رواية نعيمى وجحيمها الفصل السادس والخمسون 56 بقلم امل نصر

 

رواية نعيمى وجحيمها الفصل السادس والخمسون بقلم امل نصر

56 =رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل السادس والخمسون

بإرادة فولازية كانت تجاهد لتُسيطر على التوتر الذي يكتنفها وهي ترتشف من فنجان قهوتها أمام المرأة بثباتٍ تحسد عليه، رغم خفقان قلبها المتسارع من خوف ينتابها على غير عادتها، ترسم ابتسامة على وجهها وهي تتبادل الحديث مع المرأة بمودة حقيقة لا تديعها رغم كل شئ.
- فرحتيني اوي بمجيتك دي يا كاميليا، بس ليه كارم مقاليش ولا اداني فكرة عشان كنت عملت حسابي.

اهتز فنجان القهوة الذي بيدها على ذكر اسمه ولكنها تداركت سريعًا ارتباكها سريعًا لتجيبها: - إستقبال أيه يا طنط بس؟ ما انتِ قولتِ اني مش غريبة، ثم إن هو كمان ميعرفش بزيارتي، لأني بصراحة ملحتقتش اقوله.
سألتها المرأة باستفهام: - ملحقتيش ليه؟ هو انتوا ما بتتكلموش مع بعض في التليفون.

أجابتها على الفور بسرعة بديهه: - لا طبعًا ازاي بس يا طنت؟ دا طول الوقت بيتصل بيا وانا بكلمه، انا قصدي اني كنت في مشوار قريب من هنا، ولقيت نفسي قدام الفيلا بتاعتكم وانا ماشية بالعربية، بصراحة مقدرتش امنع نفسي ان ادخل واطمن عليكِ، أصلك وحشتيني أوي يا طنت وقولت اطمن عليكِ.

تأثرت بشدة المرأة بكلماتها المعسولة لتردف لها بسعادة: - يا حبيبة قلبي ربنا يخليكِ ويسعدك، انا مكنتش اعرف أن كارم بعد الصبر دا كله، هيعرف يختار الجمال والكمال كله، دا طلع عفريت بجد بقى.
تكلفت بتصنع الإبتسامة مرة أخرى لتردف بحذر في محاولة للوصول الى هدفها: - تسلمي يا طنت ع المجاملة الرقيقة دي، بس بنات الحلال كتير واكيد اللي وقعه فيا هو النصيب.
- فعلًا هو النصيب.

قالتها المرأة وهي تومئ برأسها مسبلة أهدابها عنها متأثرة بالجملة وكأنها ذكرتها بشئ ما، إستغلت كاميليا سكونها لتسألها مباشرةً: - أنا كنت بتفرج على حائط النياشين والأوسمة، بسم الله ماشاء الله، حاجة كدة تثير الفخر.
ارتفعت أبصار المرأة نحو ما تقصده كاميليا لترد بابتسامة زاهية: - الحمد لله، تاريخ المرحوم كان مشرف ويستحق الفخر والإعتزاز بحق.
- ألف رحمة ونور عليه.

قالتها كاميليا كبداية لتستطرد بادعاء الحزن: - يا خسارة بقى لو كان كارم كمل زيه؟
تغضن وجه المرأة على الفور بالحزن مع تذكرها لتردف بمرواغة: - الحمد لله على كل شئ، اهو دلوقتي كمان بقى مدير لمجموعة من أكبر المجموعات الاقتصادية في البلد، ودي حاجة مش هينة.

إجابة زكية جعلت كاميليا تفور من الغيظ ورغم ذلك تابعت بمغامرة غير محسوبة وهي ترتشف بفنجانها: - طبعًا أكيد، بس انا بقى بتكلم عن حلمه، منه لله بقى اللي كان السبب.
أسقطت المرأة على الفور فتجانها على الطاولة القريبة منها لتسألها بحدة: - هو قالك؟

سيطرت كاميليا على إجفالها رغم استغرابها من تغير لون وجه المرأة وانعقاد جبينها، وقالت بلهجة هادئة ترواغها هي الأخرى وهي تضع فنجانها وتفعل المثل: - إحنا قابلنا اللي اسمه كريم فوزي ومراته دي اللي اسمها ندى في حفل عيد الميلاد بتاع رنيم بنت العقيد نجيب.
ضيقت حاجبيها أكثر المرأة لتقول بدهشة: - دا كمان قالك على كريم فوزي وندى! ياااه، دا الظاهر بقى إن كارم بيحبك قوي.

لم تجيبها كاميليا وانتظرت متابعة المرأة التي أكملت وهي مطرقة رأسها بتفكير: - انا مش عارفة هو فهمك الموضوع ازاي، بس انا مقدرش ادعي على كريم زيك، دا كان من اعز صحاب كارم وياما كل عيش وملح معانا، دا غير اللي حصله كمان ورقدته في المستشفى شهور.

قطعت تخرج تنهيدة طويلة من العمق، لتستطرد: - ولا قادرة كمان اللوم ع البنت مع إنها هي اللي عشمت ابني في حبها الأول قبل ما تشوف كريم وتتعلق بيه، بس ياللا بقى، أهم التلاتة خسروا، كارم واطرد من الكلية وكريم وطلع منها بأصابة مستديمة في رجله وندى اتجوزت كريم بعيبه وسابت معاه البلد. حكم القلوب دا مشكلة كبيرة اوي.

قالت الاَخيرة وعينيها تعلقت بكاميليا التي أومأت برأسها بتفاهم، وعقلها يخمن باقي الحقيقة وحده بعد أن علمت عن العرج الذي رأته في سير الرجل زوج ندى ؛ والتي اتضح انها هي صاحبة الموضوع الأصلي وليس العكس كما ادعى، ولكن يتبقى الجزء المهم ماذا حدث لكريم ليجعله طريح المشفى لشهور وبعدها يخرج منها ومن كلية الشرطة بإصابة قدمه؟ وما كان دور كارم إن كان تسبب في ذلك ليُطرد من الكلية بسببه؟

خرج من مصعد البناية الحديثة يسرع بخطواته حتى إذا وصل الى شقة شقيقته وضع يده على الجرس يضغط بتواصل لم ينقطع سوى بفتح الباب من قبل الطفل الصغير والذي هتف برؤيته: - خالوا حبيبي.
رفعه إليه يقبله من وجنتيه ليحمله على ذراعه ويلج به في الداخل قائلًا له: - يا حبيب خالك انت، ماما فين؟
همس الطفل بإذنه: - ماما جوا مع الست صاحبتك.
- صاحبتي مين يا اهبل؟

قالها إمام مستنكرًا قبل أن يلتقي بشقيقته التي تلقفته بالترحاب من وسط الشقة: - تسلملي يا حبيبي، جيت ع الميعاد ومتأخرتش يعني؟
قبلها على وجنتها أولًا ثم خاطبها بإجفال: - خير اللهم اجعله خير، انا خدت إذن وجيت هوا على تليفونك، حد من العيال جراله حاجة؟ بس انا شايف الواد عمر كويس اهو، ولا تكون البت روان؟
- لا دا ولا دا.

قالتها سريعًا وهي تُنزل الطفل من يديه وتأمره للذهاب واللعب لغرفته على الفور، تابع بسؤاله عقب انصراف الطفل: - في إيه يا خلود؟ أنا كدة قلقت.
سحبته من كفه الغليظة إلى غرفة المعيشة متمتمة بصوت خفيض: - تعالى معايا الأول وانت تفهم.

غمغم حانقًا من خلفها ببعض الكلمات المستهجنة لفعل شقيقته في عدم طمأنته ولو بكلمة، حتى إذا وصل للغرفة المقصودة، اصطدمت عينيه برؤيتها، جالسة مطرقة رأسها للأرض وكأنها تبكي والصغيرة روان بجوارها تربت على كتفها بحنان، انخلع قلبه لهيتها، ليهتف جزعًا مناديًا بإسمها: - غادة! انتِ إيه اللي حصلك؟
رفعت عينيها إليه وأنزلتها سريعًا بدون رد ليتجه
لشقيقته مرددًا: - ماتقولي انتِ يا خلود إيه الحكاية؟

أومأت له بعينيها قبل أن تأمر الصغيرة كما فعلت مع شقيقها، همت روان بالإعتراض ولكن والدتها كررت بحزم: - إخلصي يا بنت اخرجي على طول وسيبي الكبار يتكلموا مع بعض.
دبت روان بأقدامها على الأرض قبل أن تتركهم وتذهب مذعنة لأمر الوالدة التي تكلمت فور مغادرتها: - انا كنت في طريقي للبيت بعد ما خلصت شغلي في العيادة ساعة ما اتصلت بيا هي وقالتلي انها محتاجة إنك تساعدها ضروري، وانها عايزة تكلمك بس مكسوفة.

مال برأسه يرمقها بتشكك مردفًا: - مكسوفة ازاي يعني؟ إنتِ مكسوفة مني أنا يا غادة؟
رفعت رأسها إليه تجيبه وهي تجفف دموعها: - عارفة ان الجملة عجيبة ومستغربها على ودانك، بس هو دا اللي حاصل فعلًا، انا مش قادرة احط عيني في عينك بعد اللي حصل واكتشفته...

قطعت لتكمل بدموعها التي تسيل بدون توقف: - انا كنت هبلة وعبيطة، مكنتش اعرف ان الدنيا وحشة أوي كدة، دماغي كانت واقفة على حاجات بإصرار إني أحققها، وعيوني معمية عن كل اللي بيحصل حواليا، انا شاركت بغبائي في أذية أقرب ما ليا...
سمع منها بتفهم لكل ما اردفت به من كلمات رغم عدم فهمه للجملة الاَخيرة، فأردف يسألها على الفور مباشرةً: - إيه الحكاية يا غادة؟
بعد قليل.

وقد قصت كل ما تفوهت به ميرفت وطلبته منها، مع الإثبات بإخراج الصور التي على هاتفها والتي كان يتطلع بها الاَن بأنفاس متلاحقة؛ مع صعود وهبوط صدره العريض بتسارع شديد بانفعاله، مع فوران الدم برأسه يجعله يأن بألم لن يهدأ سوى بضرب أحدهم وبقوة، حتى يشفي غليله: - يعني عملالك فيديوهات كمان وبتتهددك أنها تنشرها؟
سألها في عز انشغاله بالتقليب في الصورة المرسلة.

لتومئ برأسها تجيب مع بكائها الحارق: - وعايزاني اساعدها في أذية بنت خالي على شرط انها متنشرهاش وتشوه صورتي قدام اهلي وكل الناس اللي يعرفوني...

قطعت مرة أخرى لتشهق بنشيج عالي مكملة بتساؤل لخلود التي كانت بجوارها: - طب هي مكفهاش اللي كانت هتعمله فيا لولا ستر ربنا؟ دي اعترفتلي وبكل بجاحة انها كانت قاصدة عشان اضطر واساعدها في أذية زهرة وجوزها، أتاريها كانت بستغل صحبتي بيها للغرض ده، وانا زي الهبلة كنت فاكرها بتحبني بجد، أنا متخلفة واستاهل كل اللي يجرالي، انا الموت ارحملي من المرار ده...

- بس يا بت انتِ متدعيش على نفسك، هو انتِ عبيطة بجد ولا إيه؟
هتفت بها خلود سريعًا بحزم، وجاء رد إمام من خلفها بخشونة اَمرًا: - اخرسي يا بت ومتقوليش الكلام دا تاني، وإن كان ع الصور او الفيدوهات، ما تشليش همها نهائي، انا هعرف اجيبها بمعرفتي.
- بجد يا إمام والنبي تقدر تجيبها صح؟

هتفت إليه بأعين راجية تبتغي الأمان، والذي نقله إليها من نظرة قوية منه، ومشبعة بمئات الرسائل المطمئنة، ثم أردف في الاَخير بخطر: - هي مش اعترفت بنفسها على عمايلها معاكِ، تتحمل بقى!

في الصباح وقبل أن تذهب إلى عملها، وصلت كاميليا إلى المشفى كي تطمئن على لينا قبل خروجها لمنزلها الذي لا تعلم عنوانه، طرقت بخفة على باب الغرفة لتطل برأسها وتلقي التحية بابتسامة مشرقة: - صباح الفل، عاملة إيه القمر بتاعتنا النهاردة؟
تببسمت لها لينا متمتمة ببشاشة، وجاء الرد من الناحية الأخرى في الغرفة: - صباح الفل يا بنتي، اتفضلي.

تطلعت كاميليا سريعًا للمرأة الجميلة والتي كانت تشبه لينا قليلًا بلون البشرة ولكن بعينان عسليتان، على ابتسامة ساحرة رغم بهتان الوجه نتيجة المرض، فاتجهت إليها تصافحها بمودة وقد استنتجت هويتها: - صباح الخير، انتِ والدتها صح؟
- أيوة يا حبيبتي صح، أهلا بيكي.
قالتها بأعين سائلة، لتجيبها كاميليا على الفور.
- أنا كاميليا يا ست...

لم تكمل العبارة فقد خطفتها سريعًا المرأة لتحتضنها مغمغة باشتياق وكأنها على معرفة معها منذ سنوات وليس الاَن: - يا حبيبة قلبي، عرفتك والله ومن غير ما تقولي كمان. يا حبيبتي.
تلقت كاميليا معانقة المرأة وترحيبها الحار بها بكل ترحاب رغم تعجبها الشديد لهذه الألفة السريعة منها، لتأخذ جلستها بعد ذلك معها ومع لينا، قبل أن يأتي طارق بجلبته: - ممكن أدخل ولا استنى شوية؟

قالها دافعًا باب الغرفة بكتفه، ووجهه لخلف للناحية الأخرى، ضحكت كاميليا كفعل لينا ووالدتها التي دعته بغبطة ساخرة: - خش يا خويا خش، محدش فينا خالع راسه على رأي الصعايدة، قال يعني بيتكسف قوي؟
سمع منها ليدلف إلى الغرفة مسبلًا أهدابه وعيناه تنظر نحو الأرض وهو يدعي الحياء ليقول بصوته الخفيض أيضًا: - برضوا لازم الواحد يكون مؤدب.

تعجبت كاميليا لفعله حتى كادت أن تصدق قبل أن تصعق بمزاحه بصوت عالي: - عاملة إيه يا نوسة وحشتيني؟
اطلقت المرأة ضحكة مدوية فور أن باغتها بضمها من كتفيها بكفيه مهللًا بكلماته لترد هي الأخرى بمزاحه: - مافيش فايدة فيك، هتعيش وتموت وانت عيل صغير.
تبادلا الإثنان حديثهما المرح قبل أن يستقيم بجسده يلقي التحية على الفتاتين: - صباح الخير يا كاميليا، عاملة إيه يا بت؟

قال الاَخيرة كتحية إلى لينا التي بادلته الرد بقرف: - أهلًا.
التفت إليها كاميليا تسألها بدهشة: - إيه هو ده؟ أمال فين يا فندم بقى والحركات دي؟
أجابتها لينا بكل بساطة: - واقوله يا فندم ليه؟ هناك في الشغل بحترمه عشان هو رئيسي وهاخد على شغلي فلوس، إنما برا الشغل احترمه ليه؟
عقب على قولها طارق ليزيد من زهول كاميليا: - مادية حقيرة.
- الله يحفظك.

رددتها من خلفه لينا وكأنها لغة عادية بينهم، ليتمازحا ثلاثتهم ببعض الكلمات وكامليا تراقبهم بسعادة لهذا الإندماج الواضح بينهم، والذي يؤكد صدق قوله عن المرأة وابنتها
بعد دقائق
وبعد مرور الطبيب الذي رأى حالة لينا والتحسن الذي بدا عليها ليأمر لها بالمغادرة، انتظرت كاميليا طارق خارج الغرفة حتى تجهز المرأة ابنتها للخروج بصحبته مع توليه مسؤلية إعادتها إلى المنزل مع والدتها:.

- صريحة اوي لينا وواضح كدة انها بتحترمك.
قالتها كاميليا متفكهة في بداية حديثها معه، ليستجيب بقوله لها: - أوي، هو إنتِ مخدتيش بالك جوا ولا إيه؟
- أه طبعًا خدت بالي، دا باين جدًا كمان.
قالتها وضحكت في ختام جملتها لتكمل بجدية بعدها: - بس على فكرة انتوا ممثلين وخدعتوني بجد.
هتف لها مستنكرًا: - إحنا خدعناكي؟ حرام عليكِ يا شيخة دا احنا ناس غلابة.
- اه صحيح دا انتوا غلابة اوي.

قالتها بسخرية في استجابة أخرى للمزاح الذي استمر لعدة لحظات قبل أن تقطعه فجأة بسؤالها: - لكن انت ليه مشلتش مني يا طارق ولا كرهتني؟
سألها باستفسار رغم فهمه لمقصدها: - واكرهك ليه؟
- إنت فاهم قصدي.
قالتها لتجده صمت برهة قبل أن يجيبها بصدق: - عشان مقدرتش، انا مقدرش أشيل ولا اكرهك يا كاميليا مهمها شوفت منك، يمكن في الأول كنت هتجنن من تصرفاتك معايا، بس لما بعدت هديت وعقلت شوية.

لم تعقب على كلماته لأنها كانت تتأمل به صامتة، وعقلها يستعيد حديث الأمس عن ما اكتشفته حديثًا عن الزوج المستقبلي، وما يخبئه خلف هيئته البراقة لشخص اَخر هي لا تعلمه.
أما هو فقد كان مأخوذًا بلون القهوة المحبب لقبه بعينيها مع النظر بهن عن قرب، يشعر بتغير شئ ما بها، يبدوا من كلماتها ونظرتها إليه أيضًا.
- إنت يااا...

اجفل الاثنين على الصوت القريب منهما، ليغمغم طارق بصوته الخفيض بسبة وقحة بمجرد رؤية الشاب، والذي كرر بعنجهية لا تليق به على الإطلاق: - يااا استاذ بسألك، يعني لازم تنتبهلي وانا بكلمك.
- إيه ده هو بيعمل كدة ليه؟

تسائلت كاميليا مندهشة لتفاجأ بطارق الذي التف يحدثها من تحت أسنانه: - ما هو دا بقى يا ستي الخيبة التقيلة اللي بقولك عليها، إنتِ مش شايفة الهيئة ولا التناكة اللي انا مش عارف صراحة جايبها على إيه؟ دا شاعر الغبرة.
قالها ونهض على الفور من جوارها ليتحدث مع الشاب رغم ضيقه.
- شاعر الغبرة!

رددتها من خلفه لتتطلع بالشاب العشريني من بداية شعره المجعد الكبير بهياش لتركه بدون تصفيف، على لون بشرته القمحية، وهو يرتدي في الأعلى تيشرت خفيف وطويل بنصف كم على بنطال جينز باهت اللون في الأسفل، واقفًا بزهو مبالغ فيه أمام طارق يحدثه من طرف أنفه، والأخر يبادله الرد بضيق بدا واضحًا من حركة جسده أمامها،
غمغمت ضاحكة وقد تبينت هوية الشاب مع تذكرها لأشعاره الغريبة: - يخرب عقلك يا لينا، دا مجنون.

انتبهت فجأة على حدة الحديث التي ازدادت وقد بد أنهما على وشك الدخول في مشاجرة، نهضت لتلحق بهما قبل أن يتطور الأمر بينهم.
- يا أستاذ بقولك هادخل يعني هادخل، انا مفيش حد يقدر يمنعني من إن اشوفها.
- انت اهبل يالا؟ بقولك مفيش دخول دلوقت، هي خارجة أساسًا.
- صوتكم عالي كدة ليه يا طارق، الناس بدأت تاخد بالها منكم.

قالتها في محاولة للتهدئة، ليسبقه الشاب في الرد مخاطبًا لها: - تعالي يا اسمك إيه انتِ، شوفي البتاع ده عايز يقعدني في الإنتظار عشان اقدر اشوفها وانا معترض.
إسلوبه في لفظ الكلمات بتعالي نحوها جعلها
لم تقوى على كبح ابتسامة اختفت سريعًا مع رؤيتها لوجه طارق الذي تغضن بشراسة وهو يردد ماقاله الشاب: - انت بتقولي انا بتاع؟
تخصر رافعًا رأسه للأعلى يجيبه بتعالي: - أمال عايزني اقولك إيه؟

استشاط منه طارق وقبل أن يهم بالفتك به أجفل على صوت أنيسة والدة لينا وهي تتسائل من خلفهم: - في حاجة يا ولاد؟

اسرع الشاب نحوها لمجرد رؤيتها يُعرفها عن نفسه: كزميل سابق لابنتها ويود الإطمئنان عليها، رحبت به المرأة لتدخله لغرفة ابنتها قبل مغادرتها للمشفى، لحق بهما طارق وكامليا معه، ليقفا على مدخل الغرفة متابعين وجه لينا الذي تورد واشرق بالفرح مع رؤيتها لشاعرها المجنون والذي لم تخف عنجهيته حتى في الحديث معها، رغم ابتسامته.
- عشان لما اقولك خيبة تقيلة تبقي تصدقيني.

همس بها طارق لكاميليا التي تمتمت بالضحك هي الأخرى مع اندهاشها: - يا نهار أبيض، دا كلام الأمثال طلع حقيقي بقى، لما قالوا إن مراية الحب عمية.

علي اَريكته كان عامر متكئًا يقلب بجهاز التحكم عن بُعد في قنوات الشاشة العملاقة، وعينيه متابعة هذا المجنون، وهو يتحرك في الغرفة بغير هوادة، إذا جلس لم يصبر ثانيتين حتى يقف؛ ليخرج أو أن يفعل شئ ما يربكه في جلسته الهادئة، حتى فاض به ليصيح به: - ولما مش قادر تصبر ولا تستنى، مروحتش ليه معاهم وخلصتنا؟
إلتف إليه يردد بانفعال: - أخلصك! أخلصك من إيه يا عم؟ هو انا بعملك إيه بالظبط؟

مال برأسه عامر يجيبه بلهجة ماكرة: - أنا قصدي كنت روحت مع مراتك واطمنت بنفسك من الدكتورة، بدال الهيرة والنكتة اللي انت قاعد فيها دي.
دفع جاسر هاتفه بعنف على الطاولة التي أمامه ليرد بقوله: - اولًا أنا مش بهري وانكت عشان مروحتش معاهم، لا يا سيدي انا عندي موضوع مهم شاغل دماغي، ثم حكاية المشوار دي كمان، الست الوالدة هي اللي أصرت إني مروحش معاهم عشان تاخد راحتها مع الدكتورة، فهمت بقى يا باشا؟

أجابه عامر غامزًا بوجنته بابتسامة متسعة: - فهمت، يعني هو دا السبب اللي معصبك؟ عشان كان نفسك تروح بنفسك وتكلم الدكتورة ليتفقوا عليك هي ولميا زي ما عملوا المرة اللي فاتت.

تسمر بجلسته يتطلع إليه بصمت يكتنفه الذهول لخبث هذا الرجل وهو يتكلم وكأنه قرأ الأفكار التي برأسه، ليزداد اتساع ابتسامة عامر وقد علم بصدق تخمينه فتابع له بنبرة تبدوا جدية: - بس انا لو منك مكنتش سكت وروحت معاهم ولو بالغصب حتى، ما انت لازم تثبت وجهة نظرك.
سمع منه جاسر ليرد بلهجة هادئة باقتناع: - انا فعلًا كنت عايز اروح، بس مش عشان اللي في دماغك، دا كان بس عشان اطمن بنفسي.

- وحتى ولو اطمنت، برضوا أمك هتمشي اللي في دماغها ههههه.
اردف بها عامر لينطلق بموجة ضاحكة مستمتعًا بمشاكسة ابنه الذي كان يستشيط غضبًا منه.
إرتفعت راس جاسر فجأة على أصوات قدومهن لينهض عن مقعده سريعًا وقبل أن يتحرك خطوة وصله قول عامر من خلفه ساخرًا: - طب اتقل شوية طيب على ما يجوا بنفسهم، خلاص مش قادر تستنى.

فاض به جاسر لينفض سترته بعنف وكأنه يضع بها غضبه، قبل أن يعود لجلسته مرة أخرى، يزفر بضيق وهو يشيح بوجه عن أبيه الذي وضع كفه على موضع قلبه خوفًا من أذية نفسه من فرط ضحكه المكتوم على هيئة ابنه الغاضب، مع سعادة غامرة لرؤيته وقد عاد بشر عادي بعد أن تخلى عن جموده القديم.
دلفت إليهما زهرة بوجهها الضاحك تلقي التحية عليهما ثم تسأله باندهاش: - إيه دا إنت لسة قاعد ومخرجتش من البيت؟

سبقه عامر في الرد ساخرًا: - أصله كان معاه موضوع مهم ومينفعش يفكر فيه غير في البيت!
عض بأسنانه على طرف شفته يكظم غيظه من أباه الذي لا يمل أبدًا من إستفزازه.
- إيه مالك؟ ما ترد يا جاسر ساكت ليه؟
قالتها بابتسامة شجعته ليسألها مباشرةً: - إيه الأخبار؟ الدكتورة طمنتك؟
- طمنتها يا سيدي واطمنت انا كمان معاها، افرح يا جاسر.

هتفت بها لمياء من خلفها لابنه الذي اشرق وجهه بالسعادة حتى صار يضحك ويتمتم بالحمد في اَن واحد،
وخلفه عامر كان يفعل المثل وقد ذهب عن وجهه العبث، ليداعب خياله حلمه الدائم بحمل هذا الطفل على يديه.
قبل أن تتابع لمياء بتحذير مخاطبة جاسر: - أه يا حبيبي بس برضوا الدكتورة نبهت على الحرص وعدم الإجهاد عشان صحتها.

رد جاسر على الفور بدفاعية: - طيب ما هو دا اللي انا بقوله على طول، انها متجهدتش نفسها في الشغل، مدام حملها صعب كدة.
سمعت منه لمياء لتلتفت لزهرة قائلة: - وانتِ تتعبي نفسك في الشغل ليه يا زهرة، ما بلاها الشغل خالص، اهم صحة البيبي.
تلجمت زهرة شاعرة بالصدمة وعينيها تتنقل من لمياء التي ظهر على وجهها الأصرار وجاسر الذي صمت عن الرد، لتسدير عنها قائلة.

- طب عن إذنكم أنا طالعة اريح شوية: وقالتها وانصرفت مسرعة من أمامها، تبعها جاسر وقد علم بغضبها، فجلست لمياء على كرسيها بوجه واجم بتفكير، ثم التفت فجأة قائلة لعامر الذي شعرت بسهام عينيه المصوبة نحوها: - إيه بقى يا استاذ عامر؟ هو غلط إني اخاف ع البيبي اللي بنترجاه انا وانت من الدنيا دي بقالنا كتير؟

وفي الطابق الثاني وبعد ان لحق بها بالغرفة، وجدها كما توقع متلحفة بالفراش ومتكومة على نفسها، فاستنتج من نفسه بكاءها.
اقترب ليجلس بجوارها متفكهُا بمزاح: - إيه دا يا زهرة؟ بسرعة كدة دي لحقتي تنامي؟ ويا ترى بقى غيرتي هدومك ولا لأ؟

قالها الاَخيرة في محاولة لكشف الغطاء ولكنها تمسكت معترضة حتى صدرت منها صوت شهقتها، فعبس ليرفع عن وجهها الغطاء بقوة حتى أصبح مكشوفًا إليه، فصاحت غاضبة من بين بكاءها: - بتكشف وشي ليه دلوقت؟ سيبني بقى لوحدي عشان عايزة انام.

قالت الأخيرة لتلتف بجانبها عنه وتغطي وجهها بذراعيها، فاقترب ليدنو برأسه إليها ليهمس بجوار أذنها بصوته الأجش: - طب ولما انزل واسيبك لوحدك، هتفضلي تعيطي برضوا ولا هتسكتي بمجرد ما اخرج؟ لو هتفضلي معيطة يبقى انا اَخد حذري من أولها واروح انده لوالدتي، دي هتقلب الدنيا لما تعرف ان البيبي ممكن تحصله حاجة بسبب زعلك.




نهى جملته ليجدها التفت إليه فجأة ناظرة بأعين متسعة بذهول مع غضبها تتسائل إن كان صادقًا بما يقول أم لا، فاستغل هفوتها ليميل برأسه عليها قائلًا بمشاكسة: - يعني اتعدلت على طول اهو اول أما جيبت سيرة الست الوالدة، للدرجادي انتِ بتخافي منها؟
اعتدلت عنه بجذعها لترد بغضب: - أنا مبخافش منها، أنا بقدرها زي ما بقدر عمي عامر بالظبط.

رد متبسمًا وكأنه وصل لغايتة: - حلو الكلام يا زهرة، يعني بتسمعي الكلام عشان بتقديرها وتحترميها، انا كمان زيك ما بخفش، وممكن اخدك على كدة دلوقت ونرجع على بيتنا نعيش حياتنا واعملك اللي انتِ عايزاه، بس انا كمان بقدر أهلي، وعارف كويس مدى احتياجهم للطفل ده، يمكن زمان ماكنتش بفكر ولا مهتم عشان ما كنتش عايز اخلف من ميري اساسًا، لكن معاكِ انتِ لما ربنا كرمني، وشفت اللهفة في عيونهم، بقيت اعد الايام والدقايق عشان اشوف اليوم ده.

بدا على وجهها الإقتناع رغم الحزن الذي ظهر في صوتها العاتب: - انا فهماك يا جاسر وحاسة بكل اللي بتقوله، بس انا شغلي دا بحس فيه بذاتي. دا الحاجة الوحيدة اللي قدرت اثبت فيها نفسي، بعد الضعف والخوف اللي فضلوا ملازمني طول حياتي.
- وانا مش هحرمك منه.
تفوه بها سريعًا ثم استطرد: - انا بس عايزك تصبري شوية وتتحملي، اتحمليها يا زهرة عشان خاطري، وانا اوعدك كل اللي انتِ عايزاه هنفذه تمام؟

صمتت قليلًا بتفكير قبل أن تومى بهزة خفيفة من رأسها، تقبلها هو ليضمها إليه مشددًا عليها بذراعيه قبل أن ينزعها عنه بإدراك لما غفل عنه منذ دقائق: - استني هنا صحيح.
تطلعت إليه بتساؤل ليردف لها بحاجبين متراقصين، وعينان ارتسما بداخلها الفرح جليًا: - معنى كدة إن انا اتفك عني الحصار وارجع تاني لمكاني هنا ع السرير.

تسمرت قليلًا بإجفال، قبل أن تستوعب مغزى حديثه، لتغطي بكفيها على وجهها الذي أصبح كتلة حمراء من الضحك والخجل في اَن واحد.

تأنق كعادته كل مساء في نفس ميعاده اليومي، بارتداء الملابس الفاخرة ونثر العطور الباريسيه لجذب انظار النساء إليه، يلهو ويرقص ويقيم العلاقات مع هذه وتلك وتلك في روتين يومي لا يمل منه أبدًا، هذا هو عالمه الذي نشأ عليه، لا شئ يعلو فوق المت عة، المت عة فقط.
خرج من منزله متوجهًا نحو سيارته ليتفاجأ بنداء حارسه الشخصي رعد يوقفه قبل أن يعتلي سيارته: - ماهر بيه ماهر بيه.

إلتف إليه ليُجيبه بضيق: - نعم يا زفت بتنده ليه؟
تعلقت أبصار رعد بالاَخر يخاطبه برجاء: - أبويا يا سعادة البيه، اختي اتصلت بيا وبتقول إنه اتزحلق في الحمام ورجله اتكسرت، وهي دلوقت مزنوقة بيه ومش عارفة تروح بيه فين؟
رد ماهر رافعًا طرف شفته العليا باستنكار: - مش عارفة ازاي يعني؟ متقدرش تتصل بالإسعاف او حتى أي تاكسي يوصلها لاقرب مستشفى؟

أجابه رعد متشدقًا: - هتعرف ازاي بس يا بيه؟ دي عيلة 16 سنة وأمي في البلد النهاردة عند أخواتها، ابوس إيدك يا بيه معلش اسمحلي أروح دلوقتِ الحقهم، وابقى اخصملي اليوم كامل حتى.
حدجه ماهر بقرف يشير إليه بطرف يده قبل أن يلتف ويعتلي سيارته: - خلاص غور.

غمغم رعد بالأدعية وكلمات الشكر على نبل سيده وهو يتابعه حتى اعتلي السيارة ومعه السائق وحارسه الاَخر، ثم ادرا المحرك وسار بها، فاستقام رعد وقد ذهب عن وجهه البؤس، ليتمتم بصوت خفيض: - تستاهل كل إللي يجرالك.

وبداخل السيارة التي كانت تقطع الطريق المؤدي إلى الملهى الليلي وجهته، وهو جالسًا في الخلف بارتخاء يردد مع أغاني مشغل الموسيقى في السيارة، انتفض فجأة على هزة أجفلته بالسيارة ليهتف بغضب على سائقه: - مش تفتح يا حيوان انت وتسوق كويس.

غمغم سائقه بالاعتذار، وماهي إلا دقيقتين إلا واهتزت السيارة مرة أخرى بعنف ليعود ماهر هاتفهُا بالسباب على السائق، والذي رد بدفاعية هذه المرة: - يا سعادة الباشا في عربية جيب سودا بتضيق علينا في الخلف، أول مرة افتكرتها صدفة، لكن المرة التانية بانت قوي انها مقصودة.

اعتدل ماهر يلتف برأسه ليراقب ويتابع من الزجاج في الخلف، أو في المرأة الجانبية، ليُفاجأ بصدق السائق وهذه السيارة الكبيرة وهي تسير مرافقة لسيارته بالدقة ولا تحيد عنها، لتعود بصدم سيارته من الخلف مرة أخرى لتجعله يندفع للأمام بقوة ويهدر بحارسه والسائق: - ما تتصرف يا زفت انت، وانت حيوان ماتجري واهرب منهم.
صرخ السائق مرددًا: - أتصرف ازاي بس يا بيه، ودول زنقونا في شارع مقطوع وضيق، انا بحاول بس مش عارف.

أكمل على قوله الحارس وهو يطل برأسه للخلف: - عندك حق دول باينهم بلطجية وعددهم كتير، انا حتى مش شايف أي بني أدم منهم، دول بينهم مخبين وشوشوهم.
- مقصودة يا عني إيه؟ اتصرفوا يا حيوانات وخلصوني.
صرخ بها ماهر وسائقه زاد من سرعة السيارة والأخرى أيضًا حتى تفاجئوا بتصدر دراجة بخارية في وسط الطريق الضيق لتجبرهم على الوقوف،
صرخ ماهر: - وقفت ليه زفت ما تكمل.

رد السائق بأنفاس متهدجة وقلب مزعور: - مقدرش اخش في المكنة دي ممكن تنفج ر بيننا.
كاد أن يصرخ بلهجة باكية وقد وقع قلبه في أقدامه، فتدارك بلهجة اَمرة يغلفها الرجاء: -حاول تتصرف يا عبيد، اعمل أي حاجة.
- ما انا بحاول اهو يا ماهر بيه.

تفوه بها السائق وهو يتراجع بغرض الخروج من الشارع، ليندفع فجأة على اثر صدمة قوية من الخلف وقد عادت السيارة السوداء لتتوقف سيارتهم قصرًا، بعد أن حاصرتهم وترجل منها الرجال الذين حاوطوا سيارة ماهر من جميع الجهات ليكون الحارس اول من يقع بأيديهم، من أجل الأمان، وبعد ذلك كان السائق،
بقلب كاد إن يقفز من صدره من الخوف وعينانٍ زائغة كان يتطلع لهذا الكابوس حوله، ثم تفاجأ به أمامه.

صاحب الجسد الضخم، مكمم الوجه يقف أمامه بتحفز للقتال وعينان تطلقان شررات نارية، ليعرفه على الفور ماهر من نظرة عينبه المخيفة ونفس هيئته في المرة الماضية، دنى بجسده ليقترب منه من نافذة السيارة قائلًا بلهجة هادئة ومريبة: - قاعد في عربيتك مستني إيه؟ زي الحلو كدة انزلي حالا وبمزاجك كمان، دا لو انت خايف على نفسك.


تعليقات



×