رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني 2 الفصل الخامس والخمسون 55 بقلم مريم غريب
( 55 )
_ سيرتنا الأولى ! _
وشاح رأسها الداكن يرفرف متأثرًا بالهجمات الهوائية المندفعة تجاهها عبر نافذة السيارة الفارهة ...
تضايقت "هالة" كثيرًا خاصةً مع تعزيز ذلك الهواء لتجمع دموعها التي لا تحتاج إلى مثيرات أساسًا، فبدون ترددٍ استدارت قليلًا و ضغطت بسبابتها على زر الاغلاق.. ثوانٍ و سدت منفذ الهواء تمامًا
تنهدت براحة و اعتدلت في جلستها مجددًا، فإذا بمرافقها الشاب يلقي من جانبها كلماته الملطفة :
-أنا آسف و الله لو حضرتك مضايقة !
تلتفت "هالة" نحوه فورًا مرددة ببلاهةٍ :
-نعم ! مضايقة من إيه ؟!
يرد الشاب موزعًا نظراته بينها و بين الطريق :
-أنا بسوق بحضرتك بقالي فترة. أكيد القاعدة دي كلها أزعجتك.. بس خلاص هانت. دقايق و هانوصل. إنما لو حابة أقف في أي مكان
تهز "هالة" رأسها رفضًا و هي تقول بصوتٍ مختلج :
-لا لأ. مافيش داعي نقف.. و أنا مش مضايقة. يمكن بس متوترة شوية !
يتحلّى الشاب الآن ببعض الشجاعة و هو يحكي معها :
-أنكل نبيل صاحب بابا أوي. قبل ما يروح يقعد في إيطاليا كان عايش معانا في بيتنا هنا في دبي.. بصراحة حاليًا أنا أقربله من بابا. لدرجة إن هو إللي خطبلي البنت إللي بحبها ..
و رفع يده اليمنى ليريها خاتم الخطبة اللامع ببنصره، و أكمل :
-لولاه ماكنتش إتشجعت و لا أخدت خطوة واحدة في الموضوع ده.. أنا أصلي خيبة أوي و Old School ( قديم الطراز ) !
تمهل لحزة ليسحب نفسًا عميقًا، ثم أردف بأريحية أكثر حين رآها تبتسم له و تستمع :
-منغير حساسيات يا مدام هالة أو تدخل مني.. و بردو عشان ماتزعليش من أنكل نبيل. هو حكالي باختصار وضعك مع البشمهندس فادي جوزك لما كلفني بجمع معلومات عنه.. و آسف ده مش تطفل مني دلوقتي. بس أنا حابب أقدملك نصيحة متواضعة جدًا إذا سمحتي. بس لو مضايقة من كلامي قوليلي أسكت علطول و لا يهمك ..
-لا أبدًا مش مضايقة ! .. قالتها "هالة" بجدية
-قول كل إللي إنت عايزه بليز !!
إبتسم الشاب لمرآى مشاعر الشجن الحماسية تتقافز من عينيها، ثم قال :
-بصي يا مدام هالة.. أنا عايزة أقولك حاجة واحدة بس. دايمًا صدقي قلبك. العقل في حياتنا مهم و له دور قوي و سلطة على مشاعرنا.. بس الحياة ماينفعش نعيشها علطول بعقولنا. و إلا هانكون زي الآلات بالظبط. و المشاعر إللي جوانا دي تدريجيًا هاتموت.. و إحنا أصلًا عايشين ليه ؟ منغير مشاعرنا دي مانقدرش نستحمل قسوة الأيام. أنا عارف إنك بتحبي البشمهندس. و كمان واثق إنه بيحبك.. رغم المشكلة إللي حكالي عنها أنكل نبيل. لو ماكنش بيحبك ماكنش هرب. ماكنتيش هاتفرقي معاه أصلًا ..
أجفلت "هالة" و هي تتلعثم قائلة :
-آ ا قصدك.. تقول .. إ إنه ...
-أكيد هايسامحك ! .. هكذا عثر لها على المعنى الذي صعب عليها نطقه
حبست أنفاسها، بينما يستطرد الشاب مبتسمًا :
-هايسامحك طبعًا.. محدش يقدر يصمد قدام عنين بنت مليانة دموع و حب كده.. صدقيني. أنا واثق من كلامي
سالت دموعها بالفعل في هذه اللحظة، فأدارت رأسها مسرعة و هي تسحب منديلًا من حقيبتها و لتكفكف به خديها الرطبين ...
على الطرف الآخر يتنهد الشاب مصوّبًا ناظريه إلى الواجهة الرئيسية لذاك الصرح الشامخ على بُعد بضعة أمتار، و يتمتم قارئًا لافتة عملاقة :
-الأكاديمية الدولية لهندسة البترول و التعدين... حمدلله على السلامة يا مدام. هالة. وصلنا. دلوقتي بينك و بين البشمهندس مجرد خطوات !
______________
لم تستطع منع قلبها ألا يبتهج لرؤية هذا الكمّ من المرح و اللطافة.. حتى ابتسامتها لم تستطع محوها من فوق وجهها... إذ لأول مرة تراه يعزز آواصر علاقته كأب بطفله بهذا الشكل
شقيقتها الصغيرة أيضًا تنال حظًا وافرًا من حنانه و لين قلبه الذي لطالما سكَّن من روعها هي شخصيًا.. رباه... هذه الصورة التي تراها الآن.. تسعدها و تعذبها في آن !
هذا "عثمان"... زوجها.. على مرآى و مسمع منها و من والدته الجالسة بجوارها أسفل مظلّة الأرجوحة الكبيرة، لم ينفك يداعب طفله و صغيرته الملاك كما يحلو له مناداتها.. كان اللهو و اللعب بين ثلاثتهم على أشدّه... هناك داخل حوض السباحة الكبير.. حيث الأب الفعلي بالنسبة للطفل، و الأب الروحي بالنسبة للفتاة الصغيرة، عاري الجزع و مبلل بالكامل مثل الصغيرين، يحمل كليهما على ذراعيه و يسبح بهما برشاقةٍ تارة، و يتركهما لحالهما تارة.. "ملك" فوق اللوح الهوائي على شكل سريرٍ صغير، و "يحيى" محاطًا بطوقٍ على شكل أوّزة.. كان يحاول تعليمهما مبادئ السباحة أيضًا، و في نفس الوقت يستمتع معهما
ضحكوا كثيرًا، و لعبوا كثيرًا.. حتى إنتاب "عثمان" التعب أخيرًا، فسبح تجاه حافة الحوض دافعًا بكليهما بيديه، حيث كانت هناك المربية التي تعتني بـ"ملك" أغلب الوقت و أحيانًا بالصغير "يحيى" ...
سلّمها "ملك" أولًا.. ثم صعد بنفسه و هو يحمل طفله على ذراعه بعد أن خلّصه من الطوق بسهولة، تناول من المربية المنشفة الكبيرة، لكنه لفّ بها إبنه و مشى هو تجاه أمه و زوجته و الماء يقطر منه كليًا، فقط إكتفى بأن نفض رأسه للجانبين بقوة ...
-إلبس حاجة بسرعة يا عثمان. كده تبرد يا حبيبي !
هكذا عبّرت "فريال" بلجهتها المتلهفة عن خوفها على سلامة إبنها ..
تجاوز "عثمان" نصيحة أمه و شد كرسي بالقرب منها، وضع طفله فوق قدمه، و طفق يفرك له جسمه الصغير ليجففه جيدًا و هو يقول :
-ماتخافيش عليا يا فريال هانم. لا يفل الحديد إلا الحديد.. الجو برد آه. بس مش عايز أقولك مرة في عز طوبة و في ليلة تلج و زعابيب. نطيت من اليخت في عرض البحر و طلعت ماحصليش حاجة
شهقت "فريال" مصدومة و قالت :
-يا خبر ! إنت إزاي تعمل كده ؟ و ليه عملت كده أصلًا ؟!!
ينقل "عثمان" ناظريه نحو زوجته التي تصنعت عدم الاكتراث لتلميحات كلماته الأخيرة، ثم قال بنبرة ذات مغزى :
-حاجة غالية كده.. وقعت مني. ف منغير ما أفكر لاقيت نفسي بنط وراها عشان أجيبها !
لا زالت غير متأثرة بحديثه المبطن، بينما "فريال" لم تلاحظ قصده، فقالت موبخة إياه بشدة :
-حاجة غالية إيه إنت إتجننت يابني ؟ مافيش في الدنيا أغلى منك. عارف يا عثمان لو عملت حاجة زي دي تاني مري ما هسامحك إنت سامعني ؟؟؟
قهقه "عثمان" ضاحكًا و هو يهدئ من روع أمه قائلًا :
-طيب خلاص. Relax يا فريال هانم. الكلام ده بقاله كام سنة.. و أنا قدامك أهو زي الفل
فريال بغضب حقيقي :
-أنا ماليش دعوة.. ماتقوليش كده و تعصبني أكتر. إنت تسمع كلامي و بس فاهم ؟؟؟
تلاشى مرح "عثمان" في هذه اللحظة و هو يرد عليها بهدوءٍ :
-حاضر يا ماما.. حاضر. خلاص فاهم. بس هدي نفسك مافيش داعي للعصبية دي كلها !
و هنا تقوم "سمر" متجهة ناحيته، لتقول و هي تمد يديها مطالبة بطفلها :
-هات الولد لو سمحت. خليني أطلع ألبسه أحسن ما يبرد !
تطلع إليها مستخفًا بتلك النظرة الجوفاء التي تعتلي وجهها، ثم قال بفتورٍ محتفظًا بهدوئه :
-لأ إنتي هاتقعدي.. مش على أساس سيادتك إللي طالبة القاعدة دي و في وجود أمي ؟ عايزة تهربي ليه دلوقتي ؟!
احتدمت نظراتها الآن و هي ترد عليه بغلظةٍ :
-أنا مابهربش.. بقولك هاخد إبني ألبسه هدوم ناشفة و تقيلة. عايزني أسيبه كده و يبرد عادي يعني !!
-آنيتااا ! .. هتف "عثمان" من مكانه دون أن يحيد بنظراته عن زوجته
كانت المربية الفلبينية تقف على مقربة منهم تهتم بالصغيرة "ملك" و تحكم إغلاق الروب المجفف حول جسمها ..
ما إن سمعت نداء السيد، تركت الصغيرة بعد أن أدت الغرض معها على أكمل وجه، هرولت تجاه "عثمان" و هي تصيح بالانجليزية :
-Yes sir !
عثمان : Take Yahya up, change his clothes and then take him back to his mother !
قالت المربية مع انحناءة بسيطة :
-at your service !
و تناولت منه الطفل.. أخذته ماشية ناحية المنزل، بينما يحمر وجه "سمر" و هي تقول بحدة ناظرةً بعيني زوجها بقوة :
-أنا مابحبش كده. و قولتلك 100 مرة
عثمان رافعًا حاجبه :
-مابتحبيش إيه بالظبط مش فاهم !!
-مابحبش حد يشاركني في إبني أو أختي بالشكل ده.. أنا مش حابة المربية دي أصلًا و سبق و قولتلك أخرها تاخد بالها منهم قدام عيني. مش أكتر من كده
عثمان بدهشة : و هي هاتعمل إيه يعني ؟ هاتكلهم ؟ ده شغلها !
-سمر بتتكلم صح يا عثمان ! .. علّقت "فريال" مؤيدة كنتها بجديةٍ
نظر لها "عثمان" فأردفت :
-ده المفروض كان يحصل من الأول. ماينفعش نآمن أي حد من مننا على الولاد.. لو كنت سمعت الكلام ده من الأول كنت عملت بيه فعلًا. دي أخر مرة يحيى أو ملك حد فيهم يتحط تحت تصرف المربية دي. أخرها معاهم زي ما قالت سمر. تاخد بالها منهم تحت عنينا
كان يفكر بهذا الكلام أثناء استماعه لأمه، حتى فرغت.. جزء منه كره أن يعترف بصحة تلك الافتراضات، لكنه ترك الكبرياء جانبًا الآن و قال عاقدًا حاجبيه :
-طيب.. هو كلامكوا مش غلط أبدًا. ف أنا هابلغ آنيتا بالتعليمات الجديدة.. أي آوامر تانية ؟
و نظر لكلتاهما... فلما أطالتا الصمت قال مشيرًا لزوجته بالجلوس و هو يسترخي فوق الكرسي واضعًا ساق فوق الأخرى :
-إتفضلي يا سمر أقعدي.. أقعدي و سمعيني أخر قراراتك !
زمت "سمر" فمها و هي تعاود الجلوس بمكانها.. أشاحت بوجهها بعيدًا عنه قائلة بجفافٍ :
-قراراتي إنت عارفها كويس.. مش محتاجة أعيدها عليك تاني
عثمان ببرودٍ : إممم.. يعني إنتي طلبتي إننا نقعد القاعدة دي عشان تسمعي ردي بس ؟ يعني معقول أسمعك الرد في وجود أمي و أصدمها كده ببساطة ؟ مش منطق ده.. طب ليه طلبتي تكون موجودة ما كنت سمعتك الرد في غيابها أحسن
-إنتوا بتقولوا إيه !! .. قالتها "فريال" بتوجسٍ
-إيه إللي بيحصل بالظبط ؟ قرار إيه ده و رد إيه ما تفهموني !!!
لاحت على ثغره ابتسامة تهكمية و هو ينظر إلى زوجته و يقول :
-تقوليلها إنتي و لا أقولها أنا ؟ ..
لم ينتظر ردها و استطرد فورًا :
-لا أقولها أنا أحسن ..
و حول بصره نحو "فريال" مصرحًا :
-الهانم عايزة تطلق يا ماما.. شوفتي !
جحظت عينا "فريال" بصدمة فعلية، نظرت إلى "سمر" في الحال و صاحت باستنكارٍ شديد :
-إيه إللي سمعته ده يا سمر ؟ الكلام ده حقيقي ؟ رددددي عليااا !!!
-أيوة يا طنط حقيقي ! .. جاء ردها أسرع من المتوقع
ألجمت الصدمة لسان "فريال" في هذه اللحظة، لتستطرد "سمر" بارادة قوية :
-كل إنسان و له طاقة تحمل.. و أنا طاقتي خلصت مع إبنك. خلينا ننفصل بالمعروفزي ما ربنا قال. كده هايبقى أحسن كتير صدقيني. أنا صممت تكوني موجودة و إحنا بنطلق عشان تسانديني و تدعمي قراري و تفهميني ..
-أفهم إيه ! .. رددت "فريال" و هي لا تزال تحت تأثير الصدمة
-و أدعمك كمان ؟ لما تبقي عايزة تطلقي.. عايزة تخربي بيتك يا سمر. مافكرتيش في إبنك ؟!!!
سمر منفعلة : أنا عشان فكرت في إبني أخدت القرار ده.. إبني مش هايستحمل يكبر و يلاقي أمه بتكره أبوه. مش هايبقى بنى آدم طبيعي. و أنا لو استمريت مع إبنك بالشكل ده مية في المية مشاعري كلها ناحيته هاتتحول لكره
فريال و هي تهز رأسها غير مصدقة :
-ليه ؟ عمل إيه عثمان لكل ده !!!!
-مش مرتاحة !! .. هتفت "سمر" بصوتٍ مخنوق
تخضّب وجهها بحمرةٍ ملتهبة و هي تضيف بلهجةٍ معذّبة :
-مابقتش مرتاحة معاه. أنا تعبت من الحياة دي و الله.. نفسي أرتاح يا طنط أرجوكي إنتي أكتر واحدة بتفهميني !
رفرفت "فريال" بأهدابها و هي تحاول اثنائها عن هذا القرار بشتّى الطرق :
-بس يا سمر ده تفكير مش سليم. يا حبيبتي إنتي لازم تعيدي حساباتك أكتر من مرة.. و بعدين ماتنسيش الحب إللي بينك و بين عثمان. إوعي تنكريه
بدت "سمر" و كأنها تضغط على نفسها كثيرًا و هي ترد على السيدة النبيلة بصعوبةٍ :
-مش بنكر.. بس صدقيني. صدقيني لو فضلت كل ده هايروح. أنا مش مرتاحة !
تضاعف خوف "فريال" مع تصميم كنتها، لتنظر نحو إبنها الآن و تقول بصوتٍ مرتجفٍ :
-عثمان.. عثمان إنت ساكت ليه ؟ ما تتكلم.. قولها إنها غلطانة و إن حبك ليها يشفع لأي غلطة أو ذلة في حقها
و هنا يرد "عثمان" بصوتٍ محتدٍ :
-الكلام ده لو هي عندها استعداد تسمع مني. لكن واضح إنها مصممة ..
-يعني إيه د آ ا ...
أسكت أمه بإشارة من يده، ثم توجه بالقول إلى زوجته مضفيًا على لهجته الحادة بعض الحزم :
-يعني إنتي هاتستريحي فعلًا لو طلقتك ؟
ردت "سمر" دون أن تتردد للحظةٍ :
-أيوة هاستريح !
فلم يكد يرتد لها طرفها حتى إلا و جاء إعلانه صارمًا ساخرًا بها و منها :
-طيب إنتي طالق يا سمر.. ارتاحتي ؟!
هبطت الكلمة على "فريال" أولًا أشدّ وطأةٍ بكثر عن "سمر"... إذ جمدتها بمكانها و كأنها قطعةٍ من صخر ..
بينما يمضي "عثمان" مكملًا و هو يعتدل مادًا جسمه للأمام و مشيرًا بسبابته محذرًا :
-بس خليكي فاكرة إن الطلاق ده له شروط و خطوط مش مسموحلك تعديها.. أولهم الخروج من البيت ده تحت أي ظرف. لو سمعت إنك خرجتي يا سمر دي هايبقى كلام تاني هايزعلك أكتر واحدة
استنكرت "سمر" تعليماته المجحفة بشدة :
-و ده يبقى أسمه طلاق إزاي ؟ فين حريتي !!
عثمان بلا مبالاةٍ :
-مش مشكلتي حريتك دي. حريتك بالنسبة لي هي إني نفذتلك طلبك و طلقتك.. عايزة تبعدي عني ؟ تمام. إبعدي. زي ما تحبي.. بس يوم ما هاترجعي و أنا واثق إن اليوم ده مش بعيد. كبيرك اسبوع أو أقل كمان. عتابنا مش هايكون سهل. و خلي بالك.. أنا بقول عتاب. لأن في ظروف تانية و مع أسباب غير إللي خلتك تطلبي حاجة زي دي منها جوازي عليكي و الكام غلطة إللي غلطهم معاكي بعدها.. كان هايبقي حساب يا سمر. بس ماتفكريش إن عتابي هايكون سهل بردو.. واضح ؟
و مرّت دقيقة و هو يواصل تحديقه القوي بها مسيطرًا على سكناتها قبل حركاتها، ثم قام من مكانه متناولًا روبه القصير من على ظهر الكرسي
ارتداه و هو ينطق آخر كلماته ببرود أعصاب كبير :
-أظن الحوار ماطولش أوي. و اليوم لسا في أوله.. أنا أطلع أغير هدومي بقى و أطلع على الشغل أحسن. فرصة أستغل وقتي الفترة دي في التركيز مع مشاغلنا. كفاية أوي إللي ضاع.. يلا عن إذنكو !
و ولّى متجهًا نحو المنزل بخطواتٍ متهادية رشيقة، و كأنه لم يقترف الشنائع و لم يتفوّه بالعبارات السامٍة للتو ...
______________
"قسم الهندسة الچيولوچيه والچيوفيزيائية" ...
كانت القاعة التي تضم القسم ذات زاجهة زجاجية عملاقة.. إذ تمكنت "هالة" من حيث كانت تقف بمكانها على رأس الدرج الكبير و تستند إلى السور الرخامي العريض.. تمكنت بسهولة نت رؤيته !
بعد كل هذه المدة.. ربما ليست بقصيرة... لكنها مرّت عليها مرور الدهور و القرون دون أدنى مبالغة.. الآن فقط.. تلتقط أنفاسها أخيرًا.. فهو بخير.. هو على أحسن ما يرام
نظيف، مبجل... سعيد و مفعمٌ بالحيوية و النشاط !!!
هذا نموذج منه تراه لأول مرة، الرجل الذي تحب.. "فادي".. ها هو ذا هناك خلف الحائل الزجاجي.. يرتدي أفخم الثياب الرسمية.. لحيته تكاثفت قليلًا.. لكنها أضفت عليه هيبة و وقار ينتسب وضعه الحالي.. شعره مقصوصًا و ممشطًا بعناية.. وجهه الحبيب.. لامعّ و نضر ليس كوجهها هي.. ليس كحالها منذ تركها و تكالبت عليها مصائب الدهر كلها !
كانت تراقبه بنظراتٍ نهمه، يشرح كأستاذٍ مخضرمٍ للطلبة، يخطط بيده السليمة على لوحٍ كبير.. الجميع ينتبه إليه، الجميع يخضع و يتفاعل وفق ارادته هو، لطالما كانت شيمته.. السيطرة و خلق جوًا من الانضباط و الاحترام
رباه !
كم تشتاق إليه، كم تود لو تجتاز كل هذه الحواجز لتصل إليه.. "فادي".. ها هو أخيرًا ...
لعلها لم تشعر بالوقت، كما لم تشعر بالتعب الذي زحف على ظهرها تأثرًا بوقوفها كالصنم بمكانها لأكثر من ساعةٍ و نصف حتى الآن.. و لم تتحرك إلا حين رأته يجمع أشياؤه في حقيبةٍ جلدية علقها على ذراعه السليمة، ثم يشق طريقه أولًا خارج القاعة، و من بعده الطلبة أفواجًا أفواجًا
بدون ترددٍ وجدت نفسها تنطلق مستديرة حول سور الدرج، تبعته بخطواتٍ راكضة عبر رواقٍ طويل يفضي إلى مصعدٍ كهربائي.. و لكنه قبل أن يصل إليه تمامًا، قبل أن تحط أنامله على زر الاستدعاء ...
إنبعث صوتها هاتفًا باسمه من الخلف محملًا بكل شوقها و لهفتها و لوعتها :
-فـــادي ! ................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!