ معاكي ناس تعبانة فوق، يعني عاوزين رعاية"
ابتسمت له بفخرٍ ولم تعقب فوجدته يسألها بشكٍ:
"خديجة من غير ما تكدبي عليا، أنتِ كلتي حاجة النهاردة؟ ولا ماشية على البركة كدا؟"
حركت رأسها نفيًا وهي تقول بهدوء:
"مش عارفة آكل والله، طول ما أنا بعيط مش بعرف آكل، و أنا طول اليوم عمالة أعيط من الصبح"
أومأ لها بضيق ثم أخذها من كفها حتى يتوجه بها إلى البيت، دخل هو بها ثم وقف بجانب المصعد وهو يخرج علبة عصير من الحقيبة، نظرت له هي بتعجبٍ فوجدته يمسك رأسها وهو يقول بنبرة آمرة لا تقبل النقاش:
"أشربي العصير يا خديجة، و على الله تجادلي معايا، هشربك بالعافية"
ردت عليه هي بانهاك واضح:
"مش قادرة والله يا ياسين، علشان خاطري بلاش"
رد عليها هو بنفس اللهجة:
"اشربي يا خديجة، أنتِ عمالة تترعشي و وشك أصفر، يا كدا يا أخدك بيتنا و تاكلي هناك براحتك"
أومأت هي له ثم شرعت في ارتشاف العصير وهو يسقيها بيده، ابتسم هو لها برضا، فوجدها تبادله نفس البسمة، و في تلك اللحظة أتى من خلفهما صوتٍ يسخر منها تعلمه هي جيدًا و تبغضه بشدة:
"اللهُ أكبر يا ست خديجة، فكينا و بقينا بنشرب عصير من ايد الغرب كمان، أومال معايا كانت الدنيا مقفلة ليه؟"
التفت كليهما ينظرا لصاحب ذلك الصوت، فاتسعت حدقتيها حينما رآت ذلك المدعو «راشد»، بينما «ياسين» تركها ثم اقترب منه يقول بلهجة قوية:
"أنتَ مين يا نجم؟ أصل شايفك محموق أوي كدا وهي معايا، عرفني بنفسك"
ابتسم الأخر بسخرية ثم تبعها بقوله المتعالٍ:
"أنا راشد ابراهيم، كنت خطيب الآنسة المحترمة، أنتَ مين بقى"
نظر «ياسين» خلفه يطالعها بشررٍ يتطاير من عيناه فوجدها تزدرد لُعابها بخوفٍ، فالتفت مرةً أُخرى ينظر لذلك الماثل أمامه وهو يقول بخبثٍ أول مرة تعهده هي منه:
"حبيب قلبي يا راشد، نورت مصر، أحب أقدملك نفسي، معاك ياسين رياض الشيخ جوز الأنسة المحترمة"
سأله «راشد» باندهاش ممتزج بانفعال:
"إيه؟ بتقول مين؟"
اقترب منه «ياسين» وهو يبتسم بشرٍ ثم قال بهدوء مخيف:
" و ماله نقول تاني، معاك ياسين رياض الشيخ جوز المدام خديجة ، كدا عرفتك نظري، تعالى أعرفك عملي"
قال جملته ثم حرك رأسه بقوة يلكم ذلك الماثل أمامه بقوة جعلته يرتعد للخلف و الدماء تسيل من أنفه على الفور، تزامنًا مع شهقة قوية خرجت من «خديجة» مع تحول بشرتها للون الأبيض و كأن الدماء فرت مع صوتها خوفًا مما هو آتٍ.