رواية احفاد الجارحي 5الفصل السابع والعشرون بقلم اية محمد رفعت
تنقلت نظراته الحائرة بينهما، ثم عادت لتستقر على أبيه بتعجبٍ، محاولة جديدة يخوضها الآن، يحاول بها استكشاف ما يود فعله تلك المرة، ما يراه منه نقيض ما فعله طوال الفترة الماضية، بعدما بذل مجهوًا كبيرًا لحمايته، والآن يخالف ما يفعل ويسمح له بالعودة بمنتهى البساطة، وجود التمثال الغريب الذي لا يحتوي على رأس وملامح ويحمل ثيابه الخاصة، وكل ميدالية حصل عليها من حمله، جمعها على صدره كوسام شرف، تكريمًا لما بذله من مجهودٍ طوال تلك المدة، وعلى ما بدى إليه اتخاذ أبيه لهذا القرار مسبقًا، جاهد عدي للخروج عن بؤرة صمته وذهوله، فأجبر لسانه الثقيل على تردد:
_يعني أيه؟
أحاطته نظرات ياسين الدافئة، وهو يسبر أغوار أسئلته التي تحاصره بتلك اللحظة، فحاول أن يميل حواره للبساطة دون التخفي لمكره وثباته الخبيث:
_يعني خلاص يا عدي، اللي أنا كنت عايز أغيره فيك حصل، وبقيت الشخص اللي أقدر أمن إنه يكون سند للاحفاد من بعدي.
ثم وضع يده على كتفه وهو يسترسل ببسمةٍ هادئة:
_كل ابن من أولادي عنده شخصيته المختلفة اللي بتميزه، بداية من عمر وياسين وأحمد لحد حازم، كلهم بالنسبالي ميتخافش منهم الا أنت، كان جوايا احساس مخليني مرتبك طول الوقت، محدش جواه العند والغرور اللي عندك، لذا أنا قررت أخوض الحرب دي ضدك ومعاك في نفس الوقت، عشان تبقى الشخص اللي واقف قدامي دلوقتي.. شخص رزين قادر يلبي احتياجات عيلته وفي نفس الوقت مبيقصرش في شغله وقادر كمان يفصل بين الاتنين..
وقربه اليه وهو يخبره بحبٍ لم يبذل مجهود ليجعل ابنه الحبيب يشعر به:
_الفترة اللي قضتها مع ولاد عمك هنا في المقر قربتك من كل واحد فيهم، شافوا اللي كنت بتحاول تخبيه عنهم، وقفت جنبهم وضحت بحياتك عشان واحد منهم (رائد) ، وساعدت اللي محتاجالك ولما جيه الدور عليك ووقعت في اللي، كنت فيه كانوا هما أول ناس تمدلك ايدهم بالمساعدة.
وأشار بيده وهو يستطرد:
_كانوا في ضهرك عن قناعة، بدون ما حد ينفذ وصية أخدها على لسان تربيته، مش فرض انهم يساعدوك لمجرد اننا ربيناهم انكم سند لبعض!
واتجهت نظراته للزي العسكري، فطال به تأمله ليكسر حاجز صمته بنبرته الغامضة:
_دلوقتي أقدر أسمحلك ترجع لكيانك وأنا مطمن انك هتلبس بدلتك بس وأنت شخص مختلف.
وربت على يده وهو يحثه قائلًا:
_ولازم تعرف اني مش حابب أي حد يدرب حفيدي.. أنا عايزك بنفسك اللي تبقى معاه خطوة بخطوة لحد ما يحقق حلمه.
واستدار ليتجه للمغادرة قائلًا:
_خليك مع اصدقائك.. هنكمل كلامنا بعدين.
وتركه واتجه للخروج، وقبل مغادرته تبادل الصفح المرحب بالجوكر والاسطورة، فوجه شكره الخاص إليهما بكلماته الممتنة:
_مساعدتكم فرقت معايا جدًا، فحقيقي أنا عاجز عن شكركم.
قابله رحيم ببسمةٍ هادئة، اتبعت صوته الثابت:
_بالعكس احنا اللي واجب علينا نشكر حضرتك بعد ما ساهمت بالكشف عن الشبكة الدولية اللي كان بيديرها ال** ده، وبالرغم من إن حياة عدي كانت في خطر الا إن حضرتك صممت وأصريت اننا نكمل الطريق اللي بدأناه ووجهت مصيرك معاه.
وتابع مراد قائلًا:
_أنا لو مكنتش سافرت أمريكا وروحت المستشفى اللي حضرتك بلغتني عنها مكناش قدرنا نكشفه ولا نوصل للي وراه، فالفضل يرجع لحضرتك بعد ربنا سبحانه وتعالى، ويمكن أكون زعلان من اللي حصل لعدي بس سعيد في نفس الوقت إنها كانت فرصة إني أتعرف على شخص عظيم زيك.
منحهما ابتسامة راقية، وانحناء رأس تقابل اطرائهم بكل تواضع، ثم همس إليهما قبل توجهه للخروج:
_لسه وراكم مهمة أكبر.
وأشار بعينيه لمن براقبهم بفضولٍ لسماع ما يحدث بينهم، غادر ياسين الجارحي وتركهم بمفردهم، فاقترب منهما عدي بنظرات واجمة، كبت رحيم ضحكاته، وبدى صلبًا لا يهزه القلق مما سيحدث هنا، بينما عبث الجوكر بهاتفه، وأشار لرحيم مداعيًا صدمته:
_يا خبر 33 مكالمة من حنين أنا قلقت على البنات، هسبق أنا وأنت حصلني يا رحيم.
وكاد بالخروج خلف ياسين، فأوقفه عدي حينما جذبه بقوة جعلت الاخير يراقب ذراعه المصاب، فتساءل باستغرابٍ:
_متأكد ان صابعك مكسور!
منحه عدي ابتسامة ماكرة، اتبعت سؤاله الخبيث:
_أنا كويس متقلقش عليا.. القلق المفروض يكون من نصييك.
منحه بسمة ساخرة، وهو يهمس بتأكيدٍ:
_في دي عندك حق.. انجز ولخص في الليلة اللي كلها مشقة دي!
اتاه ملبيًا لدعواته بالفصح عما بجوفه، فقال بغضبٍ:
_أنت كنت بتمثل عليا وواقف في صف ياسين الجارحي؟
أشار له باعتراضٍ صريح:
_لا عندك.. أحنا كلنا كنا في ضهر ياسين الجارحي.. اسالني ليه؟
حك جبهته بغيظٍ:
_ليه؟
أجابه ببسمة واسعة تشق طريقها على وجهه:
_لانه شخص ذكي، بالك لو اتعين مكان اللواء كان زمانه مقشط البلد من البلطجة والنصب أول بأول.. نفسي تتعلم منه التوازن والثبات، يا أخي عنده طالة وبعد نظر وآ...
بتر كلماته وهو يرى نظرة غريبة تفترس ملامح عدي الذي بات على وشك أن ينقض عليه الآن، فقال بنفاذ صبر:
_عايز أيه من الأخر يا عدي، مش قضينا عليهم ورجعت بخير وفوق كل ده والدك سمحلك ترجع شغلك في أحسن من كده كلام؟
أجابه باستنكارٍ لتهربه مما فعل:
_في الأبشع.. انك سبتني متغفل ومحاولتش توضحلي اللي حصل، على الأقل رحيم لمحلي وبفضله مكنتش وصلت لحقيقة ال** ده!
ابتسم رحيم وهو يجيبه بعنجهيةٍ:
_تسلم يا وحش.
وتابع ببسمة خبيثة وهو يرفع يده على كتفه:
_أنا بس عايزك تعرف اني ظهوري ليك مكنش بهدف التلميح.. عشان تكون في الصورة اللي مبحبش أهرب منها.
رمش بأهدابه بعدم فهم، فجذب رحيم خنجره الصغير، ثم نزع عن عدي قميصه، فاظلمت عينيه بغضب تام وهو يكتشف الآن ماذا فعل بالتحديد قبل أن يمسه مشرطه، نزع عنه رحيم جهاز التتبع وهو يخبره بمكرٍ:
_كان لازم أمنك كويس، صحيح القوات خدت وقتها لما وصلتلك بس الحمد لله ولاد عمك عملوا الواجب وبالأخص ابن عمك الصغير، أنا لحد الآن مش مستوعب انه قدر يمشي وراهم من غير ما حد يحس بيه، حقيقي الشخص ده ذكي جدًا.
كبت عدي ابتسامة كادت بالانقلات منه في وقتٍ ليس بالمناسب بالمرةٍ، وقال بحدة لجئ اليها ليسترد حقه:
_بجد اللي عملتوه معايا زعلني جدًا، بابا طول عمره مش مفهوم ليا، لذا أنا مستغربتوش لكن انتوا سبتوني على عمايا ومحدش فكر يرسيني على الحوار.
وتركهما واتجه للاريكة القريبة من النافذة، فجلس عليها بإهمال وحزن ارتسم على معالمه، تبادلا الجوكر والاسطورة النظرات الحائرة، وحسموا الأمر بنظرة مفهومه بين الأخ وأخيه، فاتبعوا خطاه، ليجلس كلاهما جواره، فقال مراد ببسمة هادئة:
_عدي أنت عارف إننا على طول في ضهرك، اللي عملاناه كان لحمايتك.. صدقني الموضوع مكنش سهل وتفكير والدك كان في محله.
تابع رحيم بهدوءٍ لا يتعاهد مع شخصه المهيب:
_مهاب كان راسمها صح بداية لظهوره في العرض والصفقة اللي أخدها بالبداية لحد ما وصل هنا، كان باين انه دارس عنك كل شيء وبديهي عارف كل تحركاتك واللي تقدر تعمله، لذا كان لازم تفضل زي ما أنت واحنا اللي نلاعبه.
واستطرد قائلًا:
_الموضوع مكنش سهل، ركز وبص كويس، مهاب أبو العزم واللي وراه منتهتش امبراطوريته بالساهل، شوف كام قوة هاجمته عشان تهد اللي بناه طول السنين دي، أنت لوحدك مكنتش هتقدر تعمل كل ده، كنت هتدمر نفسك وعيلتك بايدك لان الموضوع مكنش هينتهي بموته، لان وراه ناس ساندينه بره مصر، فهرجع واقولك تاني تفكير ياسين الجارحي كان صح.
وأضاف مراد:
_عايز تقطع الشجرة متسبش أساسها وتقطع الأغصان، لازم تشيلها من الجذوع وده اللي حصل، اتحادنا وهاجمنا كلنا في وقت واحد وانتصرنا بفضل الله، ودلوقتي مستانينك ترجع بينا من تاني.
ضحك رحيم وهو يشير لكتفه الغائر بالدماء:
_بس تتعالج الأول.
قال مراد بمرحٍ وهو يتابع اصابته:
_وكأنك الشر اتجمع كله في كتفك الشمال يا عدي.. هو بينه وبينك تار!
ارتخت معالمه المشدودة، فرسم بسمة فاترة وهو يجيبه:
_لا وأنت الصادق أخوك مختار الموقع الصح لاجهزته اللي ماشي يزرعها بين خلق الله.
ضحك رحيم بصوته الرجولي، وقال بسخطٍ:
_ميبقاش قلبك اسود يا صاح!
ثم نهض عن الأريكة ليشير لاخيه قائلًا:
_أنا بقول كفايا عليك كده النهاردة، ارجع البيت وريح واسبوعين تلاته القيك بتكلمني عشان ترجع لمكتبك.
استقام بوقفته قبالتهما، فوداعهما ببسمةٍ تحمل شكر وامتنان اتبع نبرته المحبة:
_أنا بشكركم على كل اللي عملتوه عشاني.
رد عليه مراد وهو يعانقه:
_متقولش كده يا عدي.. سبق وانقذت حياتي من الموت وقدمتلي أكتر من معروف بدون مقابل.
ابتسم عدي وهو يغمز له:
_الصداقة مفهاش ديوان ولا أيه؟
طرق يده بيده وهو يشير له:
_مفهاش غير المحبة والتضحية بالدم.
راقبهما رحيم بضجرٍ:
_سيادة الجوكر المزعوم لو خلصت فقرة صداقتكم المملة نقدر نرجع القصر، أنا محتاج للراحة ده لو مش هزعج جنابك!
ضاقت زورقة عينيه بخبثٍ:
_بتأمر ولا بتبلغني؟
وضع يديه بجيوب جاكيته الأسود وهو يجيبه بتسلطٍ:
_الاتنين!
أشار الجوكر لعدي الذي يكبت ضحكاته بصعوبة:
_شايف طريقته يا عدي! ده متهزش اننا بقينا كل واحد بيشتغل لوحده، أنا بفتقده وأنا بتأوي جثث المجرمين!
ضمه رحيم اليه وهو يهمس له بنفور:
_هو أنت ليه بتشتاق ليا وقت الدم والقتل، بمعنى أوضح ليه رابط حبك ليا كأخ بالجثث أنا توبت من زمان عن حمايت التوابيت وتفكيك الاسلحة، أنا حاليًا فاتح صفحة بيضة مع شجن وبحاول أحافظ عليها عشان تفضل بيضة من فضلك متحاولش تلوثها.
أجابه بنفس هدوء نبرته وبمكرٍ يفوقه:
_عشان كده بطلت تطلع معايا وطلبت من اللوا يفصلنا عن بعض، عشان خايف أوصل اجرامك لاشجان.
برق بزيتونية عينيه بذهول:
_أنا ظابط شرطة مش قتال قتلة!
ضحك بسخرية:
_اثبتلها ده بتثبتلي أنا!
فصل بينهما عدي بضحكاته المرحة:
_انتوا جاين تحلوا مشكلتي ولا مشاكلكم!
ابتعد عنه رحيم وهو يشير برزانة زائفة:
_لا مش بنتخانق ده مهما كان اخويا للاسف، بيجمعنا بيت وسقف واحد، المهم أنت اهدى كده وكلمنا أول ما تحس انك جاهز.
أومأ برأسه ببسمة صغيرة، فودعه مراد قائلًا:
_هبقى أكلمك اطمن عليك.
وغادروا معًا، تاركين من خلفهما الوحش يحاول حسم أمره حول العودة أم البقاء، فتعلقت عينيه بوسام شجاعته على مر السنوات وسؤاله مازال يلح عليه وينتظر جوابًا صريح منه!
*******
اجتمع الشباب بغرفة المكتب الخاص بهم، الا ياسين ورائد، اتجهوا للغرفة السرية ليطمئن كلًا منهما على زوجته، ما أنا وجدت رانيا زوجها قبالتها حتى أسرعت تجاهه باسئلتها المغتاظة:
_ممكن تفهمني في أيه، مليكة مالها؟ وليه طلبت مني معرفش حد!
أجابها ياسين وهو يهم للفراش بلهفةٍ ليطمئن على ملاكه:
_أنا اللي شددت عليه يقولك متعرفيش حد يا رانيا... طمنيني هي عاملة أيه؟
استدارت تجاهه، ثم قالت:
_بتفوق وبتنام تاني ومفيش على لسانها غير عدي!
والتفتت لزوجها مجددًا ثم تساءلت:
_قولولي في أيه؟!
طوفها بذراعه، وحثها على تتبعه:
_تعالي هحكيلك كل حاجة.
وخرج بصحبتها للخارج، بينما اقترب ياسين ليجلس جوارها، ضم يدها اليه وهمس لها بحبٍ:
_أخدت حقك يا حبيبتي، اللي كسرلك رقبتك قطعتله أيده ولو كان بإيدي اقطعله رقبته مكنتش هتردد!
_أنت ازاي تخبي عني اللي حصل لبنتي!
كلمات صارمة نطق بها من يقف خلفه متلهفًا، مفزوعًا، لما علم به الآن، نهض ياسين عن المقعد، وارتد للخلف وهو يجيبه بارتباكٍ:
_حضرتك مكنتش بحالة تسمح اني احكيلك عن حاجة يا عمي، وبعدين الحمد لله مليكة كويسة وبخير.
تجاهل كلماته وهرع اليها، فجذب مقعده ليعتليه وهو يفتش بها بهلعٍ، فلم يجد سوى اصابة رقبتها، ضم خديها المتورد بيده وهو يناديها بقلقٍ:
_مليكة؟
رمشت بعينيها بانزعاجٍ، ففتحتهما على مهلٍ، وما أن وجدته قبالتها حتى انسدلت دمعاتها ورددت ببكاءٍ:
_بابا... عدي أخدوه!
ترك المقعد وجلس جوارها على الفراش، ثم حملها لصدره بحرصٍ، وهو يهدهدها بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة:
_عدي بخير يا حبيبتي، المهم انتي!
وابعدها عنه ليسألها بخوفٍ:
_قوليلي حاسة بأيه؟
والتفت تجاه ياسين يأمره بغضب:
_جهز عربيتك هننقلها للمستشفى حالا.
أوقفته حينما قالت:
_أنا كويسة يا بابا.. الدكتور لسه ماشي من شوية.
ثم تساءلت بلهفة:
_عايزة أشوف عدي.
لبيت رغبتها بسرعة البرق، حينما على طرق باب الغرفة، فولج عدي للداخل، أشرق وجهها ببسمة واسعة، ودموع سعادة تلمع بحدقتيها، فرددت بفرحة:
_الحمد لله انك بخير.
جلس عدي جوار أبيه على الطرف الأخر من الفراش، ثم أمسك معصمها وهو يخبرها بحبٍ:
_أنا كويس المهم انتي يا حبيبتي.
وزعت نظراتها بين أبيها واخيها ثم قالت:
_بقيت كويسة لما شوفتكم قدامي بخير..
وتساءلت بقلق:
_فين عمر؟
أجابها زوجها:
_عمر في سابع نومة، تقريبًا كده بيقول الليل داخل.
سأله ياسين باهتمامٍ:
_فين؟
أجابه على الفور:
_بمكتب أحمد.
نهض ياسين وهو يربت على يد مليكة المتعلقة به، واتجه لمكتب أحمد على الفور.
******
بمكتب أحمد.
كان يحاول تهدئة آسيل بكافة السبل، فخشى أن يزعج عمر بصوته، لذا تسلل للشرفة بخفة، ثم أغلق بابها من خلفه ليقود معركة عتيقة مع زوجته، في ذاك الحين ولج ياسين للداخل، باحثًا بعينيه عنه، فوجده يستكين بالأريكة المتحركة لفراشٍ، ابتسم وهو يتطلع اليه مطولًا، فدنا منه بخطواتٍ متهدجة، لا يعلم لما رأه في تلك اللحظة طفلًا صغيرًا لا يتعدى عمره الحادية عشر، جلس جواره ثم انحنى بجسده فمرر يده بين خصلات شعره الأسود، وطبع قبلة عميقة على جبينه، فتح عمر عينيه فاعتدل بجلسته سريعًا وهو يردد بنومٍ:
_بابا! أنا أسف محستش بيك.
لم تختلف نظراته تجاهه، تعمقها به جعل الأخير يندهش ويتابع ما سيقول بأهتمامٍ، وخاصة حينما قال:
_أنت عارف أنا بحب والدتك ليه؟
سؤاله كان غريبًا للغاية، ومع ذلك ابتسم وهو يجيبه:
_القلب لما بيحب بيعشق كل تفاصيل حتى لو كانت عيوب.
هز رأسه بثباتٍ، وتابع بنفس اتزان ملامحه:
_مش صحيح، أنا حبيت فيها قلبها الصافي الأبيض، نظرتها في الناس اللي حواليها حتى لو مكنتش مخونة للشر، حبيت فيها قربها من ربنا وابتسامتها اللي عمرها ما فارقتش وشها، حبي ليها اتحول لجنون، ويمكن هي السبب اللي غيرتني كده.
تابعه عمر ببسمة هادئة، فاستطرد ياسين:
_لما عرفت انها حامل اتمنيت من قلبي اللي في بطنها يطلع في نقاء قلبها، وربنا سبحانه وتعالى استجاب لدعواتي، بس مش ليكم انتوا الاتنين.
ضيق عينيه بعدم فهم، فتابع قائلًا:
_عدي طالعلي وأنت طلعت لآية بطيبتها وقلبها وكل الحلو اللي فيها.
ورفع يده ليحيط به وجهه وهو يتابع بنبرة ساكنة ببسمته:
_كل ما ببصلك مش بشوف فيك غير الطيب والخير اللي عملته آية في دنيتها، وبحمد ربنا انك طلعتلها، يمكن يحيى أقرب حد ليا ويعرف عني كل حاجه بس أنت كمان صديقي اللي مبقدرش أخبي عنه شيء، وأنا واثق انه هيفهمني وهيقدر اللي بعمله بدون ما حتى ما أشرحله أنا عملت كده ليه؟
وابتسم وهو يتابع بسخرية:
_أوقات بحس انك بعقلك ده أكبر من أخوك بسنين مش هو الأكبر منك بدقايق لا تحسب.
وتابع بحنان:
_مش عايزك تخسر طيبتك دي مهما شوفت يا عمر ولا تخسر حنيتك على الناس وعقلك، عشان كده أنا عايزك ترجع تتابع شغلك يا دكتور.. عايز أرجع أفتخر بيك وأنت بتداري الخير اللي بتعمله عني ومتعرفش اني شريك معاك النص بالنص، لحد ما تتعود ولما أموت تشارك بينا الأجر ومتنساش تكونلي الأبن الصالح!
لمعت عينيه بالدمع، فقبل يد ياسين وهو يردد:
_الف بعد الشر على حضرتك، ربنا يديك طولة العمر ويباركلنا في صحتك.
ثم قال بصوت شبه باكي:
_أنا مش عايز ارجع.. عايز أكون هنا جنب حضرتك.
ضمه ياسين اليه بقوةٍ، وهو يهمس له براحة:
_خلاص يا عمر النهاردة حاسس بالراحة ولأول مرة، لاني وأخيرًا قدرت أكسر عناد أخوك.
ابتعد عنه وهو يتطلع له بشكٍ:
_الوحش مش بيتراوض يا ياسين باشا.. صدقني.
ضحك بصوت مسموع وهو يغمز له:
_اعتبرني رواضته.
وتابع وهو يتعمق بالتطلع إليه:
_أنا خايف أكون ظلمتك لما أجبرتك تكون هنا وعدي هو اللي كان هدفي.
اعترض على حديثه حينما قال:
_لو أنا اللي كنت مكان عدي وهو اللي كان مكاني مكنش هيتردد يعمل نفس الشيء، أنا مبفكرش غير باللي عدناه يا بابا، الحمد لله عدي بخير وحضرتك كمان بخير ده بالنسبالي كافي.
طبع قبلة على جبينه وهو يخبره:
_وانت كمان خرجت منها بخير أنت وأختك.. ربنا النهاردة كان بيختبرني أصعب اختبار عدى عليا، اختبار فيكم انتوا التلاتة، والحمد لله انه فداكم وقادر أشوفكم قدامي بخير.
استقام ياسين بوقفته عن الفراش، وتنحنح وهو يستعيد ثباته مشيرًا له:
_يلا نادي لاحمد وانزل عشان هنرجع القصر.
*******
بمكتب معتز.
مازالت محاولاتهم لن تجدي بالنفع، فبالرغم من أن المبرد يجتاح درجاته الا أن مازن مازال يصرخ بهما:
_حران يا بشر حران أنتوا أيه مش بتحسوا!
تطلع جاسم لمعتز بتفكيرٍ، ثم التقط الملفات المبعثرة على مكتبه وأشار له بالاقتراب مرددًا:
_مروحة صناعية قد توفي بالغرض، لو مبقاش كويس بعدها طفي التكيف وسيبه يتكل على الله العملية مش ناقصة فرهدة!
التقط منه معتز الملف، ثم أخذ يحركه تجاهه ليحصل على الهواء، فأغلق مازن عينيه ثم حاول فتحهما، وكل مرة كان يحاول بها فتحهما كانت تزداد دهشته ليختمها بقوله:
_أنتوا كام!!
استدار معتز لجاسم ثم صاح بغضب وهو يلقي الملف:
_يا عم ده بيودع مفيش منه أمل.
جذبه ليقف جواره ويستكمل ما يفعله محذرًا:
_نحاول عشان أحمد على أخره مننا.. صدقني ده في مصلحتنا!
جذب الملف بسخطٍ وهوى بغيظٍ فوق وجهه، فاحتك الملف باصابة رأسه، فصرخ بوجعٍ قابض، أتى حازم من الخارج مسرعًا على أثره، ليتساءل باستغرابٍ:
_مات؟!
جذب مازن المصباح الكهربائي المنبعث من الأباجورة، ثم ألقاها تجاهه وهو يصرخ بعنفوان:
_الملافظ سعد يا فقري!
تفادى حازم الضربة ثم قال بسخرية:
_بتتشطر عليا يا اخي كنت اتشطر على اللي نزل عليك بالشومة لحد ما علم عليك، والمصيبة انك كنت ظابط بوليس، يعني لو مكنتش عملت فيها صاحب صاحبك وفضلت بالشرطة ومسبتهاش وفاءًا لعدي كان زمانك مكسر مغارة الاشباح دي فوق دماغهم بس تقول أيه غبي ومعندكش عقل تفكر فيه!
احتقن تنفسه، وشعر بقبضة قوية تزيد من ختق رقبته، فحاول الاستدارة للخلف، ليتفاجئ بعدي من أمامه، فقال ببسمة مغتاظة:
_أنت مش ناوي تجبها لبر يا حازم!
هز رأسه وهو يشير له:
_هجبها للشط مش للبر.
أبعد يده عنه ثم قال:
_روح جهز العربية عشان هنمشي.. بدل ما أنت واقف تشد في خناق البشر كده!
أشار بأصبعه على عينيه:
_بس كده عيوني.. أنت تؤمر يا وحش.
وتركهم وهرول للأسفل، فلحق به معتز وجاسم، ليبقى مازن بصحبة عدي الذي كبت بسمته بصعوبة، لتظهر بقوله الرجولي الثابت:
_أيه اللي وصلك لكده؟
أجابه ساخرًا وهو يحرك رأسه بعنف جعله يصرخ ألمًا:
_كنت حاسس بملل فقولت ألعب البخت على وشي..آآآه..
واعتدل بجلسته وهو يسترسل باندفاع:
_أنا من يوم ما شوفت خلقتك والمصايب بتلاحقني، وكل مرة بإصابة شكل مش عارف المرة الجاية وضعي هيكون أيه!
حك أرنفة أنفه وهو يخفي ابتسامته الخبيثة، فقال بجمود مصطنع:
_أنا كنت جاي أقولك على خبر بس حاليًا أشك انه هيعجبك!
ابتلع ريقه بتوترٍ وهو يتساءل:
_خبر أيه اتحفني!
أجابه بنظرة متفحصة:
_بابا سمحلي أرجع الشغل.
جحظت عينيه صدمة، فنهض عن الفراش ببطءٍ جعل الأخير يتابعه باستغرابٍ، وخاصة حينما انحنى وحمل حذائه، ليتوجه للخروج، فاتبعه عدي وهو يتساءل بحيرةٍ:
_أيوه أنا كده فهمت أيه؟ يا مازن أقف هنا بكلمك!
هبط الدرج ثم استدار إليه وهو يصيح به:
_مش راجعين يا عدي.. أنت عايز تضحي بيا كيف الفروجة!!
تمردت ضحكاته الرجولية، فاتبعه وهو يردد بصعوبة بالحديث من بين ضحكاته:
_فروجة أيه يا مازن أنت عندي أغلى من كده يا جدع!!
وقف قبل انحنائه للدرج القادم، ليصيح به:
_انت مش مكفيك اللي حصل فيا، ثم انك محتاجالي في أيه أنت عندك امكانيات تخليك تستغنى عن أي حد، سيب الغلابة اللي زينا يعيشوا ياكلوا عيش.
هرول للأسفل من خلفه وهو يتحكم بضحكاته بسيطرة تامة، وبجدية تامة أخبره:
_هتتخلى عني يا مازن بعد العمر ده كله؟
كز على أسنانه بغيظٍ وهو يشير له:
_سبني في حالي الله يكرمك أنا عندي عيال وعايز أربيهم!
أشار له بإستنكارٍ:
_وأنا يعني اللي عندي أرانب!
احتضن رأسه بتعبٍ وهو يشير له:
_وهل ده بيعنيك مثلا، أنت مش بتختار غير المهمات المستحيلة بتحسسني انك بتحلل لقمة عيشك، فتمامك الجوكر والاسطورة هما وش اجرام زيك، أنا مش سكتك!
تعالت ضحكات عدي فهرول للدرج من خلفه وهو يردد بصوته العذب:
_خلاص يا ميزو هنختار ونتشاور مع بعض، المهم انك متسبش الطريق اللي بدأناه سوا أمال ليه عملتلي فيها صاحب صاحبك وسبت الشغل والدنيا عشانك كنت بتشتغلني ولا أيه؟
لوى فمه بحنقٍ، فهمس بازدراء:
_افهمه ازاي ده.. أطلق بنت عمه ونخلص من النسب الاسود ده ولا أعمل أيه عشان يقتنع!
وتابع ركضه للأسفل حتى وصل لخارج المقر، فاصطدم برائد وزوجته، فسأله بريبة وهو يوزع نظراته بينه وبين من يلحق به:
_في أيه؟
أشار له بسخطٍ:
_ابن عمك عايز يرجع للشغلانة بعد ما إعتزل!
ابتسم رائد بفرحة، فترك باب سيارته مفتوح، واحتضن عدي وهو يهنئه بسعادة:
_بجد يا عدي.. عمي وافق؟
أشار له بتأكيدٍ فضمه بفرحةٍ، ومازن يوزع نظراته بينهما بصدمة، ارتفع ضوء مصباح سيارة تقترب منهم، فهبط منها عز ورعد وأدهم بعد عودتهم صباح هذا اليوم، فتساءل رعد بقلق:
_في أيه يا ولاد مرجعتوش القصر لسه ليه لحد دلوقتي، البنات قالبين الدنيا عليكم!
أجابه رائد ببسمة مشاكسة'
_كنا جميعًا بنشارك في بطولة جماعية لتحرير مصر من الادغال.
رفع ادهم حاجبيه بذهول:
_ادغال مين وبطولة أيه؟
فتح رائد باب سيارته الخلفية وهو يشير لهما:
_اتفضلوا وأنا هحكيلكم كل حاجة، الطريق طويل وهنتسلى!
كاد عز بتتابعهم بسيارته فأوقفه مازن حينما قال:
_عمي.
استدار عز تجاهه، فصعق مما رأه وتساءل بدهشة:
_أيه اللي عمل فيك كده؟!
أجابه مازن بضيق:
_انا عايز نفض النسب ده بالمعروف زي ما دخلاناه عشان ولاد اخواتك يحلوا عني بالذات حازم.
ضحك عز بصوته كله، ففتح باب سيارته وهو يشير له بتسليةٍ:
_واضح انها حكاية مسلية فعلا اركب اركب.
لوى فمه بتهكمٍ وهو يراه يقلب الامور بمزحٍ بالرغم من رؤية ما حدث بوجهه من أضرار، لذا انصاع اليه بهدوءٍ وصعد جواره.
********
بالقصر.
كانت تجتمع الفتيات بأكملهن حول حمزة الذي عاد مسرعًا بعد محادثته مع آسيل، فطرح وجهة نظره بالأمر حينما قال:
_الغريبة ان ياسين معاهم، لو مكنش معاهم كنت أقسمت انهم بيعملوا بلوة.
وأجاب على ذاته مرددًا:
_يكونش ياسين بيتجوز وواخدهم شهود!
جحظت عين آية بصدمة فتحررت عن طور هدوئها وردائها الملائكي:
_حرام عليك يا حمزة، أنت جاي تخفف عننا ولا تجلطني.. ياسين عمره ما رفع عينه في عين واحدة هيجي يعملها بعد العمر ده كله!
ضحك وهو يخبرها:
_بحاول ألطف الاجواء يام عدي.
قالت تالين بحنقٍ:
_بلاش يا حمزة الموضوع مش متحمل.
اضافت ملك:
_أنا عارفة أخويا مفيش فايدة فيه هيفضل زي مهو.
ضحكت شذا وأضافت:
_بلاش تظلموه بيحاول يخفف عننا.
ردت دينا بضيق:
_يخفف أيه بس انا قلقانه على الولاد أول مرة يعملوها، دول من امبارح لحد الآن مظهروش.
تساءلت يارا بقلق:
_محدش رد عليكم يا بنات.
أشاروا جمعهن بالنفي، فقالت آسيل:
_أحمد رد عليا وقالي انهم راجعين.
انتبهوا جميعًا لصوت أبواق السيارات، فأسرعوا للتراس، ليراقبون ما يحدث، وأول ما جذب انتباههم اصابة مازن ومليكة البادية للجميع، وبعض الخدوش المتروك أثرها على الوجوه، هموا سريعًا اليهم، فالتفت الفتيات حول مليكة، وتساءلت آية بلهفة:
_في أيه... ايه اللي، حصل؟
لم يجيبها أحدٌ، حتى مروج اتجهت لمازن تتساءل عما أصابه، التقطت عين رحمة اصابة ذراع عدي بعدما استرد عافيته فاتقبض قلبها وغارت عينيها بالدموع، الصمت حال الجميع والترقب يعلو مؤشراته تمعنًا بياسين، الذي خرج عن سكونه حينما قال:
_حضروا الفطار.
لم يجرأ أحدٌ على الاعتراض، فجلسوا جميعًا على الطاولة بصمت قاتل، بدأ الرجال بتناول طعامهم والفتيات تراقبهم بقلق نخر قلوبهم، فكسرت ملك صمتهم هذا حينما تساءلت بقلق:
_فهمونا في أيه؟!
أجابها يحيى ببسمة هادئة:
_مفيش حاجه يا حبيبتي.
اعترضت يارا على حديثه:
_مفيش حاجه ازاي وكلكم راجعين بكدمات!
الصمت سيطر مجددًا، فقالت آية بخوف:
_اتكلم يا ياسين في أيه؟!
منحها نظرة هادئة فعلمت بأنه سيخبرها بمفردهما، لذا صمت الجميع باستسلام لعلمهن بأن الامر متعلق بأمر ياسين الجارحي لذا لن يجرأ أحدٌ عن الحديث، فقال رعد في محاولة لتلطيف الاجواء:
_اللي المفروض نعرفه اننا عندنا أبطال يترفع ليهم الرأس.
تطلع أحمد لياسين ومن ثم لعدي وعمر، وانتقلت النظرات بين الشباب، فهمس حازم بصوت منخفض:
_بلطجية يتباهى بيهم.
فور نطقه لتلك الكلمة حتى انفجر الشباب ضاحكين، وكلا منهم يحاول جاهدًا السيطرة على ضحكاته بحضور ياسين، والصادم بالأمر بأنه لم يقوى على ضبط انفعالاته وشاركهم الضحك، تعالت ضحكات يحيى وهو يجيب رعد:
_لو حد محتاجنا في أي خناقة احنا في الخدمة، وأهو كله بثوابه.
أضاف ادهم:
_فاتنا الليلة دي بس تتعوض.
قال عز ساخرًا:
_سبها تفوتنا احنا العضمة كبرت ومبقاش ده زمانا.
تساءلت دينا بغضب:
_طب فهمونا طيب بتتكلموا عن أيه؟!
أجابها يحيى:
_عن بطولات الشباب... والله ما قصروا ورفعوا رأسنا وكله كوم وابني كوم تاني، ما شاء الله واخدها تشريح!
أخفى ياسين ضحكاته، فهمس عمر له:
_هحتاجك وردية بليل بالمستشفى هتفعنا أوي.
دعس قدمه بحذائه، فتلوى ألمًا، ابعدهما أحمد عن بعضهما وهو يهمس بصدمة:
_عمي قاعد احترموا وجوده.
رد عليه ياسين باستهزاء:
_ما احنا بلطجية بقا!
انتهت الاحاديث الجانبية حينما ردد ياسين بحزمٍ:
_اطلعوا أوضكم كلكم محتاجين للراحة.
فور انتهائه لحديثه صعد الجميع تباعًا، ولم يظل على الطاولةٍ الا هي، راقبت الطريق من حولها، فما أن خلت بهما القاعة، حتى هرعت بالجلوس جواره، فتمسكت بذراعه الحامل لقهوته، لتتساءل بلهفة:
_طمني يا ياسين، أيه اللي حصل؟
منحها ابتسامة تبعد عنها ذاك التوتر القاتل، ثم طبطب على يدها بيده وهو يخبرها:
_الكابوس انتهى يا آية، والمجرم مبقاش له وجود!
*******
بغرفة عمر.
أغلقت الباب من خلفها، وهرعت من خلفه، فوجدته يتمدد على الفراش بتعبٍ شديد، دون أن ينزع ملابسه أو يعتدل بمنامته، حركته نور بعصبية بالغة:
_أنت هتنام وتسبني بحط افتراضات كده يا عمر.. قوم كلمني!
همس لها بنومٍ:
_انا تعبان يا نور.. هريح شوية وهقوم احكيلك على كل حاجة.
أشفقت عليه، فتركته وحملت عنه جاكيته الثقيل، ثم اتحنت وخلعت عنه حذائه فاعتدل بمنامته، ليجدها تجذب الغطاء لتداثره به، جذب يدها فطبع قبلة رقيقة على أصابعها وهو يهمس بعشقٍ:
_حبيبتي.
ابتسمت نور وانصاعت ليده التي تجذبها، فمالت برأسها على صدره وغفت بهدوءٍ مفروض عليها تلك المرة.
********
بغرفة ياسين.
وضعها على الفراش، ثم اتجه لسرير الصغيرة فوجدها هائمة بنومٍ مريحٍ، بعد أن قامت والدته بالاعتناء بها، فجذب ملابسه واتجه لحمام غرفته، ابدل ثيابه أولًا ثم تمدد جوارها على الفراش، فسألها بلهفةٍ:
_لسه حاسة بوجع؟
أشارت له بالنفي، وحاولت الاستدارة تجاهه فقابلت عناء بما ترتديه برقبتها، ساعدها ياسين، فتطلعت لعينيه بصمتٍ قاتل، صمت يغلب على شفتيها وما يدور بعينيها يعاكسه، لم يكن بالأحمق يومًا ليفشل بقراءة ما تفكر به، عقله ميزه بالمنصب الهام الذي يديره بالمقر من البداية لذا الحمق والغباء بعيدان كل البعد عنه، قرب ياسين يده من خدها، فمررها على وجهها بحنانٍ، ثم قال:
_بتفكري في أيه يا حبيبتي؟
نفت ذلك حينما قالت:
_مش بفكر في حاجة.
مازحها حينما غمز بمشاكسة:
_على بابا!
زمت شفتيها بضيقٍ جعله يضحك بصوته كله، فاعتدل بمنامته، حتى استقر يغفو على ظهره، فحملق بسقف الغرفة وهو يردد بثباتٍ:
_أمممم... خليني أخمن.. أكيد حازم نقلك اللي حصل فاترعبتي مني وفكرتيني قتال قتلة صح؟
اتكأت على معصمها حتى زحفت بجسدها ويده تحتضن ما يلف رقبتها بانزعاجٍ، فحاولت وضع رأسها على صدره لتستكين بنومتها، وحينما فشلت جلست بتأففٍ وهي تخبره:
_لا مزعلتش عشان الحيوان ده مد ايده على عدي وكان هيقتلني!
التفت اليها فضمها بحنانٍ، ابتسمت بانتصار حينما شعرت بقربها منه دون أن تحيل رباطة عنقها بينهما، فأغلق عينيه باستسلام لنومٍ قاتل وهو يردد بنعسٍ:
_مفيش مخلوق هيمسك طول ما أنا جنبك يا ملاكي.
ابتسمت وهي تراقبه، فوجدته غفى بنومٍ عميق ومازالت يدها تحتضن جسدها إليه، اشرأبت بعنقها قليلًا، فطبعت قبلة على جبينه وهي تهمس بحبٍ:
_ربنا ميحرمني منك ياحبيبي.
ارتسمت بسمة صغيرة على شفتيه، وكأنه يشعر بوجودها، فاستسلم لنومه ولحقت به بإرهاقٍ هي الاخرى.
*****
بغرفة آسيل.
جابت الغرفة ذهابًا وايابًا، وعينيها تراقب الفراش بغيظٍ، استمعت لخطبته الطويلة بالا تزعجه لارهاقه الشديد وبوعده القاطع لها بأنه سيقص كل شيء بمجرد استيقاظه، حاولت تهدئة ذاتها لتنتظر استيقاظه ولكنها لم تستطيع، فأخذت تراقبه بحنقٍ شديد، زفرت آسيل بغيظٍ جعلها تكاد تبتلع ذاتها، فرفع أحمد الغطاء عنه، ثم مال بجسده ففتح مصابحه الجانبي وقال بابتسامة ساخرة:
_عايزة تعرفي أيه يا آسيل عشان يجيلك نوم وتسبيني أرتاح أنا كمان!
تهللت تعابيرها، فركضت اليه وصعدت فوق الفراش بعشوائيةٍ كادت باسقاطها، تعالت ضحكاته وهو يساندها مرددًا بعدم تصديق:
_طب براحة هو أنا ههرب.. أمال لو كنت من الرجالة القفوشة اللي مش بتتكلم مع زوجاتها كنتي هتعملي أيه؟
جلست جواره واجابته:
_كنت هقتلك يا حبيبي، أنا بحب الرغي وطول عمرك بترغي معايا وبتحب تسمعني ولا اتغيرت.
تلاشت معالم مزحه تدريجيًا وقال ببسمةٍ عاشقة:
_ولأخر حياتي هفضل أسمعك وعمري ما همل حتى لو كان كلامك أغلبه تافهة، هحاول أشاركلك كل تفاصيلك وهجتهد في ده.
ابتسمت برضا، وتناست كلماته حينما صوبت له سؤال مباشر:
_قولي كنتوا فين بقا؟
ضيق عينيه بمكر:
_مش عمي قالكم كنا بنحارب!
جاهدت انغلاق عينيها للنوم بعدما قضت ليلها بانتظاره، فقالت وهي تقاوم:
_حرب أيه.. اديني تفاصيل!
جذب أحمد الوسادة فوضعها خلف ظهرها ثم بدأ بقص ما حدث عليها، وحينما انتهى واستدار تجاهها وجدها تغفو بنومٍ عميق، تعالت ضحكاته الرجولية، وردد ساخرًا:
_هو أنا بحكيلك حدوتة قبل النوم!
ثم تمدد جوارها وجذب الغطاء فوقهما وهو يهمس بنومٍ:
_المهم انها هتسبيني أنام في سلام!
******
خرج من حمامه الخاص فاتجه لخزانته لينقي ما سيرتديه بعد حمامه الساخن، فوقفت رحمة بالخارج وهي تردد:
_كنت فين كل ده يا عدي، وليه مكنتش بترد على موبيلك أنا قلقت عليك!
جذب بنطال أسود فارتداه وهو يجيبها:
_أنا كويس وده المهم.
لحقت به للداخل بعدما أيقظ كل طاقة غضب اختبأت خلف وجهها الرقيق، فصاحت به:
_يعني أيه كويس! انا بسألك كنت فين دي مش اجابة لسؤالي يا عدي، وايدك أيه اللي حصلها!
قالت جملتها وهي تشير ليده، فجحظت عينيها في صدمة حقيقية جعلت فمها ينفتح على مصراعيه، ضمت يدها على فمها وهي تراقب أثار الاحمرار العميق على صدره وظهره، وبعض الخدوش السطحية، رفعت عينيها المغرقتان بالدموع وهي تشير له:
_ده أيه؟
ارتدى التيشرت الخاص به، ثم دنى منها وهو يضمها اليه:
_رحمة أنا كويس والله.. ده موضوع صغير واتحل الحمد لله.
ابعدته عنها وهي تردد برهبةٍ:
_المجرم ده اتعرضلك صح.
ضيق عينيه بذهولٍ، وقد باتت الخزانة ضيقة تخنقه رويدًا رويدًا، فعادت كلمات ذاك الأرعن تتشكل من أمامه حينما أخبره بأمر مصطفى وما فعله بزوجته، استجمع الآن كل الخيوط، فتطلع لها مطولًا قبل أن يردد بدهشة:
_ده السر اللي كان بينك وبين بابا؟ مصطفى مش كده!
برقت بدهشةٍ، فهزت رأسها نافية بخوف وبكاء، جعلها تردد بارتباك:
_مصطفى مين، أنت بتقول أيه يا عدي أنا معرفش أنت بتتكلم عن أيه؟
تألم للغاية وهو يحاول تخيل ما مرت به بدونه، ما واجهته لأجله، دون أن تطالب سنده ومأمنه بعيدًا عن هذا اللعين، ضمها اليه بقوةٍ جعلتها تنهار باكية بين ذراعيه، فربت عليها بحنان وهو يخبرها:
_كل شيء انتهى يا رحمة، ومصطفى أخد جزاته اللي يستاهلها.
فاضت اليه بما خبأته طوال تلك المدة، فوجدته يضمها ويحتوي جروحها، يكفيها حالة الهلع التي خاضتها دونه، أبى لها البعد بتلك اللحظة العظيمة من المشاعر والعواطف، فاقتبس من رحيقها وتركها تغدو منه، لتصبح رغباتهما محرمة للأعين التلصص عليها!
*********
لم تكن بحاجة لسماع مبرراته، تعبه كان بادي على وجهه وضوح الشمس، لذا تركته نسرين يرتاح، وحملت ثوب نومها ثم اتجهت لحمامها الخاص، علها تشعر بالتحسن قليلًا لما يهاجمها بالفترة الاخيرة من وجعٍ حاد، خاصة بعدما باتت بمنتصف الشهر التاسع من حملها، فاستندت على الحائط حتى ولجت للحمام، فضغطت على مكبس الدوش، ثم انغمرت أسفل المياه لدقائقٍ شعرت بها بتحسن ملحوظ، فجذبت قميصها القطني الطويل، وارتدته بهبوطٍ شديد أصابها فجأة، فشعرت بأن الحوائط الأربعة تلتف بها، ووجعًا عظيمًا يطعن أسفل بطنها، تمايل جسد نسرين للخلف حتى استسلمت لجلوسها أرضًا خشية من أن تسقط فيتأذى جنينها، وحينما بات ألمها غير محتمل، صرخت باكية:
_حـــــــــازم!
اعادت تكرار اسمه ببكاءٍ مرة تلو الاخرى، حتى انزعج بمنامته، فانتفض بالفراش وهو يردد بهلعٍ لسماع بكائها:
_نسرين!
أشغل اضواء الجناح بأكمله وبحث عنها بخوفٍ، حتى تسلل صوتها اليه، فطرق على الباب عدة مرات وهو يتساءل:
_نسرين أنتي جوه؟!
أتاه صوتها الخافت تستغيث به:
_الحقني يا حازم.. مش قادرة هموت!
سماعه لبكائها جعله يكاد يفقد صوابه فتساءل بقلق:
_ابعدي من ورا الباب!
كانت بالفعل بعيدة عنه، فاندفع تجاهه بجسده بكل قوته، عدة مرات حتى انصاع خضوعًا إليه، فأسرع حازم للداخل فوجدها تجلس أرضًا وملابسها ممزوجة بالمياه والدماء، سقط قلبه بين قدميه، فحملها بين ذراعيه ثم جذب اسدالها ومفاتيح سيارته وهبط بها لسيارته وهو يخبرها:
_متخافيش أنا جانبك!