رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني 2 الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم مريم غريب




 رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثاني 2 الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم مريم غريب 


( 53 )


_ أول مرة ! _


إنبعث صوت "نبيل" رخيمًا هادئًا عبر سماعة الهاتف النقية : 


-شوفتي لما بوعدك بوفي بوعدي إزاي ؟ لاقيتلك جوزك.. لاقيت فادي يا هالة ! 


لثانية توقفت أعضائها قاطبةً عن العمل... خاصةً عندما سمعت باسمه


هيبة الغياب.. لم تكن تدري بأنها أقوى بكثير لو كان حاضرًا... هل حقًا وجده ؟!!! 


-هو فين يا خالو ؟؟؟ 


خرج السؤال من بين شفاهها بلهفةٍ تزخر بلوعة الأيام و الليالي الثقال طوال مدة بُعده عنها ... 


مكثت باللحظات التالية تتحرق إرتقابًا و تشوقًا.. حتى تكلم "نبيل" مرةً أخرى و قال بصوته الهادئ الواثق : 


-مصادري في شركات الطيران جوا و برا إسكندرية أكدوا إنه طلع في رحلة لدبي ذهاب بس بتاريخ 8 / 12 إللي فات و لسا مافيش تسجيل بالعودة 


-فادي في دبي !! .. تمتمت "هالة" بشيء من الاضطراب 


-بيعمل إيه هناك ؟ و راح لمين ؟!! 


أجابها "نبيل" بلهجته الجدية : 


-حاليًا ماعرفش عنه تفاصيل. لكن كلمت ناس معرفة هناك و وصيتهم يجبولي أخبار عنه.. قريب هاسمعك كل إللي عايزة تعرفيه ماتقلقيش يا حبيبتي 


هربت الكلمات من على طرف لسانها الآن، كل ما شغلها هي الأخبار التي أدلى بها خالها للتو.. لقد تم تحديد مكان "فادي" أخيرًا..وجهته السرية لم تعد كذلك


ماذا تفعل ؟ هل تضرب بكرامتها و عائلتها و كل شيء عرض الحائط مجددًا و هذه المرة لأجله.. لتسافر له ؟... أم تبقى.. تبقى بمكانها و تنتظر عودته أو أن يأتيها أيّ أحد به ؟ 


و لكن ما الضمان بأنها ستراه أصلًا بيومٍ من الأيام ؟ لقد أوضح تمامًا رغبته في عدم رؤيتها.. آخر لقاء لهما كان صعبًا بقدر ما كان مؤلمًا... تتساءل كيف له أن يصفى لها من جديد ؟ كيف يتحقق أملها هذا ؟ زوجها صعب المِراس.. المزاجي... الحساس.. و الغضوب جدًا عند ثورته 


لكنه حنونًا و ليّن القلب أيضًا... لقد لمست ذلك في بعض مواقف.. فهل يرضى عنها ؟.. هل يكون لها نصيبًا من غفرانه على كافة الأخطاء التي اقترفتها بحقه !!! 


-روحتي فين يا هالة ؟ 


أفاقت على صوت خالها، لترد على الفور بصوتٍ متلعثم : 


-معاك.. معاك يا خالو ! 


-أنا قلت أتصل أبلغك بالأخبار إللي مستنياها.. افتكرتك هاتفرحي ! 


تنهدت "هالة" و هي ترد عليه بهدوء : 


-أنا فرحانة فعلًا. كفاية بس إني أطمنت عليه.. على الأقل عرفت فين أراضيه 


-تمام يا حبيبتي. أنا هاقفل معاكي دلوقتي عشان قاعد في مكان شغل.. لما أرجع بالليل نتكلم إن شاء الله. عاوزة حاجة دلوقتي ؟ 


-عاوزة سلامتك يا خالو.. باي ! 


و أغلقت معه ... 


وضعت الهاتف فوق الكومود، ثم قامت من فراشها، مشت ناحية المرايا الضخمة المثبتة بالحائط بجوار الخزانة.. خلعت الروب الخفيف في طريقها و تركته يسقط فوق الأرض ...


وقفت أمام المرآة بطولها.. أخذت تتطلع إلى نفسها.. حتى إنحدرت نظراتها شيئًا فشيء لتشمل منطقة البطن 


ذلك السكن المحدود الذي يكنف جنينها ... 


لاحظت إرتفاعها قليلًا و تقويسة القبة العلوية.. رفعت يدها و بسطت كفها فوق بطنها... لتشعر بنبضٍ مفاجئ استمر للحظة... إبتسمت تلقائيًا و سرعان ما تحوّلت ابتسامتها إلى ضحكة صغيرة 


إحتوت بطنها بيديها و هي تغمغم بينما تتدفق الدموع بغزارة غريبة و لا إرادية من عينيها : 


-شقي.. من أولها كده ؟ .. شكلك ولد.. وحياتك عندي لو طلعتما هاسميك. هافضل سايباك منغير إيم لحد ما أبوك يرجع.. أبوك إللي هايسميك ! 


______________ 


كانت تقف بغرفة الملابس الآن.. تضع حقيبة كبيرة فوق الأريكة الوحيدة بالداخل... كانت تباشر تجميع ملابسها و أغراضها كالمجنونة 


بينما زوجها يفسد عليها خطتها بأن يلقي بكل قطعة ترميها بالحقيبة فوق الأرض، فتبعثرت أشياؤها و لم تجمع ثوبًا واحدًا أو حتى قميصًا ... 


-كفاية يا سمر ! .. يكرر "عثمان" نفس الكلمة للمرة المئة تقريبًا 


و لكن لا حياة لمن تنادي، لينفعل مرةً أخرى و الحقيبة مجددًا صائحًا بغضبٍ : 


-قولتلك كفاية إللي بتعمليه و بطلي جنان.. أنا لحد دلوقتي ماسك نفسي. و إحنا أصلًا ماتحاسبناش.. سيبي إللي في إيدك أحسنلك !!! 


ارتجفت "سمر" من قمة الغضب و إستدارت لتواجهه و هي تهتف بعصبيةٍ : 


-جنان و حساب و ماسك نفسك.. و بترميلي الهدوم ؟ طب أهــووووو ... 


و ركلت الحقيبة بقدمها بمنتهى العنف، كبتت صرخة ألم و عوضًا عليه إلتفتت إليه ثانيةً هادرة : 


-أدي الهدوم إللي بترميها.. برميها أنا كمان أهووو. هاطلع من بيتك زي ما دخلته. بالهدمة إللي عليا. مش عاوزة منك حـااااااجـــــة !! 


و أعرضت عنه موّلية نحو الخارج، لكنها و قبل أن تخطو خطوة واحدة كان قابضًا على رسغها و مجتذبها صوبه بقوة، ثم دافعًا بها و هو لا يزال يمسكها حتى لصقها بالحائط و حاصرها هناك ضاغطًا بجسمه عليها ... 


-الحالة بتاعتك دي أنا حافظها ! .. تمتم "عثمان" من بين أسنانه و عيناه تطقان شرارًا 


-يطلي عقدك دي بقى. مش معقول كل ما نتخانق تلمحي للفرق الطبقي إللي بينا.. لو ناسية إنك بقيتي مراتي ف دي مشكلتك. بقيتي مراتي يعني نقلتك من مستواكي لمستوايا. النقص إللي دايمًا بتحسي و بتعبري عنه بالتصرفات دي ياريت تبطليه بقى.. أنا خلاص زهقت من طريقتك. مش عارف أعمل معاكي إيه تاني. لو حجر كان إتعلم و طاوعني يا سمر 


قست تعابيره أكثر و هو يواصل النظر إليها مباشرةً، بينما تختلج أنفاسها و تترقرق الدموع بعينيها و هي ترمقه بنظرات خائبة.. لتقول يتهدج إنفعالًا و بكاءً مكتومًا : 


-ده فعلًا إللي كان ناقص.. إنك تعايرني بفقري. بس عارف إيه تاني لسا ماعملتوش ؟ لسا ماعيرتنيش بعلافتي بيك قبل ما تكتب عليا. مستني إيه ؟ 


و صرخت به فجأة : 


-مستني إيــــه ؟ ما تتكلم.. يلا قول ساكت لـيـــــه ؟؟؟ 


-عايزة إيه يا ســمــــر !!! .. صاح فيها بغضب شديد و هو يغرز أصابعه بلحم كتفيها بقساوة مؤلمة 


ردت بنفس اللهجة الصارخة و قد بدأت الدموع تجري فوق خديها : 


-طـلقنـــــي ! 


عثمان بغلظةٍ : مش هاطلقك. سامعة ؟ مش هاطلق يا سمر.. و عقابك على أخدانك منع الحمل من ورايا هاتخديه دلوقتي حالًا. مش عايزة تخلفي مني أنا ؟ دي آخرتها ؟ مااااشي أنا هاعرف أتصرف معاكي و أعقلك كويس !!! 


و أدارها بحركة خاطفة، لوى ذراعيها خلف ظهرها و أعتقلهما بيدٍ واحدة، بينما بيده الأخرى ينتزع حاجب رأسها و يباشر خلع ملابسها .... 


-إنت بتعمل إيـــــه ؟؟؟!!! .. صرخت بذعرٍ محاولة الإفلات منه عبثًا 


ضحك ضحكة قاسية و يرفع يده عنها لبرهةٍ كي ما يتمكن من حل أزرار قميصه و هو يقول بصوتٍ أجش : 


-تفتكري بعمل إيه ؟ مش عارفة أنا هاعمل إيه يعني !! 


تأكدت من ظنونها مئة بالمئة الآن.. إستغلت انشغاله عنها خلال تلك المدة القصيرة و تلوّت بعنفٍ حتى أفلتت منه بالفعل... لكنها ما لبثت أن صرخت برعبٍ ما إن أحست بذراعه تلتف حول خصرها باللحظة التالية مانعة إياها من بلوغ عتبة غرفة الملابس 


وجدته يرفعها عن الأرض بذراعه و ينقلها للجهة الأخرى، إذ وضعها فوق خزانة الأدراج العاجية بعد أن أزاح بعض الأغراض و الخزف الزجاجي ليسقط محطمًا فوق الأرض ... 


-إنت عمرك ما عملتها ! .. تمتمت "سمر" و هي ترمقه بخوفٍ ضمني 


آتاها رده صلبًا كالجلمود بقسوته : 


-صح.. عمري ما عملتها. بس ده عقابك. و خليكي فاكرة إن الجزاء دايمًا من جنس العمل. ف أنا مش ظالمك يا سمر. بالعكس.. إنتي إللي استغفلتيني و ظلمتينا كلنا. أنا و إنتي و إبنك. و دلوقتي هاتدفعي التمن. بس افتكري كويس الفرق بين دلوقتي و قبل كده. افتكري كويس يا سمر ! 


و شدها من فخذيها ليقربها منه، لتحبس أنفاسها جاهلة طبيعة نواياه الجديدة و تصرفاته التي لم تعهدها قبل الآن، هكذا هو عقابه لها.. أن يرغمها على تجربة قاسية قاهرة جزاءً لها على جريرتها العظمى من وجهة نظره 


لقد بدأ العقاب بوتيرة عالية من الحماسة الهمجية.... فكيف سينتهي يا ترى !!! 


______________ 


في مقابر العائلة ... 


تجلس "فريال" متشحة بالسواد تمامًا على حافة الدرج الرخامي، تتحس التراب الذي يغطي مرقد زوجها تارة، و ترص الزهور فوقه تارة 


كانت الدموع تنهمر من عينيها و تشوّش رؤيتها في هذه اللحظات، فكانت تزيلهم من حينٍ لآخر بمنديلها ... 


-وحشتني أوي يا يحيى ! .. صدرت عنها تلك الهمسات الحارة الباكية 


قبضت بيدها على حفنة من التراب و هي تستطرد حديث من طرفٍ واحد : 


-تعرف إني لحد دلوقتي مش قادرة أعيش منغيرك يا حبيبي.. لولا وجود يحيى الصغير. و الولاد.. أنا ماكنتش هاعيش بعدك ثانية واحدة.. فينك دلوقتي يا يحيى... لو تعرف أنا محتجالك أد إيه... في مواقف مش عايزاني.. عايزاك إنت.. في حاجات أنا مش عارفة أتصرف فيها لوحدي.. لو إنت كنت معايا كنت حليت كل مشاكلنا يا حبيبي.. كنت وقفت لعثمان على الأقل و عقلته.. أنا مهما كنت بالنسبة له مش قادرة عليه.. أنا مش قادرة على عثمان يا يحيى.. بيسمع كلامي.. بس بطريقة تانية بينفذ إللي في دماغه... أنا خايفة عليه أوي.. و خايفة على سمر و يحيى الصغير.. شوفت أنا تايهة و غرقانة إزاي منغيرك ؟ 


و نزحت بقايا دموعها بظاهر يدها عندما وجدت المنديل قد شبع دموعًا... أدار رأسها ناحية قبر "رفعت".. إبتسمت تلقائيًا و هي تقول بصوتها الرقيق الأبح : 


-إزيك يا رفعت ! إنت كمان وحشتنا أوي يا رفعت.. البيت بقى صعب.. بقى حزين أكتر من يوم ما مشيت إنت كمان... تعرف إنك كنت مهون غياب يحيى.. على الأقل كنت كبير العيلة.. كنت السند لينا كلنا... زيك زي يحيى بالظبط مش قادرة أصدق إنك مشيت.. هالة مش بتبطل بكا عليك.. بس أنا معاها دايمًا مش بسيبها.. و صحيح. عرفت إنها حامل ؟.. هاتبقى جد للمرة التانية يا رفعت ! 


و صمتت الآن مغمضة عينيها بشدة... لتغمغم بلهجة آملة متضرعة و هي تبسط كفيها فوق القبرين : 


-ربلغوا سلامي لكل الحبايب و الغاليين.. إن شاء الله هاجيلكم قريب ! 


______________ 


يا للخزي ... 


أهكذا ينقلب كل شيء ضدها بلحظة ؟ 


ما هذه الحياة الظالمة ؟ تضعها موضع الضعف و الاستسلام دائمًا.. لا تتهنى بموقف متمرد واحد... كيف فعلت هذا ؟ 


كيف سلّمت له و رفعت الراية البيضاء بهذه السرعة ؟ بل و كيف تتجاوب معه و تتلهف عليه بهذه الطريقة المخجلة حتى دفعته لتغيير قراره، فبدل أن يعاقبها أخذ يلاطفها و يتودد إليها بمنتهى الرقة مغدقًا غليها فيضًا من الحنان !!!! 


عارّ.. عارّ عليها ... 


-سمر ! 


ارتعد جسمها لحظة سماع صوته ذي النبرات الهادئة فجأة .. 


كانت متكوّة فوق الأرض، ترتدي بقايا ملابسها و قد بسط فوقها شالًا ليقيها لحظات الخجل المعتادة.. رأسها كانت مرتاحة فوق قدمه، بينما كان يستند بظهره إلى الجدار و بفمه سيجارًا رفيعًا مائلًا للجانب 


تنهد بثقلٍ عندما لم ترد عليه، و ابتسم بخفةٍ و هو يراها تدفس وجهها في فخذه هاربة من نظراته.. إمتص عبقًا عميقًا من السيجار، ثم انتسله من بين شفاهه، و بيده الأخرى راح يمسح على رأسها بلمساتٍ لطيفة كأنما يداعب قطة بالضبط 


و لكن على حين غرة تداهمه ذكريات ما قبل اللحظات الحميمية و يتذكر قضية حبوب منع الحمل التي واظبت على معاقرتها دون الرجوع إليه، تملكه الغضب من جديد، لكنه تمكن من السيطرة عليه و هو يرفع صوته قليلًا مخاطبًا إياها بصرامة : 


-سمر إحنا لازم نتكلم.. إللي بيني و بينك لازم نسويه إنهاردة. لأني مش هاقبل بعد كده بمهزلة زي دي تحصل تاني.. المرة دي هسامحك. و إنتي كمان.. أنا متأكد بعد ما تسمعيني هتسامحيني ! .......................................................................................


الفصل الرابع والخمسون من هنا


تعليقات



×