رواية حان الوصال الفصل الثاني عشر 12 بقلم امل نصر
يبدع في اصدار الصفير بفمه، كأداة نداء لمحبوبته، صوت خفيض ولكنه مميز ، تعرفه هي فقط
وكأنه عاد مراهقًا، في مشاكسة ابنة الجيران ، والتي أتت بخطواتها الخفيفة على أطراف اصابعها ، من داخل غرفة ابيها والتي تدخلها كاللصوص في غياب الرجل، من اجل مقابلته، داخل الشرفة المجاورة لشرفته،
بعدما غافلت اشقائها وجميع من في المنزل؛
– صباح الخير يا استاذ شادي.
القت بتحيتها الهامسة، تميل برأسها نحوه بشقاوة لا تتخلى عنها في حضوره مهما حاول معها .
التف اليها بأعين تضيق بنظرات مفهومة لها :
– صباح الخير يا استاذة صبا، يارب تكوني بخير .
يضغط على حروف كلماته برسميه اضحكتها، ليلوح بقبضة يده نحوها بابتسامة مستترة قابلتها بمثلها ترتد للخلف محذرة:
– خواتي الولاد في الصالة، ممكن يحسو بأي حركة ويطبوا علينا، ساعتها هيبجى منظرك زي العيال .
ضغط على شفته السفلى يردد خلفها بإقرار:
– وهو انتي اللي يرتبط بيكي يبقى فيه عقل؟. انا فقدت اتزاني والشعور بالعمر من وقت ما شوفتك، مش عارف هتوصليني لأيه في الاخر يا بنت ابو ليلة؟
رفعت كفها تداري على فمها تدعي شهقة مصطنعة:
– انتي هتغلط كمان في الحج ابو ليلة، لااا انا مسمحلكش يا استاذ .
هذه المرة لم ينطق ببنت شفاه، وفضل الصمت متأملا لها، تلك الحيوية والاشراق وجمالها الفاتن، لا يصدق حتى الاَن هدية الله اليه بها ، وقد اقترب الميعاد، وحلمه بها على وشك التحقق.
– إيه ساكت ليه؟
خرج السؤال منها بتوجس لصمته، فما كان منه سوى ان يهديها ابتسامة رائقة قائلا:
– ساكت عشان بفكر يا صبا، العفرتة والشقاوة دي لما تبقي معايا في عشنا بكرة وبين ايديا هيحصل ايه؟
شهقة بإجفال حقيقي صدر منها هذه المرة، وقد اكتست الحمرة وجنتيها على الفور مرددة بخجل :
– يعني هيحصل ايه يعني؟ انا الحج عليا اللي سيبت اخواتي والبيت المليان بالحبايب عشان اجي اجابلك مع انك تجدر تكلمني بالتلفون،
– تلفون!
– ايوة تلفون، وبطل تتنمر على لهجتي يا شادي.
يعلم ان هجومها سببه الاساسي هو ان تغطي على خجلها منه، فهذا اسلوبها وقد حفظه منها، واعتاد ان يجاريها بمشاكسته ايصًا:
– طب واتنمر ليه بس يا بنتي وانا عجباني الكلمة اصلا؟ دا حتى تلفون لايقة اكتر على تليفون .
– تاني يا شادي، طب انا ماشية وسيباك.
قالتها وتحركت اقدامها على الفور، وقبل ان تغلق باب الشرفة بذهابها للداخل تمتمت بالاخيرة امام ابتسامته:
– وخليك انت كدة مع نفسك يا متنمر.
اطلق ضحكة مجلجلة اطربت اسماعها، وابصاره منصبة على طيفها من خلف الستار الذي اغلقته مع الباب الزجاجي للشرفة، يعلم انها هي ايضا تضحك، لحظات الترقب في انتظار اليوم الموعود على قدر صعوبتها، لكن ما أجملها:
– خلاص هانت يا صبا، هااانت كلها يوم وليلة بس وتبقى في حضني .
تمتم بها بصوت مسموع وصلها دون جهد، لتضع يدها على موضع قلبها تحاول تهدئة الضربات التي تتقافز به، باتساع السعادة داخلها لقرب الوصال بمحبوبها.
❈-❈-❈
ليس على طبيعته، حتى ومعاملته الرسمية تبدو امامها بصورة عادية لا يشوبها شيء، لكنها تجزم بداخلها انه متغير من ناحيتها، حتى وكتلة البرود التي يتحلى بها دائمًا تظهر عكس ذلك، لكنها ليست غافلة عن شخصيته التي تعرفها جيدا.
– الورق يا لورا
صدرت بصوت عالي منه تفيقها من غمرة شرودها، اثناء انتظارها لأخذ التوقيع منه على بعض الملفات التي قامت بمراجعتها، لتنتصب بوقفتها، ثم اقتربت تتناولهم منه، وعيناها منصبه نحوه تستجدي نظرة لا يريحها بها ابدا ، تبا له من قاسي.
تبسمت تعيد حساباتها بتغير منهجها في التعامل معه، علُه تكسب نقطة في الطريق اليه:
– رياض باشا، قبل ما امشي انا حابة اعتذرلك .
– تعتذريلي عن ايه؟
تسائل مستفهما يضع القلم بجيب سترته العلوية، لتفاجأه بضعف غريب عنها وهي تقول :
– حضرتك بعترف اني زودتها في الموضوع الاَخير، بس انا مكنتش قاصدة اطرد العمال ولا اهين بهجة، هو بس الصوت العالي اللي ازعجني، وكانت لحظة غضب وانفلتت اعصابي فيها.
مط شفتيه بابتسامة غامضة يتقبل اعتذراها بسخرية:
– مشكورة طبعا يا لورا على رقتك، بس ان جينا للحق الأسف ده من الواجب يروح لصاحبة الشأن مش انا .
برقت عينيها بصدمة، لا تصدق فحوى ما يرنو اليه ، ان تعتذر لهذه الملعونة، وكأنه كان يقصد التلاعب بها ، لطف يخفف عنها بمكره:
– اطمني يا لورا، انا مش هطلب منك تعتذريلها طبعا، بس ياريت تحاولي تنجنبيها، بهجة بقت شيء مهم للست الوالدة دلوقتي، بالظبط زي نبوية، وانتي عارفة اللي يخص والدتي ، بتبقى مكانته ازاي عندي
مازال تأثير الصدمة يلون ملامحها، ليتها ما فعلت ولا اعتذرت من الأساس ، لقد غلبها بخبثه، جعل منها أضحوكة امام نفسها ، وقد وضح مكانة هذه الملعونة بالنسبة اليه، وهذا ما نطق به فمه، فما بالها بما يدور بداخله.
– روحي على شغلك خلاص يا لورا ، انا اعتبرته موقف وعدى ، لحظة غضب زي ما بتقولي .
أومأت بملامح ممتقعة، مستأذنة بصوت بالكاد خرج ، لتجر اذيال الخيبة وقد ذهبت منها النقطة التي تقصدها لصالح هذه الملعونة.
اما هو فقد نهض فور خروجها، ليستقر ببصره خارج النافذة يشرد بتلك البهجة التي طغت برقتها ووداعتها تلون ظلمة قلبه الصدئ، ولا يعلم نهاية هذا الجرم الذي يفعله بنفسه، وقد اقسم قديما الا ينال منه الحب ولا يضعفه.
❈-❈-❈
عدة ايام مرت بهم معه؛ وكأنه يطير بها على خيمة وردية، تلامس طيور السعادة بيداها، يغدق عليها من عشقه حتى ترتوي من فيض حنانه وأكثر، وهو لا يكل ولا يمل من القرب منها، يشعرها بأنوثة كانت ضائعة بمفهوم ترسخ بعقلها القديم، والذي نضج حديثًا على يديه ، معه فقط عرفت معنى الكمال.
كانا الاثنان في هذا الوقت يستمعتان بعطلتهم داخل مياه البحر التي يسبح بها بمهارة، وهي بملابس البحر المحتشمة تسبح محلها، بعدما سحبها معه على غير ارادتها، تحاول مجارة عبثه من تحت الماء ، حيث كان يداعبها على حين غفلة منها كل دقيقة، قاصدا مناكفتها .
– بس يا عصام، وربنا هخرج لو مبطلتش.
ضحك يخرج رأسه المبتل من اسفل المياه غائظا لها:
– طب ما بدل ما تخرجي وتسبيني، انزلي تحت واغلبيني، ولا انتي لزقتي مكانك في المية .
دفعته بكمية من الماء بيدها تنهره:
– انا برضو اللي مش عارفة اعوم، ولا انت اللي عاملي زي تعبان البحر، كل ما ابلبط بدراعي حبتين الاقيك لفيت حواليا ، ومش عارفة الاقيها منك، احوش الايد والرجل ولااااا……..
سحرها بضحكته ينثر شعر رأسه الناعم بعض الشيء، يدفعه نحوها يزيدها تأفافا،:
– ما انتي اللي كسلانة وبصراحة صيدة حلوة للواحد يتسلى عليها جوا المية
بابتسامة مستترة صارت تدفعه عنها تتصنع الضيق وهو يتقبل منها بصدر رحب، مواصلا مشاكستها:
– يا بنتي انتي بتضربي ولا بتهرشي، طب شوية كدة ع الضهر بقى، ولا تحت بطاطي هاتي احسن تحت بطاطي .
استطاع بخفة ظله ان يجبرها على الضحك، رغم انهزامها في كل مرة تدخل معه تحدي.
بعد قليل وحينما شعرت بالاجهاد همت ان تسبقه بالخروج قائلة:
– طب انا هروح اسبقك، واحضرلنا سندوتشين ناكلهم، حكم انا جوعت اوي.
– تمام وانا هحصلك على طول ،
اتخذت طريقها للخروج من امامه، لينقلب هو بمهارة يكمل جولة الاستمتاع بالمياه، حتى ارتفعت ابصاره نحوها فجأة، ليتفاجأ بأحد الشباب المستهرتين من جهة قريبة الى حد ما في هذا الشاطيء الهاديء بعدد افراده القلائل.
يرمقها بنظرة متفحصة وقد كانت غافلة هي بما تفعله، عن نظرات شهوانية لا يفهمها سوى رجل مثله، يضغط بأسنانه على شفته السفلى بفجر تام ، جعل الدماء تغلي بأوردة الاخر، ليخرج اليه على الفور يفاجئ هذه الشاب بهجوم مباغت، وقبضة قوية حطت على فكه ، ليصرخ معبرا عن اعتراضه بالسباب والشتائم نحو هذا الرجل الذي يتعدى عليه دون ان يعرفه:
– ايه ده؟ ايه ده يا بن الكلب؟ انت قد الحركة.
صدر رد عصام على الفور يجذبه من عنقه:
– انا حضرة الظابط عصام يا حيوان، وهعلمك الادب كويس دلوقتي عشان تحرم تبص على اي حاجة تخصه ولا تخص غيره.
سارت الهرج والمرج على الشاطيء بتجمع الافراد حولهم ، وقد الاشتباك بين عصام الذي يريد الفتك بالشاب العابس ، مهددًا بمهنته، وهذا الشاب الذي يصارع من اجل البقاء من بين يديه، بالصراخ وادعاء المظلومية امام الاشخاص التي اشتد بأسها لتخليصه من ايدي الظابط المتعجرف بوجهة نظرهم
وهي التي وقفت محلها بصدمة واضعة كفها على فمها ، لا تصدق هذه العدوانية المفاجأة منه، جاهلة بالسبب الحقيقي وراء تبدله من حالة الاستمتاع معها داخل المياه الى هذا الوحش المفترس.
❈-❈-❈
– ممكن افهم يا عصام ايه اللي قلبك كدة وخلاك تهجم ع الراجل وهتموته في ايدك من غير سبب .
.هتفت بها فور دخولها خلفه غرفة الفندق الخاصة بهم، بعد فترة طويلة من الصمت، طوال طريق عودتهم، لتفاجأ به ينقض عليها قابضًا على ذراعها يهدر بوحشية اهتز لها جسدها من الخوف:
– انتي تخرصي خالص يا أمنية، عشان لولا نظرة الحيوان السافلة ده ليكي، مكنتش انا خرجت عن شعوري ولا حصلت الفضيحة دي على الشط، انا بقيت قدام الناس الظابط المفتري على خلق الله وانتي السبب، انتي السبب يا امنية.
ارتجفت بصدمة وعدم استيعاب، تترقرق بعينيها الدموع:
– انا يا عصام، طب ايه ذنبي؟ ما انا كنت معاك في البحر وهدومي حشمة عن اي واحدة هناك، انت نفسك معترضتش عليها.
صاح بها يدفعها بيده:
– عشان مكنتش واخد بالي، كل حاجة كانت في عيني تمام التمام لحد ما شوفت نظرته عليكي، والهدوم اللي لزقت من المية والهوا فصلت جسمك ، عقلي طار مني ، ان حد يبص لملكي ولا يلمسه انا ببقى عايز اصور قتيل
– يلمسه!
تمتمت بها بضعف تبتلغ الغصة التي مررت حلقها، لقد عرفت الاَن وتأكدت ان هجومه بهذه الشراسة على هذا الشاب، لم يكن سوى غضب مكبوت ينفس عنه، وقد رأى بهذا المتعوس صورة الفاسد سبب كل ما يحدث معها الاَن.
لتشيح بوجهه عنه، بل وتعطيه ظهرها، لتزرف الدموع بصمت ، مما زاد من جذوة غضبه ليهدر حاسمًا، احنا من النهاردة نلم هدومنا، انا كرهت القعدة هنا ومش قاعد فيها، جهزي نفسك.
صرخ بالاخيرة ليدلف نحو المرحاض يتركها تسقط على الفراش تندب حظها وتغرق في موجة من البكاء الحارق ، لماذا تعطيها الدنيا السعادة مغموسة بألاَم الماضي؟ لماذا لم يكن هو نصيبها من البداية؟ لماذ؟
❈-❈-❈
اصدر القاضي حكمه بما توفر لديه من اوراق وبراهين، هذا ما بيده وما يتم الحكم على اساسه، لا يعلم ان خلف حكمه تضيع في بعض الاحيان حقوق وتطمس على اثره حقائق، بفضل شياطين من الإنس تجيد تزوير الدلائل بل وقلبها ناحية المظلوم ، يعميها حب المال فتتخذ من المهنة دفاع لمن يدفع، وليس لمن يستحق.
هذا ما تم في الجلسة حينما قلب هذا المحامي الفاسد الموازين وجعل القضية لا تزيد عن خصومة وشجار ، فلا يوجد من يثبت حقيقة القتل قديما، ولا شهادة محققة عن الخطف، سوى كلام الخصم. وهذا ما لعب عليه بدقة متناهية ، ولكن مهما طال الزمن او قصر حق الله اَت لا محالة .
لتصدح اصوات الزغاريد وتعج القاعة بالصخب فور انتهاء الجلسة:
– مبروك يا ابراهيم، ربنا ظهر الحق يا قلب امك .
تفوهت بها سميرة تمسك بالسياج الحديدي للقفص المحبوس بداخله، وفمها هي وعدد من النساء والرجال من أقاربها والمعارف لا يكفون عن الصيحات بحيا العدل بحيا العدل
ليعقب اليها ابراهيم والذي صار يضحك بعدم سيطرة مع تهاني الرجال ومباركتهم له :
– الله يبارك فيكي ياما يا غالية، فينه ابويا يعرف ان الحق ظهر، وانه كان ظالمني، وربنا ما هفوتها له دي،
– يا خويا خلي قلبك ابيض، كفاية اهو نفعنا بفلوسه وخلاص، انت عايز ايه اكتر من كدة
قالتها سميرة بتباسط ليتدخل معها المحامي المغوار بزهو:
– اه يا ست سميرة، واديكي عرفتي ان الفلوس مترمتش في الارض ، طلعتلك ابنك براءة من حنك السبع ، عشان تعرفي اني قد الكلمة اللي باقوله.
تمتمت له هي بامتنان ليضيف عليها ابراهيم بفرح :
– ايوة انت عمنا وسيد الكل، انا مش هسيبك ابدا، مدام بتعرف تجيبها كدة.
سمع المذكور ، يزداد انتشاءًا بكلماته اما هو فغمغم بداخله:
– ومدام بقى ليا ضهر طول ما الفلوس موجودة، اعمل انا اللي على كيفي بقى،
❈-❈-❈
داخل الشرفة الواسعة، وقد كانت جالسة بالقرب منها تراقب اندماجها على جهاز اللوح اللاليكتروني، حيث كانت تحرك اصبعها على الشاشة، تحارب بالبطل الرئيسي في تلك اللعبة في محاوله منها لأن تهزم الاشرار، بعد ان تعلمتها من شقيقتها عائشة، والتي زاد تعلقها بها ، حتى تجعلها تصر على الذهاب اليها كالاطفال ، كما حدث منذ ايام حينما جعلت الدادة نبوية تهاتفها اثناء العمل وتطلب منها الذهاب معها ضروري الى عائشة بعدما نفذت طاقتها من الحاحها.
تنهدت بقنوط تربع ذراعيها مستسلمة لنسمات الهواء العليلة والتي كانت تطير حجابها كل لحظات وهي تحاول السيطرة عليه ، حتى وقعت عينيها في الأسفل،
نحو موكب السيارات التي توقفت امامها، وهو يترجل من احداهما، وابصاره في الأعلى نحوها، وكأنه يعرف انها في انتظاره، وقد تعودت عليه هذه الايام ، يأتي في ميعاد محدد بعد استلامها لنوبة عملها،
تلتقي عينيها به ، رغم محاولاتها الحثيثة للهروب منه، لا تريد الاستسلام لهذه المشاعر التي اصبحت تجتاحها بوجوده، لقد اغلقت على باب قلبها بمفتاح صديء منذ سنوات عديدة، منذ فسخ خطبتها بابن عمها الذي لم تعرف معه معنى الحب من الأساس، لا بل قبل ذلك، منذ مراهقتها ومشاعر الاعجاب العادية من الفتيات نحو الشباب ، ابدا لم تصل لهذه المرحلة ودقات القلب التي اصبحت تعزف الحانًا له هذه الايام،
لا يجب ولا يصح، ولكن لا تستطيع منع نفسها عن التفكير به، ولا عن افعاله التي تبدو مكشوفة في بغض الاحيان، مثلما حدث منذ يومين
حينما التسعت يدها من كوب الشاي الذي كانت تعده لتفسها في المطبخ، وانفلت من يدها ليقع على الرخامة ومنه ما وصل لظهر يدها، فصدح صوت صرخة منها كرد فعل طبيعي منها، في غياب العاملين في المطبخ بذهابهم لمنازلهم على موعد التاسعة.
وقبل ان تستقيم بجسدها جيدا وجدته امامها بلهفة يسألها:
– بهجة ايه اللي حصل؟ حرقتي نفسك ازاي بس؟
صدر سؤاله الاَخير بعدما انتبه لحرق يدها،
– الشاي، الشاي انكب عليا
تمتمت بها كإجابه ، فلم ينتظر ثانية بعدها، ، ليتناول يدها على الفور فيقربها نحو صنبور الماء ،
– ااه اه، خلاص خلاص، خلاص يا فندم.
رمقها بنظرة لن تنساها، ليظل ممسكا بها حتى هدأت قليلًا، ثم اغلق الصنبور، وتحرك بها ، ليجلسها على احد المقاعد المرتصة نحو الطاولة الصغيرة بالمطبخ، يخاطبها بحنو غريب عنه:
– معلش استحملي شوية.
اومات باستجابة رغم اتجاف يدها بالوجع، فذهب من جوارها، ليأتي لها ببعض الاسعافات بعد لحظات قليلة، يضعهم على الطاولة، ثم يجلس هو الاخر مقابلا لها، يجفلها بتناول يدها مرة اخرى دون استئذان، لتلجمها الدهشة عن الاستفسار، بعدما باشر في اسعاف يدها بتجفيفها من الماء برقة متناقية، يطمأنها بنبرته الدافئة، يشير على احدى علب العلاج:
– الكريم دا سحري ، انا جايبة معايا من رحلتي في السويد ، عايزك بس تتحملي الخطفة الاولى .
– يعني ايه؟
ما كانت تتفوه بها حتى باغتها بوضع كمية على موضع الحرق صرخت على اثرها، حتى كادت عيناها ان تدمع.
– اااه ااه اااه دا بيحرق ….. دا بيحرق اوي.
حاولت جذب يدها ولكنه تشبث بها يهادنها:
– معلش…. اتحملي هي ثواني بس يا بهجة.
امام اصرارها اضطرت ان تتحمل هذه الثواني، والتي لم تدوم كثيرا كما قال، وقد اصبح الالم يخف تدريجيا، حتى سكنت مقاومتها ، ليلاحقها بسؤاله:
– هدأ الالم دلوقتي صح ..
اومأت بهز رأسها دون ان تتمكن من الرد، فتابع بباقي الاسعافات ليلفها بالشاش الطبي بلطف مبالغ فيه، يبثها الامان بقوله:
– من هنا للصبح ان شاء الله مش هتحسي بأي حاجة، حمد لله ان حرق خفيف، وانتي اكيد حمولة يا بهجة ولا ايه؟
ابتعلت رمقها امام هذا القرب، والذي لم تشعر به سوى الاَن، يدها المحتجزة بين كفيه، رغم انتهائه من مهمته،
وهج بندقيتيه اللتان تحدقان بها ، بطريقة عجيبة تأسر من أمامها،
– ما هذا الذي يحدث؟
– وما ذلك الشيء الذي تتأثر به جميع حواسها حتى تشعر به داخل معدتها؟
لقد صار الوضع اكثر من تحملها ، لتحاول نزع يدها بخفة منه ، ولكنه ابى متابعًا حديثه:
– لو حاسة بألم حقيقي قولي متتكسفيش، مش معنى ان بشكرلك في العلاج يبقى لازم اكون انا على حق.
– لاا يا فندم، انت فعلا والله على حق،
رددت بها بارتباك، لتتمكن هذه المرة من نزعها منه مستطردة
– وانا لازم امشي دلوقتي…. اه
صدر تأوه منها مرة أخرى، لتتطلع له باستفسار اثار تسليته:
– الحركة العنيفة هي اللي خليتك تتألمي يا بهجة مش الكريم.
اطرقت بحرج، لتثبت يدها عن الحركة هذه المرة بحرص، فتابع موجهًا لها بالامر :
– هتروحي النهاردة مع عم علي من غير تقاش، هجيبلك في الطريق معاه شوية ادوية من الصيدلية ، تساهم اكتر في الشفا بإذن الله.
حينما ظلت صامتة اردف بتشديد:
– سمعتي انا بقولك ايه يا بهجة ولا نعيد تاني؟
اومأت بحرج متزايد ، تريد الهرب من سطوته ، تريد الافلات بقلبها من شيء لا تريده، نعم لا تريده،
❈-❈-❈
وفي ناحية اخرى
بعد عودته من العمل وسماعه الخبر المشؤوم، لم يطق الانتظار حتى موعده الرسمي ليقود سيارته ، ويأتي اليها على عجالة كي يطمئن عليها، ليتوقف الاَن على مدخل الغرفة ، يتهامس عن حالتها مع والدته:
– هي كدة على وضعها من ساعة ما سمعت الخبر؟..
ردت مجيدة بأسى:
– اه يا كبد امها، انا حاولت معاها، ولينا كمان في التليفون مسيبهاش كل شوية تتصل، حتى امين كمان وعدها انه هيفتح لها ملف القضية من تاني ومش هيسكت غير لما يرجعه السجن ابن امه ده، بس هي مفيش فايدة.
تمتم ردا لها بغيظ شديد:
– ابن ال…… كانت ناقصاه هي….. خلاص يا ماما روحي شوفي انتي ايه اللي وراكي.
ربتت مجيدة على كتفه بدعم ، ثم تركته يدلف الى زوجته، كي يهون عليها مصابها:
– شهد.
هتف مناديا بإسمها، ليجيرها على الإلتفاف اليه، ولكنها انتظرت للحظات حتى جففت دموعها قبل ان تلتف اليه برأسها، فوجدته سقط خلفها على الفراش، يضمها الى صدره مهونا:
– متخبيش عني دموعك يا حبيبتي، انا حاسس بوجعك
قالها ف انطلقت هي في موجة حارقة من البكاء وكأنها كانت في انتظاره:
لتردد بعد فترة من الشهقات المتتاليه:
– حق ابويا يا حسن، حق ابويا ضاع،
لتكمل بنشيج حارق قطع نياط قلبه، ولكنه استمر في طمأنتها:
– حق باباكي راجع غصب عن الكل يا شهد، صدقيني يا حبيبتي مهما طال الزمن او قصر، حقه راجع ، دا غير ان امين اكدلي انه حاطط الموضوع في دماغه، ومسيره يرجع الكلب دا السجن من تاني، هو والمحامي الفاسد بتاعه.
هدنت قليلًا لتتجاوب في الحديث معه؛
– فاسد ولا شريف، المهم انه قدر يخرجه من القضية ، ويضيع حق الميت ويحصرنا اخنا ولاده عليه، دا يرضي مين دا بس يا ربي؟ يعني اروح اشتري مسدس واخد تار ابويا بإيدي، ساعتها الحكومة هتسيبني بقى، ولا تفتكر تنفذ القانون عليا انا بس ، اللي بدور على حق المظلوم .
حاول ان يخفف عليها بدعاباته:
– مسدس ايه يا بس يا عم الخط، استهدي بالله يا روح قلبي وخلي تكالك على الخالق، دا لوحده القادر القهار،يعني ولا مية محامي هيقدر ينجيه من عقاب ربنا ، في الدنيا قبل الاخرى ان شاء الله ، خليكي واثقة في كدة، واللي ظهر حقيقته بعد كل السنين دي، اكيد يعني مش هيبقى صعب عليه يجازيه بعمله
– ونعم بالله ونعم بالله .
صارت تردد بها وهي تندس بحضن زوجها، تنشد الراحة، لقلب احترق بنيران الظلم التي تنادي بالانتقام.
❈-❈-❈
– عائشة عائشة
– يا دي النيلة عليا.
تمتمت بالكلمات بهجة ، خلف الاخرى والتي تصر عليها الاَن الذهاب الى شقيقتها، لتحاول معها لاقناعها:
– بكرة ان شاء الله هاخدك ليها بس النهاردة ……
– عائشة عائشة.
قاطعتها تردد بنفس الاسم ، في رسالة واضحة لعدم التقيل، لتزفر بهجة بيأس ضاربة بقدمها على الارض:
– طب احلها ازاي دي بس وانتي مش قابلة حتى تسمعي.
– ايه اللي حصل يا بهجة؟ ومالك ومتعصبة كدة ليه؟
شهقت ملتفة عنه بحرج، فور ان انتبهت لحضوره، كيف يأتي في هذه الاوقات الحرجة لها
– يا مصيبتي.
لاحت ابتسامة عابثة على شفتيه لهيئتها تلك ، ليلملمها سريعًا في استجداء الجدية:
– بهجة انا بكلمك على فكرة مينفعش تديني ضهرك.
اغمضت عينيها لتعود اليه بوجهها الذي اصبح كتلة مخضبة بالإحمرار،:
– انا اسفة يا فندم، عشان بصراحة مقدرش اخدها النهاردة اصل معزومة على حنة .
– حنة مين؟
سألها بفضول اثار دهشتها ولكنها تغاضت تجيبه:
– ابن عمتي شادي، اللي شوفته قبل كدة في الخناقة، خطيبته عزمتني احضر معاها الحنة انا واخواتي.
وعلى عكس ما توقعت ، جاء رده بعد فترة قصيرة من التفكير :
– بس انتي عارفاها مدام اصرت يبقى انسي تشيل من دماغها ولا نوقف، ايه رأيك حتى لو نص ساعة تشوف الجو الجديد،، وبعدها تروح مع عم علي….. او…… ممكن اعدي انا بنفسي واخدها، هبقى اتصل بيكي توصفيلي المكان
لماذا تشعر ان خلف اقتراحه يوجد شيئًا ما من اللؤم.؟ ولكن ماذا بيدها؟
القت بنظرها نحو نجوان التي زاد الاصرار ملامحها، لتتنهد بيأس:
– ماشي يا فندم
❈-❈-❈
خرجت دورية من غرفتها بعدما تجهزت وتزينت من اجل حضور الحفل، لتفاجأ بدخول ابنتها المنزل عائدة من الخارج، بهيئة صاخبة اثارت استهجانها لتتسائل مقيمة لها من اعلى الى اسفل:..
– ايه يا بت د؟ روحتي هيبتي دا كله فين؟ وامتى لحقتى؟
اجابتها بثقة وهي تتلاعب قي خصلات شعرها.
– لحقت وعملت بسرعة ياما ، عشان كنت حاجزة من امبارح ومجهزة نفسي، بصي بقى على هيئتي كويس اجنن صح، بصراحة انا قاصدة، عايزة ابقى احلى واحدة في الحنة النهاردة، حتى العروسة.
التوى ثغر دورية بضيق عبرت:
– ولما في الحنة وعاملة كدة، امال في الدخلة هتعملي ايه؟ اتحركي يا سامية خلينا نخرج في ليلتك المهببة دي، مقطعة نفسك على حاجة مفيش منها فايدة، زبك زي اخواتك….
قالتها وتحركت تسبقها الى باب الخروج، لتتمتم هي في اثرها:
– واش عرفك انه مفيش منه فايدة، مش يمكن يحصل ولا يتم المراد حتى بعد ما يتجوز، واديني بتسلى، هو انا هخسر ايه يعني؟
❈-❈-❈
عقب مغادرة الاثنتان دورية وابنتها، أتت سيارة العم علي تتوقف امام المبنى، وقد اصبح اهل المنطقة يعتادو عليها بمعرفة ان بهجة تعمل مع صاحبتها، والتي ترجلت بفرحة تغمرها تتلقى استقبال عائشة التي كانت في انتظارهم:
– نوجة صاحبتييي.
تم اللقاء بعناق حار اجبر بهجة للتوقف امام مشهدهم، ان كان فرح شقيقتها بلقاء المرأة التي تسبقها في العمر اضعاف، نابعًا من براءة طفولتها او يمكن تذكرها بحنو الولدة التي لم تراها من الأساس، نظرا لموتها في ولادتها.
فن فرحة نجوان فهي ما تثير الدهشة بحق، هل ترى فيها بالنصف عقل المتبقي لها صديقة تشاطرها اهتمامها، ام هي الأخرى تجد بها تعويضًا عن كل ما تفتقده من حب، بعد رحيل زوجها وهوسها بعشقه، كما عرفت
– براحة، براحة شوية يا شوشو الست مش حملك
جاء التعقيب لصاحب الصوت المعروف من خلفهم، ليجبرهم على الالتفات اليه، وقد اكتملت مرحلة زرع الشعر لتعطيه الثقة الاَن في الحديث امامها، تلك الفاتنة ذات السلاسل الذهبية والتي كانت تتطلع اليه الاَن بنظرات فسرها بداخله ، انها اعجاب بهيئته الجديدة، وقد ابتاع ايضا ملابس عصرية الى حد ما، لتناسب السن وطبيعة الجسد المتكور:
– عاملة ايه يا هانم؟ يارب تكوني بخير، انتي شكلك خلاص بقيتي من اهل المنطقة.
بالطبع لم يجد ردا منها، وقد اعتلت الدهشة تعابيرها، لتزفر بهجة بنزق لهذا المشهد الذي اصبح يتكرر معهما منه، فتسحبها من يدها وتتحرك بها قائلة له بمودة زائفة وكلمات مقصودة::
– للمرة المية هقولهالك يا عمي، نجوان هانم مبتسلمش على حد .
اعترض يدب قدميه على الارض امامها؛
– وهو انتي بتديها فرصة اساسًا، ما كل مرة بتسحبيها بمجرد ما اقرب ارحب بيها ، مش كدة يا بنتي الله،
مالت رأسها نحوها باستهجان ناظرة له، متمتمة له بابتسامة صفراء:
– فرصة ايه يا عمي بس؟ ما قولتلك ترحيبك وصلها، هي كدة مبتحبش الرغي من اساسه، عن اذنك.
جذبتها من امامه تسرع بخطواتها نحو منزلهم، فتوقفت عائشة مزبهلة بالنظر الى الجديد به، لتسأله بفضول:
– عمي هو انت حاطط باروكة فوق الصلعة؟
انتفخ صدره ليجيبها بزهو:
– لا طبعا مش باروكة ولا كلام فارغ، انا زرعت !
– زرعت!
– ايوة زرعت شعري، مسمعتيش انتي عن زرع الشعر؟
تبسمت بشقاوة تتطلع اليه لعدة لحظات ، لتنطق اخيرا:
– طب حاول بقى تسقيها كويس وتراعيها لتنشف ويقع منها شعرك من تاني.
ختمت بضحكة تهرول من امامه، لينتفض هو يلمس على الجزء المزروع متمتمًا برعب حقيقي من حدوث ذلك بعد دفعه للمبلغ الضخم في سبيله
– يوقع في عينك بنت قليلة الادب ، قال يوقع قال، وجع بطنك.
❈-❈-❈
وفي شقة العروس
وقد اجتمعت النساء من اهلها الذين أتو من الصعيد والجيران والمعارف هنا لحضور الحناء