رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني 2 الفصل السابع والخمسون 57 بقلم مريم غريب
( 57 )
_ ثأر ! _
خلع زوجيّ حذاؤه مع الجوربين و وضعهم جانبًا بجوار باب المرحاض.. شمر عن ساعديه و هو يعاود الوقوف منحنيًا أمام الحوض البيضوي... فتح صنبور المياه و بدأ مسميًا بالله في سره.. ثم أخذ يسير على خطوات الوضوء الصحيح تمامًا
لم يستغرقه الأمر دقيقة.. سرعان ما انتهى.. ليخرج من المرحاض إلى غرفة مكتبه بمؤسسة العائلة التجارية... ارتدى جوربيه، و مشى و الماء يقطر من شعره و وجهه ليلتقط سجادة الصلاة من خزانة صغيرة بركنٍ قصي، يتجه إلى القِبلة مباشرةً و يبسط السجادة أسفل قدميه.. يقف مستقيمًا عند مقدمة حافتها، يستحضر قلبه مخلصًا لله بخشوعٍ، ثمّ يكبّر رافعًا يديه بمحاذاة منكبيه، ثمّ يبدأ بآذاء فريضة الظهر ...
خمس دقائق بالتمام و كان قد فرغ و ختم صلاته بالتسبيح كما إعتاد.. يذكر بأنه كن يؤدي الصلاة في طفولته و حداثة سنه لِمامًا.. لم يكن من المواظبين عليها
حتى جاءت هي و عقدت معه عهدًا في ليلة زفاف شقيقته، منذ تلك اللحظة و هو لم ينقض بالعهد بينهما أبدًا، لم يفوّت يومًا دون صلاة.. حتى و هي لا تراه... لقد أمسى محافظًا على هذه الطاعة مستمسكًا بخيطٍ يصل بينه و بين خالقه، لعله بها يدرأ عنه السوء في نفسه و أهله.. أيّ سوء قد يحيق بهم... و هو أقترف الكثير من المعاص و المحرمات.. إنه فاسقٍ تائب إن صح القول !
و الآن يجلس "عثمان" مسترخيًا فوق كرسي المكتب، يضغط زر الديكتافون الموصول بينه و بين سكيرتيرته الخاصة هاتفًا بصوته القوي :
-رانيا.. من فضلك أطلبيلي نبيل الألفي
جاء صوت السكرتيرة الرقيق مستوضحًا :
-أحوّل مكالمة على مكتب حضرتك ؟
عثمان بحزمٍ : لأ.. أطلبي مكتبه. و قوليله يجيلي هنا فورًا
-تحت أمرك يافندم !
مر وقت ليس بقليلٍ على الإطلاق عقب أن أملى "عثمان" أوامره على السكرتيرة.. بالتأكيد أنها أوصلت الرسالة إلى السيد المبجل "نبيل الألفي"...و لكن الأكثر تأكيدًا بأنه عمد إلى تجاهل تلك الأوامر لأطول وقت ممكن
في فترة سابقة ربما كان "عثمان" ليغضب من هذه التصرفات... لكنه تعلم بالآونة الأخيرة _ خاصةً بعد إنفصاله عن زوجته _ كيف يسيطر على مشاعره..كيف يروّض تلك النزعة الحساسة بداخله فلا يكون لأحدٍ سلطانٍ عليه، لا أحد يستخدم غضبه ضده.. فقد بات واثقًا منذ مدة بأن الغضب وحده هو الذي بامكانه أن يسيطر على سجيته أحيانًا كثيرة... و بما أن ذاك الـ"نبيل" يهدف إلى ذلك، فالبطبع هو قادر على تطويع نفسه و لن يحقق له هدفه
أخيرًا.. يسمع "عثمان" نقرة واحدة على باب مكتبه، لم يتكبّد عناء الاجابة على الطارق حتى.. تركه يفتح الباب باللحظة التالية من تلقاء نفسه.. ثم يلج مغلقًا الباب بنفسه أيضًا و يقبل عليه بتلك الابتسامة السمجة التي لجالما جللت محياه الأراستقراطي الوسيم ...
-صباح الخير يا عثمان ! .. حيّاه بصوته الرخيم السهل
تطلع إليه "عثمان" بنظراته الباردة، ثم ردّ تحيته بعد برهةٍ بصوته الهادئ :
-صباح الخير يا بيلي.. أتفضل أقعد واقف ليه ؟
و أشار له ليجلس أمامه ...
لا يزال "نبيل" محتفظًا بقناعه الوديع المتقن و هو يقول :
-في الحقيقة أنا كان بودي أقعد معاك و الله. بس أنا مشغول جدًا. رغم كده أول ما الـAssistant بتاعتك كلمتني قلت لازم أجيلك حتى لو هاصبّح عليك و أرجع تاني.. أصلك الصراحة واحشني أوي يا عث. مش باين بقالك فترة !
عثمان بابتسامة تهكمية :
-طيب يا بيلي.. طالما وحشتك أوي كده. أقعد خمسة.. أنا عاوزك في كلمتين مهمين !
رفع "نبيل" ساعده الأيسر و ألقى نظرة على ساعة يده الباهظة، ثم نظر إلى "عثمان" و قال موافقًا :
-أوكي يا عثمان.. 10 دقايق مش 5 بس !
و جلس أمامه موليًا إليه كل الاهتمام ...
-أتفضل ! .. قالها "عثمان" مادًا إليه علبة السيجار الفاخر
أبى "نبيل" باشارة متحفظة من يده :
-متشكر مابدخنش
يرفع "عثمان" حاجبه معلقًا باستهجانٍ :
-لا و الله ! من إمتى بطلت يا بيلي ؟
نبيل بابتسامة رائقة :
-يعني من مدة كده.. الحمدلله
عثمان و هو يسدد إليه نظراته الخبيثة الساخرة :
-و يا ترى بطلت تدخنين بس ؟ و لا ...
-الحمدلله يا عث.. فاهم قصدك. خلاص زمن الشقاوة ولَّى. على الأقل بالنسبة لي. إنما بالنسبة لك إنت ماعرفش الصراحة !
و ضحك ...
شاركه "عثمان" الضحك و أعاد العلبة منتزعًا بأسنانه سيجارًا رفيعًا منها، أشعله بعود ثقاب، ثم قال و هو يدخنه و يصنع أمام وجه سحابة رمادية شفافة :
-أنا كده كده تايب.. من يوم ما قابلت أم يحيى. توبت على إيديها من كل حاجة
إتفق "نبيل" قائلًا بتبجيلٍ و احترام :
-آه طبعًا مدام سمر ست رائعة جدًا ! .. ثم قال بلؤمٍ :
-أقولك الحق إنت خسرت جوهرة يا عثمان. حتة ألماظ نادرة ..
و قام بفرك إصبعيه بحركةٍ مسرحية ...
-مالكش حق و الله !
أهذا الغضب الذي أقسم "عثمان" على ألا يتجلّى بأبسط تصرفاته ؟ ... إنه الآن يطل من عينيه المحملقتين بغريمه بنظراتٍ فتّاكة.. لولا أنه تمالك نفسه باللحظة الأخيرة لكان أطلق نفسه عليه بعد أن سمعه يتحدث عن حبيبته و أم إبنه بهذه الطريقة الرعناء
سحب "عثمان" نفسًا عميقًا و عمد إلى تهدئة البقية الثائرة من مشاعره الرجولية المحتدمة... قام من مكانه فجأة.. ثم دار حول المكتب بخطواتٍ وئيدة... جلس في كرسي مقابله تفصل بينهما طاولة صغيرة.. إبتسم مكشرًا عن أسنانه الناصعة المتناسقة و قال بنعومةٍ تحمل بين طياتها تهديدٍ مبطن :
-نبيل يا ألفي !
ردّ "نبيل" منتهجًا نفس الاسلوب :
-أفندم يابن البحيري ؟!
-إنت أكيد عارف.. إن أنا عارف إنت جاي في إيه من الأول
-فعلًا يا عثمان ؟!
أومأ "عثمان" مستطردًا بلهجة أكثر قتامة :
-و مش هاسمحلك تمس كياني أو كيان عيلتي و لو بأقل جهد فيك.. ما تقول إنت عايز إيه. أو عايز كام من الآخر و تكتبلي تنازل عن نصيب هالة في البيت و بقية التركة. و خلينا حبايب أحسن.. إيه رأيك ؟
إبتسم "نبيل" نصف ابتسامة و قال بسخرية :
-حبايب ! إسمحلي أستخدم Technique جمتلك السابقة.. إنت أكيد عارف.. زي ما أنا عارف. إننا عمرنا ما هانبقى حبايب !
رفع "عثمان" حاجبيه مبتسمًا و هو يضع بفمه السيجار الذي إحترق نصفه بين إصبعيه، إمتص عبق الدخان بقوة، ثم نفثه متعمدًا بوجه "نبيل" الذي سرعان ما إستحال من البرود و اللامبالاة إل الحنق و الغضب الشديد ...
-أيوة كده نلعب على المكشوف أحسن ! .. قالها "عثمان" بلهجته المستفزة و هو يطفئ السيجار بالمنفضة أمامه
-و بما إن القايمة بينا ممكن تكون طويلة.. فكرني كده. تارك مع مين ؟ معايا ؟ و لا مع حد تاني في عيلة البحيري.. أبويا و عمي الله يرحمهم. مش معقول صالح
-تاري معاك إنت يا عثمان ! .. نطق "نبيل" بثباتٍ و دون أن يرف له جفن، و تابع مبتسمًا بوداعة :
-عمرك شوفت صراحة أكتر من كده ؟
أصدر "عثمان" ضحكة قصيرة جدًا، ثم قال و هو يحك طرف ذقنه دون داعٍ :
-بصراحة مش عارف أقولك إيه.. زمان. قبل ما أجوز و أبقى أب. تصريح زي ده كان ممكن يحسسني بنوع من الفخر الذاتي.. إنت عارف طبعًا أنا كنت شاب مغامر و بحب أدخل في منازلات زي دي.. بس أنا قولتلك في بداية كلامنا. أنا توبت.. شوف نقدر نحل إللي بينا إزاي و نصفيه بهدوء. رفم إني مش عارف تحديدًا إيه إللي مزعلك.. و يخص الشغل و البيزنس و لا إ آ ...
-لأ إنت عارف كويس إيه إللي بينا يا عثمان ! .. قاطعه "نبيل" محتدًا، و أعلن بعد لحظة واحدة :
-شاهيناز النجار !
إنبثقت صورتها فورًا بعقل "عثمان"... منذ ما يقارب العشر سنوات.. تلك الفتاة العشرينية.. سمراء البشرة... زرقاء العينين.. إبنة أحد رجال الأعمال المشاهير بالبلاد.. و أجمل من أنجبت مدينة الأسكندرية بوقتها.. لقد وقع بحبها بالفعل.. لكنه ما لبث أن أفاق.. مكتشفًا بأنها لم تكن سوى نزوة... مغامرة من مغامراته النسائية المتعددة.. واعدها فترة كما واعد غيرها... لكن الذنب الوحيد الذي أقترفه بعلمٍ و قصد.. هو أنه كان يعلم بأنها لا تخصه و أنه ما حرى به الاقتراب منها... إلا أنه رغم ذلك فعل !!!
-إنت لسا فاكر شاهيناز النجار يا بيلي ؟ .. تمتم "عثمان" بوجهٍ مكفهر
-دي متجوزة دلوقتي و مخلفة دستة عيال. لا دلوقتي إيه.. دي تاني إسبوع ما سيبتها !
نبيل رامقًا إياه بازدراءٍ :
-طبعًا.. ما زيها زي جيجي. زي نانسي.. زي كل واحدة عرفتها يا عثمان. كل إللي تقرب منك. لازم تتوب عن الصنف كله بسببك. و ترضى بأي حاجة بعدها. عشان الحياة تستمر مش أكتر.. شاهيناز طول عمرها كانت بتحلم. بتحلم تلف العالم. تمضي مع أكبر توكيل أزياء. ترقص بليه في مسارح الأوبرا. دي كانت بتغني و تعزف كمان.. كانت كلها حياة. كانت هي الحياة في حد ذاتها.. مين يصدق دلوقتي إنها قاعدة في البيت بتربي دستة عيال على قولتك ؟!
لا يعرف "عثمان" لماذا إنتابه الضيق في هذه اللحظة، هل هذا راجع لتأثير كلمات الأخير أم لتصديق ما تفوّه به في قرارة نفسه... لكنه وجد نفسه ينطق بقوة مبررًا لنفسه بالمقام الأول :
-شاهيناز جاتلي بمزاجها.. أنا عمري ما أجبرت واحدة عشان تقرب مني. شاهيناز ماكنتش مضطرة تقرب مني أصلًا.. هي إللي جت بمزاجها يا نبيل. عملت كل حاجة بمزاجها. و إنت عارفني.. أنا ماكنتش أحب أكسف حد. خاصة لو بنت جميلة و أمنية أي راجل زي شاهيناز
-دي كانت خطيبتي يا عثمان !!! .. غمغم "نبيل" بشراسةٍ من بين أسنانه
-سابتك الأول عشان تجيلي ! .. رد "عثمان" بنديّة لا تخلو من التحدي، و أردف بفظاظةٍ :
-و بعدين مش ذنبي. إذا كنت مابتعرفش تنقي حريمك !
و هنا برزت إبتسامة شيطانية على ثغر "نبيل".. ليقول بعدها بنبرةٍ ذات مغزى :
-أوعدك.. المرة دي هاعرف أنقي كويس. و هاتشوف بعنيك. حُرمة زي ما قال الكتاب ...
و دنى برأسه قليلًا صوبه، ليهمس بصوتٍ مسموع :
-هاترضيني.. حتى لو كانت فرز تاني يا عث !
علا صوت تنفس "عثمان"... بينما تندفع الدماء من قلبه إلى شرايينه بعنفٍ سبغ على بشرته كلها حمرةٍ جعلته يبدو خطيرًا... ربما مجرمًا !!!!
رفع "عثمان" ناظريه ليشتبكا بنظرات "نبيل" الضاحكة بشماتةٍ ...
ضغط على فكيه بشدةٍ و هو يضم قبضتيه مطرقعًا أصابعه تحضرًا للضرب و اللكم.. إلا أن "نبيل" سرعان ما قام من مكانه هاتفًا و قد عاد لاسلوب المرح من جديد :
-ياااه.. ده احنا دردشنا سوا أكتر من نص ساعة. بس و الله كنت واحشني يا عث. معلش بقى مضطر أسيبك دلوقتي ورايا شغل متلتل. بس أكيد هاشوفك بالليل في البيت.. يلا باي يا حبيبي !
و ولّى مدبرًا إلى مكتبه ...
بينما يجلس "عثمان" بمكانه يراقب رحيله مستشعرًا صداعًا قويًا يمسك برأسه.. ضغط دماؤه يرتفع.. يرتفع... و هو لا يقوَ ألا على التفكير و تكرار ما قاله ذاك الرجل الخسيس بعقله ! ............................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!