رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الخامس و العشرون 25 بقلم مريم غريب
_ منفى ! _
مضى زمنٍ طويل منذ أخر مرة جلست لتحيك "التريكو".. فقد كانت تلك هوايتها خلال وقتٍ خلى... في الماضي كانت تنسج الملابس و الأغطية لأبنائها عندما كانوا أطفال
أما اليوم فهي تصنع بيديها جوارب و قبعات صوفية لأجل حفيدها العزيز، فقد أقبل فصل الشتاء، و هي أحبت أن تمنحه الدفء مع الحب بكافة السُبُل.. ذاك "يحيى" الصغير أغلى عندها مِمن سواه.. رغم وجود أبيه و عمته و حفيدتها الأخرى.. لكنه وحده من يستحوذ على قلبها و اهتمامها، بل و حياتها كلها ...
لم تكف أصابع "فريال" عن الحياكة و هي تجلس فوق الكرسي الهزاز أثري الطراز، بينما عيناها تتابعان الصغير "يحيى" و هو يضحك و يمرح بألعابه أمامها و قد جلست المربية إلى جواره تعتني به
كانت الابتسامة تملأ وجهها... إلى أن دفع باب غرفتها فجأة، و انتفضت مذعورة على صراخ زوجة إبنها و أم حفيدها :
-إنتي لسا قاعدة ؟ لسا قاعدة يا فريال هانم ؟؟؟
قـومـــي.. قـومــي شوفي و إسمعي أخر الأخبار. شوفي عمايل إللي قولتيلي سامحيه و عيشي عشانه و عشان إبنك.. قـومـــي شـوفـي عـمل فــيا إيـــه !!!
كانت "فريال" قد قفزت من مكانها من شدة فزعها، حتى "يحيى" راح يجهش بالبكاء فورًا، بينما تقترب جدته من أمه قائلة بقلقٍ جمّ :
-إيه يا سمر في إيه ؟ إللي حصل يابنتي قوليلي ؟!!!
خشت "فريال" عليها كثيرًا عندما رأت وجهها المحتقن يزداد احمرارًا بصورة خطرة، ثم يعلو صوتها مدويًا بعنف شديد بكل ما فيها من قهرًا و خيبات لا تنتهي :
-إبـــنك.. إبـــنك هايـتـجـوز عليـــا يا فريـــال هانـــم. هايـتـجـوز عليـــا !!!
فريال باستنكار : إنتي بتقولي يا حبيبتي بس.. إهدي يا سمر مش كده. لو متخانقين فهميني جرا إيه عشان أعرف أتدخل لكن كده آ اا ..
-إنتي لسا هاتدخلي !!! .. قاطعتها "سمر" صائحة بضراوةٍ
-بقولك هايتجوز.. هايـتـجـوز. قالهالي بعضمة لسانه دلوقتي. روحي باركيله يا هانم كتب كتابه هنا يوم الخميس الجاي و لا لسا ماتعرفيش ..
أخرست الصدمة "فريال" و جعلت عيناها تجحظان بشدة و هي ترمق "سمر" بعدم تصديق.. تأكيدها و غضبها أرعبها.. بينما الأخيرة تقف مقابلها هائجة الأنفاس مستوحشة النظرات.. و ما هي إلا لحظاتٍ أخرى و جاءت "صفية" على إثر تلك الأصوات مهرولة يتبعها زوجها و قد تجلل وجهيهما بعلائم القلق و الهلع معًا ...
________________
نفس الخزي و الخجل.. لم يتبدل حال "رفعت" عنهما... حتى عندما استمع إلى قرار إبن أخيه.. لم يجرؤ على الاعتراض أو حتى مناقشته
و أيضًا و هو يُلقي عليه هذه التعليمات الحادة الآن.. لم يجسر على مجرد رفع عينيه إلى وجهه لشدة العار الذي يجثم فوق كاهله ...
-اتفضل باسبورك ! .. هتف "عثمان" بغلظةٍ و هو يدفع جواز السفر إلى عمه، و أستطرد بصرامة :
-حجزتلك أول طيارة طالعة على لندن. الليلة و قبل الساعة 8 لازم تكون في المطار. لما توصل هاحولك فلوس و كده كده هاتقعد في البيت إللي أشتراه بابا في "جرينوتش" من خمس سنين. أول كل شهر هابعتلك مبلغ تصرف منه.. إوعى تفكر تنزل هنا. و لو زيارة حتى. مش عايز أشوف وشك في البيت ده تاني يا رفعت بيه.. فاهمني ؟
يتطلع "رفعت" إليه لأول مرة منذ طلب في مجيئه قبل ساعة.. ينظر إلى بطاقة سفره، ثم ينظر إلى "عثمان" ثانيةً و هو يقول بلهجة ملؤها الأسى :
-إنت بتحكم على بالنفي من بلدي و بيتي يا عثمان ؟ طيب ولادي.. حفيدتي.. مش مسمحولي أشوفهم ؟!!
عثمان بجمودٍ : تشوفهم هناك. يسافرولك و تبقى تشوفهم براحتك. لكن هنا لأ ! .. و أضاف بخشونة تحاكي قتامة نظراته :
-إنت عارف كويس أنا إتنازلت أد إيه عشان ألم وراك فضيحة كانت ممكن تضعينا كلنا.. لو إنت بقى مش مستوعب الوضع إللي أنا فيه و إني هاتجوز واحدة عمي كان ماشي يريل عليها و Already عمل معاها علاقة ف دي حاجة أنا مضطر أحشرها في دماغك بالعافية.. أنا مش هاقبل بوجودك في بيت تكون في مراتي و لو بالإسم بس و أنا عارف إن كان ليكوا سابقة قذرة مع بعض. و إنت مالكش عين تقعد و تطول معايا في الكلام أكتر من كده يا رفعت بيه.. أحسنلك تسكت بدل ما تزعل زيادة
-إنت محملني الذنب كله لوحدي ليه ؟!! .. غمغم "رفعت" بإنفعالٍ مكبوت
-إنت ناسي إنك كنت الهدف أصلًا ؟ مش هي اعترفتلك بنفسها ؟ نانسي الحداد عملت كل ده و لعبت عليا عشان كانت قصداك إنت يا عثمان
ابتسم "عثمان" بإزدراء قائلًا :
-أنا لو مكانك أتكسف من نفسي و الله.. و لا دلوقتي و لا بعدين. مافيش واحدة تقدر تلعب عليا. أنا مش خفيف و مراهق زيك يا.. عمي !
أستشاط "رفعت" غضبًا، لكنه تساءل مرغمًا نفسه على الخضوع :
-طيب افرض اتجوزتها.. و فضحتنا بردو بالتسجيل إللي معاها. هايبقى إيه العمل ساعتها ؟ مافيش حل غير جوازك منها ؟؟
تلوى فم "عثمان" و هو يرد عليه متكدرًا من ذكر هذا الأمر أكثر من اللازم :
-مافيش حل تاني قدامي في الوقت ده.. و كفاية أسئلة. إنت مش من حقك تقعد كده و تحقق معايا أصلًا.. أحسنلك ماتضيعش الوقت إللي باقيلك هنا في الكلام معايا. روح قضيه مع حفيدتك و سلم على عيالك. الله أعلم هاتشوفهم تاني إمتى ..
يقاطع حديثهما المشحون دخول "صالح" المفاجئ بتعبيره الشاحب ذاك ...
-إلحق مراتك يا عثمان ! .. هتف "صالح " و هو يقف عند باب غرفة المكتب متكئًا عليه
هب "عثمان" واقفًا و هو يسأله بقلق :
-إيه مالها سمر ؟؟؟
صالح مشيرًا للأعلى :
-دخلت على طنط فريال أوضتها و ماسكة في يحيى. الأتنين ماسكينه و سمر حالفة تاخده و تمشي. أمك و إبنك فوق منهارين ..
لم ينتظر "عثمان" لحظة أخرى و انطلق مسرعًا إلى غرفة والدته... كان هناك في غضون لحظات و قد استطاع سماع صراخهما من الطابق السفلي.. حتى صار هناك صارت الكلمات واضحة تمامًا و المشهد كالآتي كما وصفه "صالح" ...
أمه و زوجته.. كلتيهما تقفان قبالة بعضهما.. و طفله بينهما تتنازعان عليه و "صفية" تحاول جاهدة إنقاذ الصغير الذي يكاد قلبه يتفطر من شدة البكاء و الصراخ الملتاع !!!
--لأ يا سمر. يحيى لأ مش هاسيبك تاخديه.مش هاتاخديه مني ! .. قالتها "فريال" بصوتٍ باكي
ردت "سمر" و هي تجتذب إبنها بتصميمٍ لا يخلو من حرقتها :
-ده إبني يا فريال هانم. إبني أنا. و مش هاسيبه يتربى مع أب مايعرفش في حياته غير الكدب و الغدر. المرة دي هاخد منكوا إبني. هاخده و مش هاتشوفوه تاني أبدًا لا إنتي و لا إبنك ..
-ســمــــــــــر !!!!
سكن كل شيء للحظات بعد ذلك النداء الهادر، ما عدا صراخ الطفل المفزوع... إلتفت الجميع نحو المصدر، ليجدوا "عثمان" مقبلًا مستطير غضبًا
و بدون مقدمات، حال بين أمه و زوجته، ثم وقف أمامها و أمسك بطفله بيدٍ و بيده الأخرى قبض على رسغها بقوة قائلًا بحدة :
-سيبي الواد يا سمر !
صرخت "سمر" بوجهه :
-مش هاسيبه. مش هاسيبهولك يا عثمان. مش هاسيب إبني المرة دي هاخده و هامشي من هنا و مش هاتشوفنا عمرك كله !
-سـمــــــــــر !!! .. صاح "عثمان" بعنف أكبر
-بقولك سيبي الواد.. سيــبـيــه !
و إنتزع منها الطفل بحزم دون أن يستعمل القوة كي لا يزداد هلعًا.. أخذه بين أحضانه على الفور و راح يمسد على ظهره بحنان حنى هدأ نوعًا ما.. استدار و أعطاه لجدته.. ثم إلتفت نحو "سمر" و قبض على ذراعها مجتذبًا إياها خلفه و إتجه بها صوب الخارج ...
كانا داخل غرفتهما خلال برهة قصيرة.. أقفل الباب عليهما و وقفا يتواجهان طويلًا.. قبل أن يتكلم ثانيةً ...
-إنتي إيه إللي عملتيه ده ؟؟ .. قالها "عثمان" بهدوء لا يخفي غضبه الكامن بداخله أبدًا
-إزاي تقفي قصاد أمي و تتكلمي معاها بالاسلوب ده ؟ إزاي تتصرفي بالشكل ده قدام إبنك أصلًا ؟ إنتي شوفتي حالته كانت عاملة إزاي ؟ إزاي مافكرتيش فيه ؟؟؟
سمر بعصبية كبيرة :
-إنت كمان ليك عين تتكلم و تعدل على تصرفاتي ؟ تصرفاتي إللي هي مرايا عكست إللي عملته و بتعمله فيا ؟ زعلان إني عايزة أخد إبني و أمشي ؟ دي أقل حاجة.. أقل حاجة هاعملها بعد كلامك ليا. عايز تتجوز عليا ؟ بعد كل ده ؟ بعد كل وعودك و كلامك إللي مليت دماغي بيه لحد ما صدقتك و رجعتلك مرة و إتنين.. لو فاكرني هاصدقك تاني تبقى بتحلم. إنت مافيش فايدة فيك. إنت أناني زي ما إنت مش هاتتغير. كان لازم أعرف من البداية إنك مش هاتتغير. و عمرك هاتكتفي بيا و لا بحبي ليك. كان لازم أصدق إن هايجي اليوم إللي هاتبصلي فيه باحتقار و تدوس عليا و تروح تدور على واحدة من مستواك. تناسبك و تشرفك. مش واحدة زيي أنا. ضحكت عليها و استغليتها و ضيعتها و في الأخر فضلت تلعب بيها و هي زي الهبلة كانت ماشية وراك و بتصدقك.. كنت متصور لما تيجي و تقولي قرار زي ده إني هاسكت و هاقبل ؟ لا و الله. و حياة حبي ليك. و كل لحظة عايشتني فيها واهمة إني مراتك و إنك بتحبني بجد. المرة دي غير يا عثمان.. المرة دي مش هاتعرف تضحك عليا. سامع ؟ مش هاتعرف تضحك عليـــا !
-خلصتي ؟
هكذا استقبل "عثمان" ثورتها و كلامها المتدافع من حلقها كالقنابل المدوية.. أستقبل إنفعالها و حنقها المتفاقم بمنتهى الهدوء
و هدوئه لم يزيدها إلا إشتعالًا و هي تقف و ترتجف من شدة الغضب أكثر فأكثر... و عندما لم تجيبه قال بنفس الهدوء دون أن يحاول لمسها أو التقرب خطوة واحدة منها :
-أنا مقدر وضعك.. عشان كده مش هاحسبك على الكلام إللي قولتيه ده.. بس أقسم بالله يا سمر.. جربي تعلي صوتك تاني دلوقتي أو تتعرضي لأمي أو إبنك بالطريقة دي مرة تانية. هاتشوفي مني أسوأ رد فعل في حياتك.. أنا هاسيبك دلوقتي لحد ما تهدي خالص. و لما أرجعلك هانتكلم بهدوء.. غير كده مش هاسمعلك و أي كلمة منك مالهاش لازمة بالنسبة لي.. أعقلي يا بنت الناس عشان أنا أصلًا مش ناقص. لو ماعندكيش قلب يحس فيكي عنين تشوف.. أنا مش هاستحمل ضغط أكتر من كده !
و صمت عند هذا الحد، ثم إستدار مغادرًا دون أن يزيد حرفًا آخر ...
بينما تهاوت ساقيها لتستقر فوق الأرض بشدة آلمتها.. لكنها لم تعبأ للألم.. لم تعبأ لأيّ شيء سوى ذاك الخنجر المغروس بصدرها... تكاد تفقد عقلها و هي تحاول عبثًا تخفيف المعاناة التي يسببها لها.. لكن كيف ؟ كيف و هي لا ترى و لا تفهم ؟ لا تفهم بالمرة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ......................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!