رواية نعيمى وجحيمها الفصل الرابع والخمسون 54 بقلم امل نصر

 

رواية نعيمى وجحيمها الفصل الرابع والخمسون بقلم امل نصر

54=رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل الرابع والخمسون

وصلت إلى مقر عملها تجر أقدامها جرًا، ليس تعب؛ ولكنها حالة من الفتور جديدة عليها، وقد تلبستها منذ عدة أيام بعد أن كان الحماس رفيقها دائمًا، في رحلة البحث لإثبات نفسها في المجال الذي تعشقه دون مساعدة من أحد، رجل كان أو امرأة، قبل أن تسقط جبرًا في فخ هذه الدائرة الطاحنة في الصراع مع قلبها الذي خانها لأول مرة، بعد مقاومة استمرت لسنوات، حتى ومع لجوئها لاتخاذ طريقًا مغاير، لتجد نفسها سقطت في بئر اَخر مزدحم بالغموض والمستقبل المبهم مع شخص تكتشف فيه يومًا بعد يوم خيبتها في اتخاذ قرارًا مصيري كهذا، حينما لجأت إليه بالهرب من الاَخر وقد توسمت به الخير مع الفكرة التي ترسخت بعقلها من البداية، وهي عدم تكرار الخطأ بالموت عشقًا إن تركها!

أما الاَخر وقد ظنت أنها نجت من فخه، لم تكن تعلم أن جحيمه في البعد أقوى.
مازال قلبها يأن من الوجع بل وزاده شيئًا اَخر، وهي الغيرة التي في غير محلها!
تنهدت بثقل وهي تخطو لداخل المصعد لكي تصل إلى وجهتها في الطابق المقصود، والذي يحمل غرفة مكتبها، مقابل غرفته.

ولكن وقبل أن يتحرك بها للأعلى، فوجئت بها تقتحم المساحة الضيقة لتنضم معها، بهيئتها التي تخطف الأنفاس وهذا الجمال المبهر، ورائحة العطر القوي التي هبت معها لتزكم انفها، تتحدث لاهثة: - الحمد لله اَخيرًا وصلت.
قالتها ثم التفت لكاميليا تخاطبها: - صباح الخير يا فندم. عاملة إيه النهاردة؟

حتى صوتها الناعم يصل إلى المستمع كأنه اَلة موسيقة تغرد وحدها في الفضاء لتطرب الأسماع: - حضرتك هو في حاجة يا فندم؟ اصل بكلمك وانتِ ما بتروديش عليا: قالتها لينا في محاولة أخرى للفت انتباهاها وقد أسهبت في الشرود وتجاهلها، نفضت رأسها كاميليا لتجيبها بلهجة عادية: - لا اطمني يا لينا مافيش حاجة، أنا بس سرحت في حاجة كدة تخصني، لكن انتِ إيه أخبارك بقى؟ مستريحة في الشغل هنا معانا؟

سألتها بمغزى تقصده، وكانت إجابة الأخرى بتطويل كعادتها: - الحمد لله يا فندم، الشغل هنا على قد ما هو كتير، بس برضوا الواحد مبسوط عشان لما بأدي فيه بإخلاص بلاقي نتيجة لجهدي، ميزة الشغل هنا، إن فيه تقدير للموظف من رئيسه.
طحنت بداخلها وقد علمت بمقصدها جيدًا فقالت متابعة بفضول وابتسامة صفراء ارتسمت على وجهها: - يعني انتِ قصدك إن مستر طارق كويس معاكِ ومبسوطة معاه؟

رفعت رأسها لينا عن بعض الملفات التي كانت تراجعها سريعًا، لتجيب بابتسامة حالمة: - جدًا يا فندم جدًا.

قالتها وتوقف المصعد فجأة لتسأذن للخروج، متغافلة النظر عن كاميليا التي نست نفسها وضغطت على شفتيها بأسنانها حتى كادت أن تدميها من الغيظ، لتخرج بعدها زافرة بحريق قبل أن تنتبه على الورقة التي سقطت منها في أثناء سيرها السريع فخطت حتى اقتربت تتناولها بظنٍ انها تخص العمل، ورغبة شريرة تدفعها لفش غيظها بها كموظفة مهملة في عملها، هذا إن صدق تخمينها، لتُفاجأ بمحتوى المكتوب في الورقة بعد أن ألقت نظرة سريعة وشاملة في القراءة، لترفع رأسها بعد ذلك مغمغمة بقهر: - وكمان بتجيبلوا اشعار يقراها، ودا انت اللي كتباها ولا هو اللي كاتبهولك؟ ماشي يا طارق!

استيقظت من نومها على أثر الحركة من حولها، فتحت عينيها لترى خياله وهو يخطو لداخل الغرفة بالفنجان الكبير بيده، حتى وصل إلى الكنبة الجانبية في الركن القريب والتي أصبحت مقره منذ وعكتها الاَخيرة وإصرار لمياء على ابتعاده عنها وعدم مشاركته لها النوم على التخت.

رفع الغطاء عن مكان نومته بإهمال ليضعه على احد المقاعد المجاورة، وتناول الوسادة ليضعها خلف ظهره بعد أن مد بأقدامه عليها ليضع عليهما الحاسوب لينشغل به كالعادة قبل الذهاب إلى عمله.
اعتدلت بجذعها لتجلس مستندة بذراعيها تتأمل عبوس وجهه وتجهمه بابتسامة متسلية، وهي الأعلم بكم ما يحمله من غيظ بداخله الاَن، مع ضغط لمياء ومشاكسة عامر الدائمة له.

نهضت لتسير على أطراف أصابعها بنية واضحة لمفاجأته، ولكن وكالعادة بهذا الحس البوليسي الذي يملكه فاجأها بالتفاف رأسه إليها بحدة وترقب، ليفتر فاهه بابتسامة بمفاجأتها رغم بؤسه بعد ذلك: - كنت عايزة تخضيني صح؟
ارتخت ذراعيها عما كانت تنتوي لتردف إليه بإحباط: - واعملها ازي دي وانت ولا كأنك مركب ردار في قفاك من ورا؟

أطلق ضحكة مدوية بصوته العالي أسعدتها ليرد معقبًا على عبارتها: - يا حبيبتى ما انا كذا مرة اقولك ماتحاوليش، أنا عندي ودان بتجيب دبة النملة وحاسة شم اقوى منها كمان، وانتي يا قلبي مكشوفة قوي بالنسبالي مهما حاولتي.
تبسمت تقول برضا ما تشعر به بعد أن انزاح عبوس وجهه وتجهمه: - مكشوفة مكشوفة يا سيدي، اهم حاجة انك ضحكت.

سمع منها ليشتد وجهه مرة أخرى ويعود لتجهمه، وكأن بقولها قصدت تذكره، فالتف عنها لينكفئ على حاسوبه مرة أخرى، ليرد بلهجة جامدة: - الف شكر يا ستي على مجهودك.
صدمها قوله ليثير الغضب بداخلها، فاقتربت لتجلس بجواره على طرف الكنبة ترد بغيظ: - متشكرين يعني إيه بقى؟ فيه إيه يا جاسر؟ هو انا ليه حاساك كدة شايل ومعبي مني من يوم ما تعبت؟

رمقها بنظرة حانقة قبل أن يومئ بعينيه لها بتنبيه قائلًا: - طب حسبي يا ماما وانت قاعدالي ع الطرف، لتتزحلقي بضهرك ولا تميلي كدة غلط، فتيجي طنت لميا تجيبها فيا.
تقربت لتزحف أكثر بجواره على قصد تقول بمناكفة مع ابتسامتها: - طب ما توسعلي طب شوية عشان مقعش ولا انت عايزانى اقع؟

ارتفع حاجبًا واحدًا باندهاش من فعلها الجرئ والمفاجئ، ليرد متصنعًا الحزم يكتم ابتسامة ملحة: - إبعدي يا ست انتِ أحسنلك، مش ناقص تحرشات ولا مصايب على اول الصبح، انا راجل ماشي في حالي وجمب الحيط.
سمعت منه لتنف جر ضاحكة حتى مالت بظهرها للخلف، فلحقها على الفور بذراعيه، مرددًا بلهفة حقيقية: - امسكي نفسك شوية بقى يا زهرة، أنا بتكلم بجد والله.

اوقفت ضحكها لتجيبه وهي تعتدل بجلستها: - يا جاسر ما تخافش اوي كدة، أنا لو مش كويسة ماكنتش هاجي ولا اغلس عليك، طب دا انا كنت عايزة اقولك كمان ان اقدر اروح معاك الشغل النها...
- إيييه؟
تفوه بحدة يقاطعها قبل أن تكمل جملتها ليصيح بارتياع حقيقي: - دا مش هزار بقى وانتِ قاصدة بجد، فيه إيه يا بنتي؟ أهم حاجة دلوقتي صحتك انتِ والطفل يا زهرة الشغل مش هيطير.

مالت نحوه قائلة بنعومة لأقناعه: - يعني انت محنتش لقعدتي معاك في المكتب؟ ولا قهوتنا اللي بنشربها مع بعض في كل بريك، انت تاخدها سادة وانا اخدها باللبن كالعادة؟
تسمر ينظر لها باشتياق، فكل هذه الأشياء التي ذكرتها لا تأتي شيئًا بجوار شعوره بالقرب دائمًا منها وتحت عينيه التي لا تمل من النظر إليها عبر الشاشات كل دقيقة.
- أممم
زامت بفمها المغلق تهز رأسها بتساؤل وترقب، ليأتي قوله الحاسم؛.

- لأ يا زهرة، قولنا ما فيش شغل يعني ما فيش شغل، وانسي الكلام ده دلوقتي خالص أحسنلك.
ردت بمجادلة لقوله: - أيوة بس انا حاسة بنفسي كويسة النهاردة واقدر اخرج معاك واشتغل كمان، أصل بصراحة بقى قرفت من النوم والحبسة في البيت وانا مش متعودة على كدة.

طحن أسنانه بغيظ من إصرارها الذي أدى للنتائج التي هم بصددها الاَن، فقال يذكرها: - تاني برضوا عايزة تعملي اللي في دماغك يازهرة؟ طب افتكري الخوف اللي كان هيوقف قلبي لتحصلك حاجة انت ولا الطفل ساعتها، ولا افتكري حتى عمايل لميا وتحكماتها ولا انت مش واخدة بالك اني لسة بنام ع الكنبة ها؟

خرجت الاَخيرة بغيظ شديد جعلها تبتسم بتسلية فقالت تجفله ببساطة ما تتفوه به: - طب ما تيجي مكانك هو انا منعتك، ما انا بقول اهو إني خفيت.
تدلى فكه ليضغط عليه بكف يده وقد بالغت في استفزازه: - إنتي عايزة تجننيني يا زهرة؟ بقولك لميا وتحكماتها ولا تريقة السيد الوالد كمان عليا في الطالعة والنازلة، الناس دي ضميرها مش سالك، عشان تبقي عارفة.

انفعاله مع ما يتفوه به من كلمات وهو يُظهر حجم معاناته، جعلها تضحك بلا توقف لتزيد من عصبيته مع تحكم هائل حتى لا يغلق فمها بقبلة كبيرة يفرغ بها اشتياقه لها الذي يؤرق مضجعه وهو معها وبنفس الغرفة ولا يستطيع الإقتراب منها.
انتفض فجأة على صوت طرق على باب غرفته، وقد خمن وحده بالطارق قبل أن يصدر صوتها: - يا جاسر، يا زهرة هو انت صحيتوا يا ولاد ولا لسة؟

أشار لها بسبابته لتفهم وحدها ليهمس من تحت أسنانه: - شايفة نتيجة عملك واللي وصلتينا ليه؟
اومأت بكفيها أمامه باستسلام مع ابتسامة مستترة وهي تنهض ذاهبة لتختها لتنضم بالفراش مرة أخرى كطفلة مطيعة، وهو يتابعها بغيظ ضاغطًا بأسنانه على شفته السفلي، قبل ينهض على الطرق المتواصل ويقوم بفتح الباب لوالدته مع غمغمة واضحة: - ما اديني جاي يا ستي، هو انتِ مصدقت رجلك وخدت على الأوضة ولا إيه؟

- صباح الخير يا عيون ماما.
تفوهت بها لمياء على عجالة بقبلة على وجنته كتحية فور رؤيته، لتلج سريعًا بداخل الغرفة، فذهبت عينيها على الاَريكة أولًا كاطمئنان قبل الإنتقال إلى الناحية الأخرى عند زهرة، لتبادرها بالسؤال الإعتيادي: - عاملة إيه النهاردة يا زهرة؟ حاسة نفسك كويسة؟
اعتدلت تجيبها بابتسامة ودودة لرعايتها الدائمة لها طوال الأيام السابقة: - كويسة والحمد لله، دا انا حتى لسة كنت بقول لجاسر.

التفت إليه لمياء لترمقه بنظرة مرتابة رغم مخاطبتها لزهرة: - والله، وكنتٍ بتقوليله إيه بقى؟
لوح بكفيه أمامها بقلة حيلة يردد لها باندهاش: - يعني هتكون بتقولي إيه بس يا ماما؟ هو انتو ليه كدة نيتكم بقت وحشة ناحيتي؟

حدجته بطرف عينيها متجاهلة الرد عليه، لتتجه للأخرى قائلة بجدية: - طيب ياللا قومي يا زهرة اغسلي وشك وفوقي على ما اروح انا وانبه على الخدم يحضروا الفطار عشان تاخدي الدوا في ميعاده، وما تنسيش ان النهاردة ميعاد الدكتورة عشان تشوفك.
أومأت لها بحرج فخرج صوتها على تردد وعينيها تنتقل نحو جاسر تبتغي الدعم
- لا ما انا بقول نأجل زيارة الدكتورة النهاردة عشان...
- عشان أيه يا زهرة؟

سألتها لمياء باهتمام لتجد الرد جاءها من الخلف حيث قال جاسر: - خال زهرة وستها جاين النهاردة يشوفوها بعد الضهر، ومعهم نوال خطيبته، أنا عزمتهم امبارح وهرجع من الشغل بدري أن شاء الله واستقبلهم.
التفتت إليه لمياء صامتة قليلًا بتفكير قبل أن تحسم أمرها قائلة: - اه وماله يأنسو ويشوفوا طبعًا، عن إذنكم بقى
تابعتها زهرة حتى خرجت لتهمس لجاسر: - هي زعلانة؟

نفى بهز رأسه على ثقة يجيبها قبل أن يجفل منتفصًا على صوت والدته التي عادت مرة أخرى إليه هاتفة من مدخل الباب: - وانتِ صحيح يا جاسر كفاية واقوم بقى، اتأخرت على شغلك.
اومأ لها يحرك رأسه بأعين متوسعة بذهول ليلتف بعد ذلك لزهرة التي وجدها خبئت وجهها بين كفيها غير قادرة على التوقف من الضحك بصوت مكتوم.

خرجت بعد انتهاء دوام عملها من الشركة، لتجده واقف بجوار سيارة رئيسه، يعطيها ظهره بتعمد لعدم النظر إليها، وقد بدا واضحًا انه انتبه على خروجها ليأخذ حذره سريعًا كباقي الأيام السابقة، من وقت معروف عمله معها بإنقاذها مرتين، الأولى كانت بإنقاذها وسمعتها من براثن الخطيئة والوقوع فيها على غير وعيها، والثانية بفعل شقيقته حينما ذهبت معها تؤازرها في مواجهة والديها.

تذهب وتجئ أمامه ولا مرة حدثها أو ناكفها كعادته، أو حتى يلقى على مسامعها من هذه الاغاني الممتزجة بغزله، وهي التي ظنت بأنه سيأخذها فرصة ليزيد على أفعالها معها، ولكن لماذا يكتنفها الحزن الاَن وقد رحمها مما كانت تضيق به سابقًا؟ لماذا تشعر وكأن شيئًا ما ينقصها؟! وكأن بتجاهله لها قد ترك فراغًا لم تحسبه من قبل!

حسمت قرارها هذه المرة مبادرة لفك هذا الجمود، وجسرت نفسها لتقترب وتحدثه رغم وقوفه مع صديقه عبده السائق.
- السلام عليكم ممكن كلمة يا إمام.
أجفل من فعلتها حتى أن لسانه انعقد عن الرد والذي تكفل عبده به باستيعاب سريع: - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، طب انا هروح اجيبلي حاجة اكلها يا صاحبي ومش هتاخر.

القى كلماته الرجل وهو يغادر من جوراهما ليخرج صوت إمام اَخيرًا بعد أن تحمحم يجلي حلقه: - اهلا وسهلًا، احنا تحت الخدمة.
لهجته الرسمية وعدم النظر لعينيها مباشرةً مع هذا التجاهل المسبق جعلها تبتلع غصة مريرة بحلقها، وقد تأكدت من صدق التخمين الذي طرأ برأسها فخرجت كلماتها بصعوبة: - انا نزلت في نظرك صح؟
سألها متفاجئًا: - ليه بتقولي كدة؟ هو انتِ شوفتي مني حاجة تأكد كلامك ده؟

أومأت برأسها وقد غشت عينيها سحابة خفيفة من الدموع على وشك النزول، لتردف بصوت مبحوح: - مش لازم تقول ولا تبين، رد فعلك نفسه واجتنابك حتى النظر إليا، يأكد الفكرة اللي في دماغي، بس انا ممكن تكون فيا كل العبر، إلا ان اكون هاملة او ساهلة، والدليل إن انتِ شوفته بنفسك، لما حطولي في العصير اللي يقدر يلغي عقلي لما ما قدروش يميلو دماغي.

اَلمه عن حق ان يراها بهذا الضعف أمامه، حتى ان قلبه كان يصرخ بداخله لكي يربت على حزنها ببعض الكلمات المهونة كي بثبت لها بالفعل انه يعلم بصحة ما تتفوه به بدون قولها، ولكن كرامته الاَبية الجمت لسانه عن الرد، فليس هو من يقبل على نفسه باستغلال معروفه لكن يصل لغرضه او مثل ما قالت وبدون أن تدري بإصابة الحقيقة، أن يأخذها فرصة.

أوقفت شروده بقولها الاَخير: - على العموم انا جيت اقولك بنفسي اللي محشور في زوري، وانت حر بقى، سلام.
أنهت لتتحرك دون أن يوقفها ليزداد يقينها اكثر بما رأته في عينيه، ولكنه أجفلها فجأة بالنداء بإسمها من خلفها: - غادة.
التفت إليه ناظرة بتساؤل، ليجيبها بكلمات محددة وغير متوقعة منه: - وقت ما تحتاجيني ولا تعوزيني في أي وقت انا تحت أمرك، ماتتكسفيش من طلبك ليا في أي شئ، انا اعتبرتك في مقام خلود دلوقتِ.

أومأت برأسها بحركات غير مفهومة له مع صدمتها بكلماته المفاجئة ثم ما لبثت أن تلتف سريعًا لتطلق سراح دموع في أقصى خيالها لم تظن ان سيأتي هذا اليوم لتهطل منها بسبب سماعها لهذه الكلمات منه، يبدوا أنها أصبحت منبوذة من الجميع، صديقاتها التي خسرتهم في الركض خلف السراب، ثم هو وقد ظهر معدنه الحقيقي معها في أشد أوقاتها احتاجًا.

علي مكتبها كانت يدها تتلاعب بقلمها لترسم خطوط وهمية بشرودها، فمنذ أن علمت بإسم الرجل زوج المرأة التي حدجتها بكره في حفل عيد الميلاد الذي حضرته، وهي لم تهدأ بالبحث على حذر، والحديث مع بعض الأفراد أقاربه التي التقتهم في مناسبات عدة قبل ذلك، او حتى مفاتحة المرأة الشابة زوجة الرجل العجوز والدي الطفلة صاحبة عيد الميلاد، ولكن لا شئ أتى بنتيجة تذكر، لا أحد يعلم عن كارم سوى أنه كان على وشك التخرج من كلية الشرطة وحدثت معه مشكلة ادت لخروجه، فيبدوا ان المذكور ووالديه يتكتمون جيدًا على امورهم الشخصية، كذلك لم تعلم عن المدعوة ندى سوى بقرابتها لكارم بصفتها إبنة عمته، وزوجها صاحب المشكلة التي يقت لها الفضول لمعرفتها، علمت أنه يعمل في دولة أخرى ولا يجئ للبلد سوى في الاَجازات مع زوجته!

يكتنفها شعور قوي بالعجز وقلة الحيلة وبحثها الذي ينتهي دائمًا بالفشل، وقد استغلت أيام سفره للخارج منذ عدة أيام لتأدية بعض المهام الخاصة بعمله، بالنيابة عن جاسر الريان الذي لم يقوى على السفر وترك زوجته في وعكة حملها، فجاءت كل محاولتها دون جدى، ولكن يبقى خيط الاَخير هو المتبقي لها رغم خطورته ولكن ما المانع من المحاولة قبل عودته من سفره؟، حتى لو كان هذا الخيط والدته!

أجفلت من شرودها فجأة على صوت غريب وكأنه صرخات، انتفضت من محلها لتخرج وتستطلع بنفسها الأمر.

بعد خروجها من غرفتها وضح الصوت أكثر وتزايد حتى علمت بمصدره في جهة الغرفة الخاصة بطارق، إرتجف قلبها من الخوف لتعدوا بخطوات مسرعة كالركض غير مبالية بمظهرها، فكل ما يهمها الاَن هو الإطمئنان عليه، وأن تراه سليمًا معافًا، توقفت فجأة برؤيته خارجًا من الغرفة ويسند بذراعيه هذه المدعوة لينا لتتبين من رؤيتها أنها هي من كانت تصرخ: - اااه هموت مش قادرة.

- خلاص يا لينا اتحاملي على نفسك شوية، كلها دقايق واوصل بيكِ المستشفى.
كان هذا قاله في التهوين على الفتاة قبل أن تقع عينيه عليها، وينتبه على وقفتها متخشبة وسط الرواق، فهتف يفيقها من زهولها: - كاميليا تعالي سنديها معايا أرجوكي وساعدينا.
أجفلت بندائه لتقترب منهما وتسندها من الجهة الأخرى فسألته مندهشة لهيئة لينا المزرية وهي تتأوه بألم شديد ظهر على ملامح وجهها التي تغضنت بشدة: - هي مالها وبتصرخ كدة ليه؟

أجابها طارق بتشتت وعينيه تقيس المساحة المتبقية نحو المصعد، فصراخ الفتاة مع ميله للأسفل بطوله الفارع حتى يقترب من مستوى قصرها يجعل الأمر مرهق بالفعل عليه: - معرفش يا كاميليا والله ما اعرف، انا خرجت من مكتبي على صوت صريخها ده وهي بتضرب بكفوفها على سطح المكتب اللي كانت قاعدة عليه.
عادت بالسؤال كاميليا إلى لينا نفسها: .
- إيه اللي حصلك ما كنتِ زي الحصان الصبح؟

أجابتها الاَخيرة وهي تضرب باقدامها على الأرض من الألم وصوت باكي: - معرفش معرفش، كان ألم بسيط في البداية وبعدها اتطور بالشكل القوي والغير محتمل ده، انا مش قادرة مش قادرة.
فاض به طارق ليتوقف فجأة متمتمًا بضيق: - إحنا كدة بالمنظر ده مش هنوصل للصبح حتى، إبعدي كدة يا كاميليا.
- أبعد ليه؟
سألته المذكورة باندهاش لتفاجأ به يدنو للأسفل ثم يقوم برفع لينا بين ذراعيه مرددًا: - كدة أحسن بقى عشان اخلص.

قالها ليعدو بسرعة وكأنه لا يرفع بيده شئ، شهقت متفاجئة بغيظ ولكنها تمالكت لتلحق بيه مرددًا: - أنا كمان جاية معاكم، عشان اطمن بنفسي.

- أهلا وسهلا يا حجة نورتينا.
قالها عامر في بداية ترحيبه برقية بجلسته معها وخالد وخطيبته نوال، بادلته رقية التحية بابتسامتها المشرقة دائمًا: - دا نورك يا باشا، البيت منور بأهله واصحابه.
طب انت عارفاني بقى يا حجة؟

قالها عامر بعفوية ليفاجأ بشهقة عالية من رقية مع ردها إليه: - طبعًا عارفاك، لهو انت فاكرني كبيرة في السن ولا مخرفة عشان جدة يعني وعندي حفيدة لأ يا باشا، دا انا متجوزة على 14 سنة يعني مش بعيد اطلع اصغر منك
- ماما!
هتف بها خالد بصدمة ولتنبيه والدته أما عامر فاطلق ضحكة عالية دوت بقوة نحوهم ليقول بعدها: - مالكش دعوة يا عم انت، خليك مع البت الحلوة اللي جامبك دي، وسيبنا انا والحجة ما تتحشرش بينا.




قالها بإشارة لنوال التي أصابتها عدوى الضحك هي أيضًا، أما خالد فزفر لفعل والدته التي رمقته بتحدي غير مكترثة، قبل تعود لعامر الذي شاكسها بمرح: - طب بقولك إيه يا ست رقية، ما تجيبي تاريخ ميلادك وانا اجيب تاريخ ميلادي وتشوف مين فينا الأكبر.
ردت رقية بسرعة بديهة: - تاريخ إيه؟ بقولك إني على اتجوزت على 14 يعني سننوني في الشهادة تسنين عشان المأذون يكتب كتابي، دا يمكن اطلع اصغر من كدة كمان.

ضحك من قلبه عامر مع رده لها: - لا دا انت شكلك زكية اوي ومحدش بقدر يغلبك. في الكلام.
همت رقية للرد لكن الكلمة توقفت على لسانها وهي ترى لمياء وهي تهبط الدرج وتقترب منهم، لتتمتم لعامر بعفوية: - يا ختيي مين الست الحلوة ام عيون خضرا دي؟ هو جاسر له أخوات؟

برقت عينيه عامر سريعًا مع ابتسامة مستترة واقترب منها ليهمس لها بتحذير: - اخته مين يا ست؟ دي والدته، حاولي بقى ما تقوليش كدة قدامها لتشوف نفسها عليا وانا مش ناقص.
استجابت له تهمس هي الأخرى: - عندك حق الستات بتسمع كدة وتسوق فيها.
- بيتوشوشوا في إيه دول؟

غمغم بها خالد بدهشة وهو يرى الإندماج السريع ببن عامر ووالدته، لينتبه فجأة على اقتراب لمياء لتصافحه مرحبة بمودة رغم جمودها الإعتيادي، ثم ابتسامة متوسعة لنوال قبل أن تذهب لعامر ورقية للترحيب بها هي الأخرى قبل نزول ابنها من الطابق الثاني بصحبة زوجته التي شددت عليها بالنصائح المهمة سابقًا، حتى لا تؤذي نفسها والجنين مع لهفته وفرحة بمجئ أهلها.

علي إحدى مقاعد الإنتظار بالمشفى كانت جالسة تتابعه وهو يقطع الطرقة الصغيرة ذهابًا وإيابًا دون هوادة، وقد تبين خطورة وضع الفتاة بعد ان أجمع الأطباء بصحة التشخيص الأولي لضرورة إجراء سريعًا لأستئصال الزائدة الدودية قبل أن تنفجر بها ويتفاقم الوضع، ليأخذ القرار نيابة عنها وعن الإتصال بأحد أقاربها ويوقع بنفسه على الإجراءات.

حتى الاَن لا يستوعب عقلها جرأته في القيام بهذا الفعل، وكأن الفتاة يخصه أمرها بشدة، بداية من حملها على ذراعيه ثم إمضاء الإقرار الروتيني لإجراء العملية، ثم هذا القلق الكبير في انتظار خروجها من غرفة العمليات
- يارب يارب.
تمتم بها في أثناء سيره بالقرب منها،
فخرج صوتها إليه بمؤازرة رغم احتقانها من الداخل: - براحة شوية يا طارق، وخلي عندك أمل في الله.

التف إليها يردد برجاء: - ونعم بالله يا كاميليا ونعم بالله.
هتف بها واستند بجسده على الحائط المجاور لها يغمض بكفه عينيه وقدمه في الأسفل تهتز بعصبية ودون هوادة، ليرتد فعله عليها بانفعال لم تقوى على إخفاءه فهتفت به: - على فكرة الموضوع مش مستاهل القلق دا كلها، دي عملية عادية جدًا وبتتعمل كل يوم.

إرتفعت عينيه إليها محدقًا بغضب ليسألها بحدة: - هي ايه اللي عادية وبتتعمل كل يوم يا كاميليا؟ هي تسريحة شعر ولا منوكير هتحطه في أيديها؟ دي واحدة قاعدة في اوضة العمليات وبين إيدين ربنا.

حدته المفرطة جعلتها تكمل بلهجة على وشك البكاء: - انا بحاول اهديك يا طارق مش قصدي تريقة ولا تهكم، ثم أني بصراحة كمان مستغربة الوضع، ازاي يعني احنا اصحاب الشغل اللي نبقى معاها في حاجة زي؟ لازم أهلها يعرفوا عشان يجيوا ويشوفوا بنفسهم دي بنتهم.

تنهد قانطًا ورأسه للسماء قبل أن يعود إليها بقوله: - لينا ملهاش حد يا كاميليا غير والدتها، ودي ست مريضة سكر بنسبة عالية، يعني ممكن تدخل في غيبوبة من الخوف عليها بمجرد ما تسمع بس.
سهمت قليلًا باستيعاب امتزج بدهشتها لمعرفته لأدق التفاصيل عن هذه الفتاة، ويبدوا أن الأمر بينهم قد فاق توقعها، ولكن جيد! فهو يستحق من تهون عليه والفتاة شخصية رائعة وتستحق شخص رائع مثله،.

شعرت باهتزاز كرسيها بعد سقوطه بثقل جسده على الكرسي المجاور لها، فتكتفت بذراعيها تدعي عدم الإنتباه رغم شعورها بدفئ مفاجئ وصوت أنفاسه الهادرة بتوتره يصل إلى أسماعها بصخب؛ تتمنى الا يتوقف ولا يذهب هذا الدفء ولا أن ترحل من أنفها رائحة عطره وقد اشتاقت لها بشدة.
توقفت عن هذيانها وهذه الأفكار الغريبة لترتفع كفها على رأسها بتعب وصداع قوي ألم بها فجأة ودون استئذان.

ويبدوا أن هيئتها لفتت انتباهه بجوارها أو أنه كان يفعل مثلها بالمتابعة، فسألها: - إيه مالك يا كاميليا؟ هو انتِ كمان حاسة نفسك تعبانة ولا انت مش متحملة جو المستشفيات؟
- لاا ما تشغلش نفسك...

قالتها وهي تحرك رأسها بنفي لتصطدم عينيها بخاصتيه وقد تفاجأت بقرب وجهه منها وهو يتطلع إليها بقلق، تمالكت لتشيح بوجهها عنه متحمحمة، ثم تتكوم على نفسها بتشبيك كفيها على حجرها، يلفها الإرتباك وسهام عينيه المسلطة عليها تزيدها تشتتًا، انتفضا الإثنان على فتح باب غرفة العمليات أمامهم وكان السبق لطارق ليصل إلى الطبيب ليطمئن على وضع لينا.
بعد قليل.

وبعد أن شهدوا بنفسهما على استقرار الحالة، وقد اخبرهم الطبيب بنجاح العملية، عادا إلى مقاعد الإنتظار مرة أخرى ليجلس هذه المرة متمتمًا بالحمد وكلمات الشكر بارتياح غمر قلبه بالفعل.
- مكنتش اعرف انها غالية عندك قوي كدة؟
قالتها وهي تعود لجلستها على المقعد المجاور، فرمقها بنظرة غامضة ولم يرد، فتنهدت بضيق لتدخلها في ما لا يعنيها، فقالت تسأله على حرج: - طب احنا كدة نتصل بوالدتها بقى؟

اجابها سريعًا باعتراض: - لا يا كاميليا، برضوا مش هتصل بيها، انا هنتظر لما تفوق وتبلغها هي بنفسها، كدة الخبر هيبقى أسهل بكتير عليها، لو انتِ عايزة ممكن تروحي، لكن انا مش هتحرك من هنا.
أطبقت بشفتيها بغيظ حاولت كبته بصعوبة مع قولها: - دا انت بينك بتحبها وغرقان في العشق كمان.
حرك رأسه باستفهام رغم فهمه لما تقول: - هي مين؟

مالت نحوه تحدجه باستنكار لمرواغته قبل أن ترد: - بلاش يا طارق تلف وتدور معايا في الكلام، يعني هكون بتكلم على مين؟ على لينا طبعًا...
تكتف يقلدها ليحدق بها بصمت احرجها وزاد باضطرابها لتلتف بجذعها عنه تود لو تنشق الأرض وتبتبلعها، من أمامه، فتدخلها الأحمق قد زاد عن الحد المسموح، همت لتستأذن مغادرة حتى ترحم نفسها وتكتفي بهذا القدر من غباءها ولكنه أجفلها بقوله: - لينا زي اختي!
- هه قديمة.

صدرت منها سريعًا بدون بتفكير فجعلته يبتسم بمرح، لتكتم شهقة حماقتها سريعًا وهي تعود لتبتعد بوجهها عنه، وتلعن بداخلها سيل غباءها الذي يفيض منها اليوم بلا توقف.
أشفق قلبه عليها فهتف بإسمها لتلتف إليه: - كاميليا ممكن تبصيلي؟
لم تجيبه وظلت على وضعها وكأنها لم تسمع، ولكنه أعاد بطلبه: - ثواني بس عايز احكيلك حكاية؟

تسمرت رافضة النظر إليه ولكنه ألح بطلبه حتى رفعت رأسها لتجده رافعًا كفه أمامها يشير على الثلاث اصابع الأولى يقول: - احنا كنا تلاتة، انا وجاسر وصاحبنا التالت كان اسمه رمزي، مدرسة واحدة، جامعة واحدة وقاعدة واحدة، حتى بيوتنا كانت واحدة برضوا، على الرغم ان رمزي مكانش من وسطنا، وعيلته كانت اسرة متوسطة الحال، بس بيتهم بقى كان اكتر قعادتنا فيه عشان دفا الأسرة اللي كنا مفتقدينه مع انشغال اهالينا أنا وجاسر دايمًا، واللي كانت بتعوضه والدة رمزي بطيبتها وحنانها معانا ومعاملتنا احنا الاتنين زي ابنها بالظبط، الست الطيبة دي بقى جابتلنا طفلة جميلة أخت لرمزي واحنا شباب كبار كدة في ثانوي، نفس عيون رمزي لكن اَية في الجمال، كانت بتكبر قدام عيونا.

وبقت الكتوتة بتاعتنا ودلوعتنا احنا التلاتة، حركتها كانت كتيرة أوي وشقية زيادة عن اللزوم ومبتقعدتش على حيلها أبدًا دا غير ذكائها الشديد، رمزي بقى لما كان بيدلعها يقولها إيه...
قطع بنظرة معبرة جعلتها تعقد حاجبيها بتفكير ثم خمنت بابتسامة تجيبه: - اللهلوبة!

أومأ برأسه ليظهر صف أسنانها الأبيض مع ابتسامة متسعة بارتياح، لتسأله بعد ذلك بتذكر: - يانهار ابيض يعني الحكاية دي كلها كانت على لينا؟ أمال هو فين رمزي ده؟ انا عمري ماشوفته؟
تبدلت ملامحه الضاحكة لأخرى حزينة فجأة ثم أجابها: - رمزي مات في حادثة عربية مع والده ولينا مكنتش مكملة ساعتها العشر سنين.


بدل ماتدور وتبحث علي الروايات خليها علي تليفونك وحمل تطبيقنا

تحميل تطبيق سكيرهوم
تعليقات



close
حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-