رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الثامن عشر18 بقلم مريم غريب


     رواية عزلاء امام سطوة ماله الجزء الثانى الفصل الثامن عشر بقلم مريم غريب



_ هباء عاطفة ! _


كان صدره يعلو و يهبط بسرعة رهيبة، جراء المجهود المضنِ الذي بذله في تأديبها، جسمه الساخن يتصبب عرقًا غزيرًا و لهاثه المضطرب لم يستطع سماعه بسبب عويلها المتألم الذي غطى عليه تمامًا ...


الآن يخلّفها ورائه و يخرج من الغرفة بخطى متثاقلة، رمى طوق خصره من يده بغير إكتراث و هو في طريقه إلى غرفة المعيشة


ألقى بنفسه فوق الآريكة الصغيرة هناك و أسند رأسه للخلف مغمضًا عينيه بشدة.. كان صوت بكائها لا يزال يصل إلى مسامعه بوضوح، في العادة عندما يفرغ غضبه و يتصرف بهذا العنف يشعر بالراحة، و كان يجب أن يحدث هذا معه الآن.. لكنه ليس مرتاحًا، على الإطلاق


بل أنه في الحقيقة نادمًا !


أجل.. أدرك بأنه قد تسرع و لكن بعد فوات الآوان، ما كان مضطرًا للجوء لتلك الطريقة الشنعاء، كان أمامه مئة حلًا أخر ليقوّم إعوجاج زوجته المدللة المتمردة


صحيح أنها سليطة اللسان و أهانته كثيرًا، و اليوم طعنت رجولته عندما مدحت زوجها السابق أمامه و قارنته به و بنفسها ماديًا و معنويًا بمنتهى الصفاقة و قلة الإحترام... لكنه رغم ذلك كان قادرًا على كظم غيظه


لعلها تراكمات، فهي لم تكف عن إظهار تكبرها عليه و إحتقاره منذ أول وهلة.. تعمدت كثيرًا أن تفعل ذلك، بل و تمادت متخيلة بأنه قليل الحيلة أمامها و أمام أسرتها ذات السطوة و النفوذ.. لعله أراد أن يثبت لها بأنها مخطئة بظنها، لأنه في الحقيقة لا يهاب أيّ شيء تتصور بأنه يشكل تهديدًا بالنسبة إليه، لا هي و لا أسرتها ...


يزفر "فادي" بقوة مادًا جسده للأمام، أخذ يفرك عينيه بأنامله المتشنجة و هو يحاول إستعادة شيئًا من صفاء الذهن.. لكنه هذا بدا مستحيلًا، عقله مشوش للغاية، تارة يؤنبه بالبراهين المنطقية، و تارة يخبره بأنه لم يرتكب جرمًا فظيعًا إلى هذا الحد، و أنه في كل الأحوال له كل الحق نظرًا لما رآه من جانب تلك العائلة و ما حدث لشقيقته بسبب صهره الثري المتغطرس، هذا أقل ما يمكن أن يفعله، هذا أقل إنتقام لشرفه و سمعته التي تشوهت على أيدي هؤلاء !!!


رفع "فادي" رأسه فجأة، عندما لاحظ إنقطاع بكاء زوجته.. ساوره القلق أكثر مع الهدوء الذي رافق ذلك مباشرةً، ليقوم من مكانه متجهًا إلى غرفة النوم على الفور ...


أطل برأسه عبر فتحة الباب الموارب.. كانت لا تزال كما تركها، متكورة بمنتصف السرير و شعرها منتثرًا حولها و فوق وجهها، لكنها كانت هادئة بشكل مريب


إزدرد ريقه بتوتر و لم يجد بدًا من مقاومة مشاعره أكثر من ذلك، أقبل عليها مسرعًا و توقف فوق رأسها تمامًا.. مال صوبها و بدون تردد مد يده و هزها بكتفها عدة مرات، لكن بلا نتيجة.. ليزيح تاليًا الشعر عن عينيها المنتفختان من كثرة البكاء، جسَ جبهتها و خدها براحة يده، كانت حرارتها جيدة، و راقب معدل تنفسها.. كل شيء على ما يرام


يبدو فقط أنها أنهكت و خارت قواها ففقدت الوعي رغمًا عنها، إستغرقت بالنوم قبل أن تعي.. لا حرج عليها، المسكينة تعرضت لوضعٍ صعب للغاية ...


أطلق "فادي" نهدة عميقة و هو يمعن النظر في وجهها الملائكي، لا يزال يحتضن خدها المبلل بالدموع بكفه الكبير، بقى ساكنًا للحظات بينما تتحرك شفاهه مصدرة همسًا لا يمكن أن تسمعه تلك المغشية :


-أنا آسف !


ثم قام و توجه نحو الخارج من جديد دون أن يلقي نظرة أخرى خلفه ...


__________________


تأنقت كثيرًا الليلة.. أناقة تليق بالثوب القرمزي الرائع الذي تمنت للحظة أن تقتنيه فحقق لها أمنيتها


كان مناسب لوضعها كإمرأة محجبة بالطبع، و زينة وجههة كانت بسيطة جدًا إتباعًا لآوامره.. و أخيرًا قارورة العطر "Amber Romance" من فيكتوريا سيكريت، سكبت نصفها تقريبًا فوق الثوب و وشاح الرأس فاقع الحمرة.. و ها هي صارت جاهزة


تأبطت ذراع زوجها الذي إختال بحلة سوداء فاخرة مزدانة سترتها من جهة اليسار بمنديل أحمر ظهر طرفه فوق الصدر ليحاكي لون ثوبها


نزلا معًا إلى باحة الفندق المطلي كله باللونين الأزرق و الأبيض، و قد كانت "سمر" تسير إلى جانب "عثمان" أمام الناس مرفوعة الرأس و الشعور الفخر و الإعتداد يملأها، لأن هذا الرجل بكل هيمنته و جبروته ملكها، ملكها بقلبه و جسده و هو يرحب بذلك ...


كانت سيارة فخمة من فئة "الليموزين" الأبيض تنتظرهما أمام الفندق، إستقلا بالخلف و أصدر "عثمان" أمره للسائق بالإنطلاق، بينما تتأمل "سمر" مساحة السيارة الفسيحة من الداخل و الخدمات الحديثة و المبهرة التي زُوِدت بها


لطالما رأت أشياءًا كهذه بالتلفاز فقط، و لا مرة تخيلت حتى بأنها سوف تجربها ...


كانت الإبتسامة ملء وجهها، إلى أن شعرت بوخرة خفية بقلبها.. نظرت نحو زوجها و بقيت صامتة


لاحظ نظراتها و قد كان لا يزال يقبض على كفها الصغير و أصابعهما متشابكة.. أحس بإرتعاشتها الخفيفة فإلتفت إليها ...


-مالك يا حبيبتي ؟ إنتي كويسة ؟ .. قالها "عثمان" بصوته العميق ذي النبرة المتوجسة


إبتسمت "سمر" له و قالت بهدوء :


-أنا كويسة يا حبيبي.. كويسة أوي. بس خايفة يا عثمان !


عبس "عثمان" و هو يقول مشدوهًا :


-خايفة ؟ من إيه يا سمر ؟!!


هزت كتفيها قائلة :


-مش عارفة.. بس كل حاجة حلوة. كل حاجة ماشية تمام أوي و مافيش أي حاجة غلط حصلت لحد دلوقتي


رفع "عثمان" حاجبيه و قال بعدم إستيعاب :


-مش فاهم قصدك.. إنتي عايزة تقولي إنك مضايقة إننا بقالنا كام يوم عايشين مبسوطين و كويسين مع بعض ؟؟!!


نفت "سمر" على الفور :


-لأ طبعًا.. مش ده قصدي. أنا بس زي ما قولتلك خايفة.. مش ممكن تكون حياتنا إستقرت فجأة كده و كمان مبسوطين أوي زي ما إنت قلت


ساد الصمت لبرهة.. ثم قال "عثمان" بفم ملتوي :


-سمر.. إنتي فعلًا نكدية. بقى ده كلام تقوليه ؟ إنتي مضايقة إننا بقينا مرتاحين من كل الظروف المهببة و الضغوطات إللي عيشناها من يوم ما عرفنا بعض ؟ إيه ده بجد !!!


بررت "سمر" بأقصى ما تستطيع من لطف :


-لأ يا حبيبي. مش كده.. إفهمني. أنا بقولك خايفة. مش مضايقة. لو عليا نفسي نفضل طول عمرنا كده ..


-و هانفضل يا سمر ! .. قاطعها بصرامة


-طالما حلينا مشاكلنا الأساسية أي حاجة تانية أمرها سهل. خوفك مالوش أي لازمة. ماينفعش أصلًا تخافي طول ما أنا معاكي.. أنا إتحطيت في طريقك عشان تنسي الخوف ده. عشان تطمني و بس. قولتلك قبل كده و بكرر تاني جربي تسيبي كل حاجة عليا. شيلي كل حاجة ممكن تضايقك من دماغك و سبيني أنا أتعامل.. معقول ده صعب عليكي أوي كده ؟ مش عايزة ترتاحي ؟؟


تنهدت "سمر" بثقل شديد.. لكنها فجأة قررت أن تأخذ بنصيحته و تلقي كل الأثقال التي تحملتها طوال عمرها دفعةً واحدة


إلى هنا و كفى، عليها أن تصغِ له لمرة، فهو محق مئة بالمئة.. لا يمكن أن تنكر ذلك، دائمًا كان محق ...


-إنت صح ! .. تمتمت "سمر" مبتسمة بإذعان محبب


-أنا فعلًا أفورت شويتين.. و على رأيك بقيت نكدية


و ضحكا معًا... ثم قال "عثمان" بلطف و هو يرفع كفها ليقبله :


-كل إللي يجي منك بحبه يا بيبي. معلش.. سبيلي نفسك بس و أنا هانسيكي إسمك


سمر بخضوع تام :


-أنا ليك و ملكك أصلًا !


إبتسم "عثمان" و هو يرمقها بإستحسان، لقد أعجبه تصريحها الأخير.. فمد يده ليداعب ذقنها قائلًا :


-كده يعجبني كلامك.. مش عايزك تنسي إللي قولتيه بقى من هنا و رايح. إتفقنا ؟


أومأت له موافقة و لم تغادر البسمة ثغرها ...


وصلا بعد دقائق قليلة إلى الوجهة التي أعدها "عثمان" ليفاجئها... ما إن وطأت الأرض القرميدية من جديد، حتى أكتشفت بأن المكان هو المفاجأة في الأصل !!!


فغرت "سمر" فاها حين شاهدت على بعد مترين منها، و فوق الكثبان الرميلة البيضاء طاولة عشاء مخصصة لفردين، تحدها شموع على شكل قلب، و حولها بلونات الهيليوم العائمة بالهواء حمراء و سوداء، و الورود تفترش الطريق تحت قدميها حتى هناك ...


نظرت "سمر" إلى زوجها و لم تستطع التحدث من فرط السعادة و الحماسة، بينما كان يراقبها من من طرف عينه مبتسمًا.. أطلق ضحكة قصيرة عندما رآى ردة فعلها و أمسك بيدها فورًا و سار بها مسرعًا فوق الدرب المفروش بالوريقات القانية الشذية


كانت المائدة مُحضرةً بأفضل طريقةً، و مزودة بالأواني البلورية الشفافة، مع إضافة مزهرية أنيقة بها باقة زهور بيضاء، و طبق فاكهة كلها من اللون الأحمر... سحب "عثمان" لها مقعدها و أجلسها أولًا، ثم إلتفت إلى فرقة العزف  بالجهة المقابلة لهما و أشار لهم بالبدء


جلس بينما تصدح أنغام آلة البيانو الرقيقة مع الكمان و التشللو بأعذب الألحان للغنوة الغربية الشهيرة " love me like you do" ..


أخذ "عثمان" يكشف عن الأطباق الواحد تلو الآخر تحت أنظار "سمر" المشدوهة، كان العشاء كله مؤلفًا من الدجاج بالكريمة و الفطر، و ستيك بالخردل و إكليل الجبل، و حتى طريقة تقديمه كانت غاية في الذوق الرفيع و تحاكي الأجواء الرومانسية المحيطة بهما، فبعض قطع الخضار في السلطة على شكل الورود، و قد سكب الأرز في الأطباق على شكل قلب، و المشروب كان صودا مضافًا إليها عصير التوت الخام و قطعتين كرز تطفوان على سطح كلا الكأسين ...


-كأني في حلم جميل و مش عايزة أصحى منه ! .. قالتها "سمر" مغالبة تلك الدموع التي تحارب للقفز من عينيها


رفع "عثمان" كأسه و دعاها لرفع خاصتها، طرق الإثنين معًا و هو يقول بنعومةٍ :


-كل ده حقيقي حواليكي يا حبيبتي. أنا مش هاخدك من هنا إلا و إنتي راضية و أعصابك مرتاحة على الأخر


إرتشفت "سمر" من العصير، ثم وضعته فوق الطاولة ثانيةً و قالت :


-لا يا قلبي إحنا أصلًا طولنا أوي هنا. أظن لازم نرجع بقى في أقرب وقت


عثمان بتكشيرة : عشان ماتزعليش لما أقول عليكي نكدية.. إنتي إتعلمتي من أخوكي !


سمر و هي تضحك برقة :


-مش كده و الله ماتفهمنيش غلط.. أنا قلبي و عقلي معاك و مش عايزة أبعد عنك لحظة. بس جزء مني هناك لسا عند يحيى و ملك. وحشوني أوي يا عثمان و غصب عني بالي مشغول بيهم. و إنت سحبت مني الموبايل و مانعني أتكلم مع أي حد أطمن عليهم


أطلق "عثمان" زفيرًا عبر فتحتي أنفه، ثم قال بصوت هادئ :


-أوك.. إللي إنتي عايزاه يا سمر. بكرة هانرجع. أي آوامر تانية ؟


إتسعت إبتسامتها و مدت يدها فوق الطاولة لتقبض على يده، إستندت بذقنها إلى مرفقها و هي تقول بلهجة عاشقة :


-بحبك !


رد لها الإبتسامة عندما دغدغت تلك الكلمة حواسه، لم تقولها مرة إلا و رفرف قلبه كأنه يسمعها منها حديثًا.. لقد نجح في أن يجعلها تحبه، بل و تعشقه كما يفعل هو و أكثر ...


_________________


صباح يوم جديد... في قصر آل"بحيري"


تتناول العائلة الفطور اليوم على الشرفة المطلة على الحديقة الخلفية.. كانت "فريال" تهتم بالطفلين "ملك" و "يحيى".. لاسيما "ملك" لم تسمح لها بالركض و اللعب مع إبن أختها إلا بعد أن أطعمتها وجبتها كاملةً و سقتها بيدها كأس الحليب


صبت القهوة بفنجانين لها و لـ"رفعت" و هي تراقب المرح الطفولي هناك بإبتسامة كبيرة، ثم إلتفتت لتعطي الفنجان لشقيق زوجها قائلة :


-إتفضل يا رفعت !


رفعت بإمتنان : شكرًا.. تسلم إيدك يا فريال


تناولت فنجانها هي الأخرى و هي تقول :


-العفو ألف هنا.. مش ناوي تاخدنا نزور هالة في بيتها بقى يا رفعت ؟ أظن عيب لحد دلوقتي محدش مننا راح يباركلها. جوزها يقول علينا إيه دلوقتي !


رفعت بجدية : مش وقته يا فريال. لسا شوية.. أكيد هانروح إن شاء الله بس يكونوا أخدوا على بعض و كمان يعيشوا كام يوم على راحتهم. ماتنسيش جوزها ماسبقش و إتجوز زيها


فكرت "فريال" بكلامه للحظات، ثم قالت مبتسمة :


-أوكي.. عندك حق. إللي إنت شايفه يا رفعت


و في هذه اللحظة يأتي "صالح".. مصطحبًا زوجته الحبلى في شهرها الأخير، كان يسير بها على مهل، ما إن رآى والده و زوجة عمه يجلسان لتناول الفطور حتى صاح باسمًا :


-صباح الخير !


إلتفتا كلًا من "رفعت" و "فريال" نحوهما و قالا في صوتٍ واحد :


-صباح النور ! .. ثم قالت "فريال" و هي ترمق إبنتها بنظرات عطوفة :


-إيه يا صافي يا حبيبتي. عاملة إيه إنهاردة طمنيني عليكي !


توقفت "صفية" عن السير أمام أمها، بقيت مستندة إلى زوجها بكل ثقلها تقريبًا و هي ترد بلهجة تعبة :


-الحمدلله يا مامي. الدوخة خفت شوية بس رجلي إللي بقت شبه رجل الفيل دي مش قادرة أمشي عليها خالص


فريال بلطف : معلش حبيبتي هي لازم تبقى كده. و بعدين الشهر التاسع ده كله لازم تقضيه مشي على أد ما تقدري.. مش صالح واخدك عشان تتمشي ؟


-لأ يا طنط أنا مشيتها الصبح بدري هنا حوالين القصر ! .. قالها "صالح" و هو يمسح على رأس زوجته بحنان


-إحنا دلوقتي رايحين للدكتور. المفروض إنهاردة هايحدد ممكن صافي تولد إمتى و إزاي. يعني ممكن تستنى شوية و لا لأ هو هايقرر


رفعت بلهجة متضامنة :


-إن شاء الله على خير و هاتقوملنا بالسلامة قريب. عيلة البحيري هاتزيد واحد


صفية بإبتسامة منهكة :


-واحدة يا أنكل


رفعت متصنع العبوس :


-خلاص يا ستي لازم تأكديلي كل شوية. مش كفاية خسرت الرهان قدامك و طلعتي فعلًا حامل في بنت


تضحك "فريال" قائلة :


-مش إنت إللي كنت عمال تتفاخر أوي و تقول إبني هايطلع لأبوه و لعمه و رجالة العيلة. إفتتحوا نسلهم بالرجالة الأول و كنت واثق أوي !


و إستغرقت بالضحك أكثر... ليقول "رفعت" مغتاظًا :


-أيوة إضحكي ياستي ليكي حق. بس على فكرة الكلام ده بجد هو إللي حصل ده بس غلط من ناحية إبني الخايب


صالح مقطبًا حاجبيه بشدة :


-إيه يا بابا إللي بتقوله ده ؟ دي حاجة بتاعة ربنا. هو كتالوج !!


تعالى الضحك من حوله أكثر، بينما يقول "رفعت" بتصميم :


-بس يا خايب إنت ماتتكلمش


و شعر بإهتزاز هاتفه بجيب سترته في هذه اللحظة تمامًا، أخرجه ملقيًا نظرة على هوية المتصل، ثم هتف بإبتسامة مشرقة :


-دي هالة !


أشار للجميع بالصمت لهنيهة، ثم رد فورًا :


-آلو.. صباح الفل يا لولو. وحشتيني أوي يا حبيبتي عاملة إيه طمنيني عليكي !


ثوانٍ.. و بدأت إبتسامته الكبيرة تتلاشى أمام أعين العائلة المترقبة، بدأ القلق يساور الجميع و هو لا يزال صامتًا بشكلٍ مريب ...


برز صوت "صالح" فجأة :


-إيه يا بابا في حاجة و لا إيه ؟!


تطلع "رفعت" إليه و ظل كما هو، لكنه قام فجأة من مكانه و أبعد الهاتف قليلًا عن أذنه قائلًا بإقتضاب :


-مافيش حاجة. إنت يلا خد مراتك و شوفوا رايحين فين! .. ثم نظر إلى "فريال" مستطردًا :


-أنا داخل أكلم هالة جوا يا فريال


أومأت له "فريال" و نظرتها لا تخلو من التوجس، لكنها لا تستطيع أن تسأله الآن.. على الأقل يفهم هو أولًا ليطمئنها تاليًا ...


ولج "رفعت" إلى قاعة الصالون و هو يتحدث ثانيةً إلى إبنته :


-إيه يا هالة.. قولي أنا سامعك !


آتى صوت "هالة" متنشجًا و متقطعًا من شدة البكاء :


-بقولك الحيوان ده.. ضربني.. ضربني يا بابي و أنا مش عارفة أخرج من الأوضة من إمبارح


إحمّر وجه "رفعت" و هو يسألها كاظمًا غضبه بجهد :


-هو حابسك يعني ؟؟؟


هالة بصوت كالأنين :


-لأ.. أنا. أنا خايفة أخرج ألاقيه في وشي.. أنا مش عايزة أشوفه. مش عايزة أسمع صوته حتى لأخر يوم في عمري.. بليز يا بابي تعالى خدني من هنا بسرعة


رفعت بإنفعال : أجي أخدك إيه إنتي إتجننتي ؟ إنتي ماكملتيش إسبوع متجوزة الناس تقول علينا إيه ؟؟؟!!


هالة ببكاء شديد :


-بقولك مد إيده عليا يا بابي. ضربني جامد أوي.. أنا جسمي كله بيوجعني


رفعت مغمغمًا بقساوة :


-تلاقيكي إنتي نرفزتيه. خرجتيه عن شعوره.. هو أنا مش عارفك ؟ بتعملي معاه زي ما عملتي مع مراد لحد ما خلتيه يطلق بالتلاتة. بس أنا مش هاسمحلك تكرري التهريج ده تاني. أقتلك يا هالة و أخلص من بلاويكي. سامعة ؟ أقتلك !


جاء ردها مصدومًا :


-بابي ..


-بلا بابي بلا زفت ! .. قاطعها بعصبية شديدة، ثم قال بصرامة :


-إسمعي يا بت.. إنتي هاتترزعي في بيتك و هاتسمعي كلام جوزك و هاتعملي كل إللي هو عاوزه من سكات. فاهماني ؟ هاتبقي ست محترمة و تحترمي أهلك و تحافظي على بيتك و مش هاتخربيه زي ما عملتي أول مرة. عشان لو حصل تاني قسمًا بالله ما هرحمك يا هالة !


و أغلق الخط دون سابق إنذار ...


رمى هاتفه فوق الطاولة و هو يزفر بعنف،و ظل يلف و يدور بالمكان و هو يفتح زر قميصه العلوي عندما شعر بإختناق، و أخذ يتمتم لنفسه :


-ليه كده يا هالة ؟ ليه ؟ لـــيه !!!!


___________________


كان يبيت منذ الليلة الماضية بغرفة شقيقته، لكنه على كل حال لم يستطع النوم بعمق.. بل لم ينام تقريبًا


قضي الليل كله مسهدًا، يتقلب فوق السرير و كأنه جمرًا.. ضميره يعذبه بشدة كلما يستحضر عقله المشهد العنيف الذي قام به إزائها


لم يكن يطيق نفسه و ما وصل إليه.. لديه قناعة تامة بأن كل ما حدث له من سوء بسبب صهره البغيض... إنه يمقته، لم يكره بشرًا في حياته بذلك القدر، كم يتمنى لو يختفي من حياته و حياة أخته، هو من زعزع رتابة حياتهم، لقد آتى و جلب معه البلاء و سواد العيش


لم يرى يومًا جيدًا بعد مجيئه أبدًا ...


يقوم "فادي" من السرير متآففًا، لم يكن يود أن يتواجه مع زوجته الآن أو في أيّ وقت قريب.. لكن يبدو أنه لا مفر


وجد الشقة هادئة و السكون يسود الأجواء، فمشى ناحية المطبخ ليشعل القدر لصنع الشاي.. لكن يستوقفه صوتها فجأة من خلف باب الغرفة


إلتقطت أذنه بعض العبارات و خمن بأنها ربما تتحدث مع أبيها بالهاتف لأنه سمعها تنطق إسمه، قرب أذنه من الباب قليلًا و أرهف السمع.. لكنه لم يسمع سوى نشيجها المكتوم و نهنهاتها المتقطعة ...


تنهد "فادي" بضيق شديد، ثم إستدار عائدًا إلى الغرفة... مستحيل أن يبقى و يواجهها، هو ليس مستعد و يبدو أنها كذلك أيضًا


تلك المخلوقة الرقيقة، إنها لا تملك سوى سلاطة اللسان كسلاحًا، و هو لا يزال لا يعرف كيف طاوعته نفسه على إلحاق الآذى بها بهذا الشكل.. كان يجب أن يعلم بأنها لن تتحمل، فهي لم تخلق لتعامل هكذا، و لا ريب أنها لم تألف تلك التصرفات منذ ولدت، عاشتها لأول مرة على يديه ...


إرتدى ملابسه، و بدون تردد إتجه إلى الخارج، و تعمد إغلاق باب الشقة بقوة ورائه حتى تسمع و تنال حرية التصرف أثناء غيابه لبعض الوقت ...


.......................


كانت "هالة" تجلس متكومة فوق الفراش، دموعها الساخنة تسيل فوق خديها و هي تنظر إلى ملابسها الممزقة أمام السرير.. ملابسها السافرة التي إنهال عليها زوجها تمزيقًا بيده و بطوق خصره أثناء ضربه إياها بمنتهى العنف و الوحشية !


كانت تتآوه من حينًا لآخر منذ إستيقظت و شعرت بتشنجات أسفل معدتها، و الآن إزدادت بؤسًا عندما رأت بقع الدماء تلطخ الشراشف و الدثائر أسفلها ...


غمغمت بآسى شديد و هي تمسك ببطنها :


-مش وقتك خــااااالص !!!


و إنتفضت مكانها فجأة حين سمعت صوت إغلاق باب الشقة ...


تحاملت على نفسها و قامت بسرعة لترى ما إذا كان هناك أحدًا قد جاء، أم هو الذي غادر.. فتحت باب الغرفة و واربته قليلًا، مدت رأسها للخارج، فوجدت كل شيء هادئ، و غرفة "سمر" مفتوحة أمامها و السرير قد برز نصفه، لتراه مبعثرًا.. فتأكدت بأنه قد بقى هناك منذ الأمس، و يبدو أنه بالفعل غادر الآن


فلتصحبه اللعنة أينما ذهب ..


تنفست الصعداء و تركت باب غرفتها مفتوحًا، إتجهت نحو الخزانة و أخرجت حقيبة مربعة متوسطة الحجم.. ركعت على ركبيتها فوق الأرض و فتحت الحقيبة و أخذت تنقب بين أغراضها الشخصية عن علبة الفوط النسائية خاصتها


بصراحة لم تتذكر إن كانت قد أمنت بعضها قبل أن تنتقل إلي هنا.. لكنها أيقنت أنها لم تفعل عندما بحثت و لم تجد أيّ شيء


أطلقت صرخة يائسة و قامت و هي تركل الحقيبة بقوة، فإنتثر كل شيء بداخلها هنا و هناك ...


أخرجت ملابس غامقة اللون و إرتدتها على عجالة، ثم توجهت خارج الغرفة.. كانت تتأكد بأنها تحمل المال في جزدانها و هي في طريقها إلى باب الشقة


مدت يدها للمقبض و حاولت أن تفتحه


مرة.. إثنان.. ثلاث


لقد حبسها !!!


خرج و أغلق عليها بالمفتاح.. الحقير ...


داهمتها نوبة بكاء جديدة أشد بكثير مما مضى، عادت أدراجها إلى غرفة النوم.. ألقت بنفسها فوق السرير و طفقت تبكي و تئن بشكلٍ مزري !!!!!!!!!!! .............................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

الفصل التاسع عشر من هنا

تعليقات



×