رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الثانى و العشرون بقلم مريم غريب
_ بلا ألم ! _
كانت تشعر بسعادة مفرطة.. و هي ترى و تشعر باستقرارها من جديد، بالمرة السالفة لم يدم هذا الاستقرار ليلة واحدة، لكنه هذه المرة تجاوز ذلك و قد بدا حقيقيًا، حقيقيًا على نحو مذهل و بقدر ما أسعدها.. أخافها... أجل تخاف
لطالما كانت مؤمنة بأنها سيئة الحظ، حتى الأشياء الجميلة التي تحدث بحياتها لها ثمن دائمًا، يمكن أحيانًا أن يفقدها جمالها... و بالنسبة لهذا الاستقرار الذي تسعد به، إلا أنها لم تستطع أن تمنع نفسها عن التفكير بثمنه، أو الشيء الذي سيفقده معناه !!!
وقفت "سمر" بمطبخ قصر "البحيري" الذي صارت له إحدى سيداته.. بعض الخادمات يعملن ورائها، و لكن الطاهية الرئيسية بقيت إلى جوارها تحضر معها قائمة الغداء دون أن تساعدها بالطبق المخصوص الذي أرادت صنعه لزوجها بيديها، كانت ترشدها فحسب إلى أماكن بعض الأدوات و التوابل
و في خضم هذا كله، أحست باهتزاز هاتفها المعلق على خاصرتها بغلافه الجلدي.. انتزعته "سمر" و أشرق وجهها بابتسامة جذلى عندما رأت كُنية زوجها تضيئ الشاشة الكبيرة، في الواقع كانت كُنية قد أطلقها بنفسه عليها منذ بداية تعارفهما.. "Baby" ...
-آلو حبيبي ! .. ردت "سمر" و هي تحاول السيطرة على الضحكة في صوتها
جاء صوت "عثمان" جذابًا مستغربًا :
-إيه ده في إيه ؟ إنتي كويسة يا سمر ؟!
سمر بفكاهة محببة :
-مافيش حاجة يا عثمان أنا كويسة خالص ماتقلقش
عثمان مشككًا : فعلًا ! أومال صوتك بيترعش كده ليه كأن حد بيزغزغك !!
ضحكت "سمر" قائلة :
-يا حبيبي أفتكرت حاجة كده !
-أفتكرتي إيه ؟
-لما تيجي هاقولك
سمعت تنهيدته العميقة، ثم صوته الهادئ يقول :
-أوك.. أومال إنتي فين كده ؟
ابتسمت "سمر" و هي تلتفت إلى عملها و تحادثه بآن :
-أنا في المطبخ بقالي شوية
-في المطبخ !!
بتعملي إيه في المطبخ يا سمر ؟!
-هاعمل إيه يعني.. بطبخلك بإيدي طبعًا. مش أنت بتحب أكلي ؟
-بحبه أكيد.. بس تتعبي نفسك ليه ؟ في ناس عندك يعملوا بدالك. ده شغلهم يا بيبي
-لأ أنا مزاجي تاكل كل يوم على الأقل صنف واحد من إيدي
-امممم.. طيب إنتي عاملالي إيه بقى ؟
سمر بلهجة مغناجة :
-مش هاقولك. بس هي حاجة بتحبها أوي !
عثمان مشاكسًا : إيه ده معقول طبختي نفسك ؟ إذا كان كده أنا أسيب كل إللي في إيدي و أجيلك فورًا !
كركرت "سمر" ضاحكة، فلاحظنها بعض العاملات مما أخجلها قليلًا، لتخفض صوتها و هي تقول له هامسة :
-بطل بقى أنا واقفة وسط ناس هنا
آتى صوته بعد برهة خافتًا مثيرًا :
-معناها تخلصي إللي بتعمليه و تأكدي عليهم يطلعوا الغدا في أوضتنا. طالما بتخافي من الفضايح أوي كده !
أخذت "سمر" بعض الوقت لتفيق من صدمة كلماته و غزله الصريح، ثم قالت بقدر من الجدية :
-غدا إيه إللي في الأوضة يا حبيبي ؟ إحنا إنهاردة سوا على العشا عند فادي. إنت مش هاتطلع الأوضة إلا على تغيير هدومك بس لأن لو حاجة تانية مش هانطلع من البيت خالص إنهاردة
إتسم صوته بجدية مماثلة :
-عشا عند فادي ؟ إنتي ماجبتليش سيرة عن حاجة زي دي !
أجفلت "سمر" قائلة بشيء من التوتر :
-احنا راجعين من أجازتنا بقالنا أسبوعين يا عثمان. لو ماكانتش صافي ولدت كنت هاروح أزور أخويا و أباركله و كده كده عرفنا إن هالة تعبانة لما ماجوش يباركوا على ديالا ف قلت دي فرصة نروح نباركلهم و نطمن على هالة بالمرة.. و لا أنت شايف إيه ؟ لو مش عاوز أو مش هتقدر خلاص !
-لا لا مش قصدي. أنا مش مضايق أنا اتفاجئت بس ! .. ثم قال بعد صمت قصير و كأنه قد حسم فكرة ما :
-خلاص أوكي. العشا عند فادي.. بس لما نرجع أعملي حسابك. ماتقوليليش نوم بدري و مدرسة ملك و الكلام ده كله
سمر بضحكة واعدة :
-لأ مش هاقولك حاجة.. خلاص كده و لا عاوز تقول حاجة تاني ؟ أنا مشغولة دلوقتي
-حاضر ياست المهمة قوليلي أقفل ماتتكسفيش.. يلا باي مؤقت يا بيبي !
و أقفل معها
لتعيد الهاتف إلى مكانه، و تعود هي إلى عملها من جديد، و لكن بحماسة و حب أكثر ...
_____________________
هذه الحياة الجديدة التي يعيشها كزوج حقيقي.. لا يدري أتعجبه أم لا !
في البادئ.. كان قد تعهد بأن تحيا معه زوجته حياة كالجحيم بسبب رفضها الزواج منه بطرق فجة، و الإهانات التي أخذت تكيلها له باستمرار حتى ذلك النهار الذي خرجت فيه من دون أذنه و بملابس مبتذلة، فكان عقابها ضربًا مبرحًا أرقدها بالفراش ليلة كاملة قضتها تنزف و تئن من الألم
و كم كانت عنيدة، كما عرفها من أول وهلة، عاندت آلامها و عاندت ظنونه و قامت من رقدتها تلبي طلباته و متطلباته كاملةً دون كلل أم ملل حتى هذا اليوم... لكنه.. حتى هذه اللحظة.. لم يجرؤ على معاشرتها مرةً أخرى، لقد فعلها مرة واحدة فقط، و كي ما يثبت لها بأنها لم تتزوج بنصف رجل كما أشارت له مراتٍ عدة بطرق غير مباشرة لتجرحه، و لكن هل يا ترى نجح في ذلك بعد كل شيء أقترفه بحقها ؟
أهي تستحق كل ذلك ؟ مهما كان خطاؤها إزائه !!!
تناول "فادي" قميصه المطوي بعنايةٍ بعد كيَّه، خرج بصورة مقبولة من تحت أيدي زوجته.. ارتداه و هو يقف وراء باب الغرفة الموارب، يراقبها و هي تقف بالخارج، تقوم بإعداد مائدة العشاء باحترافية منقطعة النظير،و كأن حياتها متوقفة على هذا العمل.. كان هذا دأبها منذ مدة، تحديدًا منذ أسبوعًا أو أكثر، كانت تهتم بشئون المنزل أكثر مما يجب و تعلمت الكثير عن أمور الطهي حتى صار الطعام من يدها شهيًا إلى حدًا ما.. كانت تحاول كسب رضاه متبعة خنوعًا أذهله و أبعده عنها رغم أنه يتوق للوصال !
أغلق "فادي" زر رسغ القميص لذراعه الاصطناعية و هو يعاين شكلها و المظهر الذي بدت عليه.. كانت جميلة كالعادة.. و ذلك الفستان ذي اللون الأبيض الباهت قد عزز بياض بشرتها الناصعة، خاصةً بعريه و قصره حتى منتصف الفخذ، مع شعرها الحريري المسدل إلى ما بعد خصرها.. كانت كتلة من الفتنة، بل هي فتنة تمشي على قدمين بذلك الجسم الكاريكاتوري الفظيع، حقًا فظيع إلى درجة تدفعه أحيانًا ليسأل نفسه... هل هو كفؤ كفايةً ليكون زوجًا لها ؟ كل المؤشرات تفيد بأن الاختلاف بينهما كاختلاف السماء و الأرض.. المشرق و المغرب... و لكنه.. للأسف لا يستطيع أن يفلتها من يده، لقد فات الآوان !
-مش محتاجة مساعدة ؟
أصابتها رعدة خفيفة عندما سمعت عبارته من خلف ظهرها تمامًا، تركت "هالة" آنية الفاكهة من يدها و إلتفتت إليه قائلة بابتسامتها العذبة :
-لأ خالص. أنا وضبت كل حاجة.. و الأكل جاهز على الغرف. ماتقلقش إنت
فادي بحيادية : أنا مش قلقان أنا حبيت أساعدك بس. من الصبح و انتي واقفة على رجليكي !
هالة برقة : أنا واقفة على رجلي من الصبح عشان أشرفك.. أختك ماينفعش تيجي و تحس إن إللي كانت بتعمله معاك أكتر من إللي بعمله. و لا إنت إيه رأيك ؟
حمحم "فادي" مطرقًا رأسه و لم يرد عليها.. شملها بنظرة فاحصة من أسفل لأعلى، ثم نظر بعينيها قائلًا بحزم هادئ :
-مش إحنا إتفقنا اللبس العريان و القصير ده ماينفعش قدام حد ؟
تلاشت ابتسامتها فورًا و هي تقول :
-تحب أغير الفستان !
-ياريت.. سمر مش هاتيجي لوحدها
أومأت "هالة" له و قالت :
-دقيقة واحدة و راجعة !
و تحركت متجهة نحو الغرفة.. لكنها لم تكد تتجاوزه، ليقبض على معصمها هاتفًا :
-إستني يا هالة !
أدارت رأسها نحوه :
-في حاجة ؟
شدها "فادي" بلطفٍ لتقف في مواجهته ثانيةً، كانت محاصرة الآن.. المائدة خلفها و هو أمامها، لم يفلتها مطلقًا.. حتى عندما فتح فمه ليتكلم على نحو متروٍ :
-أنا عارف.. و حاسس بيكي. ورا كل إللي بتعمليه ده. من بعد إللي حصل و إنتي بتتصرفي كده.. و فكراني مش واخد بالي أو عديت الموضوع !
بقيت محدقة به و لم تفه بكلمة.. ليستطرد و هو يرجف من شدة الانفعال و قد ارتفعت يده السليمة لتحيط بوجهها :
-أنا عمري ما مديت إيدي على واحدة. حتى سمر أختي.. رغم إللي عملته في نفسها و فينا كلنا. عمري ما أذيتها.. مش عارف ليه إنتي بالذات إللي طلعتي مني تصرفات زي دي. مش عارف عملتي إيه. إستفزتيني و لا إيه بالظبط.. بس كل إللي أعرفه إني مش هقدر أعمل فيكي كده تاني. بغض النظر إنتي شايفاني إزاي أو أنا إيه بالنسبة ليكي.. بكلمك دلوقتي بصراحة يا هالة و بقولك. لو حاسة فعلًا إنك كتيرة عليا. لو شايفاني مش كفاية أنا ممكن أتحمل النتيجة كلها و أروح آ ا ..
وضعت إصبعها فوق شفاهه قبل أن يتم عبارته ...
-أششششش.. ماتكملش. إيه كل إللي قولته ده أصلًا ؟ إنت الفترة دي كلها ساكت و بتفكر إزاي تسيبني ؟!!
رأى تلك الدموع التي لا يتحملها تتراقص بعينيها و هي ترمقه بنظرة أذابت عظامه، ليقول بتأثر بالغٍ و هو يمسح على رأسها براحته :
-أنا مش عايز أسيبك.. لكن تقدري تقولي إني فوقت متأخر. للأسف يا هالة أنا مانفعش أكون زوج ليكي.. إنتي كبيرة أوي. إنتي مختلفة و حياتك مختلفة عن حياتي. و مستقبلي كمان غامض و مطفي. خايف أتعسك معايا. و إنتي ماتستاهليش كده. أنا مش قادر أسامح نفسي على إللي عملته فيكي
-بس أنا سامحتك ! .. قالتها بصوتٍ شبه هامس
و هي تقبض على كفه و تنقله إلى فمها لتلثمه بثغرها الدقيق دون أن تحيد ناظريها عن عينيه لحظة ...
إزدرد "فادي" لعابه بتوتر و هو يستشعر ملمس شفتها و حرارة قُبلتها الناعمة.. ثم قال بعد ثوانٍ بصوتٍ متهدج :
-لو فضلتي معايا هاتندمي.. هاتكرهيني أكتر بكتير من دلوقتي !
جلست "هالة" على طرف المائدة و ألقت بذراعيها حول عنقه، إجتذبته إليها بقوة فتلاصقا تقريبًا، لترفع وجهها تاليًا مقابل وجهه متمتمة بلهجة مستثارة :
-و مين قالك إني بكرهك دلوقتي أصلًا ؟ إنت حاسس إني كده بكرهك !!!
لم يطيق "فادي" صبرًا على مشاعره العنيفة الآخذة بالإلحاح عليه، ليطبق فمه على فمها بقبلة طويلة.. عبر من خلالها عن حجم شوقه و لوعته بها، و الأهم من ذلك يأسه المرير على بذل المزيد من كل شيء لأجلها، و لتشعر بأنه حقًا يعتز بها و يريدها.. يريدها بشدة !!!!
________________
ارتأى "عثمان" أن أمسية الليلة لا تحتاج لسيارة مخصصة لفردين، أو حتى لأربعة، و حتى هو لن يتولى القيادة.. لذلك أختار سيارة "lada largus" العائلية.. التي انضمت للسوق المصرية حديثًا و التي تحمل سبعة من الركاب أيضًا
كان السائق ينتظر، بينما تسير "سمر" متأبطة ذراع زوجها، و لم تفارق البسمة محياها و هي تراقب شقيقتها الصغيرة تمشي و تتقافز بمرح حول عربة الصغير "يحيى" التي تدفعها المربية للأمام برفقٍ و حرص ...
كان المنظر بهجة لعينيها، و كادت تحلّق من فرط السعادة.. ليدق هاتف زوجها فجأة و يفصلها عن الواقع الجميل في وضع نادرًا كهذا
اعتذر "عثمان" منها و هو يتوقف للحظات، ترك يدها و أستل هاتفه من جيب سترته الداكنة.. كان المتصل عمه "رفعت" مِمّ أدهشه، فقد كانا معًا قبل قليل.. لكنه أجاب فورًا :
-آلو.. أيوة عمي !
جاء صوت "رفعت" مترعًا بالذعر :
-عثمان إنت مشيت ؟ ارجعلي. ارجعلي حالًا في كارثة !!!! ................................... !!!!!!!!!!!!!!!!