رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل التاسع و الثلاثون 39 بقلم مريم غريب
_ إنها الفتنة ! _
لم يتردد "صالح البحيري" لحظة عندما قرر المجيئ إلى هنا فور إنهاؤه الحديث الهام الذي دار بينه و بين زوجة عمه، و الذي يتعلق بمستقبل و مصير العائلة ...
في الحقيقة أنه لم يدخر الكثير من الوقت و إنطلق مسرعًا بملابسه المنزلية المؤلفة من سروال و سترة يحملان توقيع أفخم علامة تجارية رياضية
كان الحي الشعبي الذي يعرفه جيدًا صاخب كالمعتاد، الحركة فيه مستمرة و المتاجر المتنوعة لا تخلو من الناس.. بديهي، في زمن الوباء هذا يكون الإقبال على السلع الطبية و الغذائية تاريخيًا !
ركن "صالح" سيارته أمام المنزل الذي أمست تقطن فيه أخته، ترجل في الحال و سارع تجاه البوابة الصدئة غير عابئًا حتى بإغلاق السيارة ...
إرتقى درجات السلم بسرعة فائقة، كان أمام باب شقتها في غضون ثوانٍ.. أخذ يقرع الجرس و يطرق الباب بقوة و إلحاح... و لكن لا مجيب
إلى أن ظهرت تلك السيدة من ورائه فجأة ...
-إيه يا حضرة إنت ده !!!
إستدار "صالح" نحو الصوت الأنثوي، كانت امرأة ثلاثينية، متواضعة الهيئة و عادية الجمال.. وقفت أمام باب الشقة المقابلة ..
تطلع إليها عابسًا و هو يقول بصوتٍ أجش :
-أنا آسف على الإزعاج.. بس بقالي شوية بخبط و محدش بيفتح !
السيدة بحدة : و ده خبط ده ! إنت فاضلك حبة و كنت هاتهلع الباب.. ماتعرفش تصطبر شوية !!
-أصطبر ! .. ردد "صالح" رافعًا حاجبه بدهشة
لكنه تجاوز أسلوبها المتدني و تابع بلهجته الجادة :
-طيب حضرتك ساكنة هنا مش كده ؟ ماشوفتيش الأستاذ فادي و مراته خالص أنهاردة ؟!
-البشمهندز فادي لسا نازل من مافيش. و الست هالة مراته نزلت من الصبح مع واحد بيه كده قالت إنه قريبها !
-أوكي متشكر أوي. عن إذنك !
و تقدم يعدو من جانبها مهرولًا و متجاهلًا صياحها المليئ بالعبارات السوقية ...
كان قد أخرج هاتفه ليجري الاتصال برقم شقيقته أثناء هبوطه للأسفل.. إنقطع الرنين لحظة وصوله إلى سيارته، فضرب الباب بقبضته العنيفة و السباب ينهمر من فمه بصخب إجتذب إليه أنظار المارة
تمالك أعصابه بجهد، إستقل خلف المقود ثانيةً و شغل محرك السيارة و هو لا ينفك يغمغم من بين أسنانه :
-قافلة موبايلك كمان يا هالة ؟ .. طيب. و رحمة أمي.. بس لما أشوفك. لما أشوفك !
و إنطلق عائدًا أدراجه نحو القصر ....
_____________
الاحتفال على أشدّه.. خاصةً لحظة إتمام عقد القران، إنفجر الجمع الغفير صائحًا و تداخلت زغاريد النسوة.. رغم إن الحفل منقسم، الرجال في جهة و للنساء في جهة أخرى كما كان حفل زواج الدكتور "أدهم عمران" و إبنة خاله الفاتنة و الفتنة.. "سلاف البارودي" ...
كان العريس... "مراد" يستقبل التهاني و المصافحات من الجميع راسمًا إبتسامة كبيرة على وجهه.. بدت عليه السعادة حقًا
ما جعل "عثمان" سعيدًا لأجله بدوره، و مرتاحًا و هو يقبل عليه برفقة "أدهم".. و من دون مقدمات، مد يده و أمسك بكتفه مجتذبًا إياه للخلف بلطفٍ.. لم تكن تلك سوى حركة خفيفة للفت إنتباهه فقط
يستدير "مراد" باللحظة التالية، فتختفي إبتسامته فورًا، حين وقعت عيناه على صديقه المقرب... يكاد لا يصدق نفسه.. و الارتباك قد أبقاه صامتًا بشكلٍ كوميدي
ليتخذ "عثمان" الخطوة التالية و يشده نحوه بقوة ليعانقه رابتًا على ظهره مرارًا و هو يتمتم له بصوته الخشن :
-بتتجوز تاني من ورايا ؟ لو ماكنش الدكتور أدهم عزمني مش عايز أقولك كنت هاعمل فيك إيه... واحشني. واحشني يالا !
لم يستطع "مراد" أن يحجم من شوقه إلى صديقه أكثر من ذلك ....
رفع ذراعاه و عانقه هو الآخر بشدة و قد طارت كل العداوات و الخلافات السابقة كورقة بمهب الريح... و تلك الريح القوية ما كانت سوى صداقتهما، صداقة دامت عمرًا، و يبدو أنها مستمرة، إلى أجلٍ طويلٍ جدًا ....
°°°°°°°°°°°°°°°°°
على الطرف الآخر ...
الصوان الخاص بالنساء، جميعهن الآن حول العروس.. و الجدة التي نال منها الهرم بشكل محلوظ جدًا، كانت تدفعها "سلاف" بالمقعد المتحرك لتوصلها عند "إيمان" التي تزدان الليلة بالأبيض
بالرغم من أنها تزوجت مرة من إبن عمتها و أقامت زفاف أسطوري و لديها طفلة أيضًا تلهو حولها بفستانٍ يلائم حجمها الصغير... لقد أقسمت بعد أن ترملت بأنها لن تتزوج و لن يمسسها رجلًا بعد زوجها و حبيبها، كان شابًا فاسقًا و لا خير يرجى منه ..
لكنها أحبته و وقفت أمام الجميع من أجله.. حتى توفى، و حتى قابلت "مراد".. و يكون قريبًا منها أيضًا... من العائلة.. آتى منذ وقت قريب ليقيم بمنزلهم لفترة، و سرعان ما وقعت بحبه.. هكذا من غير إستئذان وطأ قلبها
لماذا ؟ و كيف ؟ .. لا تعرف... كل ما تعرفه بأنه قد فاز بقلبها، و أنها الآن تحبه و لا ترى غيره.. لا تريد غيره !
تترك "سلاف" جدتها عند العروس، تمضي عائدة نحو ضيفتها الخاصة.. تمكنت "سمر" من رؤية عيناها الضاحكتان من أسفل النقاب
تبسمت لها بدورها و ألقت عليها التحية فور وصولها مصافحة إياها و متجاهلة تعليمات زوجها الوقائية :
-مساء الورد يا سوفا. ألف ألف مبروك عليكوا يا حبيبتي !
قبلتها "سلاف" على خديها و شدت كرسي لتجلس بجوارها و هي تقول :
-الله يبارك فيكي يا أم يحيى.. خطوة عزيزة. بجد فرحت لما شوفتك
سمر بإمتنان : ربنا يحفظك يارب. أنا ماحبتكيش من شوية. إنتي غلاوتك في قلبي كبيرة. عمري ما هانسى إللي عملتيه معايا.. كنتي أخت بالظبط
-القلوب عند بعضها و الله يا حبيبتي .. ثم قالت بلهجة ذات مغزى :
-و إن شاالله تكوني بخير و أحوالك تمام دلوقتي !
رمقتها "سمر" بنظرة مجفلة ...
توقعت أن تسألها عن تلك الخصوصيات التي ترمي إليها الآن، لكن ليس بهذه السرعة... لقد بوغتت !!!
-شكلك مش كويسة يا أم يحيى ! .. قالتها "سلاف" بحذاقة لا تخيب
و كشيمة "سمر" الهشة دائمًا، لم تستطع السيطرة على مشاعرها الدفينة.. و كأنها بركان يهدد بالانفجار
بإعجوبة واصلت قمعها، فقط راحت تحملق بعيني الأخيرة بصمتٍ و الدموع الساخنة تترقرق بمآقيها ...
تمتمت "سلاف" و هي تهز رأسها بشيء من العصبية :
-و الله كنت عارفة.. طيب. خلاص. خلاص إهدي !
و تطلعت حولهما للحظاتٍ، ثم أمسكت بيدها و قامت قائلة :
-تعالي معايا يا أم يحيى !
-على فين يا مدام سلاف ؟! .. تساءلت "سمر" و هي ترفع رأسها صوبها
أجابت "سلاف" بحزمٍ :
-البيت مليان على آخره. و أنا عايزاكي في كلمتين.. تعالي نطلع برا شوية !
لم تجد "سمر" فرصة للإعتراض أو حتى التفكير.. سحبت حقيبة يدها و مشت مع مضيفتها بفمٍ مطبق ....
°°°°°°°°°°°°°°°°°
تحوّل العرس بين لحظة و الأخرى إلى نادٍ رجالي حقيقي ...
كان الجميع يتراشقون بالنكات و المداعبات حول العريس تارة، و بين بعضهم بعض تارة.. كان هناك مرح كبير، لكنه بالطبع خلا من أيّ تجاوزات في حضور الدكتور "أدهم" بالأخص
ليستحوذ "عثمان" فجأة على صديقه، فيذهب ليجلس بجواره.. و بعد وصلة من العتاب و الاعتذارات المتبادلة.. يقفز المرح بينهما، فيقول "عثمان" مشاكسًا بوقاحةٍ :
-إيه يا عريس.. قاعد منشّي كده ليه ؟ مش أول مرة دي. أساعدك طيب ؟!
أدار "مراد" رأسه نحو "عثمان" و قال بلهجة زاجرة :
-بقولك إيه يابن البحيري. ماتهزرش في الحاجات دي معايا. أنا بتجوز مش بلعب !
إنفجر "عثمان" مقهقهًا و قال :
-ياض قصدي أساعدك.. أديك نصايح يعني إنت فهمت إيه ؟
-لا ياخويا وفر نصايحك دي. أنا تمام
-يا رااااجل ! فكر طيب. أنا هامشي و هاسيبك !!
و غمر له بشقاوة
مراد بنظرة مغترة :
-شايفني عيّل و لا إيه ؟ و لا ناسي عمايلنا السودا قبل ما ربنا يهديك و تتجوز ؟ ماتقلقش عليا.. شد من هنا و إنت مطمن يا حلاوة !
أمال "عثمان" رأسه صوبه و هو يهمس له محذرًا :
-طيب احترم نفسك. بدل ما أقوم وسط الرجالة دي و أقولك الحلاوة دي تعمل بيها إيه يالا !!!
ضحك "مراد" بانطلاق و سارع بكم فاه صديقه خوفًا من أن ينفذ تهديده بالفعل.. فهو يعرفه جيدًا ...
-بتعمل إيه يا مراد باشا !! .. قال "أدهم" هذا و هو يلتفت مقبلًا عليهما
تطلع الصديقان إليه، بينما يقول بابتسامته العذبة و لهجته الوقورة اللطيفة :
-أنا سمعت كل حاجة خلاص.. الله يهديكوا. بس أد إيه إنت كنت مؤدب منغير صاحبك.. على رأي المثل. حلة و لاقت غطاها !
أزال "عثمان" كف "مراد" عن فمه، و قال ضاحكًا و يسدد له لكمة خفيفة بكتفه :
-ده صديق السوء ده يا دكتور.. سبحان الذي هدانا لهذا. و ما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله ...
ضحك "أدهم" بدوره و قال موافقًا :
-آه و الله عندك حق.. يهدي من يشاء و كله بمشيئته. ربنا يثبتكوا !
عثمان / مراد : آمين يارب !
و على حين غرَّة... و كأنها قوة جذب مغناطيسية، لمح "عثمان" و هو يجلس مكانه طيف زوجته و هي تعبر إلى خارج المنزل إلى جانب ظلًا أسودًا ...
عبس بشدة و قد تلاشى مرحه في ثانية، و من دون أن يقول كلمة.. قام من مكانه منسحبًا ورائها كلمح البصر !!!
°°°°°°°°°°°°°°°°°
-يعني إنتي عاملة في نفسك كل ده على مافيش !!! .. قالتها "سلاف" بلهجة ملؤها الدهشة
كانت "سمر" تقف مقابلها مستندة إلى سيارة زوجها التي لا تزال دافئة... كانا ذراعيها معقودين أمام صدرها.. لقد أجابت على أسئلتها حتى الآن بشقّ الأنفس، رغم أنها أسئلة خاصة جدًا.. فلم تشأ إلتزام الصمت وصولًا إلى تلك النقطة
ردت فقط حفاظًا على أعصابها الماضية نحو الانهيار ...
-ما إنتي سمعتيني دلوقتي و أنا بقولك.. أنا خوفت !
سلاف باستنكار : خوفتي من إيه يا سمر ؟؟؟
أخذت "سمر" تتململ بمكانها و هي تقول بصعوبة :
-خوفت من رده.. هو قالي مستعد يشرحلي كل حاجة. مستعد يجاوبني و يقولي ليه عمل كده.. بس أنا مش واثقة في كلامه. مش واثقة في إللي ممكن يقوله. إذا كان مقنع و لا لأ. إذا كان شيء يستحق إللي عمله !!
قطبت "سلاف" حاجبيها قائلة بتعجبٍ :
-يعني هاتفضلي كده كتير ؟ أنا عارفة إني مدخلة في حياتك جامد.. بس ده مش من فراغ. أنا يا سمر لما شوفتك في حاجة جوايا زعقت و قالتلي لازم أفضل جمبك.حتى قبل ما أشوفك أقسملك بالله. أنا مؤمنة إن ربنا بيسخر عباد لعباد. و إنتي زي ما عرفت منك وحدانية قدام جوزك و عيلته.. من حسن حظك إنك قابلتيني !
نظرت "سمر" لها و قالت بريبة :
-يعني إنتي عايزاني أعمل إيه ؟ أنا مش أد إني أقف قصاده أصلًا.. و أنا مابحبش المشاكل أيًا كانت
-إنتي إيه السلبية إللي فيكي دي !!! .. غمغمت "سلاف" بغيظ شديد
-ما تاخدي موقف بقى. إطلبي الطلاق !
علّقت "سمر" على الفور و الذعر ملء صوتها :
-طلاق إيه ! لأ.. لأ طبعًا. أنا مقدرش أعمل كده ...
رمقتها "سلاف" بنظرات ذاهلة و قد أخرستها صدمة الرد... بينما تستطرد "سمر" بلهجة متوترة :
-هو صحيح أكتر راجل أناني و إستغلالي و عديم الرحمة قابلته في حياتي.. بس في طفل بينا. و كمان أنا. أنا بحبه !
-طيب ياستي كتر خيرك و الله على آخر كلمة دي مش عارف أقولك إيه بجد !!!
جمدت الدماء بعروقها حين تناهى صوته إلى مسامعها في هذه اللحظة.. لم تكن لديها شجاعة كافية لتستدير خلفها الآن... حيث بالتأكيد هو يقف هناك
لكنها فعلت في الأخير... إذ سرعان ما أدركت بأن المواجهة بينهما دائمًا حتمية.. مهما كافحت لتتفادى ذلك ...
حبست أنفاسها عندما رأته بوجهها هكذا.. كان أقرب مِمّ توقعت... و نظراته الفتّاكة لم تكن تشملها هي فحسب، لقد كان يرشق "سلاف" لأول مرة علانيةً و كأنه يناصبها عداء قديم
كان يبدو أن الشيء الوحيد الذي يمنعه عن دق عنقها هو أن امرأة !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ............................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!