رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الواحد و الثلاثون 31 بقلم مريم غريب
_ خداع ! _
كان مخططها يسير على نحوٍ جيد.. للغاية... كانت ذكية بالفعل هذه المرة و استطاعت أن تخدع زوجها بدهائها و مكرها الذي بدأت تستعمله مؤخرًا و كان زوجها السابق أول ضحاياها
الآن أمسى زوجها الآخر خاتمًا بإصبعها، تمامًا صار معها كما أرادت... إستطاعت أن تروّض الوحش الكامن بداخله و تجعله بين يديها كالحمل الوديع.. هكذا بعد أن آنست عنه القسوة و الشِدة ليطوّعها في بادئ علاقتهما و يسيطر عليها، و ليرهبها أيضًا حتى لا تستهين به لعجزه.. لكنه حقًا... لم يكن بعاجز أبدًا بنظرها.. بل العكس هو الصحيح !
كان الطقس دافئ مساء اليوم، و النسمات تهب عليلًا لتبعثر شعرها الحريري بشيء من العشوائية، فتضطر أحيانًا لرفع أصابعها من حينٍ لآخر حتى ترتبها كي ما تتمكن من النظر إلى مرافقها الجالس مقابلها هنا.. وسط ذلك المطعم الراقي الشهير و المطل على أجمل سواحل عروس البحر الأبيض المتوسط ...
كان رجلًا في أواسط العقد الرابع من عمره.. وسيمًا إلى حدٍ ما.. و قد خالط الشيب منابت شعره الأمامية فقط مضفيًا عليه هيبة و وقار كبيرين... ملابسه الفاخرة المؤلفة من حِلّة زرقاء يعلوها معطفًا ثمين قاتم اللون.. و ساعة يده الضخمة المصنوعة من البلاتين الخالص.. و أيضًا سواره الذهبي و خاتمه ذي الحجر المستوحى من العقيق الأصيل.. كلها كانت أشياء صغيرة تخبر عن حالته المادية اليسيرة و مستواه الاجتماعي الرفيع
كان يحتسي فنجان قهوته بتمهلٍ و هو يستمع إلى تتمة كلامها بتركيزٍ و عقله لا يكف عن التفكير في آن ...
-أنا لو ماكنتش محتاجة فلوس ضروري ماكنتش هاعمل كده No way يا خالو نبيل.. إنت فاهمني صح ؟
فرغت "هالة" من شرحها المسهب و أختتمته بهذه العبارة التبريرية المستكينة، بينما يضع المدعو "نبيل" قدح القهوة فوق الطاولة أمامه، ثم يتطلع إليها قائلًا بصوته الرخيم الهادئ :
-طبعًا يا هالة. طبعًا يا حبيبتي.. أصلًا بعد إللي حكتيه دلوقتي ده كله. خلتيني أحس بذنب كبير أوي إني كنت بعيد عنك و عن أخوكي كمان. بس إنتي بالذات كنتي محتاجالي.. إنتي أمانة فريدة. أختي الوحيدة و إللي كانت في مقام أمي بالظبط.. مش عارف هاقول لها إيه لما أقابلها. أنا أثرت في حقك أوي يا حبيبتي
إتسمت ملامحها بحزنٍ بيّن و هي ترد عليه بلهجة مستضعفة :
-إنت مالكش ذنب في أي حاجة يا خالو.. أنا إللي كنت وسط عيلتي. كنت فاكراهم بيحبوني فعلًا و قلبهم عليا و على مصلحتي. بس للأسف طلعت غلطانة. و هما راموني في الآخر !
توهج محيا الأخير غضبًا و هو يقول بخشونةٍ :
-لسا ماتخلقش إللي يرميكي أو يمس شعرة منك طول ما أنا عايش.. عزائي إني كنت بعيد عنك زي ما قولتلك. بس خلاص. أنا رجعت.. و ليا كلام تاني خالص مع أبوكي و أخوكي و إبن عمك ده كمان. هاحاسبهم كلهم على كل حاجة وحشة حصلتلك بسببهم
هالة بلطفٍ : لأ يا خالو بليز.. ماتعملش مشاكل معاهم. خلاص إللي حصل حصل. و هما في الأول و في الأخر أهلي. كفاية الفصل إللي هاعمله فيهم. الحركة دي لوحدها هاتجننهم و أولهم عثمان !
و لم تستطع منع ابتسامتها الخبيثة من الإنبلاج بوضوح على جانب وجهها عندما ذكرت الجزء الأهم من الخطة ...
-يا حبيبتي إنتي مش مضطرة تتنازلي عن حقك عشان تنتقمي ! .. قالها "نبيل" بجدية، و تابع :
-أنا سيبتك تفضفضي و تخرجي كل إللي جواكي. لكن قراراتك مالهاش اعتبار عندي.. يعني إيه أقبل إنك تبيعيلي نصيبك في القصر و الشركة ؟ مستحيل ده يحصل يا هالة. إنتي لو محتاجة فلوس أنا تحت أمرك من جنية لمليون و كل إللي تحتاجيه
أخذت تقول "هالة" في محاولة مستميتة لإقناعه :
-يا خالو بس إفهمني.. بابي من فترة جمعني أنا و صالح و قال إنه قرر يساوي بينا في الميراث على حياة عينه. و صالح وافق رغم إن له النصيب الأكبر. بس دي كانت رغبة بابي و هو ماعترضش. دلوقتي كل الأوراق إللي قدامك سليمة و تقدر تتأكد !
و أشارت لمجلد الوثائق و العقود الملقى فوق الطاولة الفاصلة بينهما ...
نبيل باستنكار : يابنتي إنتي فكراني مخونك ؟ جرالك إيه يا هالة.. استوعبي كلامي شوية من فضلك. أنا قلت مستعد أساعدك بالمبلغ إللي إنتي عايزاه و مستعد بردو أقدملك أي حاجة تحتاجيها منغير ما أخد قصاد ده كله حاجة واحدة تخصك
أومأت "هالة" قائلة :
-أنا فاهماك يا خالو.. لكن صدقني أنا فكرت كويس. طبعًا مش سهل عليا أتنازل عن حقوقي و أخرج عن طوع أهلي بالشكل ده.. بس أنا محتاجة أعمل كده دلوقتي. أنا محتاجة أبعد عنهم و أستقل بحياتي.. مش هاسمح لحد يتحكم فيا تاني و يلوي دراعي. أنا اتبهدلت في الفترة الأخيرة أوي و كلهم باعوني كأني و لا حاجة بالنسبة لهم.. و قبل ما تعترض تاني أنا عارفة إنك تقدر تساعدني و تقف جمبي منغير حاجة. لكن أرجع و أقول أنا عايزة أعتمد على نفسي. عايزة تبقى ليا حياتي الخاصة أنا إللي أخد القرار و مابقاش الطرف الأضعف في أي وضع أكون فيه... ياريتك تفهمني يا خالو !
نبيل بجمودٍ : أنا فاهمك كويس يا هالة ! .. ثم زفر بقوة و هو يشيح عنها للجهة الأخرى
لحظاتٍ قصيرة.. و عاود النظر إليها من جديد و هو يقول مذعنًا :
-أوكي.. لو ده فعلًا إللي هايريحك. خلاص أنا هانفذه
و مد يده مفندًا الأوراق التي وضعتها إبنة شقيقته المتوفاة أمامه منذ جاءت للقائه، تناول قلمًا كان مرفقًا بمجلد الأوراق، ثم بدأ يوقع بأسمه و قد كانت هي تسبقه في هذا الأمر و إسمها موجودًا كطرف أول بالفعل ...
-بس العقود دي هانقطعها سوا قريب ! .. تمتم "نبيل" بصرامةٍ و هو ينهي آخر ورقة
رفع وجهه لينظر لها، فوجدها ترمقة بغرابةٍ، ليقول بجدية :
-أنا مضيت عشان أريحك. و الفلوس إللي إنتي محتاجاها كلها بكرة الصبح هاتكون في حسابك في البنك.. افتكري إن خالك واقف جمبك و في ضهرك. أنا معاكي في أي قرار هتاخديه. و من ناحية تانية يا هالة.. حقك هايرجع. و أنا عارف كويس هارجعه إزاي. بعد ما أوفي بوعدي ده ليكي. هانقعد تاني مع بعض و هانقطع العقود دي و كل حاجتك هاترجعلك. ده أخر كلام عندي و مافيش نقاش بعديه. سامعاني ؟!
_______________
في قصر آل "البحيري"... طبقًا لأوامر السيد فالجميع قد اختفوا عن الأنظار، أهل البيت و الخدم على حد سواء
حيث لم يكن هنا بقاعة الصالون الفخمة سوى شيخ مسن _ مأذون _ و إثنان من الشهود، و السيدة "فريال" تقف عند مقدمة القاعة قرب إبنها لا تتفك عن التململ بمكانها من شدة غضبها المكبوت ...
-خلاص يا عثمان ؟ .. تساءلت "فريال" فجأة... و بصوتٍ ملؤه الخيبة
إلتفت "عثمان" نحوها و نظر لها كأنه لم ينتبه لعبارتها، بينما كانت تشمله بنظراتٍ ساخرة، و خاصةً و هي تتفحص هندامه و بذلته الكحلية الأنيقة التي زادته جاذبية و نضوجًا ...
-خلاص هاتتجوز على سمر ؟!!
يطبق "عثمان" جفنيه في هذه اللحظة مطلقًا نهدة حارة من صدره.. عمل على تهدئة أعصابه أسرع مِمّ ينبغي ثم رفع بصره إليها مرةً أخرى و قال بضيقٍ :
-ماما ! أظن مش وقته إللي بتقوليه ده ؟ إنتي جاية تعاتبيني دلوقتي ؟ و بعدين كنتي فين من الصبح ؟ ماينفعش خالص إللي بتعمليه ده في ناس حوالينا !
-طز في الناس !!! .. صاحت "فريال" بانفعال
فزجرها "عثمان" بنظرة غاضبة و هو يشد قامته المتشنجة ملقيًا نظرة متوترة صوب الرجال الغرباء الجالسون على مقربةٍ منهما ...
-وطي صوتك يا فريال هانم ! .. غمغم "عثمان" عبر أسنانه المطبقة بشدة
سددت "فريال" له لكمة بمنتصف صدره هاتفة بحنقٍ :
-و إن ماوطتش يا باشا.. هاتعمل إيه ؟ رد يا عثمان !!!
توسعت نظراته و هو يرمقها بذهول، تلك التصرفات جديدة عليه كليًا.. إذ لأول مرة بحياته يرى أمه تمد يدها إليه بهذا الشكل أو بغيره ...
-ماما إنتي بتعملي إيه ؟!! .. سألها مشدوهًا
فريال بشيء من العصبية :
-بعمل إيه ؟ عشان ضربتك في صدرك ؟ طيب و ماله.. ما أنا ممكن أضربك بالقلم كمان. كبرت عليا يا عثمان ؟ و لا ممكن تردهولي ؟ ما أنا مابقتش أستغرب منك أي حاجة
يجفل "عثمان" للمرة الأولى منذ مدة طويلة و هو يتكلم محاولًا التفاهم مع أمه :
-طيب إهدي يا ماما. مالك بس إيه حصلك فجأة ؟ إحنا كنا تمام.. أنا مقدرش أرفع عيني في وشك. إنتي تعملي فيا إللي يعجبك طبعًا. لو عايزة تمدي إيدك عليا إتفضلي. و قدام الناس كمان إنتي أمي و أنا طول عمري تحت رجليكي. و هفضل كده لحد أموت !
عبثت كلماته المهدئة بسهولة بمقدرات غضبها، ليخبو بريق العنف في عينيها الرماديتين الجميلتين بسرعة، و تكسوها دمعاتٍ ما هي إلا تعبيرًا عن حزنها و الكرب الشديد الذي يسببه لها إبنها بأفعاله و تصرفاته.. لم تستطع أن توجه إليه كلمة أخرى، فاستدارت موليّة تجاه الدرج بخطواتٍ مهرولة
تفاقم إضطراب "عثمان" و هو يحدق في إثرها عاجزًا، كان سيتبعها من فوره ضاربًا بكل شيء و بحياته برمتها عرض الحائط.. إذ تهون الدنيا بأسرها و لا تهون عليه دمعةٍ واحدة تسقط من عين أمه.. و بسببه هو !!!!
لكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة... ليجمّده هذا الصوت الناعم الذي علق بذاكرته من أول وهلة و إلى الأبد :
-هاي يا روحي.. إتأخرت عليك ؟!
إلتفت "عثمان" نحو البهو المقابل لباب المنزل الضخم، فإذا به يراها... عروسه الصغيرة، أو العاهرة الصغيرة كما أطلق عليها مؤخرًا... و للحق كم لائمها الوصف تمامًا الآن !
تبدل حال "عثمان" بلحظة عندما وقعت عيناه عليها، فغمره الغضب على الفور و هو يدقق بنظراته الجاحظة في مظهرها المخزي المشين.. و الذي تمثل ببساطة في ثوبٍ فاضح وردي محمر اللون يحاكي لون شعرها الجديد، و زينة وجهها الصارخة، و الـPiercing.. ( حلق الأنف و الفم ) الذي برز بوضوح لناظريه ...
كانت مقبلة عليه و إلى جانبها تسير صديقتها المقربة "لينا" بوجهٍ تجلله معالم الرعب على عكس "نانسي" تمامًا
لم يلاحظها "عثمان" من فرط مشاعره العنيفة التي أخذت تنهشه من الداخل و تهدد بتحطيم ثباته الإنفعالي بأيّ لحظة ما إذا أقتربت أكثر و صارت بمتناوله... لكنها بالفعل إقتربت، و لم يعد يفصل بينها سوى خطوة واحدة !!!!
إبتسمت "نانسي" بوداعة و هي ترنو إليه بغواية إحترافية، ثم تقول برقةٍ شديدة :
-عروستك جت أهيه يا عثمان.. جت برجليها لحد عندك. زي ما كنت عاوز بالظبط. زي إخواتها !
_______________
كان "فادي" قد جلب مقعدًا و جلس قرب مدخل الشقة مسندًا رأسه للجدار من خلف.. كان على هذه الحالة منذ عاد من عمله و لم يجدها ...
ما إن سمع المفتاح يدور بالقفل، حتى قفز من مكانه و مضى ليجتذب المقبض صائحًا :
-كنتي فين يا هالة ؟!!!
صدرت عنها شهقة فزعة بادئ الأمر، وضعت كفها فوق صدرها و هي تقول مؤنبة و الشحوب يغلف وجهها بسرعة :
-إيه يا فادي ده !
حرام عليك تخضني كده.. في إيه مالك ؟؟
كرر "فادي" و هو يمد يده السليمة مجتذبًا إياها إلى الداخل :
-سألتك كنتي فين ؟ أنا راجع من الشغل بقالي ساعتين و مالاقتكيش.. و قافلة موبايلك كمان. كنتي فين إنطقي !
و صفق الباب خلفها بقوة ...
إرتعدت "هالة" بخوفٍ، لكنها ما لبثت أن تماسكت من جديد، و في الحال دست يدها بحقيبتها الصغيرة لتخرج ذاك الملف و هي تقول بهدوء :
-كنت بجيب التحاليل إللي إنت أصريت أروح أعملها.. عشان تطمن عليا !
و وضعتها في يده و هي ترميه بنظرة ذات مغزى، لكنه إستطاع أن يستخلص منها خيبة رجائها فيه ...
-تاني مرة إبقى آجل عصبيتك شوية يمكن مايكونلهاش داعي !
نظر لها "فادي" بعد أن تفوّهت بهذا و لم يستطع الرد في حينها، لكنه سارع بالقبض على يدها عندما رآها تهم بالذهاب من أمامه ...
-إستني طيب ! .. تمتم بشيء من التوتر
تسمرت "هالة" بمكانها، لكن دون أن تنظر إليه فقال بإضطراب :
-أنا دلوقتي مش فاهم.. روحتي تجيبي التحاليل. تمام.. إيه النتيجة بقى ؟ إنتي كويسة يعني ؟!!
لمست القلق الحقيقي في نبرته، فطمأنته قائلة :
-كويسة.. ماتقلقش. زي ما قولتلك إللي حصل كان راجع لحالتي المزاجية مش أكتر
تنهد "فادي" بإرتياح و قال :
-الحمدلله. الحمدلله إني إطمنت عليكي ! .. و أردف و هو يستدير ليقف في مواجهتها :
-ماقولتليش ليه طيب أو ماستنتيش ليه لحد ما أرجع و كنا نروح سوا ؟
هالة باقتضاب : ماحبتش أزعجك.. أنا كنت عارفة الطريق. و قلت أروح و أرجع بسرعة. بس الـCenter كان زحمة أوي. عشان كده إتأخرت
-و موبايلك ! كان مقفول ليه ؟ أنا حاولت إنصل بيكي كتير و كنت قلقان أوي. شوية و كنت هاتصل أسأل عليكي في بيت أهلك.. بس إتحرجت. لو كنتي هناك فعلًا منغير ما تقوليلي شكلي كان هايبقى إيه !
و رمقها بنظرة معاتبة ...
تنفست "هالة" بعنق و قالت :
-الشبكة كانت وحشة هناك.. بس إنت عندك حق. كان لازم أعرفك قبل ما أنزل من البيت. أنا آسفة يا فادي. مش هاعمل كده تاني !
بتلك الكلمة، نجحت بامتصاص الباقي من غضبه و انفعالاته.. ليبتسم و هو يقول بلطفٍ :
-خلاص و لا يهمك.. المهم إنك بخير
ردت له الإبتسامة و هي تقول متقبلة مصالحته لها بسهولة :
-أوكي.. أنا هاروح أحضرلك العشا بقى أكيد جعان
أومأ "فادي" مؤيدًا بشدة :
-أيوة أنا جعان جدًا إنهاردة. كان في شغل كتير أوي
-حالًا السفرة هاتكون جاهزة. كله جاهز على التسخين بس !
أفلتها في هذه اللحظة، فمضت هي صوب المطبخ و فمها يتلوى بإبتسامة ماكرة... فها هي، تخدعه مرةً أخرى.. و هو يصدقها !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ........................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!