رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني 2 الفصل الرابع والخمسون 54 بقلم مريم غريب
( 54 )
_ تضحية ! _
ابتسمت عينيها بسعادةٍ طفيفةٍ لأول مرة منذ وقتٍ طويلٍ جدًا... مدت يدها لتتناول فنجان الشاي من يد خالها و هي تقول بصوتها الرقيق :
-ميرسي يا خالو.. بجد ميرسي على كل حاجة !
بادلها "نبيل" بابتسامة هادئة و هو يفك ربطة عنقه الخانقة قليلًا، ثم يرفع فنجانه الساخن لفمه هو الآخر قائلًا :
-على إيه بتشكريني بس يا حبيبتي ؟ أنا لو أطول أجيبلك الدنيا كلها تحت رجليك عشان تبقي مبسوطة بس متأخرش.. أنا ماليش غيرك يا لولا. و بعدين أنا ماتخيلتش إن الأخبار تجيلي بالسرعة دي
هالة بحبور كبير :
-أهم حاجة إني إطمنت عليه.. و إنه كويس و قدر يلاقي نفسه من تاني
أومأ "نبيل" موافقًا إياها و هو يرتشف من الفنجان قليلًا، ليتطلع إليها مجددًا و يقول :
-فعلًا. بعد الحكايات إللي سمعتها منك. لما عرفت إنهاردة أخباره و إللي قدر يوصله ماصدقتش نفسي. الولد ده هايل بجد ! .. و اعترف على مضض لاويًا فمه بامتعاضٍ :
-أول مرة أشوف حسنة لعثمان.. بصراحة سلمك لراجل حقيقي أقدر أعتمد عليه من ناحيتك
تتلاشى ابتسامة "هالة" في هذه اللحظة.. ليحل الوجوم التام محلها ...
تنهدت بثقلٍ و أشاحت بوجهها تجاه شرفة التراث المفتوحة هاربة بنظراتها في مجاهل الليل المعبّق بروائح الشوق و الحنين.. حنين يرجف القلب و يؤلم الروح ...
-هالة ! .. هتف "نبيل" و هو يرمقها عابسًا
لم تحاول النظر إليه بالوقت الحالي، ليكرر بقلقٍ :
-مالك يا هالة.. إنتي تعبانة حاسة بحاجة ؟!
اعتصرت "هالة" جفنيها بشدة و هي تقسر نفسها على معاودة الحديث مع خالها.. إذ أدارت رأسها ثانيةً و نظرت إليه قائلة بهدوءٍ :
-أنا كويسة يا خالو.. كويسة أوي. بس سرحت في كلامك شوية
نبيل باهتمام : كلام إيه ؟
صمت قصير.. ثم قالت "هالة" بعدم ثقة :
-أصل إنت فاكر إن الموضوع.. موضوعي أنا و فادي.. ممكن يتحل بالبساطة دي !!
هز "نبيل" كتفيه مرددًا :
-و إيه إللي يصعّبه مش فاهم !
ردت "هالة" بثقةٍ هذه المرة :
-فادي مجروح مني. متصور إني ماحبتوش و إني أستغليته عشان أقدر أنتقم من عيلتي.. صحيح أنا و هو ماتكلمناش كتير. بس ليلتها عنيه قالت كل حاجة. كسرته. خيبة أمله فيا ...
و تمهلت قليلًا.. ثم أكملت بصوتٍ يغصّ بالدموع :
-أنا إتوجعت من عثمان أكتر من مرة.. و مراد إتوجع مني. جايز ماحستش بوجعه لأي سبب. عشان صاحب عثمان ف شبهه. أو بسبب أنانيتي وقتها. مش عارفة.. بس الوجع إللي سببته لفادي خصوصًا بعد ما خيرني بينه و بين حريتي. و معاملته الرقيقة ليا. خوفه عليا و اهتمامه و حبه.. كل ما أفتكر الحاجات دي كلها بحتقر نفسي.. فادي الراجل الوحيد إللي إداني هويتي و كان بيبذل جهده عشان يسعدني و مايخليش حاجة ناقصاني. أي حاجة... هو الوحيد إللي حسيت معاه بنفسي و إكتشفت مشاعري الحقيقية.. و أنا بغبائي ضيعته مني. ضيعت راجل كان بيحبني بجد !
اكتسب وجه "نبيل" تجهمًا شديدًا أثناء استماعه لتصريحات "هالة".. حتى ختمتها كلها بالبكاء الصامت و هي تنكس رأسها الآن لتواري دموعها عن ناظريه ...
منحها القليل من الوقت لتستعيد صوابها، ثم أعاد فنجانه إلى الطاولة دون أن ينهيه.. قدم لها منديله القطني و هو يقول بصلابةٍ :
-طيب خلاص من فضلك.. ماليش مزاج أشوف فيلم بين الأطلال دلوقتي. كفاية عياط يا هالة مش حلو عليكي و عليا أنا كمان.. خلاص يا كئيبة بقى !
ابتسمت "هالة" على سبيل المجاملة و هي تجفف دموعها في المنديل... تطلعت إليه مجددًا و قالت بصوتٍ أبح :
-خلاص يا خالو.. مش هاعيط قدامك تاني Promise
نبيل بصرامة : لا قدامي و لا من ورايا.. إنتي مش هاتعيطي تاني أبدًا يا هالة
ضمت حاجبيها غير قادرة على سبر أغوار نواياه المطلة من عينيه في غموضٍ، بينما ما لبث أن أوضح لها :
-بكرة الصبح هاحجزلك تذكرة و هابعتك لجوزك على أول طيارة. كفاية قعدتك لوحدك منغيره لحد كده.. كمان هو لسا مايعرفش إنك حامل. الخبر ده لوحده يغير كل شيء بينكوا
رفرفت "هالة" بأهدابها و تأتأت :
-آ آ. عايزني. آ أسافر لفادي ؟ إزاي ؟!
-زي الناس يا حبيبتي.. هاتركبي الطيارة و هاتنزلي من المطار هاتلاقي عربية مستنياكي و توصلك عنده علطول
-لأ مش قصدي كده ! .. هتفت "هالة" بارتباكٍ، و فسرت أكثر :
-أقصد.. لأ يا خالو مش هقدر.. أنا خايفة !!
نبيل بدهشة : خايفة من إيه يا بنتي ؟ حد هايكلك !!!
-مش عارفة فادي رد فعله هايكون إزاي.. و بعدين إحنا مطلقين !
نبيل بحزم : أول ما يشوفك قدامه و يعرف بخبر حملك كل مخاوفك دي هاتختفي في ثانية. و بخصوص الطلاق هو ممكن يردك عادي جدًا. العدة لسا ماخلصتش
-بس آا ا ..
-مابسش ! .. قاطعها بلهجة أقرب إلى التقريع، و قال :
-خليني أحل مشكلتك دي بقى. مش معقول هافضل مشغول بالي عليكي علطول. خليني أفوق للمشاكل الأساسية.. مش أبقى إسمي قفلت شباك و سيبت الباب. كإني ماعملتش حاجة بالظبط ..
عضت "هالة" على شفتها بقوة و هي ترنو إليه حائرة، ليختتم الحديث بعبارة آمرة لا تخضع لأيّ مناقشة :
-أنا مش هاستنى لبكرة الصبح.. أنا هاحجزلك الليلة يا هالة. حتى لو الرحلة قامت الفجر. هاوصلك و هاحطك بإيدي في الطيارة !
______________
لا يصدق بأنه أخيرًا قد فعلها !!!!
لقد باح بالسر... أجل.. سر عمه المرحوم... الخطر المحدق الذي كان يتمثل بزواجه من ضرتها الغراء !
قبل قليل كان قد أفرغ جعبته كلها في حجرها.. أجلسها أمامه و راح يدلي بكل شيء... وحده من تحدث.. حتى هي لم ترد عليه بكلمة.. بقيت تستمع فقط
إلى أن فرغ ...
قامت في هدوء و إتجهت ناحية المرحاض، إغتسلت و خرجت قاصدة غرفة الملابس.. بينما يجلس هو بصالون الجناح كل هذا الوقت و حتى هذه اللحظة على أعصابه
يدخن و ينتظر و يدخن.. يدخن كثيرًا... حتى نفذ صبره، فقام متوجهًا إليها، و كانت الصدمة !
نفس المشهد الذي رآه بالظهيرة.. يتكرر الآن.. زوجته تنحني أمام حقيبة ملابسها الكبيرة... تباشر جمع و ترتيب أغراضها بمنتهى الدم البارد ...
-إنتي بتعملي إيه تاني ؟!! .. صاح "عثمان" بغلظةٍ و هو يقطع المسافة بينهما بخطوتين
قبض على رسغها مانعًا إياها من إنهاء ما تفعله، كتمت "سمر" صيحة ألم، بينما يشدها صوبه لتصبح في مواجهته، مع هذا لم تنظر إليه مطلقًا ...
-ممكن أعرف بتلمي هدومك تاني ليه ؟ .. تساءل "عثمان" بحدة
فلما لم ترد عليه، عاود القول و هو يهزها بعنفٍ :
-أنا بكلمك يا هانم.. ردي عليا يا سمر. بتلمي هدومك ليه ؟؟؟
أخيرًا.. قررت أن تنظر إليه... فأخذت ترمقه بنظراتٍ فاترة، و قالت :
-بلم هدومي عشان أنا لسا متمسكة بقراري يا أبو يحيى.. أنا لسا عايزة أطلق !
-أبو يحيى !! .. علّق باستنكارٍ لطريقتها بالحديث معه، و تابع :
-و بعدين إنتي لسا بردو مصممة على الكلام الاهبل ده حتى بعد كل إللي حكتهولك ؟!!
تسحب "سمر" يدها من قبضته في هذه اللحظة و هي تدفعه باليد الأخرى في صدره هاتفة بعداء أذهله :
-و إنت حكيتلي إيه ؟ إنت فاكر إن الكلام إللي سمعته منك ده هايهبطني مثلًا ؟ لو متخيل إنك بكده سويت كل حاجة و حليت المشكلة تبقى غلطان.. بالعكس. إنت وسخت صورتك في نظري أكتر. إنت مش مستوعب الوضع إللي قبلت بيه حتى لو بالكدب زي ما بتقول !!!
كسا الوجوم وجه "عثمان" و هو يستمع إليها ...
بقى أمامها عاجزًا عن الرد للحظاتٍ طويلة، حتى أمكنه القول من جديد بلهجة أكثر هدوءً :
-أنا سيبت نانسي خلاص يا سمر.. ثم أنا قولتلك إن مافيش أي حاجة حصلت بيني و بينها. إللي شوفتيه الصبح ده أنا شرحتلك حصل إيه بعده أنا آ ا ...
-إنت مش مضطر تبرر أكتر من كده ! .. قاطعته بإشارة حازمة بكفها، و أردفت :
-أنا مش مستنية منك تبرير. لازم تفهم ده كويس. كنت هاسكت و أسمعلك لو كنت لسا باقية عليك
صدمه ردها و أخرسه تمامًا لبرهةٍ ...
-أومال إنتي موقفك إيه من ناحيتي دلوقتي يا سمر ؟ .. سألها بشجاعةٍ هشة
أجابته كما لو أنها تضع حجرًا فوق قلبها :
-إنت مابقتش بالنسبة لي دلوقتي أكتر من أب لإبني.. بس. علاقتنا لازم تنتهي يا عثمان. أنا بتكلم بجد المرة دي.. الخطوة دي يمكن زمان و من قريب كمان كنت أجبن من إني أخدها.. لكن أنا دلوقتي قادرة عليها. لو ما نفذتش طلبي المرة دي خليك واثق إنك بتقتل فيا أي مشاعر بقيالي.. هافضل عايشة جمبك جسم بس. من غير روح.. فاهم ؟
أجفل لأول مرة منذ دخوله عليها.. لكنه تماسك بارادةٍ قوية،و اقترب منها خطوة... أمسك بيديها فلم تمنعه، ثم قال بلطفٍ :
-طيب ممكن تهدي.. أنا عارف إن كلامي ممكن كان صادم شوية بالنسبة لك. بس أنا افتكرتك هاتعذريني و تقفي جمبي. أومال لو كنت قولتلك من الأول كنتي عملتي إيه يا سمر ؟
-ماكنتش هقبل طبعًا ! .. أتى ردها هكذا ببساطة شديدة، و تابعت :
-و كنت هاتوفر علينا كل ده. كل العتاب و وجع القلب ده يا عثمان.. على الأقل ماكنتش هاتمد إيدك عليا. ماكنتش هاتبهدلني كل شوية و تعاملني زي العيال الصغيرة. تزعق فيا و تعاقبني.. و لا أنا حتى كنت قللت احترامك في لحظات غضب و يأس.. شوفت إنت وصلت بينا لفين بقراراتك إللي دايمًا بتاخدها لوحدك ؟
-أنا آسف ! .. نطقها على الفور
لو لم يرى مدى تصميمها و إصرارها على تركه، لم يكن لينطقها بهذه الدقة و المعنى الحرفي المقصود مئة بالمئة ...
-سمر.. أرجوكي. أنا بحبك.. إنتي أكيد عارفة غلاوتك عندي. أنا عملت عشانك كتير. و وقفت جمبك كتير.. و فوق كل ده واقف قدامك و بعتذر دلوقتي !
احرقت الدموع جفنيها، فأطبقتهما بقوةٍ.. لتنهال مدامعها في الحال، لكنها تنظر إليه بعد لحظة و هي تغمغم بصعوبةٍ :
-أنا عارفة كويس إنت عملت إيه عشاني.. أنا عمري ما أنكرت فضلك عليا و إنت كمان أكيد عارف... بس صدقني الموضوع دلوقتي مالوش علاقة بالافتراضات دي. العلاقة دي Toxic ( سامّة ) زي ما بيقولوا. مافيش تكافؤ بينا لا في مستوى و لا حتى مشاعر. زي ما في اختلاف طبقي بيني و بينك كمان مشاعري مختلفة عن مشاعرك. و أقسم لك بالله أنا مابقتش قادرة أستحمل قسوة المشاعر دي. أنا تعبت أوي أووي ..
-أنا مش هاسيبك تمشي ! .. تمتم "عثمان" بجمودٍ و قد إسودت نظراته
-مش هاسيبك أصلًا.. إنسي إنك تخرجي من البيت ده يا سمر. سامعة ؟
سحبت يديها من قبضتيه مرةً أخرى، فلم يمانع.. ثم قالت بثباتٍ و رأسٍ شامخ :
-أنا مش هاخرج من البيت يا عثمان.. أنا هفضل عايشة هنا. حتى بعد طلاقي منك. أنا حاضنة لإبني.. و من حقي أقعد معاه و أراعيه. ماتخافش. أنا طبعًا مش وحشة و لا أنانية عشان أفضل نفسي على راحة و مصلحة إبني.. إستحالة أخده من هنا و أعيشه في حارة و أبوه كان معيشه في قصر بياكل أحسن أكل و يلبس أحسن هدوم... أنا مش أنانية يا عثمان. و زي ما ضحيت زمان عشان إخواتي. أقدر أضحي دلوقتي عشان إبني ! ............................................................ !!!!!!!!!!!