رواية عزلاء امام سطوة ماله ج 2 الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم مريم غريب
( 52 )
_ ذاك القهر ! _
على مدار يومين استجابت "هالة" لكافة التحكمات التي فرضتها "سمر" عليها.. تركت لها كل السيطرة على أحوالها منذ الاستيقاظ من نومها و حتى وقت الخلود إلى الفراش
و ذلك كله لأجل ماذا !
لأجل سلامة الجنين بالطبع.. فذاك الطفل الذي تكنفه "هالة" برحمها هو كل ما يهم "سمر" حاليًا، ليس لأنه يكون من صُلب أخيها فحسب، و لكن أيضًا لأنه يُعد الذكرى الوحيدة المتبّقية لها منه
إذا ما لم يحبّذ "فادي" العودة، فسيكون طفله بمثابة السلوى التي سوف تلتمس منها التعويض عن غيابه و لو قليلًا.. رغم أن لا شيء يعوض غياب أخيها، و رغم أنها بحاجة ماسة إليه الآن أكثر من أيّ وقت لشعورها بالوحدة و اليتم لأول مرة.. إلا أنها لا تملك سوى أن تتمنى له راحة العيش، و أن يجد السلام أينما كان !
_______________
تسحب "سمر" الملعقة من فم "هالة" من جديد، لتضعها بصحن الحساء الفارغ أخيرًا و هي تغمغم راضية :
-بالهنا و الشفا.. كمان شوية تاخدي الحباية بتاعتك و خلاص بقى
ابتسمت "هالة" و قالت برقةٍ بينما تلتفت "سمر" لتشد عربة الطعام صوبها :
-طيب و أخرة الدلع بتاعك ده يا سمر.. إنتي حرة أنا هاتعود على كده !
بادلتها "سمر" بابتسامة هادئة و هي تقول مناولة إياها كأسًا من المياه :
-ياستي إتعودي. و ماله يعني.. أهم حاجة تتغذي كويس زي ما الدكتور قال. عشان تحافظي على صحتك و على صحة البيبي
حافظت "هالة" على نفس التعابير المنبسطة و لهجة الصوت و هي ترد عليها شاردة لا شعوريًا :
-آه على البيبي ده.. ربنا وحده يعلم إني مكملة عشانه هو دلوقتي. عشانه هو بس ..
نظرت "سمر" لها في هذه اللحظة، بقيت ساكنة تمامًا لثوانٍ .. ثم تحرّكت يدها نحوها، فامسكت بيدها و أطبقت عليها باصابعها الطريّة اللطيفة
تطلعت "هالة" إليها بوجهٍ مكفهر، لتقول "سمر" على الفور و الثقة تملأها :
-هايرجع.. صدقيني يا هالة هايرجع !
رباه... كيف واتتها تلك الثقة الكبيرة فجأة !!!!
لقد كانت فاقدة الأمل، و الآن تتفوّه بهذا التأكيد و تكاد تقطع لتلك المسكينة وعدًا.. كيف تفعل ذلك ؟!!!
-لو رجع مش هايكون عشاني ! .. تمتمت "هالة" بصوتٍ كالأنين
سطعت بعيناها لمعةٍ من الدموع و هي تستطرد مطرقة الرأس في خزي :
-و حتى لما يرجع مش هايبقى عايز يبص في وشي بعد كل ده.. مش عارفة إنتي إزاي قادرة تعملي كده. خصوصًا بعد ما حكيتلك على كل حاجة !!
و فرت دمعة من عينها، لم تكد ترفع كفها لتزيلها.. استبقتها "سمر" و كفكفتها لها، ثم رفعت ذقنها بأناملها لتجبرها على النظر إليها، و قالت بلهجة عطوفة :
-ما هو إنتي عشان حكتيلي على كل حاجة مخصوص يا هالة.. أنا دلوقتي واقفة جمبك و مصدقاكي. مصدقة إنك حبيتي أخويا بجد. أنا بحترم مشاعرك دي أوي و الله.. و نفسي فادي يرجع بسرعة عشان يشوف بعينه إللي أنا شايفاه دلوقتي
-و إنتي شايفة إيه يعني يا سمر ؟! .. قالتها "هالة" بصوتٍ أبح لا يخلو من السخرية الذاتية، و أردفت بمرارةٍ :
-ده أنا يادوب.. بقيت شبح. مجرد شبح لإنسانة كانت شبهي في يوم من الأيام. خسرت كل حاجة.. و ماتبقاش ليا غيره !
و زحفت يدها اليمنى لتحطّ فوق نتوء بطنها البارز قليلًا من الأسفل، ثم أضافت :
-ده الحاجة الوحيدة الحيّة فيا.. ده الأمل إللي فاضل عشاني في الدنيا دي يا سمر. كل خوفي إني أخسره هو كمان. أو يحصله أي حاجة بسببي.. أنا صدقت إني أذى لكل إللي حواليا.. صدقت !!!
أطلقت "سمر" نهدة ثقيلة، و رغم كل الاحباط و اليأس و كافة مشاعرها السلبية... ابتسمت في وجهها من جديد و هي تقبض بيديها ممسكة براحتي الأخيرة، ثم تقول بلطفٍ :
-هايرجع يا هالة. هايرجع و البيبي ده. هايتربى وسط مامته و باباه.. بكرة تقولي سمر قالت !
______________
كان الجو غسقًا شديدًا، و الشتاء قارصًا على سواحل عروس البحر الأبيض.. في المقابل تقف سيارة "عثمان" الفارهة بمنتصف الكورنيش نزولًا عند رغبة السيدة "فريال" !!!
و تلبية لطلبها أيضًا كان قد ترجل من خلف المقود، و ذهب تجاه طاولة الشواء التي يقف فوقها بائع شاب يباشر تقليب حبّات الكستناء فوق اللهب، حتى إذا نضجت فيأتي من يشتريها على الفور بسبب شكلها الشهي و رائحتها المسيلة للعاب ...
عاد "عثمان" التي أمه التي إستوت فوق دكة قرب سور الكورنيش، تحدق في مساحة البحر الشاسعة، و الفضاء القاتم الملبّد بسحبٍ رمادية فاتحة
كان يحمل في يديه لفائف من الورق تتصاعد منها أبخرة الكستناء الساخنة، أتى من وراءها و مد يده لها ببُغيتها.. أشرق وجهها و هي تتناول منه مغمغمة بصوتها الرقيق :
-ميرسي يا حبيبي !
لاحت على ثغره ابتسامة خفيفة و هو يشد ياقة معطفه الثقيل حول عنقه، استدار ليجلس بجوار أمه، ترك اللفافة خاصته من يده جانبًا للحظاتٍ كي ما يتمكن من افتراش الشال السميك فوق كتفي "فريال".. رغم أنها كانت ترتدي ملابس ثقيلة كما أوصاها، لكنه في هذا الطقس المتجمّد أبى إلا أن تخرج و معها ذاك الشال ليقيها أيّ برودة محتملة بالخارج ...
-يا عثمان قولتلك أنا دفيانة ! .. غمغمت "فريال" بشيء من التذمر
-إنت ملبسني فرو يا حبيبي و كان ناقص تخرجني ببطانية !!
رمقها "عثمان" بنظرة جانبية، ثم قال باقتضابٍ :
-إنتي إللي صممتي إننا نخرج في الجو ده و كمان نقعد على الكورنيش بدل ما أقعدك في مطعم أو كافيه مثلًا.. و دي أقل حاجة عملتها. إحنا أصلًا مش هانطول هنا. بمجرد ما تقولي إللي عندك و ماكنش ينفع تقوليه في البيت على حسب كلامك !
كان يتحاشى النظر إليها الآن، بينما أخذت تتفحص وجهه بنظراتٍ مشتاقة.. ربما ملامحه مرهقة نوعًا ما، بسبب كل تلك المشقّة التي يكابدها طوال الفترة الماضية، مشفّة من جميع الاتجاهات... لكن الشيء الذي لا يتغير أبدًا هو أن إبنها دائمًا وسيمٌ و حسن الطلعة
حتى و هو ليس في أفضل حالاته مثل الآن.. كانت بشرته البرونزية المائلة للبياض شاحبة قليلًا، و أذنيه و أرنبة أنفه مخضبة ببعض الاحمرار تأثرًا بالصقيع، نه لا يزال جميلًا و جذابًا.. أنه كذلك بنظرها و إلى الأبد ...
-طيب بصلي الأول كده ! .. قالتها "فريال" بنعومةٍ و هي تمد كفها صوب وجهه لتديره نحوها
استجاب "عثمان" لها و رفع بصره إليها، ظل صامتًا، لتستطرد بهدوءٍ :
-أنا صممت نطلع من البيت عشان أقولك حاجة كان لازم أقولهالك في ساعتها يا عثمان.. أنا آسفة !
نظر لها بنفس الصمت و الترقب منتظرًا تتمة حديثها ...
لتغض "فريال" ناظريها و تسحب كفها متمتمة بندمٍ شديد :
-أنا آسفة يابني.. آسفة عشان بعد عمري ده كله. و بعد ما كبرت و بقيت راجل.. إيدي إتمدت عليك لأول مرة. ماتتصورش أنا كارهة نفسي إزاي. حتى لو قدرت تسامحني أنا عمري ما هسامح نفس على الجرح إللي سببته ليك.. أنا عارفة إنك عمرك ما هاتنسى الموقف ده. و صدقني هو ده إللي معذبني و مخليني آ ا ..
بترت عبارتها فجأة... حين تفاجأت به ينحني قابضًا على يدها و مقبلًا إياها.. حبست أنفاسها لوهلة، ثم ما لبثت أن ابتسمت و هي تمسح على شعره الناعم بحنانٍ، بينما تسمعه يغمغم بحرارةٍ و هو على نفس الوضعية :
-بس يا ماما.. بس من فضلك. إنتي غلطانة في كل كلمة قولتيها.. أنا أستاهل منك أي حاجة. أي حاجة تعمليها فيا موافق بيها. أنا ممكن أرد لأي حد كل موقف و كل كلمة. لكن إنتي.. إنتي حقك عليا. إنتي تعملي إللي إنتي عايزاه. مش عايز أسمع منك كلمة آسفة دي تاني. إنتي أمي. إنتي فريال هانم. أول ست في حياتي و أكبر حب في قلبي. حبي ليكي يشفعلك أي حاجة ممكن تعمليها فيا.. مش لطشة قلم و أنا شحط و مخلف كده بس ...
سمع ضحكتها المكتومة، فضحك بدوره.. ثم غمغم من جديد بلهجة مهزوزة :
-ماما.. أنا بحاول مافكرش في الموضوع. بس كل ما يجي على بالي غصب عني ببقى مرعوب من جوايا. أنا عمري ما هقدر أستحمل خسارتك.. دايمًا أمنيتي إن ماشوفش اليوم ده. و إن ربنا يجعل يومي قبل يـ آ ا ...
-بــــــس !!! .. صرخت "فريال" به فورًا
و قد اجتذبت صرختها انتباه بعض المارة و بائعي الكورنيش من حولهما ..
سحبت يدها من بين راحتيه و أمسكت برأسه، رفعته ليواجهها و هي تقول زاجرة و الدموع تترقرق بعينيها الجميلتين :
-إوعى. إوعى تقول كده تاني.. هي الآية إتقلبت يا عثمان ؟ ده أنا إللي مقدرش أعيش منغيرك. ده أنا أتجنن. أموووت لو حصلك حاجة !!!
-بعد الشر عنك يا حبيبتي ! .. تمتم مبتسمًا لها بحب و هو يدير وجهه قليلًا ليلثم يدها
أطبقت جفنيها للحظاتٍ، ثم قالت و هي تفتحهما و تنظر إليه ثانيةً :
-دي سُنة الحياة يا عثمان.. الولاد هما إللي بيدفنوا أهلهم. مش العكس.. ربنا ما يوريني أنا اليوم ده
ابتسم لها و بقى ينظر لها في صمت فقط ...
مسدت "فريال" على جانب وجهه بلمساتٍ حانية، ثم قالت :
-المهم دلوقتي.. سيبك من كل الكلام ده. خلاص إللي حصل حصل و هاننسى.. بس لازم الأول توعدني. قبل ما نقوم من هنا و نرجع بيتنا
رد مبتسمًا : أوعدك.. بس بـ إيه ؟!
فريال بصرامة : نانسي تخرج من حياتنا.. لازم تخرج من حياتنا يا عثمان. سمر ماتستاهلش منك كل ده. و بعد إللي عملته فيها طول الفترة إللي فاتت.. أقل حاجة تثبتلها إنك لسا باقي عليها و إن ليها قيمة عندك. و إنها مراااتك. مراتك بجد و أم إبنك. لازم تشوفك بعنيها و إنت بتنهي علاقتك بنانسي. مش عايزة أكرر كلامي ده مرة تانية. و صحيح أنا ماعرفش التفاصيل و مش تهمني أصلًا.. بس كل إللي يهمني إستقرارك و سعادتك مع عيلتك. عيلتك إنت يا عثمان. فاهمني ؟
سحب "عثمان" نفسًا عميقًا، زفره ببطءٍ، ثم أومأ برأسه قائلًا بلهجة مقررة :
-فاهم.. فاهم يا فريال هانم. و اطمني. الموضوع اساسًا خلص بالنسبة لي.. و بكرة هايتقفل نهائي !
______________
أفاقت "نانسي" في الصباح.. أو لعله بعد الظهر... بمزاجٍ سيئ نوعًا ما ....
دلفت إلى المرحاض و اغتسلت، ثم خرجت و تجهّزت مرتدية ملابسها الأنيقة المثيرة، و مصففة شعرها على شكل خصيلات حلزونية.. لطالما كان التغيير يحسن من حالتها المتقلبة و لو بدرجة طفيفة
زفرت بقوة و هي تلتقط قنينة العطر المفضل لديها و تضع منها بسخاءٍ ملول على بشرتها و ثيابها.. في الوقت ذاته تفكر... لقد جاء زوجها المزعوم.. عرج عليها ليلة أمس ليبلغها بأن توافيه إلى مكتبه فور استيقاظها لبحث شأنًا خاصًا و هامًا
تلك الموضة الجديدة التي لا تفقها و لا تستسيغها.. أن يرفض لقائها بغرفة النوم... هكذا إذن يخاف على نفسه منها.. و لكن إلى أين سيهرب ؟ إن هي إلا جولة أخرى و سيسقط لا محالة !
تخرج "نانسي" من الغرفة متجهة ناحية غرفة المكتب، أثناء مرورها كانت الردهات خالية و الهدوء يلف القصر كله.. لم تستغرب من هذا، فهي قد رأت بنفسها خلال المدة القصيرة التي قضتها هنا كم أن هذه العائلة تهوى الصمت و الهدوء في أغلب الأحيان.. على كلٌ يليق بهم.. يليق كثيرًا ...
-صباح الخير !
أنزل "عثمان" الجريدة من أمام وجهه، لحظة تصاعد هتاف "نانسي" المفاجئ... كان يجلس بصالون المكتب الصغير، يرتدي ملابسه الرسمية، بدا على أهبة الاستعداد للذهاب إلى العمل.. أو لعله عاد لتوّه.. فسترته ملقاة فوق الأريكة و أزرار قميصه نصفها محلولًا ...
تقبل "نانسي" عليه بتوأدة، بينما ينهض "عثمان" طاويًا الجريدة و هو يقول بصوته الهادئ :
-صباح الخير يا نانسي.. تعالي. تعالي أقعدي !
و أشار لها في كرسي قبالته ...
لكنها لم تنصاع إليه، فتجاوزت ذلك الكرسي و مشت نحوه و هي ترمقه بنظراتها الجريئة المباشرة.. بقى "عثمان" ثابتًا، شامخًا أمامها.. بيّد بأنه كان ينتظر خطوتها التالية
لتبتسم "نانسي" مناورة إياه، فأزاحت سترته جانبًا بصورة فجائية.. ثم جلست بجواره تقريبًا.. رغم أنه لا يزال واقفًا
تطلعت إليه متظاهرة بالبراءة في هذه اللحظة، أطلق "عثمان" زفيرًا ضائقًا.. لكنه عاود الجلوس في الأخير ...
-فطرتي ؟ .. هكذا سألها بلطفٍ
أومأت له و كذبت :
-آها. أخدت لاتيه و حتة كرواسون ! .. ثم قالت مستوضحة :
-هه بقى.. مش هاتقولي كنت عاوزني في إيه ؟!!
رفرف بعينيه قائلًا :
-حالًا.. دقيقة واحدة بس !
و قام من مكانه متوجهًا نحو مكتبه، فتح أحد الأدراج بمفتاحٍ خاص.. أخرج دفترًا صغيرًا، إلتقط قلمًا و خط شيئًا، ثم إقتطع ورقة من الدفتر و عاد إليها ...
-إتفضلي يا نانسي ! .. قالها "عثمان" و هو يجلس مرةً أخرى أمامها
مد لها يده بالورقة و القلم، فنظرت "نانسي" إليه عابسة و قالت :
-إيه ده !!
-ده شيك على بياض. عليه امضتي. يستحق الصرف بعد يومين إتنين.. حطي فيه الرقم إللي يرضيكي
رفعت حاجبيها مرددة بعدم إستيعاب :
-عشان إيه الشيك ده ؟!!
عثمان بثقة : عشانك طبعًا. عشان تأمني مستقبلك و تعيشي كويس.. و ماتضطريش تلجأي للطريق إللي كنتي ماشية فيه تاني
قطبت بشدة و هي ترمقه باستنكارٍ، لتقول و هي تأخذ الشبك من يده و تمزقه فورًا :
-شيك إيه إللي جاي تكتبه ليا دلوقتي ؟ إنت ناسي إيه إللي بينا !!!
أغمض "عثمان" عيناه بقوة، كما أطبق فكيه كابحًا انفعالاته و هو يقول بهدوءٍ قسري :
-إللي بينا ده كان لعب عيال يا نانسي.. أنا غلطت لما وافقتك على الرهان التافه ده. ماكنش له أي لازمة. زي جوازنا بالظبط.. اكتشفت ده بس لما صدقت إني للأسف مهما حاولت مش هاعرف أغيرك أو أرجعك زي ما كنتي.. لأنك عمرك ما هاترجعي حتى لو بمزاجك
-جاي دلوقتي تقول الكلام ده ؟؟؟ .. صرخت بوجهه غاضبة
هبت واقفة و هي تكمل بوجهٍ مشتعل من شدة العصبية :
-يعني مافيش فايدة ؟ حتى بعد إللي شوفته بعنيك ؟ بعد ما وريتلك حقيقتي.. لسا مستكبر ؟ معقولة ؟ أنا و لا حاجة للدرجة دي بالنسبة لك ؟؟!!!
قام "عثمان" ليقف مقابلها و هو يناطحها مدافعًا عن نفسه :
-نانسي ماتحرّفيش كلامي. أنا ماقصدش المعنى ده. أنا كل قصدي إني كنت ناوي معاكي خير.. بدليل إني مآذتكيش بعد عملتك مع عمي و ابتزازك لينا. رغم إني كنت قادر أنهيكي و أعمل فيكي أسوأ من الأسوأ إللي حصلك و إللي فاكرة إن مهما حصل مش هاتتئذي أكتر ما أتأذيتي.. نانسي إنتي لسا صغيرة. إنتي رميتي نفسك في النار.. بس أنا مش عايزك تفضلي فيها. أنا بحاول أمدلك إيدي. خدي الفلوس و سافري. ابدأي حياة جديدة. خدي فرصة تانية.. مش شرط مع راجل. مع نفسك أضمن و أحسن. عالجي نفسك الأول و أقفي على رجلك. إسمعي كلامي.. أنا مش عايز إلا مصلحتك
-بس أنا عايزاك إنت ! .. غمغمت باكية و هي ترتمي بين أحضانه فجأة
أجفل "عثمان" مبعدًا يداه عنها و هو يقول بجفافٍ :
-يا نانسي.. ماتصعبيهاش علينا إحنا الإتنين. مشاعرك تجاهي مش حقيقية. لازم تفوقي و تصدقي ده
تطلعت إليه دون أن تفلته و هي تقول ببكاءٍ و دموعها تجري على خديها :
-سيبني أنا إللي أقرر مشاعري كدابة و لا حقيقية يا عثمان.. و لا إنت إللي محتقرني لدرجة مش قادر حتى تكمل معايا مرة. مرة واحدة.. معقولة مستاهلش بعد كل ده تنسى أي حاجة و تتعطف عليا و تقبلني. مرة واحدة بس. أنا بشعة أوي كده في نظرك ؟ لما شوفتني على حقيقتي قرفت مني أكتر صح ؟؟؟!!!
ضغطت على أعصابه كثيرًا، فأنطقته بلا وعي :
-لأ يا نانسي مش صح. إنتي مش بشعة. بالعكس إنتي جميلة.. زي ما كنتي طول عمرك. صدقيني إنتي لسا حلوة زي زمان. و أنا و الله ما شايفك بشعة زي ما بتقولي ..
-طيب إثبتلي !
أجفل من ردها، لكنها لم تمهله كثيرًا.. فأطبقت بفمها على شفاهه في قبلة طويلة و عميقة لم يتمكن من الافلات منها فورًا ...
_________
كانت "سمر" مشغولة بمتابعة إدى القنوات النسائية على شاشة التلفاز بغرفة نومها.. عندما هدر صوت بكاء طفلها فجأة من الخلف... نهضت على الفور مرتدية خفيها
كان يلعب برفقة أختها قرب الشرفة، ذهبت "سمر" عندهما صائحة :
-إيه إيه.. ماله يا لوكا بيعيط ليه ؟ إوعي تكوني ضربتيه !
و إنحنت لتحمله على ذراعها و تهدهد فيه، بسنما ترد "ملك" ببراءة طفولية :
-لأ و الله أنا مقدرش أضرب يحيى.. ده إللي بيشد شعري علطول و أنا مش بزعل منه
سمر و هي لا تزال تهز طفلها و تقبله و تربت عليه ليهدأ :
-أومال ماله بس ؟ بيعيط جامد كده ليه.. مالك يا حبيب ماما فيك إيه يا روحي !!
أجابتها "ملك" : أقولك أنا.. هو شاف الزحليقة إللي في تحت في الجنينة من الفراندة. شاورلي عليها بس قولتله ماينفعش ننزل ف راح مصرخ فجأة و معيط كده
-إمممم.. عشان كده زعلان يا قلبي ؟ طيب خلاص. خلاص عشان خاطري.. أنا هلعب معاك. أنا و لوكا ماتزعلش بقى !
و لكن بلا جدوى.. ذهب استرضائها له أدراج الرياح، لتقفز "ملك" فجأة هاتفة بتمردٍ مماثل للصغير :
-طيب ما تنزلينا شوية يا سمر.. إنتي كنتي كل يوم بتنزلينا أنا و يحيى نلعب تحت في الجنينة. ليه كل ما أقولك ننزل بتقوليلي لأ ؟!!!
ردت "سمر" بضيقٍ :
-ساعتها ماكنش الضيف الجديد موجود يا ملك
عبست "ملك" مغمغمة بعدم فهم :
-ضيف جديد إيه.. بقولك عايزين ننزل نلعب. نلعب !!
-خلاص بقى إنتي كمان ! .. صاحت بسأمٍ
ثم أخذت تتلفت حولها لبرهةٍ، وضعت طفلها فوق الأرض و هي تنوّه على أختها :
-اقعدي جمبه. خلي بالك منه لحد ما ألبس الإسدال و أجي
ملك و هي تصفق بحماسة :
-يعني هاتنزلينا نلعب !!
-أيوة إسكتي بقى !
و بعد دقيقتين فقط، كانوا بالخارج.. يهبطون الدرج و الصغير على ذراع أمه، أمام "ملك" فتمسك بيدها الأخرى
أخذتهم "سمر" إلى الحديقة الخلفية، ما إن فتحت باب الشرفة المطلة على الروضة الخضراء النضرة أسفل أشعة الشمس حت أطلقت "ملك" لساقيها العنان
لتصيب الصغير "يحيى" فورًا حالة هياج حماسي و هو يراها تسبقه نحو المرح و اللعب، فأخذ يتقافز بين ذراعي أمه.. ضحكت "سمر" و هي تنزله إلى الأرض
راقبته و هو يركض خلف خالته الصغيرة كفرخ البطريق، أبقت مسافة آمنة بينها و بينه، فكانت تتبعه أينما ذهب حفاظًا على سلامته.. ما إذا سقط مثلًا أو ما شابه ...
حتى أخذته عند الزحليقة التي يهوى اللعب فيها كثيرًا، حملته و وضعته عند المقدمة، ثم تركته ليهبط بسرعة إلى الأرض من الجهة الأخرى.. أخذ الصغير يكركر و يضحك بحلاوة آسرتها، فانخرطت في توفير كل المرح له و مشاركته إياه أيضًا
إلى أم لفت نظرها شيئًا... خلف الواجهة الزجاجية لغرفة مكتب زوجها.. لا شعوريًا وجدت نفسها تحمل الصغير و تتجه به إلى هناك وسط صياحه الرافض
لم تقترب كثيرًا، إذ رأت ما جمّدها و جعل الدماء تفور في شرايينها و تندفع بعنفٍ إلى رأسها بطريقة مؤلمة ...
-مـلـــــــــك !!!
هكذا صاحت بصوتٍ هادرٍ منقذة نفسها قبل أن يغشى عليها مِمّا رأته.. ارتعد الصغير مذعورًا، بينما جاءت "ملك" في الحال
فأمرتها "سمر" بالسير أمامها و أقفلوا راجعين إلى الداخل، و لكنها قصدت وجهة أخرى غير غرفة نومها.. أو بالأحرى سجنها ...
_________
لم يسمح لنفسه هذه المرة بأن يتجاوب معها بأيّ شكل.. لكنها كانت تقبص عليه بطريقة محكمة... بحيث صعب عليه الابتعاد فورًا
لكنه درس انفعالاتها برؤية الخبير، ثم و في اللحظة المناسبة دفعها بعيدًا عنه دون أن يلحق بها أيّ ضرر، و صاح :
-كفاااية بقى يا نانسي.. كفاياكي طيش و تهور لحد كده. أفهمي بقى. مافيش حاجة ممكن تربطنا ببعض.. أنا فعلًا متجوز. متجوز و مخلف و بحب مراتي. أنا واخد سمر على حب. و أظنك عارفة كده
سالت دموعها و هي تهتف بحقدٍ :
-طبعًا عارفة.. بس مش بالسهولة دي أسيبك يا عثمان. أنا قدرك. رضيت أو لأ. أنا مش هاسيبك بالسهولة دي أبدًا.. سامعني ؟
هز رأسه و هو يقول متأسفًا :
-يبقى إنتي إللي اختارتي.. بس مين عارف. جايز ده يكون أنسب حل ليكي و تخرجي منها إنسانة جديدة !
استحالت تعابيرها الغاضبة إلى الوجوم الآن و هي ترمقه بحذرٍ قائلة :
-قصدك إيه ؟!
لم يرد عليها.. بل استدار موليًا نحو مكتبه مجددًا، رفع سماعة الهاتف المخصوص و تحدث إلى أفراد الأمن :
-أيوة.. خليهم يدخلوا. دلوقتي حالًا !
و أعاد السماعة مكانها، بينما بقيت ترمقه بنفس نظرة الحذر.. حتى مرّت دقيقة تلو الأخرى، و ظهر فجأة مجموعة من الرجال ضخام الجثة
باشارة من عينه أقبلوا عليها، و منهم نفرًا بيده حبلًا كبيرًا ما إن رأتهم "نانسي" حنى فطنت تقريبًا، فحاولت الهرب من فورها و هي تصرخ بضرواةٍ :
-لأ. لأ.. لأاااااااااااااااا. إبعدوا عني. إبعدوا. إوعوا حد بقربلي.. إبعدوا عني. عثمآاااااااان. خليهم يسبوووووني ...
لكنهم أمسكوا بها بسهولة و كبّلوها جيدًا رغم أنها لم تتوقف لحظة عن قتالهم
و قبل أن يأذن لهم "عثمان" بالرحيل، اقترب من "نانسي" و أحاط وجهها المتوّهج بكفيه متمتمًا بهدوء :
-متخافيش يا نانسي.. هما 6 شهور هاتقعديهم في المصحة. هاتبقي كويسة صدقيني. و أنا هابقى أجي أزورك
كانت تزفر أنفاسها عبر فتحتي أنفها كثورٍ هائج، لتزمجر فجأة محدقة به بقوة مخيفة :
-مصحة ! فاكرني إتجننت زي جيجي ؟ و رحمة أبويا لاندمك يا عثمان.. و شرفي إللي راح بسببك. لسا مخلصناش. لساااااا ...
أومأ لها "عثمان" و قال ببرودٍ :
-زي ما تحبي. زي ما تحبي يا نانسي.. المهم تبقي كويسة. مع السلامة !
و أذن للرجال بالرحيل، بينما تتصايح و تصرخ متوعدة و هم يبتعدوا به :
-هارجعلك يا عثمان.. مش هاسيبك... أقسم بالله لاكون نهايتك. مش هاااااسيـــــبـك ...
يتنهد "عثمان" بثقلٍ عندما يختفي صوتها، و كأن حجرًا ضخمًا سقط عن كاهله.. تناول كأس الماء من فوق الطاولة و شربه كله، ثم أخذ سترته و شرع بارتدائها ليعود أدراجه إلى العمل مجددًا
لكن هاتفهه يدق فجأة، فيستله من حيب بنطاله.. و عقد حاجبيه مستغربًا عندما قرأ اسم زوجته، لكنه رد في الأخير :
-آلو !
كانت لهجته متحفظة، فهو لا يزال يراعي غضبه منها، لا يريد أن يمرر لها تصرفاتها الأخيرة معه هكذا بسهولة ...
فاجأته نبرة صوتها الجلفة :
-لو سمحت تعالالي.. تعالالي الأوضة خمس دقايق بس
سألها بحذر لا يخلو من الاقتضاب :
-في حاجة ؟!
-آه.. في. تعالى عايزاك ضروري !
و أغلقت الخط ...
فأسرع إليها فورًا !!!
-في إيه ؟!! .. هتف "عثمان" متسائلًا و هو يقتحم الغرفة فجأة
كانت "سمر" تقف أمامه، في استقباله، و كانت ترتدي ملابس للخروج.. تفحصها "عثمان" بنظراته متمتمًا :
-إنتي لابسة كده و رايحة فين ؟ حصل إيه ؟ حد من الولاد تعبان و لا إيه ؟.. ما تنطقي يا سمر !!!
-طلّقني يا عثمان !
ربما قالتها له مرة أو إثنان من قبل، لكن تكرارها الآن و بهذه اللهجة و تلك النظرة التي تصوّبها إليه.. كلها أشياء جعلته متأكدًا بأنها لا تمزح أو تقول كلامًا عابرًا ...
-و ده إيه أصله إن شاء الله !
حاول أن يبدو باردًا، ساخرًا.. ربما غاضبًا قليلًا لعلها تتراجع.. و لكن أبدًا، لم تتزحزح عن مزقفها و هي تكرر مرةً أخرى بهدوء أثاره :
-من فضلك.. من فضلك يابن الناس. اسمع كلامي. طلّقني بالمعروف كده. إحنا بردو بينا طفل.. خلينا نحافظ على شوية احترام بينا عشان مصلحته. منغير خناق. منغير زعيق. شوفت أنا بكلمك بهدوء إزاي ؟ خلاص.. كفاية كده أوي. و كويس إننا ماتدبسناش في بعض أكتر. كويس إني كنت عاملة حسابي. و ماجبناش لحياتنا اللي من البداية غلط و على كف عفريت دي طفل تاني. الحمدلله.. الحمدلله أوي !
استوقفته بضعة كلماتٍ من عبارتها التي أربكته في البادئ حتى سمعها تقول ذلك.. ليعلّق عليها :
-إيه قولتي إيه ؟ كنتي عاملة حسابك ؟ و ماجبناش لحياتنا أطفال تاني.. قصدك إيه يا سمر ؟!!
و رمقها بنظرة مشككة، و كأنه يحذرها لو أكدت صدق ظنونه ...
لكنها ردت بصراحة أقرب للتبجح :
-قصدي إللي فهمته بالظبط.. أيوة. كنت باخد منع الحمل. من أول يوم رجعتلك فيه. مابطلتش أخده
عبس مصدومًا و هو يردد بمشاعره المجرّدة الصادقة :
-بتاخدي منع الحمل.. و من أول يوم يا سمر ؟ ليه ؟ .. و هز رأسه غير مستوعبًا و قال :
- أنا مش مصدق أصلًا.. بتاخدي منع الحمل !!!!
و هنا صرخت.. بل انفجرت بوجهه بجماع نفسها :
-أيوة. أيوة باخد منع الحمل. مين عايزة تخلف من واحد زيك أصلًا !!! .. و أختنق صوتها بالدموع و هي تكمل :
-واحد غدار و مخادع. دايمًا بتغدر بيا كده. و تخيّب أملي فيك.. و في الآخر تجرحني بالشكل ده ...
و أطرقت رأسها معتصرة جفنيها بشدة، فتنهمر دموعها و تشعر به يود أن يتقدم نحوها، يريد أن يفهم، أن يستطلع ما بها و كيف وصلت إلى هذه الدرجة من الإنهيار
لكنه لم يخطو خطوة واحدة.... لتجمده بإشارة من يدها و هي تهتف بانفعالها :
-طلّقنــي !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! .........................................