الفصل الثامن عشر _ كانت كذبة ! _ :
اليوم ذكرى ميلادها، خلال السنوات الأخيرة لم تعد تهتم حقًا لهذا التاريخ المميز، في مرحلة طفولتها و صباها كانت تسعد كثيرًا به، حتى لو لم يحتفل بها أحد، كانت ترتدي أجمل ثوب لديها و تتأنق كثيرًا، إذا عجزت عن الخروج تقضي الأمسية بغرفتها و ترقص و تتغونج بجسدها صارخ الأنوثة حتى الصباح
و لكن، منذ صار تاريخ ميلادها هو نفسه تاريخ زواجها إنقلب كل شيء رأسًا على عقب، و لم يعد له ذات البريق و الحماسة، زواجها الذي بدا سعيدًا خلال الأشهر الأولى منه، إستحال إلى مادة خام من التعاسة، لولا وجود صغيرتها لوضعت حدًا لحياتها منذ فترة طويلة، و السخرية إنها بقدر عشقها لزوجها، بقدر مقتها لحياتها معه، إنه عدوها و سيد قلبها في آنٍ
فماذا عساها تفعل ؟
لا مخرج لها، في جميع الأحوال كل الطرق تُفضي إليه، كلها …
تجلس “رحمة” بالجهة الأخرى من الصالون، تستمتع بمذاق قهوتها الساخنة اللذيذة، بينما تراقب صغيرتها أثناء تلقّيها درس اللغات على يد معلمًا شابًا شديد المهارة، و الوسامة أيضًا، كانت تبتسم برضا و هي ترى و تسمع ابنتها الوحيدة التي حتمًا ورثت ذكاء و فطنة والدها و منها هي سرعة البديهة
كانت تتعلم بسرعة، رغم حداثة سنّها، و عدم إرتيادها الروضة حتى الآن، لكنها كانت قابلة للتعلم، و حصّلت معلومات سابقة لعمرها و هذا بشهادة معلمها نفسه
دقت الساعة السادسة مساءً، و أعلن المعلم عن إنتهاء الدرس، فقامت “رحمة” متجهة نحوهما غير منتهبة لتأثيرها الأنثوي على أيّ رجل، و بالأخص ذاك الذي وقف متأهبًا لها، يطالعها بنظرات الإعجاب، بدءًا من حذائها العاري الذي كشف عن قدم ناصعة و كعب أحمر كلون الدماء، و ثوبها الصيفي القصير عاري الكتفين، أسود اللون مزخرف بزنابق حمراء بارزة، وجهها الخالِ من مساحيق التجميل باستثناء طلاء الشفاه فاقع الحُمرة، و تحديد العين الذي أبرز ما تمتلكه من سعّة عينين، و شعرها، شعرها الطويل المجعّد بنعومةٍ مغرية
كانت من وجهة نظره امرأة كما يقول الكتاب، ثروة يطمع كل رجل بامتلاكها، فكيف إنها متزوجة و كلّما أتى إلى هنا يجدها بمفردها ؟
أين زوجها ؟ كيف يترك امرأة بجمالها و أنوثتها المتفجّرة أمام عينيه دون أن ينعم بكل دقيقة بجوارها ؟ لو كان هو نفسه بمكان الأحمق المحظوظ زوجها لما تركها ثانية واحدة قدر استطاعته …
-ها إيه أخبار شمس معاك يا مستر خالد ؟
تلقّى المدعو “خالد” سؤال الأم الفاتنة بابتسامةٍ هادئة و جاوبها على الفور :
-شمس ممتازة يا مدام رحمة. نبيهة جدًا ما شاء الله. و الإنلجش بتاعها هايبقى بيرفكت في وقت قصير.
إلتمعت عينا “رحمة” بدموع الفخر و هي تنظر إلى ابنتها المشغولة بجمع أدواتها الدراسية، ثم نظرت إلى المعلم من جديد و قالت بسعادة حقيقية :
-الحمدلله. أنا بجد مش عارفة أشكرك إزاي يا مستر خالد. انت بذلت معاها مجهود من أول يوم.
-ده واجبي يا مدام يا رحمة مافيش داعي للشكر. و الحقيقة أنا إللي نفسي أقدم لك هدية متواضعة و برجوكي تقبليها مني !
عبست “رحمة” مرددة و قد أوجست فجأةً :
-هدية ! ليا أنا !؟؟
لم يرد “خالد” على الفور، إلتفت ليفتح سحاب حقيبة ظهره و يستلّ علبة مستطيلة مغلفة بورق الهدايا تتوسطها عقدة على شكل فراشة زرقاء، عاود النظر إليها و هو يقدّم لها هديته قائلًا بثقة زادته جاذبية :
-كل سنة و انتي طيبة.. إنهاردة عيد ميلادك.
أجفلت “رحمة” مأخوذة من مباغتته و قالت بريبة :
-و انت عرفت منين إن إنهاردة عيد ميلادي ؟
أجابها و هو يشملها بنظراته الوالهة :
-شمس إللي قالتلي.. الحصة إللي فاتت خدت رأيي تجيب لك إيه هدية عيد ميلادك. ف سألتها إمتى و غيّرت معادنا عشان أجي إنهاردة مخصوص و أقدم لك الهدية البسيطة دي.
نظرت له و قد فهمت، صندوق الشوكولاه الذي صممت “شمس” على إبتياعه من متجر الحلوى، هو نفسه نوع الشوكولاه المفضل لدى “رحمة”.. هذه هدية “شمس” إذن !
و حتمًا خططت لتقديمها لأمها مع دقات منتصف الليل، و لكن هل كان من الضروري أن يقدم لها هذا هدية ؟
و هل عليها أن تقبلها !!؟
-من فضلك يا مدام رحمة أقبليها مني.. ماتكسفنيش ..
ترددت “رحمة” رغم استجدائه لها، لم توضع في موقف كهذا من قبل، و لا تعرف كيف تتصرّف !!
من داخلها رفضت، و لكنها لا تعرف كيف امتدت يدها و أخذت منه الهدية، و ليانها يتمتم آليًا :
-متشكرة يا مستر خالد !
-بابــي !!!
ارتعدت فرائصها ما إن سمعت صغيرتها تصيح من خلفها معلنة وصول أباها …
إتجهت نظراتها على الفور نحو عتبة الصالون، لتجده يقف هناك بالفعل، بجسده الضخم البالغ من العمر تسع و ثلاثين عامًا، و المكسو بإحدى بذلاته الفاخرة، بعد نهار حافل في العمل قد تخلّى عن سترته و علّقها على ذراعه، ربطة عنقه محلولة أيضًا و كذا الثلاث أزرار العلوية لقميصه الرمادي الذي ضرب لونه بشدة في عينيه، مع اختلاف بسيط الآن، و هو أن احتراق مستعر يشب ببؤبيه الآن، و هو يحدق بقوة نحو زوجته و الرجل الذي يقف قبالتها على ما يبدو يقدّم لها هدية كما رآى و سمع للتو …
-بابي !!
انحنى “يحيى” قليلًا ليحمل ابنته التي هرولت إليه مسرعة، رفعها على ذراعه دون أن يحيد بناظريه عن كلا من زوجته و ذاك الدخيل، ضمّت “شمس” أبيها و هي تهدل بمرح :
-بابي أنا أخدت Excellent إنهاردة و مستر خالد مبسوط مني. أنا كده حلوة صح ؟
مسح “يحيى” على شعرها الحريري بحنو، أبعدها قليلًا لينظر لها وحدها الآن قائلًا بابتسامة متكلّفة :
-انتي حلوة دايمًا يا روحي.. مافيش بنوتة في العالم ده كله أحلى من شمس قلب أبوها و روحه.. هاتي سكر !
فهمت الصغيرة على أبيها و مالت فورًا لتطبع قبلة على خدّه، قبّلها “يحيى” بدوره ثم همس لها :
-اطلعي كده عند الليفنج و شوفي بابي جابلك إيه.
أشرقت “شمس” صارخة بحماسةٍ و هي تسارع للإفلات من ذراعيّ والدها، أنزلها “يحيى” برفقٍ على قدميها، فانطلقت في الحال حيث أشار لها و قد أعد لها مفاجأة تسرّها كالعادة، استقام في وقفته ثانيةً و هو يستمع لصياح صغيرته من الخارج تبتهج بمجموعة جديدة من الألعاب باهظة الثمن
في الجهة الأخرى، لا تزال “رحمة”متسمّرة بمكانها، التوتر يعصف بها و هي ترمق زوجها مجفلة، الكلمات تأبى المرور عبر حنجرتها، لكنها تمكنت أخيرًا النطق بصوت بالكاد خرج منها :
-يحيى.. ده. مستر خالد.. انت سمعت عنه قبل كده.. ده إللي بيدرّس لشمس !
نقل “يحيى” بصره إلى المعلم المذكور، لم يخفى عنه الارتباك الذي حاول اخفاؤه، و الجهد الذي بذله ليظهر أمامه بمظهر الواثق
أومأ “يحيى” و حيّاه باقتضابٍ حاد :
-أهلًا !!
رد الأخير التحيّة باحترامٍ :
-أهلًا بحضرتك.. أنا آسف لو وجودي عامل أي إزعاج. أنا خلصت مع شمس. استأذن لازم أمشي دلوقتي.. و على معادنا الأساسي المرة الجاية يا مدام رحمة.
لم تستطع “رحمة” ردًا، بينما “خالد” يجمع أدواته بأيدي نزقة، كان قد نفذ بروحه حرفيًا خلال دقيقة واحدة و غادر المنزل عارفًا بأنه لن يأتي إلى هذا البيت مجددًا، ما كان “يحيى” ليصبر أكثر حتى يتهجم عليه و يحطّم وجهه بقضبته المشدودة كما هي الآن …
-حمدلله على السلامة ! .. تمتمت “رحمة” محاولة السيطرة على الرجفة بصوتها
كانت نظراته التي تفتك بها ترعبها و تضربها في الصميم
يتحرّك “يحيى” صوبها الآن، فيزداد شعورها بالخطر مع كل خطوة تتقلّص بينهما، يقف أمامها مباشرةً، يلقي بسترته فوق الأريكة القريبة، و على حين غرّة، شد من بين يديها هديتها
كتمت “رحمة” شهقة ثم إلتزمت الصمت، بينما يتفحّص “يحيى” العلبة بنظرات تهكمية، لاحظ بطاقة تتدلّى من عقدتها، فانتزعها و فتحها ليقرأ السطور التالية : “من يوم رؤيتي لكِ ؛ أصبح هدفي الوحيد في الحياة رسم الابتسامة على وجهك، و سأفعل كل ما يلزم لإضفاء الابتسامة على مُحيّاك الجميل، يا أجمل امرأة رأتها عيني.. عيد ميلاد سعيد”
لم يكن لديها فكرة عمّا حوته تلك البطاقة، لكنها أدركت فداحة ما قرأته عيناه عبر اشتداد عضلات فكيّه و مفاصل أصابعه الممسكة بالبطاقة بشدة، حتى سحقها في قبضته معتصرًا إيّاها
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ و هي تراه يدس البطاقة بجيبه، ثم يقطع غلاق العلبة بيده بحركةٍ حادة، إنه بالفعل قطع العلبة أيضًا، ليبرز من داخلها قماش نبيذي من الشيفون الشفاف، سحبه “يحيى” ملقيًا بالكارتون الممزق أرضًا، لترى “رحمة” أمام عينيها لانجيري جريئ للغاية، حتى ما تمتلكه في خزانتها الخاصة لا يُقارن بهذا مطلقًا
اللعنة !!!
-ذوقه حلو أوي المستر ده ! .. تمتم “يحيى” من بين أسنانه و هو ينظر بتفحص إلى الثوب النسائي في يده
رمشت “رحمة” و هي تقول بتلعثمٍ :
-يـ.ـحيى.. أنا. آ …
-شششششششش !! .. أسكتها بهدوءٍ مخيف
فابتلعت كلماتها و بقيت تحدق فيه فقط، مد لها يده بالثوب قائلًا بذات الهدوء :
-ادخلي إلبسي القميص ده دلوقتي حالًا.. متتأخريش. أنا هاعمل تليفون و أقعد استناكي مع شمس… يلا !!!
انتفضت مع نطقه كلمته الأخيرة بزجرة مفاجئة، أذعنت لكلمته على الفور و أخذت الثوب من يده مدركة بأنها سوف تعيش ليلة جهنمية، لا تعلم كيف أو على ماذا سوف تنتهي !!!!
عادت “رحمة” بعد دقائق، ترتدي روب حريري طويل، بدى إنها تخفي شيء تحته، وجدته يجلس بغرفة المعيشة، يلاعب ابنته و يمرح معها و كأن شيئًا لم يكن قبل قليل، خاطبها دون أن ينظر إليها و هو يواصل اللعب مع الصغيرة دانيًا بعقله الناضج لعقلها القاصر :
-رحمة من فضلك حضري العشا عشان شمس تتعشى و تنام.. معاد نومها قرّب.
بقيت “رحمة” بمكانها، تتطلّع إليه عاجزة عن فهمه، و سألته أخيرًا بلهجةٍ مرتجفة :
-هو انت.. هاتقضي معانا الليلة ؟
جاوبها بحيادية و لا يزال معرضًا عن النظر إليها :
-مش الليلة بس.. أنا قاعد هنا شوية.. في مشكلة و لا إيه !؟؟
نفت مسرعة : لأ.. لأ طبعًا ! ثم قالت بخفوت :
-طيب.. أنا هاروح أحضر العشا !
و لاذت من فورها إلى المطبخ، تنفست الصعداء حين ابتعدت عن هالته المقبضة، استغرقت نصف ساعة في تسخين العشاء الذي أعدته سلفًا، رصّت الأطباق على السفرة و نادت صغيرتها، لتحضر بعد لحظاتٍ ممسكة بيد أبيها
ترأس “يحيى” السفرة آخذًا “شمس” على قدمه، أخذ يطعمها بيده و يأكل القليل كعادته، بينما تجلس “رحمة” في الجوار و فمها مغلق طوال الوقت، لم تضع فيه لقمة و لم تنبس حتى ببنت كلمة
أخذ “يحيى” صغيرته بعد العشاء إلى غرفتها، قضى معها بعض الوقت هناك، في حمامها الخاص فرّش لها أسنانها و بدّل ثيابها، ثم وضعها بالفراش و تمدد بجوارها قليلًا، يضمها إلى صدره و يحكي لها قصة خرافية كان قد تعلّمها من أجلها مخصوص
نامت قبل أن يصل إلى منتصفها، فانسحب بهدوء مستبدلًا مكانه بالدب المحشو الذي تفضله عن بقيّة ألعابها، عانقته الصغيرة و استغرقت أكثر في النوم، دثّرها “يحيى” جيدًا، دنى ليقبّل جبينها، أطفأ الضوء مبقيًا مصباح خفيض للغاية ليؤنسها، ثم خرج في هدوء مغلقًا بابها من خلفه …
توجه رأسًا إلى غرفة نومه، إلى حيث واثقًا بأنه سيجدها، و بالفعل، كانت هناك تنتظره
ما إن اغلق الباب حتى استدارت له مرتعدة، نظرت له ملء عينيها و قد بدا حجم التعذيب النفسي الذي جعلها تعاني منه …
-يحيى.. أنا عايزة أتكلم معاك.. عايزة أفهمك حاجة !!
لم يحاول إسكاتها هذه المرة، فقط إلتزم الصمت و هو يقبل عليها و يحل أزرار قميصه في نفس الوقت، يتفاقم توترها، بينما توقف على بُعد قدم واحدة منها، نزع قميصه و ألقاه بعيدًا، ثم مد يده بحركة خاطفة و سحبها من خصرها بقوةٍ، لترتطم بصدره متأوهة
كتمت تأوهات و شهقات عديدة عندما بدأ يجرّدها من الروب دون أن يفلتها، لتظهر أمامه بالثوب المُهدى لها، و قد كانت مثيرة مثل اللعنة، و هذه القطعة تلائم قدّها تمامًا، يبدو إن هذا المعلم لديه معرفة كافية بجسم زوجته و ما يليق بها …
-قوليلي يا رحمة ! .. غمغم “يحيى” و هو يمسح على ظهرها العاري بكفوفه :
-مستر خالد عرف مقاسك بالدقة دي إزاي ؟
عبست بشدة و هي تقول بانفعال طفيف :
-بقولك إيه.. اسمعني الأول قبل ما تتكلم كده.. أنا اتفاجئت إنه يعرف عيد ميلادي. و ماكنتش أعرف إنه جايب هدية أصلـ آاااااااااااااااااااه !!!!
سقطت أرضًا في الحال حين هوت كفّه على صدغها بصفعةٍ مدويّة، سالت دموعها بلحظةٍ، بينما يجثو أمامها آخذًا بشعرها في قبضته العنيفة و هو يهمس محذرًا :
-شششششش.. اكتمي خالص. البنت نايمة. ردي على أد السؤال و بس. لو صوتك طلع برا الأوضة دي هاتندمي طول عمرك.
تصاعدت شهقاتها و هي تنظر إليه عبر دموعها و تقول بصعوبةٍ من بين بكائها :
-شمس.. شمـ..ـس قالتله على. عيد. ميـ..ـلادي.. لو. مش. مصد.قني. اسـ..ـئلها !!
لم تشفي هذه الكلمات غضبه المتآجج، بل أضرمت ناره أكثر و هو يشدد قبضته على شعرها حتى كاد يقتلعه من فروة رأسها :
-و هو لو محدش شجعه من الأول.. كان يجرؤ يهاديكي بقميص نـوووم.. و يكتب لك أشعار. هه.. رررررددددددي ؟؟؟؟
و إنهال عليها صفعًا على كلا الخدّين و ضربًا مبرحًا، و هي تتألم بحرقة و تكتم صرخاتها بيديها، لولا إنه خاف لو يقتلها من شدة غضبه، لما كفّ عنها، غضب أكثر من نفسه لأن خوفه كان عليها هي لا على نفسه …
-علاقتك بيه وصلت لفين ؟ .. سألها ممسكًا بذراعها الذي حمل آثار عنفه عليها
كانت متكوّرة على نفسها فوق الأرض، و لم تكن بقادرة حتى على الرد، لكنه شدّها بالقوة لتقف على قدميها أمامه و أمسك بذراعيها هادرًا من بين أسنانه :
-إنطقـــي.. كان بيخلّي وشك الجميل يبتسم إزاي ؟ نمتي معاه و لا لسا ؟؟؟؟؟؟
اعتراها إنهيارًا تام و هي بالكاد تلمس صدره بضعفٍ مرددة :
-لأ.. لأ ماحصلش.. وحياة بنتي ما حصل. ده ماكملش شهر بيجي هنا. أنا كنت عايزة مِس هي إللي تيجي بس قالولي ده أحسن مدرس في الحضانة.. انت كنت عارف إنه بيجي. و مرات البواب كانت موجودة كل مرة.. المرة دي بس ماجتش عشان ابنها في المستشفى عامل حادثة.. لو مش مصدقني اتأكد بنفسك.. ماحصلش حاجة.. ماعملتش حاجة.. ماعملتش حاجة. انت عارف إني بحبك.. و مقدرش أعمل كده. مقدرش …
نظر إليها مليًا، إلى عينيها الدامعتين، خدّيها الحمروان ببصمات صفعاته، فمها المكدوم في خطٍ نازف، شعرها المبعثر حول وجهها، إنها في أقصى حالات ضعفها، جاهزة كليًا لتطويعه، هذه فرصته ليروّضها، فرصته الوحيدة و المبررة التي ستخضعها لإرادته إلى الأبد، فلا تجرؤ على عصيانه، أو حتى منع أيّ شيء عليه، هو يعلم بأنها بريئة، و إنها تحبه و لا يمكنها خيانته و لا في أحلامها.. و لكن كما هداه عقله.. هذه فرصته …
-بتحبيني ؟ .. قالها بتساؤل
لتومئ برأسها فورًا هامسة :
-بحبك.. بحبك رغم كل حاجة عملتها فيا.. بحبك و انت متأكد من كده …
خفف قبضتيه عنها، و تركها برفقٍ مبتعدًا خطوة واحدة و هو يقول بهدوء مادًا قدمه اليسرى :
-لو فعلًا بتحبيني زي ما بتقولي.. إثبتي… وطي على جزمتي بوسيها !
نظرت له مشدوهة في البادئ، عقلها رفض الفكرة حتى، و لكن الموقف الذي وضعها فيه حتّم عليها الإنصياع لاختباره
نكست رأسها و هي تركع على ركبتيها فوق الأرض، ممتنة لأن شعرها الثائر يغطي وجهها الآن و هي تنحني بجزعها صوب حذائه اللامع الثمين، و بدون ترددٍ قبّلته
لم تقوم من شبه سجودها، و كأنها ستموت خزيًا و ذلًا، و هو بدوره لم تواتيه الشجاعة لمواجهتها فورًا، بعد بضعة لحظات فقط مرّت أمام عينيه صورتها قبل ساعتين عندما كانت تقف مع المعلم و تلك النظرة التي رآه يشمل بها زوجته، عاودته مشاعر الغيّرة المحرقة مجددًا
و دفعته للإمساك بها و رفعها عن الأرض، أطلقت “رحمة” صرخت ألم قصيرة حين امتدت يداه و مزّق الثوب الذي ترتديه من المنتصف بحركةٍ واحدة، و كأنه لا يطيق أن ترتدي شيئًا تخيّلها به آخر غيره
لم تحاول الفرار، أو ستر نفسها، بينما دفعها صوب الفراش، أمسك قطعة من الثوب و كوّرها ليحشرها بفمها حتى لا تصدر صوتًا بالدقائق المقبلة، قيّد معصميها بالقطعة الأخرى و ثبتهما فوق رأسها، تجرّد من بقيّة ملابسه و كرر ما فعله بها مرة قبل ست سنوات، كرر ما أقسم لها ألا يفعله مجددًا، لقد كانت كذبة، كل وعوده كذبة
و لكنه هذه المرة حطّمها.. بحيث صارت غير قابلة حتى للترميم …
_____________________________________________
كانت العائلة بانتظارهما، ما إن وصل “عثمان” إلى القصر حاملًا أمه المغشية على ذراعيه، صعد بها إلى جناحها الخاص تتبعه “صفيّة” و أطفاله و “سمر” التي لا زالت مرتبكة بشدة من سلاسل الأحداث
وقفت “سمر” بعيدًا تراقب ما يجري، يضع “عثمان” أمه في فراشها و جلس بجوارها واضعًا رأسه بين كفيّه، ندت عن “صفيّة” صيحة بكاء و هي تقف على رأس أمها، لا تستطيع تحمل كل هذه الأعباء وحدها
أتى “يحيى” الصغير من الطرف الآخر للفراش و جاور جدته، أمسك بيدها و طبع قبلة رقيقة على بشرتها الناعمة، دمعت عيناه و هو يمسح على شعرها الأملس بكفّه متمتمًا :
-سلامتك يا فريال هانم.. سلامتك !
دقائق أخرى و جاء الطبيب
فحصها على الفور و أعطاها حقنة، ثم جلس ليكتب لها روشتة موجزة و هو يرفع صوته قائلًا :
-يا عثمان بيه احنا قولنا الانفعال من أي نوع خطر على الهانم.. إزاي سمحتولها تخرج ؟؟
ردت “صفيّة” نيابة عن شقيقها الواجم بجوارها :
-خرجت من ورانا يا دكتور.. أرجوك طمنّا مامي كويسة صح !؟؟
تنهد الطبيب المسن منتزعًا نظارته و هو يقول باقتضابٍ :
-أطمني يا صافي. فريال هانم بخير. أنا ادتها مهدئ و هاتنام ساعات متواصلة. بس الوضع ده ماينفعش يستمر بالطريقة دي لازم تتصرفوا و تحلوا المشكلة أيًّا كانت. أنا مش دكتور نفسي بس مقدر خطورة حالتها. فريال هانم نفسيًا مش مستقرة.. من فضلكم سيطروا عليها !!
أخذت “صفيّة” بنصيحة الطبيب عارفة بالتحديد ما عليها فعله لمساعدة والدتها، لم تضيع لحظة أخرى مستغلّة غياب “فريال” عن الوعي، ذهبت إلى غرفتها لتحجز تذاكر السفر، ستأخذ أمها إلى موطنها الأم في أقرب وقتٍ، بحلول ليلة الغد ستكون معها في “إسطنبول” …
أبى الصغير “يحيى” أن يترك جدته وحيدة، فشعر أبيه نحوه بالامتنان لأنه كان في حاجة ماسّة لأخذ قسطًا من الراحة، ترددت “سمر” باللحاق به، ماطلت كثيرًا متحججة بالاهتمام بصغيرتها “فريدة” و أختها “ملك”.. لكنهما ما كانتا بحاجتها فعلًا
لامت نفسها على تفكيرها القاصر، و تضايقت من جُبنها الذي على ما يبدو يدفعها لخسارة زواجها الناجح قبل حادثتها، لا تنكر شعورها بالانجذاب نحو زوجها و والد صغيريها، رغم إنها فعليًا نسيته، لكن هذا الانجذاب الذي تشعر به نحوه فطري، تبيّن له نفورها، تبعده عنها، لكن في قرارة نفسها تحس بالإنتماء كليًا إليه …
حسمت “سمر” قرارها و ذهبت إلى جناحه، جناحهما الخاص، لم تجده عندما دلفت، لكنها رأت الباب الجانبي أقصى الغرفة لقاعة الحمّام مواربًا، و صوت إنهمار المياه منبعثًا من الداخل، فعلمت بأنه يغتسل
بالتأكيد، فهذه الحالة التي عاد عليها كانت رهيبة، ملابسه النظيفة كانت مبللة عن آخرها، ساعديه و كفيّه و حتى وجهه تلطخوا بالسخام
جلست “سمر” بانتظاره، أطال مكوثه هناك لبضعة دقائق أُخر، ثم خرج متئزرًا بروب الاستحمام القصير، لاحظ وجودها، لكنه تصرّف كما لو إنها ليست هنا
فقامت مستديرة ناحيته، غاب لدقيقتين بحجرة الملابس، و عاد مرتديًا بيجامة سوداء و قد ترك سترتها مفتوحة، ليبرز صدره المنحوت و بطنه العضلي، ابتعلت ريقها بتوترٍ محاولة الإشاحة بعيدًا عنه
مرّ من جانبها فاعترتها قشريرة و هي تستنشق رائحته المنعشة، مزيج من خشب العود الثقيل و النعناع، تطلعت إليه لتجده قد ارتمى فوق السرير بانهاكٍ، و كأنه قضى ساعاتٍ طويلة من المشقّة و ليست ساعة واحدة غابها
مضت نحوه على مهلٍ، كان مغمضًا عيناه و يداه مفرودتان مع جسمه، لم تستطع مقاومة الإغراء أكثر، حدقت بجسده و وجهه المسترخِ، تسارعت خفقات قلبها و هي تحس بشعورٍ غامض من الحنين، الحنين للإسئثار بهذا الجسد و التنعم بدفئه
لمَ لا ؟ .. إنه زوجها.. ما الذي يمنعها سوى غبائها الساذج كما وصفها !؟؟
-هاتفضلي تبحلقي فيا كده كتير ؟
أجفلت لسماع صوته فجأةً، نظرت إلى وجهه، عيناه لا زالتا مغمضتان، كيف عرف إنها تقف و تتأمله ؟؟
لم تأتيه برد، ففتح عينيه و رمقها بفتورٍ قائلًا :
-لو عندك فضول أوي كده ماتفضليش واقفة مكانك تبصي و خلاص.. قرّبي.. مش جايز يعجبك ؟
اتسعت عيناها بصدمةٍ مرددة :
-هو إيه ده إللي يعجبني !!؟؟
لوّح بكفه قائلًا ببرود :
-و لا حاجة.. انتي عايزة إيه يا سمر ؟
ردت عليه بشيء من الاضطراب :
-أنا.. أنا كنت جاية أطمن عليك.. و أشوفك. لو محتاج حاجة !
نظر لها مليًا للحظات، ثم قال :
-أنا فعلًا محتاج حاجات مش حاجة.. بس مش حاسس إنك تقدري تجاريني في إللي انا عايزه… تقدري يا سمر ؟
كان الشك يساورها حول نواياه، و لكن حين انحدرت نظراته لتتفرّس بجرأة في أبرز نقاط قوامها تاكدت، رغمًا عنها انتفضت بإباء، فابتسم بتهكمٍ و رفع بصره ثانيةً لينظر لها …
-كنت عارف ! .. تمتم بهدوءٍ، ثم تنهد مكملًا :
-من فضلك يا سمر أنا تعبان جدًا و محتاج أفصل خالص.. أخرجي و سبيني دلوقتي.. خليكي مع الولاد لحد ما أخرج لوحدي. ماتحاوليش تدخلي عليا إلا لو حصل أي حاجة برا.
رفضت الإنصياع له بادئ الأمر، و قالت بترددٍ :
-لو محتاج مني حاجة قول ..
تأفف بضيق و قال :
-سمر. بطلي استعباط بقى. أكيد محتاجلك. أكيد ده أكتر وقت محتاج فيه وجودك جنبي. الأعمى هايشوف كده. بس انتي عاملة نفسك عبيطة.. بصي أنا عمري ما أجبرتك على حاجة. و دايمًا باخد منك بس إللي انتي عايزة تدهولي. انتي مش مستعدة تديني أي حاجة دلوقتي بمعنى أي حاجة. ف ماتمثليش عشان أنا حافظك.. اطلعي برا يا سمر و سبيني لوحدي من فضلك !!
فاجأتها كلماته، و نظرته الثاقبة لها و لأفكارها عرّتها أمامه، شعرت بمزيد من الضغط و الخجل من نفسها، فلم تستطع البقاء أكثر معه
تراجعت بظهرها للوراء بضع خطوات معلّقة نظراته بنظراته، ثم إلتفتت مغادرة بسرعة، دأبها الفرار منه كالمعتاد، عندما تعجز عن مواجهته
إنه الرابح دائمًا.. و هو محق في كل شيء كما يبدو …
_____________________________________
منذ خروجه و عودته إلى بيت أبيه أخيرًا و هو ينأى بنفسه بغرفته
أخذ حمامًا طويلًا كما لو أنه يرى ماء و ينظّف نفسه لأول مرة، ارتدى ثيابًا نظيفة، ثم خرج ليجلس بالشرفة، عادة جديدة اكتسبها بالسنوات الأخيرة، و هي التدخين بشراهة
كاد ينهي علبة سجائره العامرة، حين شعر بانضمام أخته إليه، دون أن يدير رأسه نحوها، دعاها للدخول قائلًا بهدوء :
-تعالي يا مايا.. اقعدي.
ابتسمت “مايا” الواقفة عند عتبة الشرفة و هي تنظر إلى شقيقها بشوق، لقد عاد الآن “مالك” الذي تعرفه، أكثر وسامةً، أكثر لمعانًا.. و أكثر نضوجًا …
-أنا جيت أخدك من إيدك زي الشاطر كده عشان خلاص الغدا جهز !
جاءت لتقف أمامه مادة يدها إليه، لكنه بقى على شروده، لم ينظر لها و لا مرةً، فقط قال :
-3650 يوم.. كل يوم كنت باكل و بشرب و اشتغل جوا السجن.. مافيش يوم واحد قعدت أتكلم فيه مع حد. صوتي ماكنش بيطلع إلا في الخناقات أو لما بجاوب على أسئلة الظباط و العساكر.. أنا خارج و مشتاق أتكلم أوي يا مايا.. و بصراحة بابا آخر شخص أحب أشوفه دلوقتي أو أكلمه.. أقعدي.. أقعدي و كلّميني شوية.
لم تدرك أن دموعها المترقرقة بعينيها قد خانتها و سالت إلا حين تذوّقت ملوحتها من خلال شفاهها المنفرجة، مسحتها مسرعة بظاهر يدها، ثم شدت الكرسي المقابل و جلست أمامه بلا ترددٍ …
-تعرف إنك احلّويت يا واد انت ! .. قالتها “مايا” بصدقٍ و هي تحدق بحبورٍ في ملامحه حادة الوسامة
شعره القصير، ذقنه النامية، بنيته التي ازدادت قوة و صلابة، رغم وجود تلك الندبة أسفل عينه، لكنها لم تنقص أبدًا من جاذبيته الرجولية
ابتسم و هو يمتص العبق الأخير من سيجارته، ثم يسحقها بمنفضة كرستالية بجواره، و أخيرًا يتطلّع إليها قائلًا :
-و لسا بتقوليلي يا واد.. انتي لسا شايفاني العيّل الصغير إللي كان بيتخانق معاكي على تفاهات ؟
مدت يدها مداعبة رأسه و هي تقول ممازحة :
-هاتفضل طول عمرك أخويا الصغنـ آاااااه !!!
تأوّهت فجأة حين قبضت أصابعه على يدها بشدة آلمتها، و ارتعبت لوهلةٍ من نظرة الإجرام التي اعتلت عينيه، ما لبث أن تركها “مالك” مجفلًا و هو يقول بجمودٍ :
-مايا.. ماتلمسنيش.. قصدي ماتهزريش معايا كده تاني.. أنا مابحبش الطريقة دي.
تمالكت مشاعرها بصعوبةٍ لإستشفافها حدث جلل حوّل شقيقها إلى هذا الشخص الذي تراه الآن، ربما أحداث و ليست مجرد حدث منفرد، أغرورقت عينيها بدموع الحزن و أمسكت عليها بصعوبةٍ و هي تقول :
-حاضر يا مالك.. مابقتش هضايقك و أهزر معاك تاني ! .. ثم غيّرت مجرى الحديث لتبدد التوتر المفاجئ بينهما :
-بس عشان خاطري. بابا مستنينا كل ده.. تعالى معايا على تحت. هانتغدى سوا و بعدين هانسيبك تعمل إللي انت عايزه.. أوكي ؟
أومأ لها مشيحًا بوجهه للأمام، فقامت مادة يدها إليه، نهض دون أن يلبّي دعوتها، فسحبت يدها ثانيةً مذعنة لإرادته
مشيت أمامه تاركة لدموعها العنان، تستغل تلك الفسحة القصيرة دون يراها لتفرغ شيء من الضغط على مشاعرها، و إلا كانت لتنفجر ! ………………………………………………………