رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الثالث و الثلاثون 33 بقلم مريم غريب
_ صراحة ! _
كان الوقت فجرًا... لحظات ظلام الليل الأخيرة.. الهدوء سيد الموقف... نسمات هواء الصباح الملوّح بالأفق تهب عبر الشرفة المفتوحة نحو الفراش الكبير و هي تهز الستائر الناصعة الشفافة في طريقها.. "سمر"... "سمر" شبه النائمة.. كانت متكوّمة بأحضان زوجها دون حراك.. ربما بقيت على هذا الوضع ساعةً من الزمن.. أو أكثر !
لم تحسب الوقت تمامًا و لم تهتم أصلًا.. كانت ساكنة فقط طيلة تلك اللحظات... لم يسعها سوى الاستسلام الكامل له و التنعم بفيض غرامه الذي أهاله عليها بكرمٍ و شغف حتى رضاها و عالج جروحات قلبها الغائرة.. و لكنها تعلم جيدًا بأنه علاج مؤقت... سيزول بمجرد ذهابه.. أو أنه بالفعل قد بدأ في الزوال !
لقد تمكنت من الشعور بذلك الآن.. تلك الوخزات المؤلمة عاودت الطريق إلى صدرها و قلبها من جديد... في هذه اللحظة بالذات.. لقد عاد الألم !!
-سمر !
اختلجت أنفاسها حين سمعت همسه الخافت فوق رأسها.. كانت الغرفة غارقة في السواد على أيّة حال، لكنها أطبقت جفنيها شدة خشية وقوع أيّ مواجهة بينها و بينه
لم تكن مستعدة لذلك خاصةً بعد خضوعها المخزي بين يديه و التعاطي معه و تنفيذ كل أوامره و مطالبه.. صحيح أنه لم يجبرها على شيء... لكنه كان واثقًا من ضعفها، و متنبئًا باللحظة التي ستنهار فيها تمامًا رافعة رايات الهزيمة أمامه.. و ما حدث منذ قليل خير برهان على ذلك ....
-سمر أنا عارف إنك سمعاني !
إعترتها رجفة مباغتة أخرى عندما سمعت صوته بنفس الطريقة الهادئة.. يكاد يُسمع
لا تعرف لماذا داهمتها رغبة قوية للبكاء الآن، مع شعورها به باللحظة التالية يتحرك مبعدًا إياها عنه قليلًا ليحملها على مواجهته رغمًا عنها
تخشبت في مكانها أكثر و هي تغمض عينيها بقوة و تضع يديها على وجهها لتختبئ منه، بينما يحاول "عثمان" بأقصى ما لديه من لطف إزالة كفيها و هو يتمتم برفقٍ :
-بصيلي طيب.. أنا مش قادر أسيبك كده. عايز أتكلم معاكي.. يا سـمر !!!
أطلق زفرة نزقة و لم يجد أمامه سوى أن يرغمها هذه المرة فعلًا.. فنهض بجزعه معتدلًا بالفراش... إستدار نصف إستدارة و مد يده ليشعل المصباح الصغير الرابض فوق الطاولة بجوار رأسه
أصبحت الرؤية أوضح الآن تحت الظلال الذهبية الباهتة التي شاعت بلحظة مكوّنة هالة إمتدت حولهما و طوقتهما، ليعاود النظر إليها و يقبض على معصميها مباعدًا بين وجهها بحزمٍ و هو يقول :
-إنتي مش عايزة تسمعي مني طيب ؟ أنا هافهمك يا سمر.. بس إديني فرصة. بلاش حركات الأطفال دي !
-سيبني يا عثمان ! .. غمغمت "سمر" بصوتٍ مكتوم و هي لا تزال مغمضة عينيها بقوة
عثمان بإصرار : مش هاسيبك يا سمر. دلوقتي بالذات مش هاينفع أسيبك.. إنتي فاكراني بخدعك و بضحك عليكي زي زمان. بس الحقيقة يا سمر إن عمري ما خدعتك لحظة من يوم ما عرفتك. فكري فيها يا سمر و قوليلي إمتى ضحكت عليكي.. أنا عمري ما عملتها و عمري ما هعملها. و دلوقتي كل إللي بطلبه منك إنك تهدي و تسمعيني
تشنجت أكثر في قبضته و إرتفع صوت نشيجها، لتغص فجأة و تنتفض و هي تطلق شهقة عميقة و قد فتحت عينيها مرة واحدة ...
عبس "عثمان" بقلق عندما شاهد تطور حالتها من الحزن و الكمد إلى الإعياء المفاجئ.. حيث شحب وجهها و إزرقت شفاهها بلحظة
إنقبض قلبه حين شعر بأصابعها الباردة تقبض على كفه بقوة دون سابق إنذار و عيناها تشخصان في نفس الوقت ...
-مالك يا سمر ؟!! .. تساءل "عثمان" بقلقٍ جم
استغرق الأمر منها بضع لحظاتٍ، حتى تمكنت من الرد عليه ببطء و ضعف شديد :
-مش قادرة.. مش قادرة أخد نفسي !
إجتذبها فورًا من ذراعها ليقعدها فوق السرير و هو يفرك ظهرها و كتفيها مدمدمًا :
-طيب إهدي.. بالراحة... إسحبيه بالراحة.. ماتركزيش على التعب.. إهدي خالص ...
و بعد عدة مرات إتبعت خلالهم تعليماته، إستطاعت أن تضبط معدل تنفسها من جديد.. ليزفر "عثمان" براحة و يشدها لصدره و هو يقول بحنان :
-مش عارف أنا واخدك مرهوقة من يومك كده ليه ؟ أعمل معاكي إيه بس يا سمر تاعباني من يومك. تاعباني يا حبيبتي ..
نشجت "سمر" مرةً أخرى و هي تحاول دفعه عنها :
-طالما تاعباك كده جيتلي ليه ؟ أنا ماطلبتش منك حاجة و عمري ما طلبت و لا هطلب.. سيبني يا عثمان الله يخليك. أنا بكلمك بجد. إبعد عني من فضلك !
تنهد "عثمان" متفهمًا مشاعرها، لكنه قال بتصميمٍ دون أن يفلتها :
-مش قبل ما نتكلم يا سمر.. و أسمع منك إن مالكيش حق عليا. و إنك مسامحاني. مش هاسيبك
تضحك "سمر" بسخرية مريرة و هي تقول :
-ماليش حق يا عثمان ! ماشي. أنا فعلًا ماليش حق عليك. ممكن تسيبني بقى ؟ سيبني عشان بجد مش مستحملة ...
و أخذت تكافح بضراوة للإفلات منه و هي تصيح باكية بحرقة كبيرة دون مبررات تدفعها لذلك الآن :
-أنا خلاص وصلت لنهايتي معاك.. إنت كسبت يا عثمان. إنت أخدت مني كل حاجة. أخدت جسمي في الأول و بعدين قلبي و سُمعتي إبني و حياتي كلها بقت تحت رجليك.. عاوز إيه تاني ؟ مابقاش في حاجة ممكن أديهالك. أنا عارفة من أول لحظة إنت إيه و أنا إيه. عارفة إني لو فضلت طول عمري بجري عشان أحصلك مش هاعرف. عارفة إني و لا حاجة بالنسبة لك و إنك مسيطر عليا و محاصرني. عشان كده ساكتة. ساكتة و كل إللي طلباه منك إنك ترحمني.. إرحمني يا عثمان و سيبني أعيش جمبك على الأقل بكرامتي !
و أجهشت بالبكاء أكثر، بينما يطلق سبّة غاضبة بعد سماع كلامها و تصريحاتها الخاطئة كليًا بالنسبة له ...
-طيب بصي في عنيا و أنا بكلمك ! .. قالها باقتضاب لا يخلو من الجمود و هو يدفعها للوراء قليلًا
و عندما لم تستجيب له كرر بهتافٍ حاد و هو يهزها بعنف :
-قولتلك بصي في عنيا !!!
حبست أنفاسها لوهلة متوقفة عن البكاء.. لكنها ما لبثت أن غصته بحلقها و تطلعت إليه على مهلٍ و هي تزيح خصيلات شعرها المبعثرة عن وجهها ...
مرت لحظات من الصمت.. إلى أن قال بتجهم بث فيها القليل من الريبة :
-أنا مش هضغط عليكي أكتر من كده.. ربنا وحده يعلم أنا إللي فضلت أضغط على نفسي أد إيه عشان أجيلك و أفهمك الوضع كله و من البداية.. بس إنتي كالعادة عايشة في دور الضحية بتاعك إللي شكله عاجبك أوي و جاي على مزاجك. لكن إنتي مش ضحية يا سمر. و اقعدي مع نفسك كده و راجعي الشريط من أوله. أنا آه كنت داخل إتسلى بيكي أول ما عرفتك.. كنت عايز جسمك و ماكنش يخطر في بالي ثانية إني ممكن أحبك. و قولتهالك قبل كده. يا سمر إنتي لو ماكنتيش دخلتي قلبي و حبيتك بجد. لو كنتي إتشقلبتي من هنا لعشرين سنة ماكنتش هاكتبك على إسمي. و لا كنتي هاتخطي باب بيتي و تحملي في إبني و تعاشريني أنا و أهلي يوم واحد.. إمتيازات كتير أوي إدتهالك. و قبل ما تتكلمي و تقاوحيني تاني. آه إتجوزت عليكي. و جبتها تعيش هنا. بس الفرق بينك و بينها كبير أوي. لو عايزة تعرفيه و تفهمي الحكاية كلها صح.. لو باقية عليا يا سمر. و فعلًا بتحبيني أو حبتيني زي ما قولتيها أكتر من مرة.. أنا موجود. لما تهدي خالص تعالي و قوليلي فهمني يا عثمان. ساعتها هاصرحك بكل حاجة.. بس أتمنى إني ماندمش لو عملت كده !
و قام من الفراش باللحظة التالية مباشرةً.. لتلفحها بعض البرودة جراء الهواء المتسلل عبر الأغطية بفعل نهوضه و مفارقته إياها فجأة هكذا ...
-أنا رايح أنام في أوضة الولاد ! .. تمتم بإيجاز تغلفه قساوة غريبة
قصد أن يطلعها على هذا خاصةً عندما شاهد التساؤل و الإضطراب يملآن نظراتها... و تابع بنفس الاسلوب و هو يلتقط قطع ملابسه و يرتديها على عجالة :
-كده كده بقينا الصبح. مش هاطول في النوم.. ساعتين و راجع أخد شاور هنا و أغير هدومي. لو مافيهاش إزعاج يعني.. أو ممكن أستخدم أوضة تانية لو هضايقك !
-مافيش مضايقة ! .. غمغمت "سمر" على مضض و هي تقطب وجهها بشدة و تشيح عنه للجهة الأخرى
سيطر "عثمان" على إبتسامته و قال بصوت أجش :
-أوك.. مش عاوزة حاجة مني دلوقتي ؟
ردت بجفاف دون أن تنظر إليه :
-لأ !
تراقصت الإبتسامة على محياه أكثر و هو ينظر إليها و يهز رأسه بيأس.. ثم سرعان ما قمعها و حمحم قائلًا :
-طيب.. تصبحي على خير !
و إلتقط سترته راميًا بها على كتفه و غادر على الفور في هدوء شديد ...
لتسترخى عضلات جسمها المتنشجة أخيرًا و تلقي بنفسها للخلف، تمددت مثبتة رأسها فوق الوسادة و هي تحدق بالسقف العالٍ عاقدة حاجبيها.. تفكر... تفكر فقط في كلماته و المعاني المحتملة ورائها.. لكن أيّ معنى تحاول التوصل إليه الآن بنفسها لن يكون شافيًا و لا منطقيًا حتى
لعلها بالفعل مضطرة إلى الذهاب إليه و مطالبته بالشرح.. يجب أن تستمع إلى مبرراته و دوافعه.. قبل أن تقرر للمرة الأخيرة !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! .................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!