رواية وريث ال نصران الفصل العشرون 20 بقلم فاطمه عبد المنعم

 


رواية وريث ال نصران الفصل العشرون

الفصل العشرون (يحتضن كفها)
بسم الله الرحمن الرحيم

كُف عن الدمعِ قلبِ المُعذب... أتظنه يُجدي؟
والله لا يُجدي
إن الهوى الذنب و أنت فاعله
و رحل من نهوى و تركنا نبكي
ربما تلاقينا... و ربما لم نحكِ
لكنه فَلَ و تركنا نهوَى
يا ليتنا سمعنا من صادقٍ قال:
”إنَّ الهوَى ذنبٌ، والحب لَا يُجدي. “

درجة الحرارة منخفضة ولكن البرودة في مكتب "نصران" كانت الضعفين، برودة الأجواء، وبرودة الموقف... حيث دخل "عيسى" على جملة والده الأخيرة ل "سهام" حين قال:
"عيسى نصران"... كبير قرية نصران.
تصنع عدم سماعه لقول والده، ونقل نظراته بينهما حين سأل:
في حاجة يا بابا؟... أنا سمعت صوت زعيق فدخلت من غير ما اخبط معلش.

_خليك يا " عيسى"، و اقفل الباب.
قالها "نصران" بحزم، فنفذ ابنه طلبه حيث أغلق الباب وعاد إلى حيث يقف والده و "سهام"

اقترب "نصران" من "سهام" قائلا بعتاب:
أنا سمعتك الجملة اللي أنتِ خايفة تسمعيها، لكن متقلقيش أنا مش هغلط غلطة أبويا يا "سهام" وأخلي واحد الكبير وشايل كل حاجة، والباقي كل واحد منهم في وادي... أبويا لما عمل كده زمان و خلى أخويا هو الكبير من بعده، كل واحد فينا اتلهى وأخويا هو اللي شال الحمل لوحده، ولما جه ربنا استرد أمانته ولقيتني الكبير مكانه عرفت قد إيه الحمل ده تقيل أوي ومش لازم واحد بس اللي يشيله والباقي يبقى كل واحد منهم في ملكوت.

رفعت رأسها بكبرياء تعترض على قول زوجها، وهي تربت على كتف "عيسى":
"عيسى" في نفس غلاوة "فريد" و "طاهر" و "حسن"
و مش هزعل أبدا لو بقى كبير البلد دي.

أنزل "عيسى" كفها الموضوع على كتفه، نظرت ل "نصران" تبتسم بسخرية على الفعل الذي صدر توا من ابنه، و بعينها نظرة تحمل رسالة هل ترى كم لا يرغب بي؟

رمق "نصران" ابنه بنظرة غاضبة لم يهتم بها، فتحرك ناحية "سهام" يقول وقد لانت نبرته:
عيلة "نصران" يا "سهام" هما اللي بيحموا الأرض دي، مش مهم مين الكبير و مين لا، المهم القرية تفضل محمية، الفلاحين يبقوا بيدعوا لينا كل ليلة، و المظلوم يتنصف... الحاجات دي أهم بكتير أوي.
ربت على كتفها متابعا بنفس رفقه:
و زي ما قولتلك محدش هيشيل الحمل لوحده، بدل ما هيقولوا "عيسى نصران" كبير البلد... هيقولوا "عيسى" و أخواته هما اللي شايلين البلد... اخواته في ضهره.

حديث دبلوماسي، يخبرها بأن أبنائه جميعا سيقفو صفا واحدا لحماية هذه القرية التي ينتمون لها، ثم يتبعها بقوله (اخواته في ضهره) ، إن "عيسى" يتسلم كل شيء تدريجيا، و"نصران" سيسير على نهج والده و يسلم أبنائه العمل في حياته وهذه النقطة تطمئنها فوجوده بجانبها يعني سيادتها وأمانها أما حديثه الآن لم يطمئنها سوى في نقطة واحدة، وهي دور ابنها البارز... ستظل متواجدة مهما حدث

ارتسمت ابتسامة حانية على وجهها وهي تلتقط كف "نصران" قائلة:
المهم متكونش زعلان مني... أنا أسفة على اللي حصل امبارح، و زعلانة من اللي حصل على الفطار.
كانت تقصد إحراجه لها، وبعينيها نظرة حزينة لذا قبل رأسها قائلا:
متزعليش.

استدارت إلى "عيسى" تربت على كفه ناطقة:
يا ريت يا "عيسى" متكونش فهمت أي حاجة من الكلام غلط... أنت عارف غلاوتك عندي يا حبيبي.

لم يستطع "عيسى" منع ضحكته الهازئة، و قد تداركها بفعلته حين أزال يدها واقترب من رأسها يقبلها فاعلا مثل فعلة والده وهو يقول لها جملة دب معناها الخفي الخوف في أوصالها:
متقلقيش... اللي تخاف منه مبيجيش الأحسن منه.

رضى "نصران" تصرف "عيسى" هذا، فبعد أن أنزل يدها في أول الجلسة، تدارك خطأه وقبل رأسها الآن، ابتسم راضيا، وطلب من "سهام" برجاء:
سيبيني بقى مع "عيسى"، وعايزك تعملي فنجانين قهوة، بس تعمليها أنتِ مش " تيسير".

قالت بحزم وهي تغادر الغرفة، ذاكرة تعليمات الطبيب، و محاولة نسيان ما قاله "عيسى" منذ ثوان:
قهوة لا يا "نصران"، هجبلك عصير و ده قرار.
قالت جملتها الأخيرة ضاحكة و هي تغلق الباب خلفها، أما " عيسى" فاتجه إلى البراد يخرج زجاجة باردة من مشروبه المفضل ولكنه قطع فعله سماع سؤال والده الصريح:
مبتحبش "سهام" ليه يا "عيسى"؟

كان مائلا على البراد الصغير ولكنه استدار لوالده مردفا:
أول مره تسألني سؤال زي ده.

_اخرج هنتمشى في الأرض و اسألك و تسألني براحتنا.
أخبره بها " نصران" وعيناه تخترقه، فأدرك "عيسى" إصراره على الحديث لذا وافق، وتحرك مغادرا معه إلى أراضيهم المجاورة، جولة بين الأوراق الخضراء والهواء الطلق، ولكنها بالتأكيد مليئة بالكثير

مرت دقائق وصارا في الأرض المجاورة للمنزل، رفع "عيسى" طاقية سترته على رأسه بسبب هجوم الهواء الشرس اليوم أما والده فكانت عباءته كافية لتقليل حدة برودة الأجواء.
أعاد السؤال على ابنه الذي ينظر المزروعات قائلا:
قولتي بقى مبتحبهاش ليه؟

_لا أنا قولت إنك أول مرة تسألني سؤال زي ده.
كان هذا جواب "عيسى" الذي رافقه ابتسامة ذات مغزى.

أخبره "نصران" بجدية بانت على تقاسيمه قبل حديثه:
علشان كنت بقول عيل صغير، زعلان على موت أمه، و شايف سهام بعد ما كانت مجرد مرات أبوه، اتفرضت عليه وبقت أمه.
لم يحب هذه الأيام أبدا، هذه المعاناة حيث صار "عيسى" بعد وفاة والدته صامتا لا يتحدث، ذلك الشرود، وهذا الصمت اللعين قد خيما على ابنه و لم ينجح معه أي شيء، أصبح شديد الرفض لوجود "سهام"، والبكاء ملازم له في الليل والنهار حتى عرضت خالته التي كانت تعيش مع زوجها في القاهرة، ولم تُرزق بأبناء أن يبقى معها، كانت أمنيتهم أن تتحسن حالته وربما مكان آخر غير داره يساعد في ذلك، ونجح الأمر بالفعل فبعد فترة ليست قصيرة انقطع شروده الدائم وأصبح أقل، وبعد فترة اخرى تحدث للمرة الأولى من بعد وفاة والدته، استقرت حياته في منزل خالته، وانتقلت دراسته أيضا إلى هناك، أصبح أي حديث من والده يطلب فيه عودته يقابل بالرفض والاعتراض والانهيار أحيانا، لذا طلبت شقيقة أمه من والده راجية أن يتركه هنا... فتركه وأصبح يزوره بصورة دائمة، حتى استطاع للمرة الأولى من بعد وفاة والدته إقناعه بأن يأتي معه ليرى اخوته مع وعد بأن يعود لمنزل خالته مجددا، يستطيع الآن سماع صوت ابنه الصغير والذي بمجرد أن خطا قدمه داخل المنزل، واقتربت " سهام" منه مرحبة نطق:
أنا عايز أرجع عند خالتو.

ردعه "نصران"، وحاولت " سهام" تدليله، ومراضاته بكافة الطرق ولكنه رفض كل شيء بل وحاول العودة إلى منزل خالته وحيدا لذا خضع "نصران" في النهاية حين لم ينجح مع ابنه أي شيء، فأعاده إلى خالته ثانيا.

فر "نصران" من هذا الكم الهائل من الذكريات الذي داهمه وعاد يقول وهو يتأمل شجرة ما:
لكن أنت كبرت دلوقتي، و نفورك منها ده مخليني شاكك ومش من دلوقتي على فكرة من كذا سنة... إن في حاجة هي اللي مخلياك كده.

رفع "عيسى" كتفيه وقد استدار لوالده يخبره بهدوء:
مفيش حاجة تخليني ما احبهاش يا بابا، هي مراتك قبل ما تكون أم اخواتي، و ما أظنش إني بتعامل معاها أصلا علشان تقول إني مبحبهاش.

ثارت ثورة والده فتحدث منفعلا وقد توقف عن السير:
وبالنسبة للبيت اللي حتى بعد ما كبرت كنت بتيجي ليه زيارات، وكنت لما بتلاقيها موجودة بتمشي في نفس اليوم، لو راحت باتت في البيت التاني بتبات... بالنسبة لإنك أول ما كملت ال ٢٢ سنة وجيتلك لحد عندك وقولتلك ترجع قولت لا يا بابا، أنا جالي شغل في شرم الشيخ وهروح هناك... دفعه "نصران" في حركة مفاجئة فتراجع للخلف على إثرها مصدوما وهو يسمع والده يتابع في حديثه المنفعل:
اعمل يا "عيسى" كذا، لا أنا بحب كذا.... جبتلك يا "عيسى" عروسة قابلها، لا أنا مبفكرش في الجواز.... تعالى يا "عيسى" جنبي محتاجك، لا أنا بحب العربيات وعايز أكبر شغلي فيها لحد ما اوصل لحاجة معينة.... كام لا سمعتها منك، تحب أعدهملك ولا أنت عارف إنهم ميتعدوش من كترهم.... كنت بتيجي البيت زيارات زيك زي الغريب، أخوك من كتر ما كنت بتوحشه كان بيسافرلك مع إنه مبيرتاحش غير في بيته.... جيت بعد ما أخوك اتوفى وقولت خلاص هيقعد، ألاقيك جاي بتقولي على الفطار أنا رايح القاهرة أسبوع، وطبعا أسبوع يجر التاني يجر شهر يجر سنة.... مش كده يا "عيسى"؟

لمعت عيناه بدموع أبت النزول وهو يدفع كل هذه التهم عنه:
لا مش كده... كل واحد بيشوف الأمور بالحقيقة اللي عاشها هو،
عارف أنا ممكن أرد على كل اللي قولته ده بإيه؟
إن بعدي ده كان علشانكم أنتوا... هتقولي محدش جبرك تبعد، كلنا كنا عايزينك موجود، هقولك إن مش كل الأسباب بتتقال.... شغلي اللي بتحاسبني عليه ده انا سايبه فوق الشهرين معرفش عنه حاجة، أنا وعدتك بعد وفاة " فريد" إني هفضل هنا، و أنا عمري ما بخلف وعدي... أنا رايح أسبوع أخلص شغلي هناك و راجع مش هقعد شهر ولا سنة زي ما قولت من شوية يا بابا.

أتى "نصران" ليربت على كتفه، وقد شعر أن حديثه كان خناجر تطعن جسد ابنه... سمعه يقول:
قولتها و بقولها تاني "سهام" أم اخواتي و مراتك، معنديش مشكلة معاها، بس في نفس الوقت المعاملة اللي أنت عايزني أعاملها بيها أنا مقدرش أعامل بيها ست غير أمي، و دي الله يرحمها... أنا اسف لو شايفني مقصر في حقك، وعايزك تعرف إني هفضل هنا زي ما وعدتك، ومفيش حاجة هتعطلني سواء شغل أو غيره.

احتضنه "نصران"، كان بالفعل يحتاج لهذا كثيرا، يحتاج إلى الصراخ ليخبر العالم بأكمله وليس والده فقط أنه يحمل الكثير، والأهم أن يشرح لوالده أنه لا يهرب إلى العمل بل إن عمله يحتاجه بالفعل لذا سيغادر هذه المدة القصيرة.
ربت " نصران" على ظهره مطمئننا:
أنا مش زعلان منك، أنا أكتر واحد في الدنيا بيخاف عليك أنت واخواتك.

ابتسم وهو يخبره بثقة:
أنا مش عايزك تخاف عليا، أنا عايزك تطمن ...
كل حاجة هتبقى كويسة.

رؤيته فقط تطمئن والده، وحديثه يزيده اطمئنان، ولكن ذلك الشيء الكامن في عينيه، السر الذي يشعر أنه يختبئ داخل فؤاد ابنه، هو أكثر ما يؤرقه... وسيظل هكذا حتى تتأكد ظنونه بوجود شيء ما أو تتبدد للأبد.

★***★***★***★***★***★***★***★

إنها كرة القدم، هذه اللعبة التي تجذب عقول الشباب منذ زمن بعيد، وقف "حسن" يلعب الكرة مع مجموعة من الشباب في أحد الطرق، مر من هنا ووجدهم يلعبوا فشاركهم في ذلك، توقفوا عن اللعب حين لمحوا الفتيات التي خرجت من درسها للتو، تنحوا جانبا حتى يمرن، كانت لا تسير معهن، تسير وحدها فهي لا تعرف واحدة منهن، غادرن الفتيات و عاد الشباب لممارسة اللعب من جديد، ولكنه تركهم... ناداه أحدهم:
يا "حسن" يلا نكمل الماتش.

أشاح لهم بذراعه قائلا:
كملوا أنتوا.
كان يتصبب عرقا إثر الهرولة، وقف يستريح دقيقة ثم تبع هذه التي تسير وحيدة، كان يسير خلفها حتى تأكد من اختفاء الفتيات الخارجة من الدرس من حولها فناداها:
مريم.

لم تستدر في المرة الأولى ولكن حين كرر النداء استدارت بغيظ لتجده فنطقت بدهشة:
حسن!

_ايه الخضة دي كلها... اه "حسن".
قالها ضاحكا ثم تبع ذلك بسؤاله:
ماشية لوحدك ليه؟

أخبرته وهي تعدل من كتبها:
معرفش حد منهم أوي، واللي اعرفهم بيتهم مش من الطريق ده، مش قادرة أتأقلم معاهم.

أخبرها بابتسامة وعيناه لا تفارقها:
أنتِ متتأقلميش مع حد، هما اللي يتأقلموا معاكِ غصب عنهم.

ابتسمت وقد رفعت حاجبها الأيسر محذرة:
متندهش عليا في الشارع تاني يا " حسن".
رحلت بعد قولها فهرول خلفها يسألها:
طب و لو ندهت؟

لم تتوقف عن السير بل أخبرته:
مش هرد عليك يا "حسن".

أصبح جوارها فحاول ملاحقة خطواتها وهو يقول:
دي أحلى " حسن" أنا سمعتها في حياتي.

_ولو طولت أكتر من كده هتبقى أخر "حسن" تسمعها في حياتك.
قالتها محذرة، فطلب منها راجيا:
اقفي طيب مش عارف أكلمك.

وقفت تطالعه بغيظ فقال ضاحكا:
أنا مبسوط إني شوفتك النهاردة.

_حاجة تاني؟
سألته بضجر فقال:
ايه مش هتقوليلي أي حاجة ؟

أجابت سؤاله إجابة لم ترضه أبدا:
لا مش قايلة.
تحركت مغادرة و تركته في الخلف، أغمضت عينيها لا تستطيع التحكم تريد القول ولا تريد أيضا ولكنها خضعت في النهاية لقلبها واستدارت تقول له بسرعة مبتسمة بخجل:
أنا كمان مبسوطة.

قالتها و لم تنتظر أمام ضحكته الغير مصدقة بل فرت هاربة، هاربة إلى حيث منزلها، وقلبها يدق بسرعة شديدة.... دقات كالطبول لا تدل سوى عن شيء واحد بالنسبة لها....ارتباكها الذي امتزج بفرح و شعور غريب، شعور أدركت أنها تشعر به للمرة الأولى الآن.

★***★***★***★***★***★***★***★
إن الألم كبير و معاناة أن تُجبر أكبر، سحبها والدها من ذراعها وأخرجها من سيارة "جابر"، لم ينتظر " جابر" أن يعرض عليه "مهدي" الدخول بل تبعه بنفسه إلى الداخل، فلقد شعر أن هناك شيء ما، بمجرد دخولهم جذبتها والدتها تقول بغضب:
بقى بتسيبي البيت و تطفشي، بتقلدي بنت "هادية" يا روح أمك... هتتجوزيه الأسبوع الجاي يا "علا".
قالت كلماتها الأخيرة صافعة إياها بعنف أمام هذا الغريب، لذا نطق "مهدي" محذرا:
كوثر.
انتبهت لوجود "جابر" وسمعت زوجها يقول:
خدي "علا" واطلعي فوق، واعمليلنا الشاي.

جذبتها من ذراعها ليصعدا إلى أعلى ولكنها أخذت تقاوم بشراسة وهي تصيح:
أنا مش هتجوز واحد مش عايزاه، أنتوا لو عملتوا كده هروح لنصران وعياله أقوله إن "شاكر" هو اللي قتل وأنتوا مخبيينه.
تابعت بغل:
مش علشان تخبوا ابنكم تلبسوني أنا في أي حد.

وكأن أحدهم اقتلع خصلاتها التي جذبتها والدتها منهم تجرها نحو الأعلى، بينما التفت "مهدي" ينظر للواقف في الخلف فوجد "جابر" يخبره ضاحكا ولكن الضحكة حملت الكثير:
لا متقلقش أنا من أهل البيت.

أحد آخر عرف بفعلة ابنه، ظهور "شاكر" الآن أصبح خطر، خطر يحوم حولهم، وهم ينظروا ولكن نظرهم
في الاتجاه الخاطئ.

★***★***★***★***★***★***★***★

السوق هنا يختلف عن سوق قريتهم، لا تعلم أي من هؤلاء الباعة تختار، ولكن "شهد" حسمت أمرها في النهاية واتجهت نحو إحدى البائعات تسأل:
بكام البطاطس يا حاجة ؟

_الكيلو ونص بعشرة
قالتها البائعة لها، وهي تتفحصها من أعلى لأسفل فالمرة الأولى ترى هذه الفتاة هنا.
لم تكمل تأملها بسبب النبرة العالية التي صدرت منها:
كيلو ونص ايه اللي بعشرة يا حاجة،
دي البطاطس من رخصها ناقص يوزعوها ببلاش.

فتحت شنطة بلاستيكية وبدأت في اختيار ثمار البطاطس متابعة:
الاتنين ونص بعشرة أنا كنت بجبها كده من السوق عندنا.

اعترضت البائعة ناطقة:
هو أنتِ هتنقي كمان!

تركت "شهد" الكيس ورفعت كفيها تقول بضجر:
وما انقيش ليه، معنديش ايدين؟

لم تكمل حديثها مع البائعة حيث توقفت سيارة جوارها، استدارت فوجدت الزجاج ينزل لتظهر من خلفه "فريدة" زوجة "طاهر" السابقة.
_اركبي.
قالتها "فريدة" بهدوء وهي تعدل من خصلاتها، فرفعت "شهد" حاجبها تسألها باستهزاء:
وده من إيه ده إن شاء الله؟

ابتسمت "فريدة" باصفرار قبل أن تقول:
عايزة اتكلم معاكي، اركبي هنروح مكان نتكلم فيه.

ابتسمت "شهد" بنفس طريقتها ومالت لها تردف:
وأنا مش عايزة أتكلم معاكِ يا عيوني.

ضحكت "فريدة" وهي تسألها بسخرية:
ليه ماما قالتلك متتكلميش مع حد في الشارع أحسن يخطفك، ولا أنتِ بتخافي تروحي حتة من غير ما تاخدي الإذن؟

كانت البائعة تتابع ما يحدث باهتمام من بعيد ولم تستطع كتم ضحكة خرجت منها حين قالت "شهد":
لا قالتلي متركبيش مع المهزقين.

كانت تنتظر رحيلها بعد جملتها الأخيرة ولكنها سمعتها تقول:
لا واضح التربية.

زفرت " شهد" بضيق و قد قالت بغيظ:
اللهم طولك يا روح ، الخناقة المرة اللي فاتت كانت قدام المحل ومش متشافة، لكن هنا البلد كلها هتتفرج عليكِ.

قالت "فريدة" هذه المرة بجدية محددة ما أرادته:
وأنا مش جاية أتخانق معاكي، اركبي كلمتين وهنزلك.

فتحت لها باب السيارة المجاور، فنظرت "شهد" بتردد قبل أن تستدير للبائعة قائلة:
عشر دقايق وراجعة يا حاجة.

ركبت جوارها فأغلقت "فريدة" زجاج سيارتها حيث لن يراهم من بالخارج، ابتعدت بالسيارة عن السوق، لتصبح في أحد الأركان المجاورة و الشبه هادئة، هنا أوقفت سيارتها.

مطت "شهد" شفتيها بملل وهي تريح ظهرها على المقعد منتظرة الحديث، دقيقة ثم قالت "فريدة":
أنتِ و " طاهر" على علاقة ببعض؟
لم يأت حديثها هذا من فراغ بل من معرفتها أن "شهد" هي الفتاة التي تواجدت معه في السيارة يوم أن لغى مقابلته معها، ثم أمس حين هاتفت "سهام" تطلب العون منها، ووجدتها تحذرها من الفتاة ذاتها.

عدلت "شهد" من وضعية رابطة الشعر التي تربط بها خصلاتها وهي تخبرها بنبرة مثيرة للغيظ:
هو مش قالك مرة وأنتِ عندنا لما عملتي النمرة الرخيصة اللي عملتيها إنه ملهوش علاقة بيا وكدبتيه،
بقى معقول هتكدبيه وهتصدقيني أنا!
سألتها ضاحكة:
هو حد قالك إني ملاك... كلامي كله صدق؟

إنها بارعة، بارعة حقا في تمثيل البكاء وهي تقول:
عمرك سألتي نفسك أنا و "طاهر" اتطلقنا ليه؟

أجابتها "شهد" بعدم اهتمام:
ميهمنيش أعرف أصلا.

واصلت "فريدة" الحديث وكأنها لم تسمع قول "شهد" المتجاهل، واصلته بدموع متأثرة:
"طاهر" عنده بريق بيخطف، أول ما عرفته كانت كل تفصيلة بيعملها بتقول إنه gentle و مميز... ده غير طبعا إنه handsome ، وصعب جدا أي ست تشوفه ميخطفهاش.... كل تصرف بيعمله بيخليكِ تنسي أي حاجة في الدنيا و تفتكري بس إنك معاه

جذبها الحديث رغما عنها فهي تسرد صفاته المميزة و أفعاله التي جعلتها تتعلق به، هذه هي الأشياء نفسها التي لاحظتها "شهد" و لكنها لا تدرى مغزى هذا الحديث
استطردت "فريدة":
بعدها اتجوزنا، كان جواز بسبب إن كل واحد فينا ظروفه مناسبة للتاني، هو عنده ابن كل حياته ومحتاجله دادة في صورة زوجة ليه، هو كان بالنسبالي زوج مثالي، وكمان كنت معجبة بيه... بعد الجواز حبيته، بقيت بحبه لدرجة إني ممكن أعمل أي حاجة علشانه، لكن فجأة ظهرت المشاكل متخيلة إنه كان عايزني ألغي بنتي من حياتي علشان إبنه

اتسعت حدقتي " شهد" وتابعت فريدة:
بقى كل يوم يسمعني كلام زي الزفت، و يزعق لبنتي، بيزعق لطفلة لمجرد إنه مش حابب وجودها، وبقى موقف جوازنا على إني أرمي بنتي لأي حد من قرايبي وأبقى ليه لوحده، خناقات وضرب و إهانة... ولما جيت اشتكيله إني مش مستحملة كل ده طلقني ولا كأن كان فيه عشرة بيننا.

رفعت "فريدة" كفها تمسح دموعها وهي تقول:
بعد الطلاق حاولت أستقر بعيد عنه، لكن مقدرتش أنا بحبه، وبحبه أوي كمان، اتفقت مع عمتي هتاخد البنت عندها فترة لحد ما اقدر اقنعه انها تفضل معايا وإني هعمل كل اللي يرضيه، بس لاقيتك ظهرتي في الصورة... أنا رغم كل حاجة مستحملاه وبحبه، "شهد" أنا فيه علامات من ضرب طاهر ليا لسه لحد دلوقتي معلمة في جسمي مراحتش.

شعرت "شهد" بانقباض فؤادها، و "فريدة" تكشف عن ساعدها لتريها ناطقة بدموع:
بصي.... وبعد كل ده هو وعيلته تاهميني إن أنا اللي كنت وحشة وظالمة مع ابنه، ومكنتش برعاه، أنا بحبه أوي رغم كل اللي عمله.

شعرت بالاشمئزاز، والخوف وكأن "فريدة" تتحدث عن شخص اخر غير الذي قابلته وعرفته، غير ذلك الذي ساندها ووقف ينتظرها أمام جامعتها لذا قالت:
"طاهر" أنا مليش علاقة بيه، ولو اللي أنتِ بتحكيه ده صح، فابقي دوري كده وشوفي كرامتك دي أنتِ لاقياها على الرصيف ببلاش ولا إيه.

قالت اخر كلماتها ل "فريدة" وهي تستعد للنزول من السيارة:
ترجعيله أو لا...مليش علاقة ، لكن ابقى افتكري وأنتِ بترمي بنتك علشان ترضي واحد، إنها هيجي اليوم وترميكي وهتبقي ساعتها تستاهلي الرمي.

نزلت من السيارة، وسارت بعقل يعنفها على حزنها الآن، هي لم تحبه من الأساس لما الحزن، كان مجرد اهتمام لا أكثر...أما "فريدة" فابتسمت بخبث وهي تدير عجلة القيادة لترحل من هنا وقد أتمت ما أرادته.

★***★***★***★***★***★***★***★

إن برودة الليل تختلف، فلقد أعطاها الظلام بريقا يخصه وحده، جلسن في المحل وقد أشعلت هادية بعض الأخشاب أمام الدكان لجلب الدفء، جلست "مريم" تدون في كتابها حيث نزلت لتذاكر هنا بعد أن نامت شقيقتها "شهد"، أما " ملك" فقالت وهي تمسك بكوب من مشروب الكاكاو الساخن:
ماما أنا هنزل الكلية، في حاجات عايزة أسأل عليها هناك... عايزة أكمل اللي سيبته واقف.

استدارت لها "هادية" وقد انصرف أحد الزبائن للتو... ارتسمت ضحكة على وجهها وهي تقول:
انزلي طبعا، اخرجي من اللي أنتِ فيه ده بقى علشان خاطري.

ابتسمت وهي تهز رأسها موافقة، سمعن رنين هاتف "مريم" والتي انكمش حاجبيها وهي ترى المتصل وقالت:
ده رقم معرفهوش.

هزت "ملك" رأسها بلا اهتمام وهي تقول:
سيبك منه.

طلبت منهم "هادية" وهي تتثائب:
طب يلا نطلع بقى لأحسن أنا بردانه أوي، وعايزة أنام خلاص.

تبع إكمال جملتها قول "مريم" وهي ترى رسالة من نفس الرقم:
ردي يا "ملك" أنا تقى... ده رقم بابا.

بعد أن قالتها مريم تابعت:
دي تقى اللي كنتي بتروحي أنتِ وهي الكلية سوا.

أخذت "هادية" الهاتف من يد "مريم" وأعطته ل "ملك" قائلة:
طب التليفون اهو، رني عليها بقى ولا ردي عليها...
ولما تخلصي اقفلي المحل واطلعي، أنا واختك هنطلع.

هزت رأسها موافقة، وهي تحاول الاتصال مجددا بصديقتها، لم يفلح الأمر، غادرت والدتها وشقيقتها، فحاولت سريعا الاتصال مجددا حتى تلحق بهما، لم تعرف أيضا، اختفت الإشارة تماما، خرجت والتقطت المفاتيح لتغلق المحل، بعد أن أغلقت و اتجهت إلى مدخل المنزل، سمعت الهاتف يرن لذا خرجت وأجابت مسرعة:
ألو يا تقى... سامعاني؟
لم تسمع إجابتها فتحركت مبتعدة عدة خطوات وقالت مجددا:
يا بنتي أنتِ معايا؟

_معاكي يا لوكا
هذا الصوت البغيض، الصوت الذي بث القشعريرة في كامل جسدها، حاولت التماسك وهي تسأل بنبرة ظهر خوفها فيها:
مين معايا؟

أجابها ضاحكا ضحكة جعلت الدموع تتحجر داخل عينيها:
مش معقول تكوني نسيتي "شاكر".... ده لو العالم كله نسيني أنتِ الوحيدة اللي أوعدك أني مش هخليكي تنسيني أبدا.

نطقت بكره من بين دموعها:
لا هنساك يا " شاكر" ، هنساك لما أشوف دمك على الأرض.

داهمها بقوله الذي ضربها في مقتل:
زي ما شوفتي دم "فريد" كده؟... لا مش هيحصل متخافيش يا حبيبتي، كل حاجة هتبقى تمام وهرجعلك.... نطق جملته الأخيرة بنبرة أتلفت أعصابها كليا:
ونتجوز بقى.

مجرد تخيل هذا جعل جنونها ينشط وهي تصيح:
حقه هيرجع، و هتشوف...اللي أنت عيشتهولي ده هتدفع تمنه غالي...

قاطعها وقد اخترق أذنها رنين ضحكاته:
اه اللي أنتِ بتقوليه ده ممكن يحصل فعلا بس في أحلامك بالليل وأنتِ نايمة، الحقيقة الوحيدة إنك وحشتيني وقولت أسمع صوتك، والحقيقة اللي هتحصل على أرض الواقع بقى مش في الأحلام إنك هتبقي مراتي.

شعرت بقطرات الماء تتساقط عليها، فرفعت رأسها لتجدها الأمطار، الأمطار التي امتزجت بدموعها حين صرخت:
أنت واحد حقير متساويش قرش...

أغلق الهاتف ولم يسمع لقولها، لم تعلم ماذا تفعل، فقط أتى لعقلها أنه يمكن الوصول إلى عنوانه من هذا الرقم، لذا وجدت نفسها تسير مهرولة تجاه بيت "نصران"، بكاء، وبرودة هابتها الروح قبل الجسد، وساقان يخبراها بأن طاقتهما على وشك النفاذ، لم تعلم كم من الوقت مر ولكنها وصلت في النهاية، وصلت لتجده يجلس على مقعد في الخارج، مقعد مجاور للمنزل يتأمل الأشجار، وتساقط الأمطار عليها، كان قد أسند رأسه على المقعد وأغلق عينيه باسترخاء، ولكنه لم يخطئ السمع حين داهمه نبرتها الممتزجة بحزنها:
" عيسى".

فتح عيناه، ليرى حالتها هذه، فترك مقعده وتحرك ناحيتها يسألها:
في إيه؟

مدت له الهاتف، تحاول تجميع الكلمات ولكنها فرت منها مع انهيارها هذا، ولكنها شبه استجمعت ذاتها و هي تقول بنبرة متقطعة تخللها البكاء:
شاكر اتصل بيا.

أخذ الهاتف منها سريعا، فتح قائمة المكالمات فأخبرته:
اول رقم.

ضغط على زر الاتصال بانفعال وقد تسارعت أنفاسه، وصدق ظنه حين لم يجب، فالأكيد هو أنه تخلص من الخط بعد أن أجرى المكالمة، حاول وهو يعلم أن هذه المحاولة لن تجدي نفعا، اتصل بأحد معارفه وطلب منه أن يحاول معرفة موقع هذا الرقم إن استطاع.

كانت ما زالت على حالتها، حركها جوار المنزل حيث ابتعدا عن مياه الأمطار وسألها:
قالك إيه؟

نطقت بقهر:
قالي إن محدش هيعرف يوصله... نظرة مستغيثة من عينين صارا بحرا من الدموع صدرت منها وهي تتابع:
قالي إنه هيتجوزني غصب عني.

لم يكذب شعورها إن هذا صحيح، هناك قبضة تحاوط كفها الصغير، وكأنها تبثه الأمان، مالت بعينها تنظر لكفه الآسر ليدها، ولم يدركا أن عيني "نصران" تراقب ما يحدث جيدا من النافذة العلوية، نظرات ثاقبة حاوطتهما معا.

ربما أتى الأمان من صور أحبتنا، و من المحتمل أننا تجاهلنا النظرات الثاقبة، ولكن الأكيد أن القدر يُرتب الكثير... هناك حياة آتية ربما لن ننساها أبدا.
SHETOS
SHETOS
تعليقات



×