رواية احفاد الجارحي 5الخاتمة 2 بقلم اية محمد رفعت
_ياسين الجارحي بنفسه جوه جناحي ده أكيد تأثير الصيام!
كلمات لفظ بها يحيى بعدم تصديق، فاعتدل بنومته يفرك عينيه وهو يردد بعدم تصديق:
_أنت خرجت من الحلم للواقع!
أخفض ساقه عن الأخرى ببطءٍ شديد، ثم نهض عن مقعده ليتجه إليه بخطواتٍ ثابتة تناهز ثبات نظراته التي تحيط بها، انحنى ياسين تجاهه والأخير يراقبه بصدمة وعدم استيعاب، وخاصة حينما قال:
_بعد العمر ده كله جايلي شكوة منك!
جحظت عينيه صدمة إتبعت دهشة سؤاله:
_مني أنا!
زوى حاجبيه بضيقٍ جعل يحيى يشير له بقلقٍ:
_النظرة دي مش ليا يا ياسين إحنا كبرنا على الكلام ده، ده أحنا بقى عندنا أحفاد يا راجل!
صوته الثاقب تردد دون مبالاة بحديثه:
_يحيى!
تنحنح بجدية اتبعت سؤاله المستنكر:
_مين اللي شكاني ومستعجل على أضحية العيد!
رد عليه وعسليته لم تحيل عنه:
_ملك بتشتكيلي من معاملتك ليها.
تطلع له قليلًا يحاول استكشاف نبرته وما يتوارى خلفها، وعاد بنظراته للجناح باحثًا عنها وحينما لم يجدها همس لياسين بخفوتٍ:
_أنا فعلًا اليومين دول بطردها كتير بره الجناح بس ده مش تغير في المعاملة ده لعدم اهدار معاناتي!
عاد يزوي حاجبيه من جديدٍ، فأشار له يحيى بالاقتراب حتى لا يستمع لحديثه أحدًا، فاحنى ياسين قامته قليلًا إليه فهمس الأخير بضيقٍ:
_راحة جاية قدامي وأنا صايم ولا عارف أغض بصري ولا مشاعري!
عبس بحدقتيه ليطعنه بتلك النظرة الشرسة، فابتعد عنه للخلف وهو يردد بخوفٍ:
_هو أنا قولت حاجه غلط ولا أيه؟!
بقى على نفس جموده، وتابع بصوتٍ صارم:
_أنت مش لوحدك اللي صايم في الكون، إتعلم تتحكم في مشاعرك أحسنلك، ومتضطرنيش أعاملك معاملة مسبقش ليا إني إتعاملت معاك بيها.
أبعد عنه الغطاء واستقام بوقفته أمامه، يسأله بعدم تصديق:
_الكلام ده لصديقك الوحيد يا ياسين؟
وضع يده بجيب سرواله القماشي وهو يجيبه بحدةٍ:
_ملك أول مرة تلجئ ليا في شيء فتأكد إن المرة الجاية كلامنا مش هيتوقف عند النصيحة.
وتركه وغادر ومازالت نظرات يحيى مصوبة على باب الجناح، فما أن اختفى من أمامه حتى ارتسمت بسمة صغيرة على شفتيه وهو يتابع دخوله للمصعد واختفائه التام من الطابق بأكمله.
*******
بأحد محلات الملابس الشهيرة.
وقفت تراقبه بتأففٍ وضيق، مازال يبحث عن غايته بالمحل الخامس منذ الصباحٍ، وما زادها غضبًا عدم رضاه بما يجده قبالة عينيه فردد بفتورٍ:
_مش اللي في دماغي بردو!
وقفت نسرين محلها، رافضة الانصياع من خلفه مجددًا، وصاحت بانفعالٍ:
_أنا عايزة أفهم بالظبط أنت عايز تشتري أيه، من صباحية ربنا ساحبني وراك شبه الجاموسة واحنا في صيام ونادرًا أساسًا لما بنلاقي حد فاتح.
وقطعت المسافة المتبقية بينهما لتقف قبالة عينيه تخبره:
_فهمني حالًا أيه اللي عايز تشتريه ومش لاقيه والا هندم إني وافقت أنزل معاك يا حازم!
هم إليها وهو يشير بيده:
_هتفضحينا يا بنتي وطي صوتك شوية الناس حولينا!
كزت على أسنانها وأردفت بغيظٍ:
_وأنت يهمك حد!
زفر بغضبٍ، ورضا الأمر الواقع، فقال:
_طيب بصي أنا عايز اشتري لبس لطفلة بس للأسف مش عارف سنها، بس هي تقريبًا في جسم ليان بنت أحمد.
ضيقت عينيها باستغرابٍ:
_بنت مين دي؟
امتنع عن اجابتها وبحث بين الملابس المعروضة من أمامه، فلحقت به وهي تمتم بحنقٍ:
_ده أنت عمرك ما اشتريت لحد من ولادك لبس، بتسبني أطلبلهم أون لاين اللي أنا حباه!
وتابعت باستنكارٍ حينما وجدته يتجاهل حديثها:
_فهمني يا حازم بنت مين!
صاح بحماسٍ وهو يجذب أحد الفساتين المعروضة:
_ده مقاسها والاستايل اللي في دماغي.
جذبت منه ما يحمله وقالت بضجرٍ:
_عايزة أفهم ممكن؟
منحها ابتسامة هادئة تمتص غضبها المشتعل، ثم قال بحنوٍ لا يليق بشخصه:
_هفهمك كل حاجة يا نسرين، بس ساعديني نخلص عشان نرجع القصر قبل الفطار وأنا أوعدك على العيد هأخدك إنتي والأولاد وهنزل معاكم تجيبوا اللي نفسكم فيه.
تخليه عن مرحه وحديثه الجاد جعلها تشعر بجدية ما يفعله، فانصاعت إليه وانتقت أكثر من طقمٍ متكاملٍ بنفس المقاسات المنطبقة للفستان الذي يحمله، قضت أكثر من ساعة ونصف بانتقاء ما يلزم لفتاةٍ بعمرٍ كذلك، وما زاد ريبتها حينما اشترى حازم حقيبة دراسية وأغراض خاصة بالدراسة، كانت تشعر وهي بصحبته بأنه يستعد لاستقبال فتاة لعائلته، انتابها هاجس مرضي حول ما يفعله، وخاصة بما فعله أحمد مع ليان، سابقًا حينما عاد للقصر يحمل فتاة رضيعة بين يده، قام بتربيتها حتى باتت ابنة تتقبلها آسيل، ولكن الفارق هنا بأنها لم تكن ابنته بل توالى هو تربيتها، ولكن ماذا لو كان زوجها قد أخطأ بالفعل؟
كونها فتاة من العائلة المتوسطة، لطالما كانت تسمع عن مقولة دائمة عن الرجال، بأن المال الذي أحاط بالرجال لا يعيقه الزواج مرة أخرى، أشباح تلك الهواجس تلاحقها منذ لحظة خروجها من المحلٍ وصعودها لسيارته التي تتحرك لمكانٍ يبعد عن القصر كثيرًا، تختطف النظرات إليه، فتتعلق على شفتيه التي تردد لها الحديث طوال الطريق ومع ذلك لم تسمع أي مما كان يخبرها به، حتى توقفت السيارة أخيرًا بزقاق أحد الحارات الشعبية، ومع ذلك لم تنتبه لتردد جملة حازم:
_وصلنا يا نسرين إنزلي!
تائهة هي بين ما يطرحه عقلها من هواجسٍ، تخشى من تلك اللحظة التي يريها بها فتاة ويقدمها كابنة له، صنع لها عقلها عالم يذبحها كلما مرت الدقائق عليها، أفاقت من غفلتها على هزة يد زوجها وهو يردد بقلقٍ:
_نسرين؟
إنتبهت له وهتفت باستيعابٍ:
_وصلنا؟!
قال ونظراته تحيطها بدهشةٍ:
_مالك يا حبيبتي سرحانه في أيه؟
هزت رأسها تنفي ما يعتريها، وأخبرته بجمودٍ:
_إنزل نروح مشوارك المهم.
هز رأسها بخفة رغم جدية نبرتها الجافة، فهبط من السيارة يجمع الأكياس من المقعد الخلفي، ثم إتجه للزقاق الجانبي، اتبعته وقلبها يزيد من ضغطه العارم عليها، تشعر وكأنها على بضعة خطواتٍ تفصلها عن وجعٍ سيصيبها لا محالةٍ، انتهى بها الأمر عند ذاك الباب المتهالك، وحينما طلت من خلفه تلك الفتاة الصغيرة بملابسها الشبه ممزقة والمتسخة، ومن خلفها عجوزًا تستند على عصا خشبية، يبدو لها بأنها جدتها، انحنى تجاهها حازم، فداعب ذقنها بيده برفقٍ وهو يخبرها ببسمة هادئة:
_قولتلك إني هرجع ومعايا لبس كتير.
فتشت الفتاة بين الأغراض بسعادة رسمت على وجهها مع كل زي تتأمله، فرحتها زرعت الابتسامة والدمع بأعين حازم، فمسد على شعرها بحنانٍ، وناولها أخر كيسًا بلاستيكيًا وهو يؤكد عليها:
_هترجعي المدرسة تاني، أنتي وعدتيني يا أشرقت؟
أومأت برأسها عدة مرات وهي تتابع جدتها لتمنحها الإذن بما تود فعله، تعجب حازم وهو يراقب ما يحدث بينهما، فتخشب جسده حينما ارتمت الصغيرة بأحضانه بأمانٍ حصلت عليه بعد تعامله الحسن معها، بالبدايةٍ كانت تخشاه من تحذيرات جدتها المشددة بعدم الوثوق بأي شاب أو رجل كونها فتاة تتعلم من الصغرٍ الحفاظ على ذاتها، ضمها حازم إليه بسعادةٍ وعينيه يسكنه الدمع تأثرًا بتلك الفتاة التي حاذت بعطفه وحنانه منذ أول نظرة.
ومن بين تلك الأعين المراقبة لما يحدث بينهما، كانت تتابعه زوجته التي تراقبه بدهشةٍ وعينيها تلتمعان بدموعٍ واحترامًا يزداد لشخصه المميز والنادر من بين أعمدةٍ الجارحي الشامخة، زوجها مميز لدرجةٍ تجعلها تطيل بسجودها وهي تشكر الله بمنحها زوجًا مثله، استقام حازم بوقفته وأستدار إليها وهو يحثها بالاقتراب مرددًا بصوتٍ محتقن من كبته للدموع:
_خليني أعرفك على نسرين مراتي، أكيد هتحبيها.
أزاحت دمعاتها وأسرعت إليه تقابلها بابتسامةٍ هادئة، فانحنت إليها وهي تطبع قبلاتها على جبينها بتأثرٍ، شعرت الفتاة بالراحة لوجودها وشعورها بحنانها الغير زائف، قدم حازم للجدة مبلغ ضخم من المال، وغادر على وعد القدوم من الوقت للأخر للاعتناء بالفتاة الصغيرة، وتركهما وانضم لنسرين التي تنتظره بالسيارة، فما أن صعد لجوارها حتى ارتمت بأحضانه باكية، أسبل بعينيه باستغرابٍ، فأبعدها عنه وهو يسألها بلهفةٍ:
_في أيه؟
أزاحت دموعها وهي تخبره بحزنٍ:
_أنا أسفة يا حازم.
رفع أحد حاجبيه بذهولٍ:
_على أيه؟!
ازداد نحيبها، فجذب المناديل الورقية الموضوعة على تابلو السيارة وقدمها لها مرددًا بفزعٍ:
_طيب اهدي وفهميني مالك؟
جذبت المنديل منه وجففت دموعها، بينما تابع هو بفضولٍ عما أصابها، فقال:
_محتاجة فلوس وسرقتيني وبتعتذري بعد ما حسيتي بالندم مثلًا؟!
هزت رأسها نافية، فلكم دريكسيون السيارة وهو يحك رأسه لمجاهدة بالوصول لسبب ما يصيبها، فقال بعد تخمين:
_مخنوقة مني من حاجة وقررتي فجأة نتكلم فيها خاصة بعد ما قلبك قسي عليا!
هزت رأسها مجددًا فزفر بضجرٍ:
_يا بنت الحلال أنا صايم ومرهق مش قادر أفكر في شيء، فقوليلي في أيه عشان نلم اللي نقدر عليه قبل ما فضايحنا تنتشر بالقصر أكتر من كده!
أزاحت دمعاتها وهي تهمس من بين بكائها الخافت:
_بأحبك.
ضيق نصف عين بقلقٍ من نبرتها المريبة، فعاد ليتساءل ببلاهةٍ:
_وده سبب اعتذارك ولا ندم لحبك ده؟
عادت لتتحلى بالصمت فصاح بمللٍ:
_اخلصي يا أمي، فجأيني بالمصيبة اللي بعد كده أنا عارف الحالة دي وشامم ريحة مش تمام.
وأشار بيده:
_هلي عليا بمصيبتك بس واحدة واحدة الله يكرمك إحنا في صيام!
عادت لأحضانه من جديد، فابتسم رغمًا عنه وهو يضمها لصدره، متكئًا بوجهه على رأسها، وصرح لها بصوته المنخفض:
_طيب أيه؟ إحنا في صيام!!!
واسترسل بمرحٍ حينما وجدها تفارق أحضانه بخجلٍ:
_مش هيبقى فعل فاضح بالطريق العام هيبقى أداب!!
لكزته بضيقٍ فتعالت ضحكاته خاصة حينما شاركته الضحك، قاد حازم سيارته ليعود للقصر وحينما وجدها هدأت تمامًا لجواره سألها باهتمامٍ:
_ها مش هتقوليلي بقى مالك؟
اعتدلت بجلستها إليه وقالت وهي تفرد فستانها الملتصق على ساقيها:
_بصراحة يا حازم أنا ظلمتك.
حال عينيه عن الطريق إليها:
_انتي طول عمرك ظلماني وجاية عليا.
واسترسل دون أن يترك لها مجالًا:
_بس كنت واثق إن هيجيلك يوم تحسي بغلطتك البشعة تجاه العبد لله.
تقوست شفتيها بضيقٍ اتبع نبرتها المحذرة:
_حازم!
غمز لها بمشاكسةٍ لم تتركه:
_وماله المهم إنك حسيتي بالنهاية.
ورفق يده على حجابها بحنان وهو يحثها بمشاغبته الغير مجدية بالنفع ابعادها عن شخصه الشبابي:
_احكي وإتأسفي واندمي براحتك يا روح قلبي، أنا سامعك للفجر لأ للمغرب عشان فقرة الفطار!
_كنت فاكراك متجوز عليا!
تلاشت ابتسامته بشكلٍ صاعق، فأوقف سيارته فجأة بصورة جعلتهما يرتدون للامام معًا، والاخيرة تصرخ به:
_حاسب يا حازم!
التفت إليها بنظرةٍ قاتلة وكأنها ألقت بوجهه قنبلة نارية وتركتها له، فصاح بعنفوانٍ:
_اتجوزت عليكِ!! يخربيتك هو أنا لحقت، أنا ارتبطت بيكِ من قبل حتى ما أتخرج من الجامعة! ده أنا زمايلي لسه بيفكروا يرتبطوا وأنا معايا عيلين!!! هلحق أتجوز أمته؟!
حالته المتعصبة جعلتها تخشى أن يصيبه شيئًا، فأشارت له مرددة:
_حازم حبيبي أنا لسه بتكلم، اهدا واسمعني.
منحها نظرة ساخرة قبل أن يحرك مفتاح السيارة لتتحرك به مجددًا، فابتسمت حينما انصاع لأمرها وقاد بهدوءٍ فعادت لتستطرد:
_أنا فخورة بيك يا حازم.
تطلع إليها بتشتتٍ لا يعلم ماذا تود قوله بالتحديد، إتهمته منذ قليلٍ بزواجه ومن ثم تخبره بفخرها الشديد به، فقال بفتورٍ:
_حبيبتي أنا اللي فاتني السحور النهاردة مش إنتِ، فقوليلي كده التخاريف دي جيالك من إيه؟!
وقرب يده لرأسها يتفحص حرارة جبينها، متلفظًا بحيرةٍ:
_مفيش سخونية أهو أمال مالك؟!
مدت يدها على يده تهاتفه بجدية:
_حازم أنا كنت مستغرباك الصبح وأنت بتشتري الهدوم وعقلي خيلي حاجات كلها ألعن من بعض، لحد ما شوفتك بعيني بتعمل أيه، أنا بأحبك وبحترمك أوي.
وزع نظراته بينها وبين الطريق، فقرب رأسها لصدره طابعًا قبلة على جبينها، لم يفرقها عنه طوال الطريق يرغب في ضمها عمره بأكمله، شرد بالطريق ابتسامته لم تفارق محياه حينما تذكر غضبها واستيائها منذ الصباح وهي تتجول بصحبته، فما أن صف سيارته بالقصر، أبعدها عنه وهو يخبرها بابتسامة هادئة رغم مرح نبرته:
_هو أنا بشوف الستات دول ستات عشان أتجوز عليكي، أنا بشوفهم زي الشاويش عطية بالظبط!
ضحكت وهي تستمع إليه باستمتاعٍ، فهز رأسها بخفة وهو يتابع بمشاكسةٍ:
_أنت التوب والباقي فوتوشوب!
تعالت ضحكاتها حتى أحمر وجهها، فقالت بصعوبة وهي تبعد يده عنها:
_بطل بقى طريقتك اللي اتهرست دي يا حازم.
غمز لها بخبثٍ:
_وماله نجدد عشانك يا وحش!
ضيقت عينيها باستنكارٍ:
_هو مش أنت لسه قايل انك محترم نفسك عشان احنا في رمضان، كلامك راح فين؟
أغلق محرك السيارة وهبط مسرعًا ليفتح بابها، متعمدًا استغلال قربها منه، ليهمس بمكرٍ:
_بليل نكمل كلامنا!
منحته ابتسامة عاشقة قبل أن تغادر للداخل، فاتبعها قاصدًا مكتب القصر حيث يتجمع الشباب.
********
انزعجت بنومتها فاستيقظت لتجد الساعة الرابعة عصرًا، لا تعلم لما قضت وقتها هذا بالنومٍ، فجذبت اسدالها وهبطت للأسفل بأعينٍ ناعسة، ولجت مروج لمطبخ القصر تردد بنومٍ:
_صباح الخير.
أجابتها الفتيات وهن يتابعان اعداد الطعام بنفس السياق:
_صباح النور.
بينما يستند معتز على حافة رخام المطبخ الجانبي يتابع حديثه مع شروق، وما تمليه عليه من طلباتٍ تحتاج إليها، فسلطت أنظاره لشقيقته التي تدنو من براد المطبخ جاذبة زجاجة من المياه تلتهم نصفها تقريبًا بإريحيةٍ تامةٍ، مستنكرة لنظراتٍ الفتيات المنصدمة من أمرها، وخاصة حينما صاحت آسيل بسخطٍ وهي تشير لوجود معتز بينهن:
_فإذا ابتليتم فاستتروا، إنتي أيه معندكيش منطق!
رمشت بعينيها بعدم فهم، وكأنها ارتكبت جريمة بتناولها المياه بعد نومًا طويلًا هكذا، وما لفت انتباهها ضحكة معتز الساخرة، فأتت إليها ذكرى شهر رمضان المبارك تهرول لذكرياتها، فسكبت المياه عن فمها وهي تشير إليه بصدمة:
_إنت فاهم غلط والله أنا نسيت إننا في رمضان!
بذل مجهودًا ليجعل ملامحه تصدق كلماتها وإن مال رأسه للعذر الشهري، فقال ببسمة يجاهد لاخفائها:
_عادي يا حبيبتي معاكم رخصة بده!
هزت رأسه باعتراضٍ وهي تؤكد له:
_لأ أنا كويسة صدقني بس نسيت!
أكد لها وإن كذبتها تعابيره وبسمته الساخطة:
_مصدقك!
وتابع بخبث:
_ده أنا أخوكي يا موجة ستر وغطا عليكي متقلقيش محدش هيعرف.
همست بصدمة:
_يعرف أيه؟! بقولك نسيت والله إننا في رمضان!
_عارف.. عارف!
وبالرغم من وداعة حديثه ولكن خبث نظراته وابتسامته الساذجة جعلتها تستشيط غضبًا، فاتجهت لتترك المطبخ نهائيًا فلحق بها وهو يردد بتسليةٍ:
_هاتي الازازة طيب، الشباب برة هتفضحي نفسك بالقصر كله!
ألقت الزجاجة بوجهه بغيظٍ فتعالت ضحكاته حتى أوقفته دينا بضيق:
_حرجت البنت يا معتز!
ردت عليها يارا بعتابٍ:
_هو طول عمره كده ميرتحش الا لما ينرفزها، معرفش بيعاملها كدليه دي أخته الوحيدة!!
أعاد وضع الزجاجة للبراد وهو يردد ببراءةٍ مصطنعة:
_أنا يا ماما! هو أنا اللي اتقفشت بالازازة من شوية!
صاحت به شروق بتذمرٍ:
_مفيش فايدة فيك!
وشددت من الاجواء الحادة إليه حينما قالت ليارا:
_أنا متأكدة يا طنط إنه هيجي وقت الفطار وهيفضحها!
برق بعينيه بصدمةٍ، وقال بثباتٍ مخادع:
_أيه الهبل ده أنا مستحيل هقل من أختي حبيبتي، وبعدين إنتوا مكبرين الموضوع ليه هو إحنا لسه عيال صغيرين ومش فاهمين يعني أيه عذر شهري!
تلونت وجوه الفتيات خجلًا، فانسحبن جميعًا من المطبخ تباعًا، ليبقى بمفرده برفقة والدته ودينا اللتين يرمقانه بغضبٍ، وخاصة حينما قال وهو يتابع هروبهن باستغرابٍ:
_هو أنا قولت حاجة غلط!!
*******
كان بطريقه للأعلى بعد عودته من المقر، حينما وجدها تجلس على طاولة الطعام، تعيد لف رقاق الجلاش بما تحمله من المكسرات بحرافيةٍ، حتى صنعت كمية كبيرة، راقب رائد القاعة من حوله ودنا حتى جذب مقعد مجاور لها، فتابع ما تفعله باهتمامٍ اتبع سؤاله:
_بتعملي أيه؟
رفعت عينيها إليه قائلة ببسمةٍ رقيقة:
_حمدلله على السلامة يا حبيبي.
وأشارت عما بيدها مردفة:
_مفيش بجهز الجلاش عشان نحلي بعد الفطار بس يارب يطلع حلو!
اتنقلت نظراته ليدها وردد بهمسٍ ساحر:
_كفايا إنك عملاه من إيدك، أكيد هيبقى طعمه مالوش مثيل!
ابتسمت رانيا ومنحته نظرة خجلة قبل أن تشير له:
_إطلع غير هدومك وانزل عشان تحفظ مريم القرآن الشيخ زمانه على وصول وأنا مقدرتش أحفظها النهاردة.
نهض عن مقعده ثم جذب حقيبته ليخبرها بصدرٍ رحب:
_ولا يهمك أنا هحفظها النهاردة وبكره كمان خدي استراحة.
لفت رأسها إليه حينما صعد الدرج فقالت بصوت يصل لمسمعه:
_ربنا ما يحرمني منك.
ظنته لم يستمع لها، فعادت لتستكمل ما تفعله، ولكنها تفاجأت به يخبرها قبل اختفائه للطابق العلوي:
_ولا منك يا روح قلبي!
*******
تعالت ضحكاته وهو يتابع مكالمته الجماعية برفقة أصدقائه، فقال بتشددٍ:
_بكره تكونوا هنا في المعاد، مش هقبل أعذار تاني!
أكد له مراد ورحيم بحفاظهما على وعدهما المطلق، وتبادلا الحديث الهام عن المهمة التي تثير ريبة العميد واللواء، وبضرورة التحضر للسفر بأسرعٍ وقتٍ ممكنٍ، كان يتابع حديثه الهام برفقتهم حينما لمح رحمة تقترب من مجلسه المنعزل للمرةٍ الثالثة فزرعت داخله القلق حيال أمرها، لذا قال بحزمٍ:
_هكلمكم بعدين.
وأغلق هاتفه ثم إتجه إليها يتساءل بقلقٍ:
_محتاجة حاجة يا رحمة؟
بدت مرتبكة قليلًا، قبل أن تخبره:
_أنا آآ..
هز رأسه بهدوءٍ ليحمسها على قول ما تود قوله، فقالت:
_أنا من الصبح شامة ريحة مانجة يا عدي.
عبث بعينيه وهو يردد بذهولٍ:
_مانجة في الصيام!
هزت رأسها مؤكدة له، وتابعت باستياءٍ:
_دورت هنا ملقتش وده مش موسمها أصلًا!
كاد بالضحك فأوقفته بإشارة تحذيريه:
_متضحكش عليا!!
إرتدى قناع ثباته القاتل الذي ورثه عن أبيه بجدارةٍ، وتابع بتريثٍ:
_هضحك ليه! بعد الفطار هتصرف!
*******
بمكتب القصر.
اجتمع جاسم وعمر وحازم باستراحة المكتب يتبادلون الحديث الهام فيما بينهم، وعلى بعدٍ منهم كان يعمل ياسين وأحمد على مراجعة الملفات التي ذهب رائد وأحضرها من المقر لمتابعة العمل من القصر طوال رمضان، خطف ياسين نظرة سريعةٍ لأحمد المستند برأسه على يده منذ فترةٍ، فسأله بقلقٍ:
_أحمد أنت كويس!
أبعد عينيه عن مراجعة تلك الحسبة المعقدة وهو يجيبه:
_كويس يا ياسين.
ووقع العقد وقدمه له مردفًا:
_خلصت الملفات وواقفة على توقيع عمك.
سحبها منه ياسين ليضعها جانبًا، ثم أشار له وهو يتابع شحوب بشرته بخوفٍ:
_إطلع ارتاح إنت وأنا هكمل!
لم يجابهه بل انصاع إليه على غير عادته، فما أن استقام بوقفته حتى شعر برأسه تدور به، وكأن الغرفة تدور بحلقتها الدائرية من حوله، قبض بيده على المقعد حينما شعر بأنه على وشك السقوط، فسأله ياسين مجددًا بشكٍ:
_أحمد أنت فيك أيه؟
رسم بسمة باهتة وهو يجيبه:
_صدقني أنا كويس.
وتركه وإتجه للخروج، ففتح باب المكتب ومازال يحارب ذاك الدوار، فاستند بجسده على الباب الذي انفتح على مصرعيه جراء ثقله، فهرع إليه حازم يسانده وهو يصرخ به بدهشة:
_أحمد!!
أغلق عينيه بتعبٍ شديد فأسرع الشباب إليه بفزعٍ، ليصيح ياسين بانفعالٍ:
_كنت من الأول شاكك إنك فيك شيء!
سانده عمر حتى تمدد على الأريكة، وأزاح عنه سترته وحل أزرر قميصه حينما شعر بأن تنفسه بطيء للغاية، انقبض قلب حازم وهو يتابعه ويتساءل بلهفةٍ:
_ماله يا عمر؟!
أجابه وهو يتفحص نبض يده إعتمادًا على ساعته:
_بشوف أيه يا حازم اهدأ.
جاهد أحمد لفتح عينيه، وما يستطيع رؤيته ازدحام الغرفة من حوله بالفتيات وأولهن آسيل التي جلست أسفل قدميه تردد باكية:
_أحمد ماله؟
سأله عمر باهتمامٍ:
_أنت أكلت أيه على السحور يا أحمد؟
ابتلع ريقه بصعوبة بالغة، وردد بواهنٍ شديد:
_يا جماعة أنا كويس، أنا بس شربت قهوة بالسحور ولعبت رياضة الصبح وأنا صايم فيمكن ده اللي عمل فيا كده!
صاح به عدي بشراسةٍ:
_بتستهبل حد يلعب رياضة وهو صايم!!
بلل شفتيه الجافة بلعابه وهو يردد بصوتٍ متقطع للغاية:
_مش هكررها تاني صدقني.
ردد حازم برهبة ومازال يمسك بيد أخيه:
_هو ينفع يكسر صيامه يا عمر، أنت شايف حالته عاملة ازاي أهو؟
أجابه بحيرةٍ:
_مش عارف يا حازم!
قاطعهما أحمد بحزمٍ غير قابل للنقاش:
_مستحيل، مش فاضل على الآذان غير ساعة أنا هقدر أستحمل!
شدد حازم على يده بعصبيةٍ كادت بأن تقرب للبكاء:
_أنت مش شايف حالتك!
همس له وهو يستسلم لقسطٍ من النومٍ:
_أدام قادر فهكمل صيامي، سيبوني بس أرتاح لحد المغرب.
خرج الجميع وتركوه يغفو قليلًا الا آسيل بقت محلها تراقبه ببكاءٍ حارقٍ، طوال تلك السنواتٍ لم ترى زوجها بهذه الحالة، كان دائمًا قويًا صامدًا لا يهزه شيئًا، حتى وإن كان مريضًا كان يرفض البقاء بالمنزل والفراش، يجابه مرضه بصلابةٍ، تسللت شهقاتها إليه فتقلب على الأريكة وتراجع لمسندها، وهو يشير إليها بالاقتراب منه، فعلت على الفور فأشار بيده على المسافة المتبقية جواره، تمددت آسيل لجواره، فهمس لها ومازالت عينيه مغلقة:
_أنا كويس يا حبيبتي، متقلقيش عليا!
ووضع يده من حولها ثم غفى سريعًا ومازالت هي لجواره تراقبه بخوفٍ لم تستطيع التغلب عليه حتى وإن أكد لها هذا، لا تعلم كيف انقضت تلك الساعة، عادت الدماء لأوردتها حينما وجدته يجلس برفقة الشباب يتناول كوب العصير الذي أعاد الحيوية لوجهه الشاحب ومن ثم بدأ بتناول طعامه بهدوءٍ حمدت الله كثيرًا بأن حالته الصحية توقفت على تناوله الطعام والا كان سيصيبها الجنون.
مال حازم على أخيه يسأله بلهفةٍ:
_أحسن دلوقتي يا أحمد؟
منحه ابتسامة هادئة وهو يتابع القلق الذي يتراقص بين حدقتيه، فمازال لم يتناول الطعام بعد، يراقبه أولًا ليطمئن بأنه على ما يرام مثلما يخبره، فأشار له وهو يقرب طبقه منه:
_أنا بقيت كويس يا حازم كل.
ومازحه قائلًا:
_مش هتبدأ بالمية؟
غمز له وهو يلتقط دورق العصير، مرددًا:
_هعوض بالعصير.
منحه نظرة ساخرة وهو يلتهم العصير بأكمله، وكعادته امتنع عن تناول الطعام بعدما ثقلت بطنه بالعصير عوضًا عن المياه!
*******
ما أن إنتهى الشباب من أداء صلاة التراويح حتى إتجه أحمد للأعلى ليخلد للنوم قليلًا، وما كاد بغلق باب جناحه حتى أتاه جاسم يهرول:
_استنى يابو نسب نسيت حاجة مهمه!
فتح الباب على مصرعيه وهو يراقب ماذا يقصد، فتفاجئ به يدلف للجناح حاملًا آسيل الغافلة بين ذراعيه، فوضعها على الفراش واستقام يثني ظهره بتعبٍ اتبع نبرته المحذرة:
_النهاردة بس عشان تعبان، متأخدش على كده بقى!
وتركه وغادر ومازال أحمد يراقبه بسخطٍ، كاد بأن يغلق الباب من خلفه فتفاجئ بوجود حازم قبالته، فردد بنفاذ صبر:
_نعم عايز أيه أنت كمان؟
بدت تعابيره جادة للغاية حينما أشار له:
_ممكن تخرج بره نتكلم شوية.
أغلق أحمد باب جناحه وخرج إليه يتساءل:
_في أيه؟
ضم شفتيه باستياءٍ، وانتهى من ارتباكه أخيرًا حينما قال:
_ممكن تبات النهاردة في أوضتك القديمة.
رفع أحد حاجبيه باستغرابٍ:
_ليه؟
رد عليه بتوترٍ:
_عشان أبات معاك النهاردة.
تجعد جبينه بدهشةٍ، فاستطرد حازم بمحايلةٍ:
_بعد اللي حصلك النهاردة مش هتطمن أسيبك تنام لوحدك.
وتابع برجاءٍ:
_خليني جنبك النهاردة عشان لو رجعلك الدور ده تاني أقدر أتصرف،آسيل مش هتقدر تعملك حاجة.
راقبه حتى انتهى من حديثه، فربت على كتفه بحنان يتسم ببسمته العذباء:
_حازم أنا كويس جدًا ولو لقدر الله حسيت بشيء هتصل بيك.
تجهمت تعابيره غضبًا، ومع ذلك لجئ للين بقوله:
_عشان خاطري يا أحمد مش هستريح كده!
زم شفتيه بحيرةٍ، فأشار بيده بانصياعٍ:
_اتفضل وأمري لله.
عادت سعادته تسكن وجهه المرح، فاتبعه لغرفة أحمد القديمة، ليغفو من جواره باستسلامٍ، كبت أحمد ضحكاته وهو يراقب حازم يضع قدمه فوق قدميه ويغفو من فوق كتفه وكأنه سيتخذ من جسده فراش خاص به، انتهت ضحكاته حينما ضمه إليه، هو يعلم بأنه ليس مجرد الشقيق الأكبر إليه، يعلم المعزة الكبيرة بقلب حازم إليه، لوهلة شعر وكأنه يحتوي ابنه الصغير أويس بين أحضانه، فغفى هو الأخر ويده تضمه لكتفه الأيمن!
راقبهما الشباب بدهشةٍ، فكادوا بالانفجار بالضحك ليوقفهم ياسين بصرامة:
_بس كفايا.
وأشار لعدي الذي أشار لهم:
_اطمنتوا على أحمد وكله تمام يلا كل واحد على جناحه.
همس جاسم ساخرًا:
_أنام جنبهم النهاردة بليز.
دفعه رائد للخلف وهو يهمس له بحزم:
_روح جناحك جنب مراتك يا خفيف
تعالت ضحكات مازن شماتة به،فدفعه جاسم للخلف وهو يحذره:
_بلاش نبتديها خناق في أول رمضان الشهر طويل!
اندفع بينهما معتز وأبعد جاسم عنه وهو يصيح بعنف:
_عندك ايدك متتمدش على نسيبي بدل ما أعلقك هنا.
تابعهما عمر بمللٍ، وهمس لهما بنفس مستوى الصوت المنخفض:
_ما نصحيهم أفضل من الزعيق بصوت واطي كده!
ياسين بغضب:
_كملوا خناقكم بره أحمد تعبان!
ذكره لامره جعلهم ينصاعون لأمره فما أن خرجوا من الغرفة حتى صاح بهم عدي بصرامة:
_اللي هلمحه قدامي هنزله يكمل يومه سحور بالمقر!
ذكر العمل بذاك الوقت جعل جمعهم يتشتت سريعًا فلم يجد أمامه سوى ياسين المبتسم بثقة، فبادله الابتسامة وقال وهو يتفحص ساعة يده:
_الوقت إتاخر.. تصبح على خير.
رد عليه في حبورٍ:
_وأنت من أهله يا وحش.
*******
خيم على القصر هدوء مخيف، فالجميع كانوا بحاجة للاستراحة قبل الفجر، كان عدي بطريقه لجناحه قبل أن تقع عينيه على عمر يقف بالتراس ويتحدث بالهاتف، على ما يبدو بأنها إحدى حالاته تستشيره بأمرٍ ما، لذا لم يرغب ازعاجه واستدار ليغادر لجناحه فتفاجئ برحمة تهم إليه وعينيها لا تفارق يديه وكأنها تبحث عن شيءٍ معه، وحينما وجدته يقف فارغًا انكمش وجهها بغضبٍ اتبع نبرتها المزعوجة:
_فين المانجة يا عدي؟
برق بعينيه حينما تذكر طلبها، فقال بحرجٍ:
_معرفش نسيت ازاي، حقك عليا يا روح قلبي، حالًا هنزل أخلي حد من الحرس يجبلك اللي أنتي عايزاه.
وكاد باستكمال هبوطه للدرج حينما أوقفته بصدمةٍ:
_استنى هنا! أنت عايز تفضحني للحرس!
زوى حاجبيه بدهشةٍ من حديثها، وخاصة حينما قالت:
_مش مكسوف من نفسك لما تهز طولك وتنزل تقولهم معلش المدام بتتوحم!!
وتابعت بحدة:
_مسألتش نفسك شكلي هيبقى أيه قدامهم!! هيبقى مهزلة يا سيادة المقدم!
لوى شفتيه بسخطٍ وتلفظ:
_وشكلي أنا اللي هيبقى شيك وأنا راجعلك بكام كيلو مانجة! ، ثم إنك ليه محسساني إني نازل أقولهم يجبولي كام فرش حشيش للمدام!
وضعت يديها وسط خصرها وهي تصيح بانفعال:
_الرجالة المصرية كلها بترجع لمرتاتها محملة شيء وشويات، ثم إني مطلبتش منك حاجة ده ابنك المسكين اللي نفسه يأكل مانجة!
كز على أسنانه في محاولة لتهدئة ذاته، فقال بحب وهدوء مصطنع:
_وأنا معترضتش يا روح قلبي، بقولك دقايق وهيكون عندك أفخم أنواع المانجو!
كادت أن تمزق شفتيها السفلية، ورددت بغيطٍ:
_اسمها مانجة يحبيبي.
ولوحت بيدها وهي تشير له بحزم:
_وفر تعبك ومجهودك أنا مش عايزة منك شيء، هخرج بنفسي أجيب اللي أنا عايزاه.
والتفتت من حولها وهي تهمس بسخرية:
_فاكرني مش هعرف أتصرف من غير الحرس بتوعه!
ارتسمت بسمة واسعة على شفتيها حينما لمحت عمر يقف على التراس، فأشارت له بالقدوم وبالفعل أنهى مكالمته سريعًا واقترب منهما، فتعحب حينما وجد نظرات أخيه حادة للغاية وكأنه على وشك الانفجار، فوزع نظراته الشك بينهما قبل أن يتساءل:
_انتوا متخانقين ولا أيه؟
تجاهلت رحمة سؤاله وطالبته برفقٍ:
_عمر من فضلك ممكن تيجي معايا الماركت!
ضيق عينيه باستغرابٍ، وخاصة حينما تطلع لساعة يده:
_في الوقت ده يا رحمة؟
أكدت له وهي تفرغ ما يزعجها:
_حابة أكل مانجه وأخوك عايز ينزل يفضحني للحرس ويخليهم يروحوا يجيبولي مانجه الساعة 12بليل!!
واستنجدت به قائلة:
_ينفع كده يا عمر؟
أسبل بعينيه بدهشةٍ ومع ذلك صاح معترضًا:
_لا طبعًا مينفعش، اللي عمله ده ميصحش أنا لو منك أشتكيه لياسين الجارحي في التو والحال.
واتجهت نظراته لاخيه الذي يبذل قصارى جهده للتحكم بأعصابه:
_بقى يا عديم المسؤولية عايز تفضح مراتك الساعة 12بليل بالمانجة... بالمانجة يا عدي!!
أشارت له رحمة بحزنٍ وكأنها على وشك البكاء:
_شوفت يا عمر، ده يموت وميخسرش بيرستيجه حتى لو الولد طلعله مانجه في نص رأسه بسبب الوحم!
كبت عمر ضحكاته ومال عليها يهمس لها:
_رحمة لسه بدري على الوحم! فأنا بقول كفايا عليه لحد كده وبينا نروح الماركت قبل ما يتجن ويقتلنا، أخويا بلطجي صدقيني!
هزت رأسها باقتناعٍ وصاحت بصوتٍ مسموع:
_يلا قبل ما الماركت يقفل.
تطلع لها وهي تهبط للاسفل، فردد بضحكة مكبوتة:
_احنا في رمضان بيفتحوا للصبح متقلقيش!
وهبط درجتين حتى بات يقف قبالة أخيه الصامت، فهمس له:
_مضطر ألم وراك، بس ده مش لأجلك لأجل عمر الصغير!
وتركه وهبط من خلفها ومازال عدي يراقبهما بسكونٍ عجيب يموج بعسليةٍ عينيه القاتمة.
*****
لم تصدق عينيها حينما وجدت أصناف من المانجو بوقت سابق لموسمه، فوضعت بالعربة الصغيرة التي يدفعها عمر عدد من الحباتٍ، حتى كادت بأن تفرغ الرف بأكمله بالعربة، فردد عمر بصدمةٍ:
_رحمة كفايا أنتي كده هتموتي!
استمرت بوضع المانجو بالعربة وهي تشير له بكذبٍ بارز:
_البنات بيحبوها يا عمر!
هز رأسه بعدم اقتناع، وترقبها وهي تضم أكثر من لونٍ، وتطلعت إليه ببسمة واسعة:
_خلصت.
وزع نظراته بينها وبين العربة الممتلئة ببسمة ساخرة نجح بإخفاءها حينما ردد بخشونة صوته:
_تمام، اتفضلي.
سبقته للكاشير ولحق هو بها وهو يدفع العربة حتى وصلوا لذاك الشاب الذي ابتسم لفهمه ما يحدث بينهما، وكأنه يرى زوجين أمامه حملها الحديث يرغب الزوج بالهبوط لشراء ما تود، لم يعني عمر كثيرًا تفسيره لتلك النظرات ما يشغله بتلك اللحظة الخروج بالكميات تلك للسيارة، تعلقت نظرته لرحمة التي جذبت من حقيبتها الصغيرة الفيزا لتقدمها للشاب، فجذبها عمر منه واستدار لها وهو يرددد:
_ثواني لو سمحت.
واستدار تجاه رحمة يردد:
_ده الكريدت كارت بتاع عدي!!
أومأت برأسها بتعجبٍ، فسألها بنفس صدمته:
_مش انتي لسه متخانقة معاه من شوية ولا أنا فاقد الذاكرة!
أشاحت بيدها ببسمة فخر:
_الحاجات دي ملهاش دعوة بالخناق!
ضحك بصوت مسموع وهو يشير لها:
_فعلًا؟
وأخرج من جيب بنطال ترنجه الرياضي المال، وهو يعيدها لها:
_معايا كاش،ثم إنك مش خارجه مع رجل كنبة!
أومأت برأسها بحرجٍ، وانتظرته بالخارج حينما ينتهي العامل من وضع الاغراض بالأكياس، رأته رحمة يخرج بعدد مهول من الأكياس البلاستكية، فهرولت إليه تحاول حمل الاغراض منه، اعترض عمر وهو يشير لها:
_لا مينفعش تشيلي شيء، الأكياس تقيلة.
وأشار على المفتاح العالق بيده:
_خدي المفاتيح وافتحي الصندوق.
أشارت له بخفة، والتقطت منه المفتاح، فوضع عمر الأغراض بصندوق السيارة وما كاد بغلقه حتى وجدها تسحب كيسًا من الأغراض فتساءل بدهشة:
_هتعملي بيه أيه ده!
أخرجت أحدى الثمرات وإلتهمتها أمام عينيه وهو تخبره:
_هعمل كده، أنا مش هقدر استنى لحد ما نرجع القصر مش كفايا أخوك معشمني من الصبح إنه هيجيبلي بعد الفطار على طول!
ضحك وهو يتابعها، ففتح باب السيارة وهو يشير لها ممازحًا:
_طب خشي خشي قبل ما حد يشوفك وإنتي بتلتهمي المانجا بالشكل المخيف ده.
انصاعت إليه وصعدت جواره قائلة:
_هيحصل إيه يعني؟
صعد جوارها وقاد السيارة وهو يهمس لها:
_احنا في منطقة راقية ألف مين يأخدلنا لقطة ويبلغ الصحافة عننا.
جحظت عينيها وأشارت بيدها:
_اطلع بسرعة الله يكرمك مش ناقصة مصايب!
تعالت ضحكاته وهو يسرع بالسيارة، حتى وقف بها أمام البحر، فقالت بامتنان:
_والله ما عارفة أشكرك ازاي، مانجة وبحر وهوا مش عارفة من غيرك كنت هعمل أيه؟
حرر حزام الأمان وهو يتابعها بصدمة، فانتشل عنها الكيس وهو يحذرها بحزمٍ:
_كفايا يا رحمة كترها وحش ومش مفيد للجنين!
أزاحت القطع الصغيرة المتناثرة حول حجابها وهي تشير إليه بضيق:
_أنا مكترتش منها، هات الكيس مفضلش غير واحدة!
جحظت عينيه صدمة فبحث بالكيس ليجد بأنها قد انتهت بالفعل من الكمية، ولم يتبقى سوى واحدة فأشار لها بصرامة:
_مش هتأخديها لو هيحصل أيه، أنا المسؤول قدام عدي لو جرالك حاجة، كمية الأملاح اللي فيها مش صح ليكِ.
زمت شفتيها بغضبٍ، وجلست بهدوءٍ فأعاد عمر الكيس للخلف حتى يضمن عدم حصولها عليه، وأشار لها:
_عندك مناديل امسحي ايدك كويس.
أومأت إليه وهي تزيح العالق عنها وتتابع المياه من النافذة، فاستدارت إليه تخبره بتعبٍ:
_بقولك أيه يا عمر.
تطلع إليها باهتمامٍ فوجدها تخبره على استحياءٍ:
_ما تيجي نأخد السكة مشي لحسن أنا حاسة إني تقلت بالمانجة حبتين.
ردد بسخرية:
_حبتين، ده أنتي إلتهمتي أكتر من تلاتة كيلو!
حدجته بنظرةٍ غاضبة، فكبت ضحكاته وهو يشير لها بالهبوط:
_متزعليش انزلي.
هبطت للأسفل وجلست على الاستراحة الموضوعة قبالة المياه، فجلس عمر على مسافة معقولة منها، يتابع الاجواء باستمتاعٍ، فلمح محل عصائر على بعدٍ منه، فأخبرها وهو ينتصب بوقفته:
_رحمة خليكي هنا هجيب عصير وراجع، على الأقل نعوض الموالح اللي أكلتيها دي بشيء مفيد!
أومأت برأسها وظلت محلها، فشدد عليها:
_متتحركيش من هنا أنا مش هتأخر.
أكدت له وهي تعبث بهاتفها:
_حاضر.
ابتعد عنها عمر ليطلب لها عصيرًا صحيًا وبين الحين والآخر كان يتابعها، وجدت رحمه عدة رسائل من زوجها، فابتسمت وهي تجيبه بغرورٍ
«عمر ونعم الأخ جابلي مانجا أشكال وألوان، أبقى خلى الحرس ينفعك يا حضرة المقدم»
أرسل لها عدي
«بقى كده، ماشي يا رحمة مصيرك راجعالي!»
وأرسل لها بجدية تلك المرة
«المهم إن ميبقاش نفسك في حاجة يا روحي، يلا إرجعي أنا محضرلك مفاجأة هتعجبك.»
ارتسمت ابتسامة عاشقة على محياها وأرسلت له
«عمر بيجيب عصير وراجع، وهنتحرك على طول.»
وأغلقت هاتفها ثم أعادته لحقيبتها، فانتبهت لذاك الصوت المقبض:
_أيه يا جميل قاعد لوحدك ليه؟!
رفعت رحمة عينيها تجاه مصدر الصوت فوجدت رجلًا بملامح مقززة، يرتشف من سيجارًا غليظة غير طبيعية البنية، واتبعه رفيق السوء من خلفه يردد:
_شكلها كده مدام قاعده قدام البحر السعادي يبقى بتفكر تنتحر يا أفندينا!
غمز لها بحقارةٍ:
_احنا أولى بيها من البحر وقرشه!
تراجعت رحمة للخلف برعبٍ، فجذبت حقيبتها وهرولت في إتجاه عمر، فولجت لداخل المحل الزجاجي وحينما وجدته يجذب العصير من العامل اتجهت لتقف جواره ويدها تتشبث بجاكيته الرياضي، انتبه لها عمر فوجد الدماء غادرت وجهها للتو، الفزع والهلع يتشكلان بحرافيةٍ عليه، فسألها بلهفةٍ:
_في أيه؟
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ وهي تحاول الحفاظ على هدوئها:
_مفيش أنا لقيتك اتأخرت خوفت.
وتابعت بذعرٍ:
_يلا نرجع القصر.
ترك الأكواب عن يده وهو يتساءل مجددًا بشكٍ:
_في أيه يا رحمه؟
اتجهت نظراتها للباب الزجاجي تراقبهما، فتابع عمر ما تتطلع إليه وقد وصل له مضمون ما أصابها فردد بغضب:
_في رمضان يا ولاد ال×××
وكاد بالاندفاع للخارج فأوقفته رحمة وهي تترجاه ببكاءٍ:
_عمر بالله عليك خلينا نمشي من هنا.
أشار لها بأن تهدأ، واستدار من حوله فوجد باب خلفي للمحل، فجذب العصير ومنحه إياها ثم خرج بها للسيارة، فما أن صعدت حتى كاد بصعوده فتوقف حينما وجدهما يضايقان المارة من النساء، ضغط بأسنانه على شفتيه بضيقٍ، فأغلق سيارته وهو يشير لها بتحذير:
_أوعي تنزلي سامعاني!
لم يمهلها فرصة للحديث، ولم يستمع لرجائها، انطلق مندفعًا تجاههما، فسدد لكمة أسدت بوجه هذا الأرعن، ليواجهه الآخر بسكينه الصغير، تفاداه عمر بحرافيةٍ، ورفع جسده ليصيبه بركلةٍ حادة، أصابت الاخير بوجعٍ قاتل، فلف يده حول رقبته وهو يصيح به:
_لو لمحتك بتضايق حد تاني هقطع رقبتك سامع!
هز الرجل رأسه برعبٍ، وهرول زاحفًا خلف صبيه، فعاد عمر لسيارته مجددًا حينما تأكد من مغاردتهما، فما أن صعد حتى اندفعت رحمة بوجهه:
_أيه اللي عملته ده يا عمر، أنا نبهت عليك افرض كانوا عملوا فيك حاجة!
ابتسم وهو يحرك مفتاحه بالمحرك:
_أنا كويس يا رحمة متقلقيش.
وبجدية قال:
_ثم انك عايزاني أسكتلهم ازاي وهما بيضايقوا اللي رايح واللي جاي!
رسمت بسمة هادئة وهي تشير إليه بإعجابٍ:
_لا بس فجأتني.
وهمست بسخرية:
_أنا افتكرت إنهم هيعلموا عليك.
تعالت ضحكاته وهو يخبرها بصعوبة بالحديث:
_ليه مفكرة إن جوزك بس اللي بلطجي ولا عشان أنا دكتور محترم يبقى ماليش في اللذي منه.
وتابع وهو يشير إليها:
_متقلقيش جوه قصر ياسين الجارحي قبل ما تبلغ بتكون ملم بمعلومات القتال كلها.
انقبضت نظراتها وتخشب جسدها لنافذة السيارة التي تخص مقعد عمر، فردد بخوف:
_في أيه يا رحمة!
اتبع خطى نظراتها ليراقب ماذا هناك؟ ، فوجدها تتطلع لسيارة سوداء تقترب منهما حتى توقفت قبالتهما، لينخفض زجاجها الخلفي ويطل من خلفه من يراقبهما عن كثب، فردد عمر بذهولٍ:
_بابا!