رواية نعيمى وجحيمها الفصل الخامس والخمسون بقلم امل نصر
رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل الخامس والخمسون
لا يشعر بالألم سوى من مر به.
ومن يرى مصائب الخلق تهُن في نظره مصائبه
كانت تذرف الدمعات بلا توقف، تمسح بالمنديل الورقي ولا يجف السيل المتدفق بغزارة لمدة طالت لما يقارب النصف ساعة، حتى جعلته يزفر قائلًا: - ماتخلنيش اندم اني قولتلك يا كاميليا.
ضغطت بعينيها قليلًا تحاول تمالك نفسها حتى تمكنت من الرد اَخيرًا بصوت متهدج من فرط ما تشعر به: - أصلها صعبت عليا أوي، والغريبة ان ما يبانش عليها خالص.
تنهد طارق يجيبها بكلمات قاصدًا كل حرف منها: - ماهي مش دايمًا المظاهر بتبين معادن الناس يا كاميليا، ممكن اللي تفتكريه دهب يطلع قشرة، أو إن تبهرك لمعة الماس جميلة قدامك وفي الاَخر تطلع إزاز يجرحك.
وصلها مغزى كلماته لتتوقف الدموع على الفور فرفعت رأسها إليه لتواجه خاصتيه بعينيها وتجيبه مباشرة وبدون مواربة: - ومين قالك ان اختياري كان بناءًا عن إعجاب بمظاهر أو انبهار.
ضيق بعينيه يستوعب كلماتها ليسألها بحيرة يكتنفها غضب مستتر: - أمال كان بناءًا على إيه يا كاميليا؟
أسبلت أهدابها ثم رفعتهم سريعًا لترد بشبه ابتسامة غير مفهومة: - ما فيش فايدة من الكلام يا طارق، عشان انا عارفة إني مهما شرحت ماحدش فيكو هيفهمني.
- عشان كدة بنتفذي اللي في دماغك على طول من غير ما تحكي ولا تاخذي رأي حد؟ حتى لو كانت زهرة أقرب الناس إليكِ؟
تفوه بسؤاله ولم ينتظر كثيرًا حتى أجابته: - زهرة بريئة وطيبة جدًا، ومشاعرها مش حمل العقد اللي جوايا، أنا اتكيفت على الوحدة حتى لو سط الناس كلها، اسراري جوا قلبي وما فيش داعي أن ازيع بيها.
بهزة خفيفة برأسه اومأ لها بتفهم ليكمل بقوله: - ومع ذلك بتحكي لوالدتك!
هذه المرة اعتلت وجهها إبتسامة حقيقية رغم الأضطراب الذي ظهر في صوتها: - قالتلي صحيح على اتصالك بيها، بس هي إيه ذنبها يا طارق؟ العيب فيا انا، انا المعقدة، هي مالها؟
برقت عينيه بشدة وتدلى فكه بدهشة قاربت الذهول ليردف بعدم تصديق: - مالها ازاي يعني؟ هو انتِ بتهزري ولا بتتكلمي جد؟ مش هي دي الست اللي حكيتلي عنها برضوا؟ ولا و
دوكها كانت واحدة تانية؟
- لأ هي يا طارق.
قالتها كإجابة عن سؤاله ثم تابعت بتنهيدة من العمق: - بس برضوا أمي، يعني مهمها حصل ما بينا وانا شيلت في قلبي منها، دا مش هينفي صلة الدم اللي مابيني وبينها.
زفر يلتف عنها بتعب، فهذه المرأة تبدوا وكأنها بحر من الألغاز لا ينتهي أبدًا، مهما حاول واعتقد أنه وصل لفك شفرتها وفهمها، يعود لنفس نقطة البداية.
- هي لينا بتكتب شعر؟
قالتها لتأخذه من شروده، بإعادة جذب انتباهه لها، هز برأسه كاستفسار لعدم تركيزه في ما تفوهت بها، فتابعت بإعادة السؤال: - بسألك عن لينا لو بتعرف تكتب شعر، أصلي اتفاجأت بورقة وقعت منها الصبح، كنت فاكراها من اوراق العمل، لكن لما قريت استعجبت بصراحة.
رغم علمه بتهربها من الحديث بفتح غيره ولكنه ابتسم على السيرة ليرد بمرح: - وتلاقيكِ افتكرتيها كتباهولي انا او انا كاتبهولها صح؟
أومات بخجل لم تستطع إخفاءه، وقد زحف اللون الوردي على وجنتيها على الفور، فقال بابتسامة متسعة وقد اسعده ما يتخفى خلف حيائها من غيرة بدت من رد فعلها: - لا انا راجل شاعر عشان اكتب، ولا هي بتعرف تجمع كلمتين على بعض حتى.
- أمال إيه؟
سألته باستفسار تشوبه حيرة التقطها هو ليردف ضاحكًا: - ما هي دي بقى الخيبة التقيلة اللي صاحبتنا عايشة فيها، الهانم هتموت على واد شاعر أهبل كدة، هتجنن واعرف بتحب فيه أيه؟ دا لا شكل حلو ولا هيئة كويسة أو حتى بيعرف يفكر أساسًا، طب انتِ قريتي الشعر بتاعه: عادت إليها ضحكتها الجميلة والتي دائمًا ما تنجح في إسعاده رغم كل ما يراه منها، لتقول: - بصراحة في البداية كنت متغاظة قوي ومخدتش بالي عشان كانت نظرة سريعة، لكن بعدين لما قرأت تاني بتركيز، كنت بضحك في مكتبي زي العبيطة، تشبيهات للحبيبة غريبة جدًا.
أكمل على قولها بعفويته: - اسكتي يا ختي اسكتي، دي شايفاه حاجة محصلتش قبل كدة، وان طريقته في الشعر دي بكرة يتسجل معاها في التاريخ على إنه نابغة عصره أو كفلتة من فلتات الزمان.
- كا أيه؟
رددتها خلفه لتنطلق في موجة من الضحك بلا توقف، لتصيبه عدوى الضحك هو الاَخر معها، في مشهد عجيب جمع بين البكاء والقلق ثم الضحك المفرط الذي ينسى معه الإنسان همه، متخليًا ولو لدقائق عن واقعه البائس.
عادت إحسان من الخارج لتصفق خلفها باب المنزل بقوة أظهرت حجم ضيقها ولفتت نظر ابنتها التي انتبهت عليها بجلستها على الكنبة المجاورة للنافذة التي كانت تنظر بها للخارج، وهي متكورة وضامة بيديها ركبتيها إلى ص درها، فقد أجفلتها من شرودها أيضًا!
- أووف يا ساتر، يا منجي من المهالك، عليِنا ووطي نفوسنا يارب، عليِنا ووطي نفوسنا.
رددتها عدت مرات مما اضطر غادة لسؤالها: - إيه اللي حصل؟ انتي فيه حد ضايقك ولا حاجة؟
رمقتها بنظرة حانقة وهي تجلس على المقعد أمامها تزفر بضيق في قولها: - وعايزاني اقول ولا اتكلم ليه؟ ما يمكن تفتكريني بعايرك ولا حاجة.
علمت بمقصدها لتُشيح بوجهها عنها على الفور، مما جعل إحسان تهتف وهي مشتعلة غيظًا.
- لويتي بوزك من قبل ما اتكلم حتى! طب اسمعي مني الأول، وروحي شوفي بنت خالك، زهرة اللي كنتِ بتقولي عليها خايبة وما تعرف تخطي خطوة من غيرك، اهي الخايبة يا ختى بعد ما سيطرت ع الباشا جوزها وخلته زي الخاتم في صباعها، أهي لفت كمان دماغ اهله اللي كانوا رافضين الجوزارة وبقوا سمن على عسل مع رقية وخالد، ودلوقتي يا حبيبتي عازمينهم عندهم، والسنيور خالها واخد خطيبته معاه بنت المستشار، شوفتي يا بت البنات الناصحة بتعرف تخطط وتظبط ازاي؟
التفت إليها غادة برأسها عن المشاهدة لخارج النافذة كي تسألها: - وانتِ عرفتي منين بقى بنصاحة بنت اخوكي عشان تيجي كدة بشرارك ونارك؟
- نار لما تلهفك.
تفوهت به إحسان غاضبة من حديث ابنتها البارد معها لتجيب بصياحها: - برضوا لا عاجبك الكلام ولا مصدقاه، طب انا عرفت من سمية مرات ابوها، قابلتها في السوق من شوية وسألتها عن الرقية، راحت الولية مدلوقة في الكلام معايا، قال وإيه؟ الباشا ابن الباشا عرض على سمية كمان هي وبناتها يجوا معاهم، بس المحروسة بقى اتكسفت ما تدخل عليهم كدة بعيالها من غير جوزها ابو البنات، روح يا محروس إلهي تخيييب.
هتفت بالاخيرة رافعة كفيها إلى السماء مما جعل غادة ترد مستنكرة الدعاء على الرجل بدون سبب: - طب وانتِ بتدعي على خالي ليه دلوقتِ؟ هو الراجل كان عملك حاجة؟
ضربت إحسان بكفيها الغليظان على ج سدها الممتلئ، تهدر من تحت أسنانها: - عشان دايمًا كدة مضايقني وفارسني، مافيش مرة نصفني ولا عمل معايا حاجة تريحني، لكان معايا أخ عدل ولا جوزني حتى جوازك عدلة، لأ وكمان يشرب ويعك الدنيا وبرضوا حظه نار.
قابلت غادة صياح والدتها الذي اعتادت عليها، بصمت ونظرة خاوية من أي رد فعل، لتزيد إحسان بصراخها: - في إيه يا بنت؟ مالك بقيتي تنحة ومبلمة في نفسك كدة ليه؟ إيه البرود اللي انتِ بقيتي فيه ده؟
بتنهيدة طويلة خرجت من عمق ما تحمله بداخلها، حدقت بها غادة ولسانها على وشك الرد وإفحام والدتها بسرد ما حدث معها حتى كادت أن تخسر أعز ما تملك في سبيل اللهاث وراء الاَمال الكاذبة والخادعة، وسعي دئوب بلا فائدة مع رزق مقدر بيد الله وحده، ولكن
تراجعت عن ما انتوته لتنهض من أمامها بلا رد، متجاهلة حتى النظر إليها رغم ازدياد صراخ والدتها وسبابها المعروف بالكلمات النابية.
وصلت لغرفتها لتغلق بابها عليها، وتكفي نفسها عن الجدال مع والدتها، ولكن وقبل أن تصل جيدًا لتختها، رأت رنين هاتفها الصامت وهو يُضئ بشاشته، اقتربت لتصعق وهي ترى إسم المتصل، غلى الدم بعروقها لتتناوله سريعًا وترد بعنف: - وليكِ عين تتصلي كمان يا بجهة يا عدي...
- اختشي ولمي لسانك يا غادة واسمعي مني الأول.
أتتها بمقاطعة حادة من الجهة الأخرى لتزيد من اشتعالها مع تذكر ما حدث معها لتصيح هادرة: - مين اللي يختشي يا باردة بعد عملتك السودة اللي عملتيها معايا؟ دا انا بقى عندي إحساس انك واحدة من إياهم ولا اقول ق وادة أحسن، انا شايفة إن دا اللي يليق على وضعك، انت واخوكي ال...
ختمت بلفظ نابي على المدعو ماهر شقيقها، لتفاجأها الأخرى بصوت ضحكتها المقيتة قبل أن تقول لها: - وانتِ بقى اللي شريفة وصفحتك بيضا؟ بقولك إيه يا غادة، قبل ما تسخني زيادة كدة، حابة انبهك، ان الطور اللي دخل وخدك من عندنا، نسي يا قلبي ما يخلصك بالكامل، أصله مكانش يعرف إني كنت واضعة كاميرات عالية الجودة صورت وسجلت كل الهبل اللي كنت بتعمليه بدماغك العالية.
- إنتِ بتقولي إيه؟
تمتمت بها غادة وبرودة زحفت لأطرافها سريعًا، حتى عادت ترددها مع صمت الأخرى وهي تبتلع في ريقها الذي جف لمجرد التخيل: - بتقولي إيه يا ست انتِ؟ أنت بتخرفي، ولا الأكيد هو إنك بتكدبي أكيد بتكدبي.
عادت الأخرى بصوت ضحكتها الكريهة مرة أخرى تردف لها باقتضاب: - اسمعي يا غادة، انا هقفل معاكِ وابعتلك شوية صور حلوين كدة يفكروكِ بنفسك، وبعدها هبتعلك عنوان الكافيه اللي هقابلك فيه بعد ساعة من دلوقت، واياك تتأخري دقيقة، عشان ما ترجعيش بعد كدة تندمي.
صمتت لحظات معدودة ثم أكملت: بتحذير: وإياكِ يا غادة اياك، تجيبي الطور صاحبك ده معاكِ، ساعتها مش هتلومي إلا نفسك.
بصقت كلمتها وأغلقت، لتصل لغادة بعد ذلك الصور المتواترة على الفور، رفعت كفها لتكتم شهقة ارتياع من فمها، وهي تتطلع إلى صورها كالمخمورة تضحك، وتميل بجزعها، ويضمها المدعو ماهر بذراعه كفتاة متساهلة، ومرة أخرى وهي متربعة أيضًا ترتشف بكأس الشراب معه، وترى بعدها العديد من الصور، حتى تهاوت أقدامها ولم تعد تحملها لتسقط بثقلها على أرضية الغرفة، ويسقط معها قلبها من الرعب.
تحت المظلة الخشبية الكبيرة في الحديقة، إجتمعت الأسرتين بجلسة عائلية حيث الهواء الطلق ومشاهدة تريح العين للون الأخضر أمامهم وتبهج الروح برائحة الزهور المنبعة من الأحواض القريبة للعديد من الأنواع المختلطة بين المصرية بالأنواع المعروفة والغربية بالأنواع النادرة منها، عامر والذي اندمج مع رقية ظل قريبًا بمقعده الخشبي بجوار مقعدها المتحرك والذي حصلت عليه بعد أن تيسر الحال قليلًا مع خالد في عمله الجديد، فأتى به إليها قبل أن يضع قرشًا في تشطيب شقته، ولمياء رغم تحفطها الدائم، كانت جالسة بالقرب منهم تتابع وأبصارها على الجميع خصوصًا هذا المتعوس الذي يجلس في الناحية الأخرى، وعينيه لم يرفعها عن زوجته التي اندمجت مع خالها في حديث مطول بحماس ولهفة بينهما لم تفتر لثانية رغم إشتراك خطيبته معهما أحيانًا، بقلب ألأم أشفقت عليه، وعلى حزمها معه طوال الأيام الماضية، واضعة صحة الزوجة وحفيدها نصب أعينها، ولكن وبنظرة للبؤس المرتسم على وجهه تشعر أنها زادت من الضغط عليه، لعدة لحظات قليلة لم تتعد الثواني ولكن ومع تذكرها لصحة الحفيد التي كانت مهددة بتعب والدته، وهي في أشد الإشتياق إليه، اشتد عزمها على المواصلة وقسى قلبها لتصرف نظرها عنه وتلتف للحديث المرح بين عامر حبيبها ورفيق عمرها، ورقية هذه المرأة الراضية وروحها الرائعة رغم جلوسها قعيدة منذ سنوات كما علمت من جاسر.
- شوفتي بقى يا ست رقية اهو احنا بقى لما بنتجمع في العطلات النادرة بنقعد هنا ونشوي بقى، طعم الأكل وهو مشوي في الهوا اللي بيرد الروح ده بيبقى يجنن.
تفوه بالكلمات عامر وهو يلوح بكفيه لها على الأجواء حولهم، قابلت كلماته رقية باستخفاف تجيبه: - إنت قصدك على الفراخ المحمرة دي ع الفحم واللحمة اللي بتتحط في سياخ زيها، والنعمة ولا بتخش في زمتي بنكلة حتى، كذا مرة الواد خالد يجيبلي منها ويقولي هتعجبك ياما وطعمها حلو ياما دا انا شريها بالشئ الفلاني من المطعم الفلاني، اتشجع كدة وانا باكل في الأول ومكملش حتتين واسيبهم، أنا ميدخلش في دماغي غير الحتة اللي تبقى متمرغة في الدهن والسمن البلدي.
أنهت رقية لتجد عامر افتر فاهاهه وظهر على وجهه شغفه بالحديث ليردف لها: - انت بتتكلمي جد؟ طب ماانتيش خايفة على صحتك من الدهن الكتير ده ولا السمن البلدي؟ دا فظيع.
- بس حلو واللي يتعود على الأكل بيه ميضرهوش أبدًا،.
يا راجل دا كفاية انها بتخلي للأكل ريحة ولا الطعم إيه بقى مقولكش، الطور اللي قاعد هناك دا، مهما يبعد ولا يجيب أكل من برا، ماييرهوش غير اللقمة البيتي بتاعتنا، واهو ماشاء الله ربنا يحرصه، لكن البت الهبلة دي، عودت نفسها ع النواشف، من صغرها وهي ماكلش دي يا ستي ودي تقيلة على معدتي يا ستي، لما بقت زي ما انت شايف كدة، بتتعب على اقل حاجة.
قالتها في إشارة لابنها وحفيدتها لتكمل بعدها: - بس انا وصيت نوال على أكل الواد وهي قالتلي انا هاعمل زي ما انتِ بتعملي يا خالتي بالظبط والسمنة البلدي مش هتخلى من بيتي أبدًا.
انبهر عامر بشدة وارتسم الطعام وهذه النوعية التي تذكرها رقية أمام عينيه حتى شعر بالرغبة الشديدة لنتاوله على الفور متناسيًا مرض قلبه، أما لمياء والتي شدها الحديث فقالت سأئلة بدهشة بعد أن خطفت نظرة سريعة نحو نوال الجالسة برزانة رغم ابتسامتها كأستاذة بالفعل: - هي نوال كمان بتحب النوعية دي من الأكل التقيل؟
أجابتها رقية بضحكاتها: - لأ طبعًا ولا كانت تعرفه، بس انا بقى خلتها تتعود على الأكل ده لما كانت تيجي عندي زيارات وعلمتها عليه، لحد اما بقت متستغناش عنه حتى وهي في بيتهم ووسط أهلها، انا قاعدة وانتِ قاعدة اهو البت دي هيتبرى منها ابوها قريب.
سمع منها عامر وانطلق ضاحكا بصوته المجلل لفت انتباه الجميع حوله وهو يقهقه حتى أدمعت عينيه، ليردف اَخيرًا بعد توقفه لزوجته: - انا كمان يا لميا، نفسي قوي في الأكل التقيل ده.
تبسمت إليها لمياء بابتسامة صفراء ترد على كلماته: - يا حبيب قلبي، طب انت مش واخد بالك، من كلام الست رقية؟ دي بتقولك اللي متعود عليه، انت بقى متعود عليه؟
كشر بوجهه لها ليعود إلى رقية التي رفعت كفيها في الهواء إليه قائلة: - أنا بقى متعودة بقى عليه.
- يا بت بسألك اللي في بطنك دا واد ولا بت؟ قولي وما تخبيش.
هتف بها خالد لزهرة بلهجة جدية وهو يشير بيده إلى ما تحمله بأحش ائها، وكانت الإجابة بضحكة عالية وهي تنقل بنظرها إلى زوجها قبل أن تعود إليه: - والله ما اعرف، إنت ليه مش عايز تصدقني يا طيب، ما انا قولتلك، لو طلع ولد إن شاء الله هسميه خالد.
- ولو طلع بت؟
سأل بها لينعقدا حاجبي جاسر بدهشة ويتدخل بالحديث بعد طول صمت وهو جالس بالقرب منهم، دمائه تغلي بداخله منها ومن ضحكاتها مع خالد هذا الذي يسرقها منه في كل مرة يجمتعا به ويستأثر باهتمامها، ألا يكفيه ما يعانيه وحده هذه الأيام ببعدها عنه رغم قربها، وحرمانه من لمس ها حتى لو بين أصابع يده.
فخرج قوله ساخرًا بغيظ: - نسميها خالد برضوا؟
ضحكت نوال ومعها زهرة بعد سماع جملته، ورد خالد بابتسامة زادت باستفزازه وهو يرتخي بظهره على المقعد من خلفه واضعًا ذراعه على كتف زهرة: - لا طبعًا يا عم متسميهاش ولا تتعب نفسك، انا اللي هسميها واختار الأسم بنفسي.
إستجاب له جاسر بابتسامة ازدادت بسخريتها ليجيبه: - كان على عيني يا خالد باشا، بس المشكلة بقى إن الطفل دا بالذات محجوز.
أخفض صوته يكمل بهمس ويده تشير بخفة للخلف: - الست الوالدة والسيد الوالد حددوا الأسامي، سواء للولد أو البنت، ومش راضين يبلغوني انا ولا ومراتي عشان ما يبوظوش المفاجأة!
- مفاجأة!
تفوهت بها نوال تكتم ضحكاتها، وهي ترى وجه خالد الذي عبس كطفل صغير أُخذت منه لعبته، بعد أن ألجمه جاسر بحجته، والذي أكمل: - معلش خيرها في غيرها، مش انت برضوا فرحك قرب، يعني مش بعيد نفرح بعوضك إن شاء الله، قبل ما يجي النونو التاني بتاعنا، وابقى سمي الواد وسمي البنت، حد هيشاركك يا عم؟
تدخلت معهما زهرة وقد أثرت بها كلمات جاسر: - يا نهار أبيض، دا اليوم المُنى والله يا خالي دا اللي اشيل فيه ولادك على إيدي، ربنا يقرب البعيد يارب.
تمتمت نوال ومعها خالد الذي ضم زهرة إليه ليقبلها على أعلى رأسها يقول: - حتى لو جيبت ميت عيل، انتِ البكرية بتاعتي وأول فرحة عيني، ولو انتِ مش واخدة بالك يابت؟
أردف بكلماته مشددًا عليها بذراعيه وهي مستجيبة لها بتأثر شديد، حتى إذا نزعت نفسها منه اصطدمت عيناها بعيني جاسر التي كانت تطلق شرار الغضب المستتر رغم جمود وجهه، لفها الإرتباك وعدم الراحة فنهضت متحجة بالإطمئنان على الطعام وما يعُده الخدم، وذهبت مغادرة للهرب من عينيه المسلطة عليها. انتظر لدقائق قليلة لينهض هو الاَخر: - طب يا خوانا عن إذنكم بقى عندي اتصال مهم ولازم اعمله.
- اتصال إيه دا اللي حبك دلوقتي بس يا عم جاسر؟
سأله خالد بتشكك، ليجيبه جاسر ببساطة: - شغل ياعم، شغل، عن إذنكم.
قالها وانصرف مغادرًا بخطواته السريعة من أمامهم، ليغمغم من خلفه خالد: - باينه قوي حركاته القرعة، أكيد رايح وارها.
ردت نوال ضاحكة: - مافيش فايدة، انتوا الاتنين عاملين زي العيال اللي بتتخانقوا على عروسة قماش، دا يقول بتاعتي، ودا يقول بتاعتي، بس انت كياد أوي.
تبسم لها رافعًا حاجبه بمرح، ليزيد بداخلها البهجة مع شعورها بسعادته بعد اطمئنانه على زهرة واستقرار الحال معهما اخيرًا وقد اقترب ميعاد زفافها به ولم يتبقى سوى إسبوع،
أجفلت لتلتف رأسها معه للخلف فجأة على أصوات الضحكات العالية لعامر ورقية، حتى لمياء تخلت عن جمودها قليلًا وقد أصابتها عدوى الضحك مثلهم ولكن برزانة لا تحيد عنها.
وإلى زهرة التي كانت في طريقها إلى الخروج للحديقة، بعد أن أشرفت على قائمة الطعام الذي سيقدم بعد قليل، لتفاجأ بقبضة حديدية على رسغها وتجذبها للخلف، وقبل أن يصدر صوت شهقتها وجدته يحذرها بسبابته، أومأت لتستسلم مضطرة لسحبه حتى دخل بها لغرفة المكتب، ليخرج صوتها اَخيرًا: - في إيه يا جاسر؟
اقترب برأسه منها يحدجها بنظرة مخيفة وهي تتراجع للخلف برأسها على قدر ما تستطيع وقد حاصرها بينه وبين الجدار خلفها ليهدر مع أنفاسه المتهدجة بنبرة هادئة مريبة: - اتقي شري يا زهرة انا على اَخري.
- وانا عملتلك إيه؟
قالتها بعفوية قبل أن تنتفض على ضربه للجدار خلفها بكف يده: - ما تسأليش وتستفزيني، تسمعي الكلام وبس.
أومأت رأسها بمهادنة لتجتنب شره: - حاضر حاضر.
سمع منها ليتبع بقوله: - بقك دا ما يتفتحش بالضحك تاني أبدًا سامعة؟
- عايزني مضحكش خالص؟!
سألته بدهشة ليردد لها بإصراره: - أيوة ما تضحكيش خالص.
اومأت تطيعه حتى تنتهي وقفتها، ليُكمل كازًا على أسنانه من الغيظ: - وإياكِ اَلاقيكي لازقة جمب خالد، تروحي في أي حتة بعيد عنه فاهمة ولا لأ؟
عادت لعفويتها: - بس دا خالي؟
- ما تقوليش خالي ولا زفت، تسمعي كلامي دلوقت وانتِ ساكتة.
أومأت مرة أخرى بعدم اقتناع، لتردف بسؤالها: - في أوامر تانية؟
تسمر يطالع وجهها الجميل باشتياق وبداخله يود أمرها بألا تتجمل أكثر في عينيه، ألا تزداد فتنة بوضعها الجديد بحمل طفله، ألا تبتعد عنه ولا تخاطب أحد غيره، وألا يبتسم ثغرها الجميل لسواه أبدًا.
- مش كفاية بقى يا جاسر اتأخرنا عن الناس برا.
قالتها تفيقه من شروده، ليهدر غاضبًا: - مالكيش دعوة بالناس.
للمرة الألف تومئ بمهادنة لهذا المجنونة حتى يفك حصاره عنها فقد طالت وقفتهم: - حاضر تمام، مش هاتبعد شوية بقى خليني أمشي ولا اقولك انا عايزة اروح للحمام.
- إيه؟
- عايزة اروح الحمام يا جاسر.
اخيرًا شعرت بدخول الهواء لص درها، بعد إبتعاده عنها، لتتحرك مبتعدة عنه بحذر، حتى اقتربت من باب الغرفة تذهب سريعًا من أمامه وقد نجحت بحيلتها للهرب منه، فتتركه يضرب بكفه على الجدار خلفه، ليخرج غضبه المكبوت.
توقفت أمام اللوحة المدون عليها باللغة الفرنسية إسم الكافيه الذي وصفت عنوانه بالدقة إليها في رسائل الهاتف، تطلعت بها لدقائق وهي تفكر بالأنسحاب والتراجع عن اللقاء بهذه الأفعى، مع شعور الخوف الذي يعتريها بقوة من المقابلة، أو الذهاب إليه لطلب النجدة، كي يحميها، فعل في المرة السابقة، وتؤازرها شقيقته الحنون برقتها، ولكن ومع تذكرها لقوله لها في الصباح، حينما أخبرها أنه تحت أمرها في أي طلب، كما أخبرها أيضًا أنها في مقام شقيفته!
عند خاطرها الاَخير، هزت رأسها لتستفيق من أفكارها وتحركت لتدخل وتواجه ما ينتظرها.
ولجت إلى داخل المكان الفاخر متوجهة على الفور لسؤال النادل عنها كما أخبرتها، ليسحبها الرجل معه حتى توقف بها أمام طاولة المذكورة في إحدى الجوانب المختصرة.
مائلة بجلستها على الطاولة، مريحة مرفقها على السطح، وبين إصبعيها سيجارة تدخن بها، لتعتلي زواية فمها ابتسامة نكراء أصابت غادة بالإشمئزاز منها، وقد رأت بها الوجه الحقيقي لهذه الحي ة، فجلست بدون تحية تسالها بقرف فور انصراف النادل: - أفندم عايزة أيه بقى مني؟ مش كفاية اللي عملتوه معايا إنتِ واخوكي؟
- واحنا إيه اللي عمالنا؟
قالتها لتقطع كلماتها فجأة وتطفئ سيجارتها في المطفئة قبل أن تتابع: - احنا ملحقناش نعمل أي شئ يا قلبي، بعد ما دخل شجيع السيما بتاعك وضرب لنا كرسي في الكلوب، وبوظ كل حاجة.
حدقت بها غادة بصدمة تتأمل هذه الملامح الشيط انية، المرأة التي كانت تظنها في يوم من الأيام صديقتها، ترى الاَن اَخيرًا وجهها الحقيقي دون رتوش أو تزيف لمعدنها الصدئ وهي تخبرها بكل بساطة عن ما خططته لها كلقمة سائغة لإخيها، فخرج صوتها بأنفاس متهدجة: - يعني انتِ كمان عندك البجاحة وبتعترفي بنفسك ع اللي كنتِ هتعمليه فيا انتِ واخوكي بعد اللي حطيتهولي في العصير؟ قد كدة شرف الناس ملوش قيمة عندكم؟
حدجتها ميرفت بنظرة مستخفة ترد بلهجة هادئة لم تتخلى عنها: - لأ يا غادة مالوش قيمة عندي، عشان أكيد كنت هراضيكِ بقرشين، بس بعد ما تنفذي اللي هطلبه منك.
عادت غادة برأسها للخلف ترفرف بأهدابها تستوعب السهولة التي نطقت بها الكلمات، وشبه ابتسامة غريبة ارتسمت بذهول اكتنفها لهذه النوعية التي تراها ولأول من البشر، فردت ساخرة: - وكمان كنتِ هتديني قرشين تراضيني بيهم؟ دا إيه الكرم دا يا ست ميرفت؟ دا انتِ يتعملك تمثال يا شيخة.
خرجت الاَخيرة بغيظ لم تأبه به الأخرى لتزيد بضغطها: - اتريقي براحتك يا غادة، بس عايزة افكرك يا قلبي بالسبب اللي خلاني اطلبك النهاردة مخصوص، بعد ما بعت الصور.
تذكيرها بالصور أعاد إليها الخوف الذي كانت تناسته للحظات قليلة، لتحدق بها باستفهام يشوبه الأرتياب، التقطته ميرفت لتكمل بفحيح: - ايوة يا غادة، تفتكري كدة لو فيدوهاتك دي وانتِ بتتطوحي وتهلفطي بالكلام الأهبل في حضن اخويا اللي طبعًا هعرف اتصرف ومجبش شكله، لو وصلت لأهلك أو للناس في الحارة عندكم، هيقولوا عليكِ إيه ساعتها؟ لأ وصورتك ماسكة الكاس كمان، دي إثبات رسمي...
- انت عايزة إيه؟
هتفت بها غادة قاطعة بحدة استرسال الأخرى، وقد برعت في زرع الفزع بقلبها من مجرد التخيل، فتابعت بنفس الحدة: - هو إنتِ حكايتك إيه بالظبط؟ تلفي عليا وتصاحبيني وتعملي خطط عشان توقعيني، لا وتمسكي عليا صور وحاجات، انا عايزة افهم؟ هو انتِ شغالة مع المنظمات اياها دي اللي بتوقع البنات؟ انا قولت من الأول انت شكلك ق وادة.
زجرتها بنظرة محذرة غاضبة رغم سخريتها من التخمين المبالغ فيه: - بطلي قلة أدب، واسكتي بقى عشان انا هجيبلك من الاَخر.
صمتت برهة تتابع وجه غادة المترقب لتردف بكشف أوراقها: - انا لا تبع منظمات ولا الكلام الأهبل بتاعك، انا كل يشغلني هو بنت خالك وجوزها.
هتفت غادة بارتياع مرددة الأسم، وكأنها تتأكد من مقصدها: - زهرة!
تبسمت لها الأخرى تُظهر أنيابها للتأكيد على قولها: ، أيوة زهرة، عايزة اعرف أيه سرها مع الضلمة اللي قولتي عليها، والتعابين، والبني اَدم ده بتاع البرشام حكايته أيه معاها؟
سمعت غادة لتشهق لاطمة على خديها بعنف سأئلة برعب: - يا نهار اسود، وانتِ مالك بالحاجات دي؟ هو انتِ عايزة تأذيها بجد؟
تبسمت لها بجانبية ساخرة تؤكد مرة ثانية بهز رأسها: - اه يا غادة عايزة أذي جاسر الريان باذيتها هي، وانت هتساعديني زي ما كنتِ بتساعديني كل الأيام اللي فاتت دي، بداية من المطعم لو تفتكري؟
قالت الأخيرة بغمزة متابعة الشحوب الذي بدا على وجهه الأخرى، وقد افتر فاهها بالصدمة حتى ظنت أنها تجمدت محلها، لتتابع الطرق على الحديد الساخن: - انتِ بتكرهيها زي ما انا بكرهها وبكره جوزها.
- انا مبكرهاش.
هتفت بها سريعًا غادة وقد انفك جمودها عقب استيعاب الصدمة لتكمل باكية: - انا عمري ما كرهتها، انا كنت بس بغير منها عشان هي واخدة محبة الكل وانا لا، عندها أهل وانا معنديش رغم ان انا اللي معايا الأب والأم وهي لأ، في أي مكان نمشيه مع بعض تختطف العيون نحوها حتى لو لابسة شوال، وانا اكون لابسة واشيك وأحلى منها، ومحدش يشوفني، انا عمري ماكرهت بنت خالي ولا هرضى أبدًا بأذيتها، منك لله يا بعيدة منك لله.
أنهت لتدخل نوبة من البكاء الحارق مع تذكرها لكل ما مضى، باستغلال هذه المرأة لها في أذية أقرب الناس إليها، وهي تسير معها كالبهيمة المغمضة عينيها.
انتظرت عليها قليلًا ميرفت تتابع بكاؤها بسخرية صامتة حتى ضافت بها لتُصمتها بضرب سطح الطاولة بينهم، بكف يدها هادرة بهمس
- كفاية بقى اقفلي الحنفية دي وبطلي فضايح...
أجفلتها لتوقف غادة عن البكاء مضطرة فتابعت لها: - انا معنديش وقت للفرجة كدة كتير، خلصي بقى وانجزي، مين بتاع البرشام ده؟ وايه حكاية الضلمة والتعابين؟
ضغطت بعينيها الباكية غادة ترفع رأسها إلى السماء تلتمس القوة، لتعود إليها تقول بحرقة: - هو إنتِ جنسك إيه يا شيخة؟ إيه اللي ما بينك وبين جاسر الريان يخليكِ تغلي بالشكل ده على واحدة حبها؟ ذنبها إيه تاخدي انتقامك من جوزها فيها؟ وغرضك أيه بمعرفتك عن الحاجة اللي بتخوفها؟
استطاعت ميرفت السيطرة على غضبها بصعوبة رغم براكين الحمم التي تسري بداخلها وقد ضغطت غادة بكلماتها على جرح قلبها الملتهب ولن يلتئم الإ بجرح مثله وهي مُصرة على فعل ذلك مع جاسر الريان، تمالكت فخرج صوتها بحزم: - ملكيش دعوة باللي غرضي فيه، انتِ تجاوبي وانت ساكتة.
توقفت غادة عن البكاء لترد بقوة: - تعبك هيجي على فشوش، عشان لو بخصوص الضلمة والتعابين فدا كان بسبب حادثة قديمة وأكيد نسيتها دلوقت، وأما بقى فهمي بتاع البرشام، فدا راجل بلطجي وهربان من حكم قضية للمخ درات، وان شاء الله يتقبض عليه قريب.
أوسمة، ميداليات متنوعة بين الفضية والذهبية، كؤوس عدة للفوز بالبطولات، معظمها لرجل الكبير رحمه الله، والأخرى مدونة بإسم كارم حتى توقفها قبل خروجه من كلية الشرطة، هذا يعني كان ممتاز في الدراسة ودائم الحصد للبطولات، إذن ما الذي حدث؟ كي يأخذ غضب معلميه حتى ينهوا مستقبله بجرة قلم وهو ابن رجل منهم؟ تنهظت تجسر نفسها فالمهمة ليست بالهينة مع المرأة والدته، دخول المنزل نفسه له هيبة غريبة جعلت قلبها ينقبض داخل ص درها، ليس به من الدفء الأسري او العائلي إطلاقًا.
ظلت محلها تتأمل في حائط البطولات والناشين حتى استمعت لصوت المرأة المتفاجئ بحضورها: - كاميليا معقول! دا انا مصدقتش الخدامة لما قالتلي.
التفت إليها المذكورة بابتسامة أجادت تصنعها: - ليه بقى يا طنت؟ هو انا غريبة عن البيت؟
- غريبة دا إيه؟ دا انت ليكِ في البيت أكتر ما ليا.
قالتها المرأة في بداية ترحيبها قبل أن يتصافحان ويتبادلان الحديث الودي والأسئلة الروتينية في هذه اللقاءات، ثم كانت الجلسة بينهم على كنب على الصالون الكلاسيكي.