رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني الفصل الثالث3 بقلم مريم غريب


  رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الثالث بقلم مريم غريب



_ أما الدموع فلا ! _


كانت حقيبة كتف صغيرة هي كل ما قرر "عثمان" إصطحابه معه في تلك الرحلة القصيرة، حيث وضع بها القليل من أغراضه الشخصية تحسبًا لأيّ طارئ


أغلق باب غرفته و هو يخرج متجهًا للأسفل بخطواته المهرولة، بينما يمسك بالهاتف بيده الأخرى مخاطبًا إبن عمه و زوج أخته :


-قلت ماتجيش يا صالح إنت مابتفهمش ! .. كان لهجته ملؤها الحزم و الضيق


-مش لسا قايلك إني نازل من البيت أهو و جاي لحد عندكوا ؟ .. و بعدين مافيش حاجة تيجي عشانها هنا.. مراد عندك في القاهرة و أنا كمان ساعتين تلاتة هاكون وصلت هاخدك و نروحله.. تمام.. أوك.. باي


و أقفل معه، ثم أعاد الهاتف إلى جيبه ...


لم يكد يجتاز الردهة المؤدية لباب المنزل، ليستوقفه صوت عمه الجهوري :


-عثمـــان !


جمد "عثمان" بمكانه للحظة، ثم إلتفت نحو صوت "رفعت" قائلًا :


-أيوة يا عمي !


رمقه "رفعت" بنظرة متفحصة و إقترب منه و هو يتساءل بلهجة لا تخفي إنزعاجه :


-إنت رايح فين كده يابني ؟ أنا كنت طالعلك دلوقتي عشان أتكلم معاك بخصوص المصايب إللي بتحصلَّنا دي


عثمان بفتور : عمي أنا عايزك ماتقلقش خالص و ماتشلش هم. سيبني أنا أتصرف و إن شاء الله كل إللي إتكسر هايتصلح في أقرب وقت


رفعت بإستنكار : يتصلح إزاي يابني ؟ إنت ماعرفتش إن صاحبك طلق بنتي بالتلاتة رسمي ؟ خلاص مالهمش رجعة


بدأ السأم ينال من "عثمان" أمام حديث عمه العبثي، أطلق نهدة مطوّلة من عمق صدره ثم نظر إليه مستوضحًا بصبر :


-طيب يا عمي.. لما حضرتك عارف حاجة زي كده المطلوب مني أنا إيه دلوقتي ؟!


دهش "رفعت" من رده لوهلة، ثم قال بتوتر واضح :


-يا عثمان أكيد الحل عندك إنت. أكيد إنت عارف كلام الناس و آ ا ...


-خلاص يا عمي ! .. قاطعه "عثمان" بتفاذ صبر


تمالك أعصابه من جديد و قال بلهجة أكثر هدوءًا :


-قلتلك إطمن.. أنا هاتصرف و كله هايبقى كويس. عن إذنك بقى لازم أمشي دلوقتي


و إستدار موليًا إلى الخارج يراقبه "رفعت" بنظراته القلقة ...


ترى علام ينوي "عثمان" ؟ الوضع لا يطمئن البتة !!!


_________________


غرفت "سمر" طبق العشاء الأخير و ناولت "ملك" إياه، فسبقتها الصغيرة إلى الصالة حيث طاولة الطعام.. فأحضرت هي الكؤوس و أبريق المياه، ثم ذهبت لتنضم إلى أخويها


كان "فادي" يجلس كعادته مترأسًا السفرة الجديدة التي أوردتها "سمر" إلى المنزل منذ عودتها إليه، كان واجمًا و كئيبًا مثل المعتاد أيضًا، إلا إن وجهه الآن يعلوه تعبير إستغراب و إهتمام.. عندما لاحظ بأن أخته الكبيرة تتحاشى النظر إليه


إنتظر حتى جلست أمامه و تحدث إليها بلهجته الباردة التي إكتسبها مؤخرًا :


-إنتي كويسة يا سمر !


تجبر "سمر" على التطلع إلى وجهه الآن، تقسر نفسها على الإبتسام و هي تقول برقة :


-آه كويسة يا حبيبي.. تسلملي يارب


رمقها "فادي" بنظرة مشككة و قال بثقة :


-لأ إنتي مش كويسة. إنتي فيكي حاجة متغيرة إنهاردة. من ساعة ما رجعتي من عند جوزك ! .. ثم سألها بقلق حقيقي :


-يحيى تعبان و لا إيه ؟!!!


هزت "سمر" رأسها نفيًا و قالت :


-لأ يا حبيبي يحيى بخير الحمدلله. هي بس حقنة التطعيم إللي أخدها مأثرة عليه شوية زي كل الأطفال. بس بسيطة يعني مش لدرجة تتعبه


يتنفس "فادي" براحة عندما طمئنته أخته على طفلها و يقول :


-ربنا يديم عليه الصحة و العافية و يكون سند و ضهر ليكي في الدنيا يا حبيبتي


سمر بلهجة عطوفة :


-و يديمك في حياتي يا غالي. إنت بردو سندي و ضهري في الدنيا يا فادي دلوقتي و حتى من قبل ما أشوف إبني


إلتوى ثغر "فادي" بإبتسامة ساخرة و هو يقول رابتًا على رأس "ملك" بحنان :


-كنت يا سمر. إنتي مش شايفاني بقيت عامل إزاي و لا إيه ؟! .. و أشار نحو ذراعه المبتورة


سمر بجدية : مالك ؟ ما أنت زي الفل أهو. مافكش حاجة


فادي بتهكم مرير :


-مافياش حاجة ؟ إحنا هانضحك على بعض يا سمر ؟ أومال عجزي ده تسميه إيه ؟!


-ماتقولش كده إنت مش عاجز ! .. قالتها "سمر" بإحتجاج منفعل


-ياما ناس كتير بيجرالهم أكتر من كده و بيعيشوا و يكملوا عادي جدًا


صمت قصير..ثم قال "فادي" بلهجته اليائسة و هو يحدق أمامه في اللا شيء :


-بس أنا غير يا سمر.. أنا كان عندي حسابات تانية خالص لحياتي و مستقبلي. كنت مخطط لكل هدف حتى لو كان هاياخد سنين.. كنت مكمل و أنا مرتاح. و فجأة كله إتهد.. في ثانية كل حاجة ضاعت. و خسرت


سمر بإعتراض : لأ يا فادي. ماخسرتش و مافيش حاجة ضاعت .. ثم لانت نبرتها و هي تستطرد :


-إنت بس إللي لسا مصدوم.. لما تفوق يا حبيبي هاتقدر تبني أحلامك و تحقق طموحك من تاني.. صدقني أنا متأكدة إنك تقدر


يكبت "فادي" إنفعالًا سببته كلماتها، ليرد عليها بخشونة ملحوظة أجفلت أختهما الصغيرة :


-بطلي تعيدي الكلام إللي مالوش أي لازمة ده يا سمر. مش لازم كل مرة أفهمك إني إنتهيت. إني إتفصلت من شغلي و عمري إللي ضيعته في الدراسة أصبح مالوش قيمة. و حتى لو حبيت أشتغل في حاجة مش في مجالي. مش هلاقي فرصة بحالتي دي.. يعني دلوقتي إنتي رجعتي راجل البيت ده يا سمر. رجعتي تصرفي عليه و عليا زي ما بتعملي طول عمرك. و أنا إللي بقيت راجل لكن في البطاقة بس !


كانت تشد بقبضتيها على شرشف الطاولة من الأسفل و هي تستمع إليه بقلب مثقل بالحزن عليه و عليها في آن.. حتى إنتهى، لتقول له بصوت به حشرجة خفيفة :


-إنت أحسن راجل في الدنيا كلها. و بكرة هاتبقى كويس أنا مش هاسيبك إلا لما تبقى كويس


فادي بسخط : يبقى عمرك ما هاتسبيني !


أرهبتها عبارته و بدا عليها الإرتباك للحظة، إلا أنها ما لبثت أن وارته بإبتسامة متوترة و هي تقول :


-أنا في كل الحالات عمري ما هاسيبك طبعًا. بس أكيد في حاجات هاتفرق بينا شوية و دي سنة الحياة يا حبيبي


عقد "فادي" حاجبيه متسائلًا بإقتضاب :


-إيه إللي ممكن يفرق بينا مش فاهم ؟!


تنحنحت "سمر" و تركت أدوات الطعام من يدها تمامًا، نظرت بعينيه قائلة بشجاعة :


-أصلي بصراحة بفكر أخطبلك. أظن آن الأوان بقى ترتبط.. و لا إيه رأيك ؟


يتجهم وجه "فادي" و هو يرنو إليها صمت مريب ...


إزدادت "سمر" إرتيابًا من ردة فعله الغامضة تلك، بينما يقول فجأة بمنتهى الثبات :


-إنتي فكرتي في الموضوع ده عشان نفسك تخلصي من مسؤوليتي صح يا سمر ؟


توترت "سمر" بشدة عندما قال ذلك و ردت بسرعة :


-لأ طبعًا إيه إللي إنت بتقوله ده ؟ معقول أنا هابقى عايزة أخلص منك يعني ؟ أنا كنت بفكر في مصلحتك يا فادي و قلت جايز الإرتباط يخفف عنك مشاعر السلبية إللي بتحس بيها و آ ا ..


أسكتها "فادي" بإشارة من يده و لبث صامتًا لدقيقة ...


إنتظرت "سمر" أن يرد عليها، لكنه لم يفعل.. إنما فقط أزاح الكرسي للخلف، و قام من مكانه و أدبر عائدًا إلى غرفته في هدوء شديد


حدقت "سمر" في إثره و هي تشعر بالصدمة من نفسها.. إكتسحها الشعور بالذنب و جعل الدموع تقفز إلى عينيها من جديد.. كيف إستطاعت أن تقول لأخيها هذا الكلام ؟ كيف لم تنتبه ؟ منذ متى كان "فادي" غبيًا كي لا يفهم قصدها ؟؟؟؟


رباه... أي جرح نكأت من جراح أخيها الآن !!!


___________________


بضاحية ما بمدينة القاهرة ...


يصل "عثمان" إلى العنوان الذي بعثه إليه صديقه برسالة مقتضبة، يجد "صالح" ينتظره أسفل البناية المتواضعة


ما إن رآه يترجل من سيارته حتى مضى صوبه مسرعًا و هو يهتف :


-أخيرًا وصلت.. أنا واقف ملطوع هنا بقالي ساعتين و شوفت الزفت مراد و هو طالع. كنت هارتكب جريمة لولا مسكت نفسي


يغلق "عثمان" سيارته وهو يرد عليه ببروده المعهود :


-ياريت بقى تمسك أعصابك أكتر عشان لسا التقبل جاي. أنا ماكنتش عايزك في القاعدة دي أصلًا. ف ماتخلنيش أندم .. و مشى نحو بوابة البناية


تبعه "صالح" مغمغمًا بغيظ :


-إنت شايفني عيل صغير ؟ ماشي هاسيبك إنت تتكلم و أما نشوف أخرتها !


عثمان بضجر : شاطر. ورايا بقى من سكات !


دقيقتان و كانا قد وصلا إلى الطابق الأخير، حيث صارا أمام غرفة مشيدة بالطوب و الحجارة يكسوها طلاء مريح للبصر و يتوسطها باب خشبي مصقول غامق لونه


كان الباب مفتوحًا عن آخره، لكن "عثمان" لم يرى شيئًا خلفه، مجرد ضوء أصفر مشع بالداخل، فسار للأمام يجاوره "صالح"، حتى صارا عند الباب تمامًا ...


دق "عثمان" عليه و هو يمد رأسه مستطلعًا ...


-سلام عليكوا ! .. صاح "عثمان" بصوته القوي


آتاه صوت رجولي أجش على الفور :


-و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته.. إتفضلوا !


مد "عثمان" ساقه و ولج و هو يحث "صالح" على إتباعه، رفع نظراته مستكشفًا، ليرى صديقه و رجلًا آخر وجهه غريب عليه، لا يعرفه إطلاقًا لكنه بدا سمحًا و إمارات الورع تتجلى على ملامحه العذبة الهادئة.. كانا يجلسان أمامه فوق آريكة صغيرة بنهاية الغرفة الأشبه بغرفة مكتب أنيق و قديم الطراز، فتوقف "عثمان" عند نقطة معينة و أشار لـ"صالح" ليقف هو الآخر


تطلع "عثمان" إلى صديقه الجالس هناك على بعد خطوات منه عابس الوجه متوترًا، و تساءل بجمود و هو يشير لذلك الشخص الغريب الذي يجلس إلى جواره :


-مراد باشا ! ممكن أعرف مين الأستاذ ؟


و هنا يرد الرجل ذو الوقار و الرصانة المثيرة للإعجاب نيابة عن "مراد" المتأهب للإنفجار كبركان بأيّ لحظة :


-أنا الشيخ أدهم عمران.. إتفضل يا أخي لو سمحت. كنا في إنتظارك !


في هذه اللحظة تبادل كلًا من "عثمان" و "صالح" النظرات و قالا في صوتٍ واحد :


-شيخ !!! ............................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

الفصل الرابع من هنا

تعليقات



×