رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الواحد و العشرون 21بقلم مريم غريب

 رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الواحد و العشرون بقلم مريم غريب

_ ما من عودة ! _


لم يلتفت "فادي" مطلقًا لينظر إليها حتى.. بقى ساكنًا مكانه فقط، بانتظار أن تتكلم و تفشي حقيقة ما فعله بها أمام أبيها


كان هادئًا و يهيئ نفسه تمامًا لذلك، لكنه لم يكن يعرف كيف عساه يتصرف ما إذا طالب والدها بعودتها معه !


بالتأكيد أيّ أب يرى إبنته على تلك الحالة لن يصمت و سيكون رده رادعًا.. أقله سيأخذها منه... إنما هو في الحقيقة.. لن يسمح بذلك.. لا يدري ماذا سيفعل بالضبط و كيف.. إلا أنه لن يسمح لها بالخروج من منزله أبدًا


فهو على يقين بأنها إذا غادرت اليوم و بالأخص بعد الظروف القاسية التي عاشتها على يديه.. فأنها لن تعود ثانيةً، و هو لا يزال بحاجة لوجودها معه، لا يعرف أسبابًا أخرى غير تلك التي دفعته للزواج منها.. لكنه متأكد من وجود دوافع أخرى يجهلها حاليًا، أو لعله يتعمد ذلك ...


-بابي.. أخيرًا جيت تزورني. وحشتني أوي !


كان صوتها يقترب من خلفه، فظل صامتًا مكانه، مدهوشًا و مترقبًا خاصةً عندما شاهد تعبيرًا غريبًا ظهر على محيا "رفعت".. حتى رآها تمر من أمامه متجاوزة إياه نحو أبيها


استقرت بين أحضان "رفعت".. بينما ينظر إليها "فادي" ذاهلًا، إذ كانت تتصرف بطبيعة شديدة و كأن شيئًا لم يكن.. و أيضًا.. كانت تضع مئزرها الحريري الفضفاض فوقها، فلم يبدو منها سوى الرأس و اليدين !


ماذا تفعل هذه بحق الله ؟ هل تخفي آثار اعتدائه عليها ؟ لماذا ؟؟؟؟


-قلب بابي ! .. تمتم "رفعت" و هو يحتضنها و يمسح على شعرها بحنان


-وحشتيني.. عاملة إيه ؟ طمنيني عليكي يا روحي !


أفلتت نبضة من قلب "فادي" خارج الإيقاع و هو يرهف سمعه الآن لما ستقوله.. و كأنما شعرت "هالة" به... ابتعدت عن أبيها بالقدر الكافٍ و قالت بابتسامة مشرقة :


-أنا كويسة.. كويسة أوي يا بابي !


تجهم وجه "رفعت".. بينما تدير "هالة" رأسها لتقابل نظرات زوجها المشدوهة، ابتسمت بسخرية مبطنة و هي تشمله بنظراتها.. و كأنها تقارن بين حالته في هذه اللحظة و بين حالته في وقتٍ خلا .....


°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°


قبل دقائق قليلة ...


استيقظت من نومٍ عميقٍ.. حيث شعرت بأنها قد نامت طويلًا جدًا.. كان جسمها متيبسًا كما لو أنها لم تتحرك خلال نومها أبدًا... عقلها يعمل ببطء قليلًا بينما تباعد جفنيها بتثاقل و هي تطلق زفرة متألمة


كان ثقل أسفل بطنها يزعجها كثيرًا، فمدت يدها لتزيله.. لعلها وسادة أو ما شابه وضعتها بالخطأ بأحدى حركاتها اللاوعية أثناء النوم، لكن كفها اصطدم بمادة جلدية، فيها شيئًا من الرطوبة !


عقدت حاجبيها و مدت يدها الأخرى لتستكشف جيدًا، لكنها علقت فجأة و وخزتها آلة حادة على ظاهر يدها وخزة حارقة، فتآوهت و هي ترفع رأسها مستطلعة ما الذي يحدث معها... لتفاجأ بكانولا طبية موصولة بمحلولًا فارغًا معلق فوق رأسها !!!


و في هذه اللحظة أدركت تمامًا كل شيء و قد استعاد عقلها أخر الأحداث التي مرت بها دفعةً واحدة ...


تلقائيًا تجمعت دموع القمع و الحزن بعينيها، فتركتها تنهمر كالسيول و هي تنتزع نصل الكانولا الحاد برفقٍ، ثم تعتدل نصف جالسة و تعض على شفتها لتكتم صيحة ألم قوية.. فمن ضمن الأشياء التي وعت إليها أيضًا اصابتها بالنزف الشهري قبيل فقدانها للوعي مباشرةً.. و لكن ما هذا ؟!!


وقعت عيناها الآن على قِربة الماء التي كانت تجثم فوق بطنها، لم تكن وسادة إذن !


محلول و قِربة ماء و ملابس و شراشف كلها نظيفة !!!


لقد كانت متسخة كثيرًا، كانت حالتها مزرية و لوثت ملابسها بالفرش و الدثائر.. من الذي فعل لها كل هذا ؟ أيعقل أن يكون هو ؟؟؟


لم تنتظر ردًا راجحًا من تخميناتها، فقد آتاها فورًا صوت أنينه الغريب و المميز فجعلها تنتفض في مكانها مذعورة ...


تتبعت صوته في الحال، حتى مالت برأسها أسفل السرير من جهة اليمين.. لتراه نائمًا فوق الأرض إلى جانبها و يصدر هذا الصوت الذي اعتادت عليه أثناء نومها إلى جواره منذ أن تزوجته


و لكن.. لماذا ؟ ما الذي دفعه لفعل كل هذه الأشياء لأجلها ؟ و لأجلها أيضًا افترش الأرض و غفى طوال الليل !!!


ارتعدت بذعر أكبر في هذه اللحظة، عندما سمعت جرس الباب يدق و يدق بإلحاح.. لا بد أنه سوف يستيقظ الآن بسببه... و هذا ما رأته فعلًا، فقد بدأ يتململ بمكانه


مددت جسمها بسرعة من جديد و هي تسحب الغطاء عليها متظاهرة بالنوم.. فهي ليست مستعدة حاليًا لمواجهته، يلزمها بعض الوقت لترتب أفكارها على الأقل لترى كيف ستتعامل معه !


سرعان ما شعرت به ينهض مغمغمًا بكلماتٍ لم تسمعها جيدًا حتى خرج من الغرفة، و بعد ثوانٍ.. التقطت أذنها صوت أبيها، ففتحت عيناها على سعِتهما ...


هل جاء حقًا ؟ لقد وبخها البارحة عندما هاتفته لتشكو له ما صنعه بها زوجها..حتى أنه لم ينتظر لتشرح له بالتفصيل، أغلق معها فورًا بعد أن أسمعها كلامًا جرح مشاعرها في الصميم لدرجة تمنت لو أنها تختفي من الوجود، بأيّ طريقة، بعد أن نجح الجميع بأشعارها بأنها ليست محبوبة.. و أن لا جدوى من محاولاتها كسب القلوب التي تنجذب إليها و يغمرها الحنين لقربها منهم !


ما العمل الآن ؟ كيف تتصرف ؟ .. هل تخرج لأبيها و تستجدي منه العودة معه إلى البيت أمام زوجها ؟ .. هل تذل نفسها و تحط من كرامتها على مرآى و مسمع من الجميع ؟؟؟؟


لم تكن هذه شخصيتها أبدًا.. لم تحني رأسها بهذا الشكل لمخلوقٍ طوال حياتها، و لم يشهد أحدٍ على ضعفها سوى الرجل الوحيد الذي أحبته من كل قلبها و نبذها هو بدوره ...


هل تقبل بالذل و تعود ؟ ... لا.. ما من عودة أبدًا، هذا الجحيم أكرم لها بكثير الآن، رغم كل ما عانته حتى الساعة !


°°°°°°°°°°°°°°°°°°


أجفل "فادي" بشيء من التوتر مع شدة تحديقها به كل هذا الوقت، لتزداد تعابير السخرية على وجهها و هي تنظر إليه فقط، بينما يعلو صوتها الرقيق قليلًا ممتدحًا به :


-فادي راجل مافيش زيه يا بابي.. بجد واخد باله مني و مش مخليني محتاجة أي حاجة. و تصدق.. مدلعني أكتر منك !


و ضحكت بانطلاق و هي تنتقل من بين ذراعي أبيها إلى حضن زوجها، تعلقت برقبته و شبت على أطراف أصابعها لتطبع قبلة شقية على خده المشعر مغمغمة :


-شوفت يا بابي جه إللي ينافسك على قلبي !


تصلب "فادي" مذهولًا أمام تصرفاتها العجيبة، لا يفهم شيء.. حقًا لا يفهم أيّ شي !!!


على الطرف الآخر.. لا يقل "رفعت" عنه دهشةً، لكن في هذه اللحظات لم يسعه إلا أن يبتسم بهدوء متابعًا ما يجري حتى النهاية، لتترك "هالة" زوجها و تعود إلى أبيها مطوقة خصره و هي تقول برقةٍ :


-أنا واحدة كدابة طبعًا !


توترت الأجواء من جديد إثر نطقها بذلك... فشعرت بنشوة كبيرة و هي تراقب تعابير الأثنان المتقلبة قبل أن تستطرد بتمهلٍ :


-مش ممكن أبدًا.. مافيش حد يقدر ينافسك على قلبي يا بابي. أنت أول و أكبر حب في حياتي يا حبيبي


تمكنت من سماع زفرة حنق خفيفة تصدر عن "فادي" من خلفها، ثم ما لبثت أن سمعت صوته الأجش يقول :


-طيب أنا محتاج أعمل فنجان القهوة بتاعي عشان أفوق كويس. أظن رفعت بيه لسا ماشربش قهوته بردو !


إلتفتت "هالة" نحوه قائلة بنعومةٍ :


-خليك يا حبيبي ماتتعبش نفسك.. أنا هاعملهالكوا بنفسي


فادي بحزم لا يخلو من اللطف :


-لأ يا حبيبتي أنا إللي هاعملها. باباكي جاي مخصوص عشان يشوفك و إنتي وحشاه أوي. خليكوا براحتكوا شوية و أنا مش هتأخر عليكوا !


هالة بابتسامة حب :


-أوكي يا قلبي.. ربنا يخليك ليا


لم يستطع "فادي" أن يحجم نظرة استنكار أخرى أطلت من عينيه، قبل أن يستدير متوجهًا نحو غرفة المطبخ ...


-هالة !


هل احتدت لهجة والدها الآن ؟!!


إلتوى ثغر "هالة" ببسمة تهكمية و هي ترفع نظراتها لتشتبك مع نظرات أبيها العابسة ...


-إيه إللي حصل بالظبط ؟ .. تساءل "رفعت" بجمودٍ


هزت "هالة" كتفيها قائلة ببلاهة :


-إيه إللي حصل يا بابي ؟ في حاجة حصلت ؟!


كز "رفعت" على أسنانه بحنق شديد و كرر :


-هالة ! بقولك إيه إللي حصل ؟ قبل ما تكلميني إمبارح و بعد ما قفلت معاكي.. جوزك عملك إيه و ضربك إزاي ؟ و إيه معنى كلامك و تصرفاتك معاه دلوقتي ؟ هو مهددك و لا إيه ؟ إنتي خايفة منه ؟ ماتخافيش يا حبيبتي أنا جيت و عايز أسمع منك كل حاجة. و تأكدي إن حسابه هايكون عسير معايا !


تصنعت "هالة" الدهشة و هي تقول :


-ضرب إيه و تهديد إيه يا بابي ؟ بقولك فادي كويس معايا أوي و حنين عليا جدًا.. ده مش بيخليني أشيل كوباية تقوم تقولي بيضربك !!


رفعت باستنكار منفعل :


-إنتي بتهرجي صح ؟ أومال مكالمة إمبارح دي كانت إيه ؟ مش إنتي قولتيلي بعضمة لسانك الحيوان ضربني و حابسني في الأوضة ؟ و كنتي مفطورة عياط !!!


ضحكت "هالة" بعذوبةٍ، و قالت و هي تعض على شفتها بخجل :


-معلش يا بابي إنت فهمتني غلط و أنا كنت غلطانة لما كلمتك. بس كنت مصدومة شوية.. هو مش ضرب ضرب يعني. هو كان بيهزر. إنت عارف حركات العرسان دي بقى. مراد كان كده بس مش أوي. بصراحة فادي راجل ماحصلش.. بصراحة أكتر هو راجل أوووي !


ثم قالت معتذرة :


-أنا آسفة بجد لو كنت قلقتك عليا.. بس إنت بتستحملني. طول عمرك بتقوم معايا بدور الأب و الأم ف دايمًا بشغلك بكل حاجة تخصني حتى لو كانت تافهة.. أوعدك مش هاخضك كده تاني


ما زال العبوس يملأ وجهه و هو ينظر إليها بعدم اقتناع، لكنه لم يجد بدًا من مسايرتها.. أولًا و أخيرًا هو لا يتمنى أبدًا أن يُهدم استقرارها مجددًا، لذلك، فلتسير الأمور كما هي، طالما لم يحدث أمرًا جلل ...


-إتفضل القهوة يا رفعت بيه !


إنتبه "رفعت" إلى صوت "فادي" في هذه اللحظة.. إلتفت إليه متخلصًا من مزاجه السيئ بلحظة، قابله بابتسامة و هو يقول ملقيًا نظرة بساعة يده الضخمة :


-حبيبي تسلم إيدك. أنا هادوقها بس عشان يدوب أطلع على الشغل.. مع الأسف اجازتي مش إنهاردة زيك !


و ضحك و هو يتناول فنجان القهوة ليرتشف منه القليل بسرعة ...


فادي بجدية : ده كلام يا رفعت بيه.. أول زيارة في بيت بنتك و تمشي منغير ما تتغدا معانا على الأقل ؟ مايصحش !


رفعت ببشاشة : معلش يا فادي. أنا نفسي أقعد معاكوا و الله. بس الشغل مش بيستنى.. أكيد هازوركوا تاني قريب و هاتغدا و اتعشا كمان


و أعاد الفنجان كما هو تقريبًا إلى الصينية التي يحملها زوج إبنته بيده السليمة ...


فادي بتهذيب : تآنس و تنور في أي وقت !


إستدار "رفعت" ليضم "هالة" مرة أخيرة مغمغمًا :


-يلا يا حبيبتي أشوف وشك بخير.. هابقى أكلمك أطمن عليكي. و إنتي إبقي كلميني !


و قبّلها بين عينيها، ثم ربت على كتف "فادي" مودعًا و توجه نحو باب الشقة منصرفًا من فوره ...


ساد صمت ثقيل للحظات بعد رحيله.. حتى صّوبت "هالة" ناظريها إلى وجه زوجها الخالٍ من التعابير و قالت بنفس اسلوبها الرقيق مِمّ ضاعف حيرته :


-تحب تفطر دلوقتي ؟


إختلجت شفتاه للحظة بشيئًا من الاضطراب، لكنه أجابها بصوته القوي :


-ماتتعبيش نفسك.. أنا هاحضر الفطار إنهاردة. خليكي مرتاحة إنتي 


هالة بتصميم لطيف :


-لأ.. أنا إللي هاحضره. إديني عشر دقايق بس !


و منحته ابتسامة حلوة، ثم تجاوزته متجهة نحو المطبخ لتعد له طعام الفطور.. بينما يستدير بجسمه محدقًا في إثرها بنظرات مستفهمة !!!!!! ......................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

الفصل الثانى والعشرون من هنا

تعليقات



×