رواية نعيمي وجحيمها الفصل الواحد والاربعون41 بقلم أمل نصر |
- الدنيا هديت جوا ومحدش بقى سامع لهم صوت.
تفوهت بها سمية وهي تخاطب رقية بترقب، مع إنصاتهم لأصوات الشجار التي تصل إليهم من غرفة خالد ومعه زهرة الاَن، ردت رقية بقلق: - يعني خلاص اتصالحوا على كدة؟
أجابتها صفية: - محدش عارف يا ستي، لكن مدام الصوت هدي، يبقى اكيد بيتفاهموا، لكن انتِ ماتعرفين سبب الخناقة إيه بقى؟
ردت رقية بحزن: - حتى لو عارفة إيه فايدة الكلام، مدام صاحب المشكلة شايف إن معاه الحق، وهو فعلًا معاه الحق، لكنه أكيد مش شايف الصورة كاملة.
ربتت سمية على ركبة رقية بتهوين لتقول وهي ترى حجم الحزن البادي على وجه المرأة العجوز: - أكيد مهما حصل مابينهم لازم يتصالحوا ويتصافوا، دا الاتنين روحهم في بعض.
تمتمت رقية بالدعاء من قلبها حتى يمر الأمر على خير بين ابنها وحفيدتها حتى رفعت رأسها على قول صفية: - بس دي أول مرة أشوف فيها خالي خالد بالهيئة الصعبة دي، وفي حياتي كلها ما سمعت زعيقه على زهرة بالشكل ده، عندي إحساس إن الموضوع كبير أوي مابينهم.
أومأت رقية رأسها بأسى، فهي تعلم تمام العلم بصحة ماتقوله صفية لما رأته من غضب واضح على وجه ابنها منذ ايام، وبعد أن ذكر لها عن زيارته لسمسار النحس، وحاول بكل إلحاح بعدها أن يوقعها أو يأخذ منها معلومات، ولكنها كانت تدعي دائما عدم المعرفة، وبداخلها تعلم تمام العلم أنه لا يصدقها، إذن وهو الاَن معها، ماذا أخبرته؟ وكيف كان ردها عليه؟
وفي داخل الغرفة كان الوضع هادئ بينهم بشكل غريب، هو بوقفته مستندًا بظهره على الحائط بجوار النافذة الخشبية، يستمع لها بإنصات وهي تردف وتحكي له عن ماحدث من سرقة أباها لأمواله المرسلة من الخارج، وأبتزازها من قبل فهمي بائع البرشام كي تقبل بالزواج منه حتى يرد لها الأموال التي أخذها من أبيها، ثم لقاءها بهذا السمسار في مكتبه ومحاولاته الدنيئة لاستغلالها والتحرش بها ثم انقاذ جاسر لها برفقة حارسه حتى إغماءتها من مشهد ضرب الحارس لهذا السمسار، وإفاقتها بعد ذلك في منزل جاسر الذي عرض عليها الزواج بعد سداده ألأقساط المتبقية من الشقة.
- بس هو دا كل اللي حصل يا خالي، يعني مستغلنيش لا بالعكس، دا أجبرني بكرمه إني احترمه وافكر في عرضه.
كانت هذه اَخر جملة قالتها وهي تنهض من مقعدها، بلهجة يكتنفها قلقٌ ازداد مع كلمته المقتضبة: - أجبرك!
قالها وتوجه للنظر من النافذة للخارج، إرتابت هي من كلمته لتُردف دون تفكير على الفور في محاولة للتصحيح: - مش قصدي غصب، لأ هو يعني زي ما تقول كدة أحرجني بزوقه أو ااا يا خالي إنت ما فاهمني بقى.
إلتف إليها عائدًا فجأة مرددًا خلفها: - فاهمك! تصدقي دا كان اعتقادي فعلًا في السابق يا عيون خالك، لكن دلوقتي أبقى عبيط لو قولت كدة.
هتفت بغصة موجعة من الحزن البادي على صفحة وجهه كصدمة وخيبة أمل فيها: - ما تقولش كدة يا خالي أبوس إيدك، أنا اياميها كنت متلخبطة والدنيا بتقلب وتحط عليا، جاسر هو اللي خد بإيدي وطمن قلبي من كل خوفي ناحيته، واديك شوفت بنفسك العمايل اللي بيعملها عشاني.
أومأ يمط بشفتيه ليفاجأها بقوله: - اَه صحيح دا كفاية اللي عمله مع ابوكي، ولا اللي عمله النهاردة كمان عشانك وجعل قصة حبكم ترند ع السوشيال ميديا والعيال المراهقين ياخدوها كنموذج، عن الباشا اللي حب البنت الفقيرة، بصراحة لو قولت في حقه ولو نص كلمة ابقى راجل ناقص، بقى يدفعلي اقساط الشقة وبعدها يبقالي عين اكلمه أساسًا، دي إيه البجاحة دي؟
غامت عيناها بالدموع مع الشحوب الذي غطى وجهها، وقد علمت من خلف سخرية كلماته مرارة ما يكنه الاَن بداخله، فقالت برجاء: - بلاش دا يبقى تفكيرك فيا يا خالي، دا انا تربيتك، وحافظني زي ما انت حافظ خطوط كف إيدك
- يا شيخة!
قالها وأكمل بحدة: - يعنى انتِ زعلانة عشان فكرتي اتغيرت عنك، وانا مش حقي أزعل لما غفلتيني وخبيتي عني موضوع الشقة واللي حصل.
توقف قليلًا ثم تابع بلهجة لائمة تنبع من ألمه: - انتِ خبيتي عشان صعبت عليكِ يا زهرة صح؟ صعب عليكِ خالك اللي راح اتغرب في بلاد الله وساب اتنين ولايا من غيره، بعد ما عدى الستة والتلاتين من غير جواز، ينصدم لما يعرف باللي حصل لما الشقة تروح منه ومعاها حب عمره كمان.
أسبلت بأهدابها وعيناها لا تقوى على مواجهته، لقد كشف بقراءة جيدة منه، كل ما كان يدور برأسها بالفعل، وهذا ما زاد من وجعها عليه، وانشق قلبها أضعاف حينما صدر صوته ببحة خرجت من عمق كرامته المجروحة: - بس لا يا بنت اختي، مش انا اللي اقبلها ولو على موتي حتى، مش جواز ولا خسارة لحب عمري.
رفعت عيناها إليه بتساؤل لتجده فجأة، تحرك نحو خزانة ملابسه ليعود إليها سريعًا يتناول كفها ويضع بها ورقة كبيرة، من نظرة واحدة علمت ما بها، فهتف بارتياع: - إيه ده يا خالي؟ انت ازاي تعمل كدة؟
ناظرها يرد بشراسة: - ليه كنت عايزاني اخد إذن منك الأول؟ ولا فاكراني ما هصدق واعمل نفسي مش واخد بالي، ولا ابوس إيدي بقى وش وضهر على حسنة جاسر باشا عليا وعلى أهلي.
هتفت وصوتها يخرج بانهيار: - وطب وشقى عمرك في الفلوس اللي سددت نص تمن الشقة بيها، ما صعبش عليك دا كمان؟ وانت بتروح وتسجلها بإسمي
اعتلي ثغره بابتسامة جانبية يقول: - ما انا خسرت قبلها نص عمري معاكِ، هاتيجي ع الفلوس ياللا بجملت.
هنا إنهيارها وصل لاَخره، فسقطت على الأرض تبكي بحرقة تناديه للتراجع بكلمات غير مترابطة مع شهقاتها.
العالية، في مشهد اخترق صدره كنصال حادة تغرز فيه، ولكنه ربط على قلبه مستمرًا على موقفه، وقام بفتح باب غرفته يهتف مناديًا على سمية وابنتها صفية لرؤيتها.
- كتب كتاب!
هتفت بها بعدم تصديق أو استيعاب، أو رفض شعر به هو من علامات الإندهاش التي ارتسمت على ملامح وجهها فجأة، وتابعت: - ازاي يعني؟ كدة خبط لزق من قراية الفاتحة لكتب كتاب على طول؟
اعتدل كارم في جلسته ناحيتها رافعًا حاجبًا واحدًا أمامها، وجاء الرد من أبيها الذي شعر بالحرج، يخاطبها بنظراتِ تحذيرية لتنتبه: - خبط لزق إيه بس يا كاميليا؟ خلي بالك يابنتي من كلامك، كارم راجل محترم وثقة، وإنت عارفاه من زمان من شغلك معاه، ولا إيه بس؟
وصلها مقصد أبيها فقالت بدفاعية: - اانا ماقولتش حاجة عنه ولا غلطت فيه، انا بس مستغربة ع السرعة.
تحدث هو يقول بهدوء: - انا شرحت لعمي أسباب قراري، انا وانتي ناضجين كفاية، يعني مش كتب الكتاب اللي ممكن يسبب ما بينا مشاكل في فترة مهمة زي الخطوبة، دا غير أني هاعمل حفلة كبيرة وهاعزم ناس ورتب مهمة من عيلة والدي.
- مهمين ولا مش مهمين انا مالي؟
قالتها بحدة أجفلته أمام والدها الذي هتف باسمها: - كاميليا.
استدركت فقالت بحرج: - يا بابا افهمني أنا بتكلم عن اتخاذه لقرار مهم زي ده كدة فجأة، وبدون علمي.
هم أن يرد والدها ولكن توقف على قول كارم: - معلش يا عمي ممكن تسيبنا لوحدنا.
تطلع صابر إليهم قليلًا بتردد ثم نهض مستئذنًا للإنصراف وتركهم، فبقيت هي معه وحدها، تتحاشى النظر بعيناه التي تناظرها بحدة، وفاجئها بقوله: - قلقانة ليه من كتب الكتاب؟ ولا يكون بتفكري تغيري رأيك يا كاميليا؟
اشتعلت عيناها لترد بتحدي: - انا لما بقرر مش بستنى افكر يا أستاذ كارم، يعني لو في دماغي أغير رأيي مكنتش هاوافق بيك من الأول.
- أمال خايفة من كتب الكتاب ليه؟
سألها بهدوء ليزيد من غضبها: - هو انت كل اللي عليك خايفة خايفة، إيه اللي يخوفني انا منك ها؟ لا كتب كتاب ولا ألف ورقة حتى، تقدر تمنعني ساعة ما اقرر ولا اكتب كلمة النهاية.
صمت قليلًا هو، أمام هذه الشراسة التي تصدر منها بصخب، يتأملها باستمتاع، فبرغم عنف كلماتها معه، لكنها لا تدري بكم المشاعر التي تحييها بداخله مرة أخرى، لتعيده لحلبة الصراع والتحدي من جديد؟!
- إنت سرحت في إيه ما تتكلم؟
قطعت شروده بقولها، ورد هو: - تمام يا ست كاميليا، إنتِ قولتيها بنفسك إن ما فيش حاجة تقدر توقفك لو حبيتي تنهي الحكاية، وأنا بقى هاجيبلك من الاَخر، بصراحة كدة، انا عايز بكتب الكتاب اقطع السكة عن أي حد يحاول يقربلك وانت فاهماني.
هتفت بغضب ضاربة بكف يدها على ذراع المقعد بجوارها: - تاني هاتكلمني عن فلان ولا علان، ما قولتلك الموضوع عندي انا، ولا حضرتك شايفني عيلة صغيرة، ولا شخصية تافهة اتأثر بأي كلام يتقالي؟
علي صوته يرد بصيحة لها: - ومدام الموضوع عندك انتِ، قلقانة من إيه بقى؟
همت لترد ولكنه منعها ليُكمل بنبرة أهدى قليلًا: - عارف كل الكلام اللي بتقوليه، بس انا برضوا بكلمك من منطق قوتك اللي انتي بتصرخي بيها دلوقت، الخطوبة هاتبقى ما بينا بكتب الكتاب، على ما اخلص تشطيب الفيلا بتاعتنا، دا طلبي منك، دا لو انتِ واثقة في نفسك؟ واظن يعني انك فهمتي كويس اخلاق الناس اللي انت شغالة معاها.
- فتحت باب السيارة لتلج بداخلها ثم قامت بصفقه بعنف مرددة بتأفف: - أووف يا ساتر.
ردت الأخرى وهي تتحرك بالسيارة التي تقودها: - ليه كدة بس؟ هو انتِ لدرجادي مخنوقة.
- مخنوقة بس! دا انا هطق من القرف.
قالتها بصرخة أجفلت ميرفت التي خاطبتها بدهشة: - وطي صوتك شوية يا ميري، احنا في العربية يعني أي أحد حد هايسمع صرختك دي.
عاندتها الأخرى بقولها: - وما يسمعوا ولا يتفلقوا حتى هو انا هايهمني رأي الناس دي كمان مش كفاية اللي انا فيه.
- إيه هو اللي انتِ فيه بقى؟
سألتها ميرفت وهي تحيد بنظرها عن الطريق إليها، فقالت الأخرى تحكي شكوها: - الزفت اللي اسمه مارو بقى قارفني وواقفلي ع الوحدة، روحتي فين؟ خرجتي ليه من غيري؟ بتتكلمي مع مين في الفون الوقت دا كله عشان يديني مشغول؟
التفت إليها تسألها: - بيسألك ويقرر فيكِ ليه دا كمان؟ هو ليه إيه عندك أساسًا؟
لوت ثغرها ميري تجيبها بابتسامة سمجة: - الباشا عايشيلي في دور الحبيب!
- إيييه؟
قالتها ميرفت لتنطلق في نوبة من الضحك الهستيري، لتردف ميري بغيظ: - بتضحكي ياروحي، أمال لو تشوفي معاملته ليا ولا غيرته من أي حد يكلمني في النايت ولا النادي تقولي إيه؟ دا مقتنع إن اللي ما بينا قصة حب واَخرته الجواز.
مسمعت ميرفت وازدادت ضحكاتها وهي تميل برأسها للخلف حتى تمكنت من القول تمازحها بتفكه: - طب وأخرتها إيه بقى؟ هاتتجوزوا صح؟
- اتجوزوا دا إيه انتِ كمان؟
هتفت بها ميري وهي تدفع من يدها علبة السجائر على تبلوه السيارة أمامها، بعد أن أخرجت منها واحدة لها، وتابعت: - اتجوزوا ازاي دا بعقله العيالي؟ هو ينفع معايا للفسح والقعدة الحلوة اَه، يسليني بدمه الخفيف او يرقص معايا في النايت نخربها او يعني، انتِ فاهمة.
- فاهمة، فاهمة أوي كمان.
أردفت بها ميرفت بابتسامة خبيثة وغمزة من عيناها، وتابعت ميري بتفكير
- ولا والدي كمان، دا ممكن يخلص عليا لو عرف بعلاقتنا، خصوصًا وانا حاساه اليومين دول من معاملته الكويسة ليا، انه بيدبرلي حاجة كدة انا مش فاهماها.
- ها يكون بيدبرلك إيه يعني؟
قالتها ميرفت بتساؤل قبل أن تتوسع عيناها بمرح تردف: - يا نهار أبيض يا ميري، ليكون بيدبرلك جوازة جديدة ههههه دا ماروا هايقلب الدنيا.
افتغر فمها ميري ببلاهة مع قول الأخرى، ثم ضربت بكف يدها على جبهتها، تشعر بالدوار من مجرد التخيل.
ولج لداخل الملهى الذي حرمه على نفسه منذ زواجه بها، عيناه تجول في أرجاءه حتى وجده أمامه على مقعده القديم أمام رجل البار، يرتشف شرابه بشرود،
- إنت رجعت تاني للشرب يا طارق، دا انا مصدقت انك عقلت.
قالها جاسر وهو يجلس على المقعد المجاور له، فالتفت رأس الاَخر إليه يقول بسخرية: - واعقل ليه بس واتعب نفسي؟ مدام كدة كدة ما فيش فايدة؟
تفهم جاسر حالته، فاقترب يربت على كتفه قائلًا بحزم: - بلاش نبرة اليأس دي يا عم طارق، ماحدش عارف بكرة مكتوب فيه.
تبسم يرد عليه بنبرة تقطر بالمرارة: - ما انا خلاص عرفت وسلمت، هي حكمت ما تدخلني جنتها عشان شايفاني وحش وما استحقهاش، وانا بدفع تمن ذنوبي وحساباتي القديمة، يبقى انتظر إيه بقى؟ خلصت.
زفر جاسر بتعب، يمسح بكف يده على شعر رأسه للخلف، يكنتفه الحزن على حال صديقه وهو يعلم ويشعر بما يعانيه الاَن، وما أوصله لهذه الحالة، فقال وهو يستقيم بطوله ينهض عن كرسيه؛
- لا ما خلصتش يا طارق وقوم بقى من هنا وكفاية شرب.
حرك رأسه طارق باعتراض مرددًا: - يا بني بقولك مافيش أمل، انا انكتب عليا اعيش بذنوبي واتحرمت عليا الجنة.
ضاق ذرعًا جاسر بفعله، فلم يجد سوى جذبه بعنف يوقفه جبرًا، وهو يقول بحزم: - فوق بقى واصحى لنفسك، الإحباط دا هو اللي هايأخرك بزيادة، إعقل يا طارق واصبر شوية،
قال عبارته الأخيرة برجاء مس قلب الاَخر فترك الكأس التي بيده، واستطرد جاسر مستغلًا انصات الاَخر: - إنت بنفسك قايلي عن شخصيتها العنَدية، اصبر وشوف اخرتها إيه؟ وارجع واقولك ما حدش عارف، بكرة مكتوب فيه إيه؟
أطبق ثغره طارق وبدي على وجهه الاقتناع، فتناول سترته ليدفع حساب النادل استعدادًا للذهاب، وتناول جاسر هاتفه ليهاتف زهرة، وقبل أن تجيبه وجد طارق يسأله بعتب: - لكن الواد ده عرف منين بحكاية ابني من كلوديا؟
عقد حاحبيه جاسر يسأله بدهشة: - قصدك كارم يعني؟ مش عارف أو مش فاكر صراحة، بس ممكن يكون عرف بالصدفة.
- صدفة إيه؟
سأله طارق وهم أن يجيبه جاسر ولكنه انتبه يرد على الصوت المتغير في الهاتف عن صوتها.
- الوو مين معايا؟، كاميليا؟، مالها زهرة يا كاميليا؟، إيه طب انا جاي حالاً؟
انهى المكالمة وخرج سريعًا دون ان ينتظر طارق الذي اتبعه بالهتاف، بعد ارتيابه من هيئته المقلقة.
دثرتها وانضمت جوارها على الاَريكة التي كانت متكورة بجسدها عليها، لتنضم إليها وتحتضنها بقوة، مرددة بلهجة حانية: - خلاص ياقلبي بقى إهدي، خالك لا يمكن يتخلى عنك ولا يسيبك.
عصرت زهرة بعيناها التي ذبلت من كثرة البكاء تقول بصوت بح من فرط نشجيها: - أنا مش واجعني إنه اتخلى عني، انا موجوعة على وجعه، مكنتش اعرف انه هياخد الموضوع على كرامته كده، انا عارفة خالي لما يوصل للمرحلة دي يبقى جاب اَخره مني، بس انا غبية، انا غبية عشان ماقلتلوش، انا غبية.
- خلاص يا بنتي مش كدة يازهرة بقى هاتضيعي نفسك بجد.
هتفت بها كاميليا بحزم لتوقفها ولكن زهرة لم تسمعها، وهي مازالت تردد بهذيان: - شوفتي بقى يا كاميليا، انا بخوفي وجبني عملت زي الدبة اللي قتلت صاحبها، مش عارفة عقلي كان فين ساعتها، هافضل كدة طول عمري ضعيفة وغبية، أو جبانة زي ما كانت غادة بتقولي زمان، أيوة أنا المتخلفة أزيت أقرب حد ليا في كرامته...
صاحت عليها هذه المرة تقاطعها بغضب وتهزهزها لتفيقها: - بس بقى هاتضيعي صحتك، ارحمي نفسك شوية يخرب عقلك.
- إيه اللي حصل يا كاميليا؟
صدرت من جاسر الذي ولج فجأة داخل المنزل، يخطو مهرولًا بقلق نحوهن، وصل إليهن لينضم بجوارها على الاَريكة من الناحية الأخرى، وجذبها من ذراعها ليرفع رأسها إليه ليرى وجهها الذي تبدلت ملامحه بشكل يثير الشفقة، فهتف بارتياع: - إيه اللي حصل معاها عشان توصل للحالة دي؟
تنهدت كاميليا بأسى وجاء الرد من زهرة التي اعتدلت فجأة أمامه لتخرج له من تحت الغطاء عقد تمليك الشقة التي سجلها خالد بإسمها، تناولها وتطلع بها سريعًا، فارتفعت عيناه إليها يناظرها بأسف مع تفهمه لحالتها، وجذبها إليه ليدفن رأسها بصدره وعادت هي لنوبة بكاءها الحارق، بنشيح مكتوم يمزق نياط قلبه تمزيقًا، فقال مخاطبة كاميليا: - المجنون دا عمل كدة ليه؟ طب مش يسألنا الأول ويفهم مننا.
ردت كاميليا بحزن على حالتها: - ماهي المشكلة انه عرف بنص الكلام، ولما ضغط عليها النهاردة، حكت له هي من طق طق لسلام عليكم، فطلع لها العقد اللي كان مجهزه من وقت ما عرف، ودا اللي قهرها.
- مجنون.
قالها جاسر بعنف وغضب وذراعيه تشدد على زهرة التي تنتفض بشاهقاتها ودموعها أغرقت قميصه الأبيض، ثم ارتفعت رأسه نحو طارق الذي أتى خلفه بسيارته، يردد بخطواته السريعة نحوهم ببهو المنزل: - إيه الأخبار يا جاسر؟ طمني.
اومأ له بعيناه غير قادرًا على الرد، أما كاميليا فتخشبت تجبر نفسها لعدم الإلتفاف برأسها للخلف بعد أن اخترق صوته أسماعها، وخاطبت جاسر بلهجة جعلتها عادية، لتهرب من مشاعر غريبة تنتابها الاَن بقدومه وتتزايد مع اقترابه منهم: - بس احنا لازم حقيقي نلاقي حل لمشكلة خالد، اللي رمى تعبه وشقاه في لحظة تهور ودفاع عن كرامته،
- ماله خالد؟
سأل طارق بدهشة مستغربًا ما يحدث أمامه وعيناه التي تنقلت بين ثلاثتهم توقفت عليها وهو يرى تعمدها بعدم النظر إليه؟ لتُجفله حينما نهضت فجأة تقول لجاسر، طب انا اعرف ان الخدامة مشيت، هاروح اسخن لها أي حاجة تاكلها، دي من الصبح على لقمة الفطار.
القى جاسر نظرة حانقة على المدفون وجهها بصدره وقد هدأت قليلًا بحضنه، ثم ارتفعت رأسه إلى لكاميليا بامتنان قائلًا: - متشكر أوي بجد، انا مش عارف أوفي جمايلك معايا ومعاها ازاي يا كاميليا؟
- جميل إيه بس يا جاسر باشا، دي اختي على فكرة.
قالتها بجدية صادقة ثم انصرفت على الفور، تاركة الأخر ينظر في أثرها بلهفة معذبة.
- كنت قاسي معاها أوي يا خالد.
قالتها نوال بجلستها معه في أحد الكافيهات المعروفة، رمقها هو بنظرة مبهمة قبل أن يشيح بوجهها عنها متنهدًا بثقل، وتابعت بقولها: - انا مصدقتش كاميليا لما قالتلي على حالتها، دي روحها فيك يا خالد، واللي بينك بينها أقوى من المعزة وأقوى من الأبوة حتى.
- أديكِ قولتيها بنفسك.
قالها مقاطعًا بحدة ثم أردف بنبرة أهدى من سابقتها: - أكتر من أبوها وهي عارفة كدة، يبقى كان لازم تفكر شوية فيا وتعرف باللي يوجعني على حق، بيقولوا العتب على قد المحبة، وانا زعلي منها اتعدى العتب على قد صدمتي فيها.
ردت في محاولة لأقناعه: - هي فكرت بعواطفها لما خبت عنك، حبها الشديد ليك جعلها ماتخدتش بالها من اللي انت بتقوله ده، زهرة لا يمكن تقصد تقلل من كرامتك ولا عزة نفسك.
- كرامتي وعزة نفسي.
رددها بابتسامة ساخرة وهو يحرك رأسه بحركة غير مفهمومة، وأردف: - كرامة ايه بس؟ وبنت اختي كانت ها تضيع ما بين واحد بيبتزها بالفلوس اللي اتسرقت عشان تتجوزه والتاني كان عايز يعتدي عليها في مكتبه والتالت اللي أنقذها منهم خد مكافأته بجوازه منها، لا ودفعلها اقساط شقة خالها اللي كان هاتضيع بسببه، ههههه.
قبضت براحتها على كفه يده تحاول دعمه رغم حزنها على حالته، فكلماته التي تقطر بالمرارة كانت موجعة لها بقسوة، رفع عيناه إليها فقالت له بمهادنة: - حاول تهون على نفسك شوية يا خالد، اللي انت بتعمله دا صعب أوي عليك وعليها، وراجع موقفك معاها شوية،
نفى وهو يحرك رأسه لها: - ما قدرش يا نوال، على قد حبي ليها كان قد الوجع، شوفي بقى احلها ازاي دي؟
صمتت تزيد من ضغطها على كفه، واستطرد هو: - طب انا هاقولك على حاجة، طبعًا انا حاكيتلك قبل كدة عن ابشع حادثتين مرت بيهم زهرة، في المرة الأولى، انا كنت لسة صغير وكبرت لما شيلت مسؤليتها بعد وفاة والدتها اللي هي أختي، في المرة الثانية بقى كانت كبرت هي في رعايتي، ونشأ ما بينا الرابط العجيب ده، انا معرفش اسمه ايه بصراحة، بس اللي فاكره كويس قوي، ان الزفت فهمي ساعة ما زنقها في بير السلم وكتم نفسها، انا سمعت همهمتها المكتومة في ودني وانا نايم في بيتنا اللي في الدور التالت، هاتصدقيها دي؟ ساعتها جريت نازل على السلم مفزوع ورجلي هي اللي حركتني لغاية عندها، وشوفتها بين إيديه ونفسها منحاش ومكتوم، سحبته منها وجريته من قفاه زي البهيمة ع الأرض، ما ارتحتش غير والدم بيشلب من كل حتة في جسمه.
أنهت تسخين الطعام في الفرن الكهربائي، لتضع اَخر الأطباق على الصنية، وفور أن همت برفعها تفاجأت به يخترق المطبخ الشاسع المساحة معها، بطوله المهيب، ورائحة عطره الطاغية التي غطت على رائحة المأكولات بيدها، وقال مخاطبها إياها: - مافيش داعي توصليلها الأكل، هي خلاص نامت أساسًا.
- نامت.
قالتها بإحباط وهي ترمي بفوطة المطبخ الصغيرة بيدها تردد: - وسابها ازاي تنام كدة، دي شكلها تعبانة أوي.
تقدم بخطواته نحوها ويديه في جيبي بنطالة يقول: - ماهي صعبت عليه، وماهنش عليه يصيحها بتقل رأسها على صدره، قالي بقى أبلغك، وهو هايفضل جمبها مش هايسبها.
- تمام
قالتها متنهدة بيأس، لتتناول في أطباق الطعام والفاكهة وتُعيد وضعهم في البراد أو ثلاجة الطعام، انشغلت بهم متحاشية النظر إليه، حتى ظنته خرج قبل أن تصطدم رأسها من الخلف فجأة بجسده الصلب، فالتفت مجفلة تهتف بشراسة نحوه: - إنت أيه اللي جابك هنا؟
أجابها ببساطة وهو يميل أمامها بجسده ليتناول الطعام خلفها من فوق رخامة المطبخ: - بساعدك يا كاميليا.
فغر فاهاها بدهشة شديدة من جرأته، وهي تدري بوضعها في هذه المساحة الضيقة وقد انحسر جسدها بينه وبين المطبخ خلفها، هتفت بقوة تدعيها رغم اهتزاز صوتها: - وسع كدة يا طارق وابعد عني، ولا انت قاصد ولا إيه؟
مال بوجهه نحو وجهها بابتسامة ساحرة يقول بلهجة عابثة: - من غير إيه؟ أنا فعلا قاصد، عشان اساعدك!
شهقت بصوت مكتوم مع زيادة قربه منها، وقلبها يضرب كطبول رقص أفريقية. فتوترها قد وصل لأقصاه، وصدرها يعلو ويهبط بسرعة متزايدة أمامه، فقالت بصوت جعلته حازمًا رغم اهتزازه: - إبعد يا طارق أحسنلك، أنا مش عايزة صوتي يطلع ويبقى شكلنا وحش.
ردد غير عابئ بغضبها: - وهايبقى شكلنا وحش قدام مين بقى؟ جاسر اللي هو صاحبي وعارف بمشكلتي معاكِ، ولا زهرة اللي هي صاحبتك وبرضوا نفس الموضوع.
صمت قليلًا يتناول ثمار الفاكهة بتمهل قاتل يكاد أن يقضي عليها، ثم أردف: - ولا يكونش قصدك على خطيب الغفلة؟ عاملة حساب زعله لا يسيبك مثلًا؟ مع إني أشك دا لازقة بغِرا.
بدأ الخوف داخلها يتحول إلى ارتياع حقيقي منه، فهيئته الغريبة وكلماته الأغرب إليها، تُظهر عدم اتزانه، وبغريزة دفاعية باغتته بدفعة قوية بكفيها ليرتد قليلًا، ولكنه بخطوة واحدة، عاد ليُحاصرها هذه المرة بين ذراعيه الذي استند بهم على قاعدة المطبخ خلفها، وقال: - بتهربي ليه يا كاميليا؟ ما تواجهي ولو مرة واحدة في حياتك مخاوفك دي اللي مقيداكِ، ولا انت هاتفضلي طول عمرك كدة، صوت عالي وشخصية تبان شديدة وقوية، لكن من جوا هشة وضعيفة.
هتفت بغضب انساها وضعها الخطر: - إحترم نفسك يا استاذ انت، مش عشان فضلت واحد تاني عنك، يبقى ها تعيب في شخصيتي وتطلع القطط الفاطسة فيها، أوعى كدة بقى.
صاحت بالاَخيرة لتعيد المحاولة في دفعه، متجاهلة الغضب الذي انطلق بداخلة مع كلماتها، ليُشعل براكينه الخامدة نحوها،.
شهقت مجفلة على إمساكه لكفيها التي كانت تقاوم بهم، ولفهم لخلف جسدها الذي ضمه لصدره بقوة، هادرًا بعنف: - طب عيني في عينك كدة وقولي الحق، بتحبيني ولا لأ يا كاميليا؟ قولي بقى وبطلي جبن؟
هتفت بشراسة تخفي جزعها منه وهي تحاول بكل قوتها أن تخلص نفسها من قبضته، وتجاهد بصعوبة لمنع البكاء بين يديه.
- أنت بينك اتجننت ولا عقلك فوت، سيبني يا بني آدم انت بقولك.
شدد عليها يقول بحرقة: - وما اتجننش ليه ها؟ اللي يحب واحد زيك لازم تطير برج من عقله، ولا ياخدها من قاصرها ويدخل مستشفى المجانين برجليه أحسن.
زاد من ضمها رافعًا وجهها إليه حتى لا تتهرب بعيناها منه، ليزيد بداخلها الشعور بالخطر منه، وقد حطم كل حصونها، وأزاح عنها هذه القشرة الزائفة لقوة تدعيها أمام الجميع، نزعها ليضعها في نفس النقطة التي حاولت بكل طاقتها الهرب منها، ينتظر إجابة منها تحييه، ولا يعلم بما تحدثه فعلته الحمقاء بها، انهار جدار تماسكها وخرج صوتها على وشك الانهيار تخاطبه برجاء: - سيبني يا طارق، ما تخلنيش أكرهك.
وكأن دلوُا من الماء البارد سقط فوق رأسه ليفيقه، ارتخت ذراعيه عنها وتركها تفرك على رسغيها اَثار همجيته، ترمقه بنظرة تكاد أن ترديه قتيلًا لحزنها، فقال يخاطبها بأسى: - أنا أسف يا كاميليا، مش عايزك تزعلي مني.
- مش عايزني أزعل منك؟!
رددتها خلفه ساخرة غاضبة، ثم قالت بخيبة أمل: - انت فعلا معندكش أخلاق.
قالتها وخرجت مهرولة لخارج المنزل، لتتركه يعض أصابع الندم على تهوره معها.
وصلت لسيارتها تندس بها سريعًا، لتطلق العنان لدموع احتجزتها بصعوبة في حضرته، يكفيها الذل برجاءها له حتى يفك ذراعيه عنها ويتركها، هذه المرة كانت قاسية، هذه المرة كانت قاضية، بعد أن ضغط بكل قوته على موطن ضعفها، لينزع منها اعتراف ترفض وبشدة حتى التفكير به، مسحت بدموعها سريعًا لتتناول هاتفها وقد قررت وحسمت أمرها، وما ان جاءها صوت المجيب على الإتصال حتى هتف سريعًا به: - الوو، ايوة يا كارم، انا خلاص فكرت وقررت.
رفع عنها الغطاء لينضم بجوارها في الفراش، وارتفعت كفه يده ليمررها على شعرها الحريري بحنان، يتطلع لوجهها الشاحب وخط الدموع السائلة لم تجف به بعد، تارك اَثره على ملامحها الجميلة، فدنى إليها ينثر قبلاته الرقيقة على كل إنش به ولكن بحذر حتى لا يوقظها، لا يصدق حتى الاَن انهيارها بهذا الشكل المريع، يُحمل نفسه الجزء الأكبر في الخطأ الذي حدث وسبب هذا التصدع في علاقتها مع أقرب الناس إليها؛ خالد والذي يعد بمثابة والدها الحقيقي، لقد خانه ذكائه هذه المرة في التعامل مع شخصية صعبة كخالد، رأسه الناشف كرأس الثور بعنده واعتزازه بكرامته، كان يجب عليه الحرص التام لعدم المساس بهذا الجزء الأغلى عندها، هو تصرف بطبيعته كرجل اعمال، يعشق الإنجاز وتناسى أطباع البشر المختلفة مع اختلاف طبقاتهم، تنهد بإرهاق وتفكير عميق، فهذه المعضلة لابد لها من حل مرضي وسريع، والتعامل مع قضية شائكة كهذه يحتاج لذكاء شديد، هو بأشد الحاجة إليه الاَن، مع شعوره بعجز شل عقله عن التفكير، مع حزنه المضاعف لهذه الحالة التي وصلت إليها؟