رواية نعيمي وجحيمها الفصل الثالث 3 بقلم أمل نصر
يسألها عن راتبها وما أنفقته، وبكل صفاقة يذكرها بوالدتها، وكأن له حق عليها؛ بعد تركها لخالها وجدتها كل هذه السنوات رغم قرب المسافة التي لا تتعدي الطابق بينهم، لا نفقة لطعام او ملبس، ولا حتى مصروف مدرسة أو تعليم، يتذكرها فقط في كسوة العيد، كحفظٍ لماء الوجه، او ليتفاخر امام اهل الحارة بكسوته لها؛ رغم عدم عيشها معه، تحمد الله انها لم تحتاج اليه ولو مرة واحدة، فقد أغناها الله برعاية جدتها الحنون وخالها الذي تكفل بتربيتها منذ ان توفت شقيقته، ورفض تركها مع أبيها الذي لم يصبر على وفاة زوجته أكثر من شهرين ليتزوج، فبقى مكانه الفارغ في حياتها طوال سنوات عمرها او بالأصح كخيال ليس له وجود، ثم يعود اليها الاَن وبقوة بعد أن امتلكت الوظيفة التي تدر عليها الراتب الجيد، وسافر خالها للعمل بإحدى الدول العربية، كي يستطيع جمع المال الذي يمكنه من الزواج وقد تعدى عمره الخامسة والثلاوثون من دونه بسبب فقر الحال ورعايته لوالدته وابنة شقيقته الميتة.
- متنحة ليه يابت؟ ماتردي.
استفاقت من شرودها بعد أن نبهها بأسلوبه المتهكم، ولكنها لم تعد تخاف؛ فردت ظهرها بثقة، تتقدم نحوه تردف ببرود وهي تتخطاه لتدلف داخل الشقة: - مساء الخير.
- مساء الخير!
ردد خلفها بدهشة قبل أن يتبعها صائحًا: - بتزوقيني وتدخلي من غير ما تعبريني يازهرة! إيه يابت فهمية؟ هي الفلوس قوة قلبك وماعدوتيش شايفة حد قدامك حتى ابوكِ؟
التفتِ اليها تردد يهدوء من تحت أسنانها: - فلوس ايه بس اللي قوة قلبي؟ هو انت شايفني بقيت مديرة بنك؟ دا انا اَخري حتة سكرتيرة لمدير حسابات، لسة ماثبتش رجلي كويس معاه وممكن يغيرني في أي وقت.
- وبتكلميني بقرف كمان؟ دا انتِ على كدة مابقتيش شايفاني خالص يابت.
سحبت من الهواء شهيق بقوة كي تتحلى ببعض التماسك ولا تنفجر بوجهه: - مابقتش شايفاك ليه بقى؟ عشان بكلمك بهدوء افهمك وضعي، بدال ما صوتنا يطلع انا وانت للجيران، ونجيب لنفسنا الفضايح من غير داعي دا غير انك بتتبلى عليا وتقول اني زقيتك عشان بس عديت من جمبك ودخلت الشقة.
صمت ينظر اليها قليلًا بملامح مبهمة قبل أن يقطع صمته: - انا عارف انك شايلة ومعبية مني من صغرك، بس ماتنسيش اني كنت سايبك على راحتك مع جدتك وخالك، وافتكري اني ماغصبتش عليكي تعيشي مع مرات أب.
اومأت برأسها تجاريه ثم سالته مباشرةً: - عايز إيه ياوالدي من الاَخر، بدل اللف والدوران؟
رد بمسكنة، مصطنع الحرج: - انتِ عارفة المعايش بقت صعبة ازاي؟ دا غير ان حال الدكان اتدحدر ومابقاش زي الأول، وانا معدتش قادر اكفي خواتك ومصاريفهم و...
- معايش فلوس.
قطعت استرساله هامسة، جعلته يرفع رأسه ويتقدم نحوها غاضبًا: - يعني إيه معاكيش فلوس وانتِ قابضة النهاردة.
ارتدت عنه للخلف قائلة بخوف: - ماانت عارف ان خالي مسافر ومعاش ستي يدوب مقضي علاجها، لما اديك أنا بقى من مرتبي القليل من الأساس، هانقضي الشهر انا وستي اكل وشرب منين بقى؟
انقض عليها فجأة يلوي ذراعها خلف ظهرها قائلًا بعنف: - يابت الكل، ما اديكي شارية هدوم وصارفة، يعني هي جات على قرشين تساعدي بيهم ابوكي الغلبان؟ ولا عايزاني اترجاكي عشان تحسي على دمك، أنا ماتخلقش اللي يذلني يازهرة.
حاولت زهرة كاتمة ألمها تقاوم قبضته القاسية والتي ارتخت على اثر صرخة من جدتها؛ والتي تفاجأ الاثنان بظهروها أمامهم اَتية من غرفتها زاحفة: - سيب البنت يامحروس، والنعمة لو ما سيبتها حالًا دلوقتي لاكون صارخة بعلو عليك صوتي عشان الم عليك اهل الحارة كلهم.
جز على أسنانه، مخرجًا سُبة وقحة قبل أن يدفع زهرة بخشونة أوقعتها على الأرض بجوار جدتها التي جذبتها من ذراعها داخل أحضانها، وخرج هو بعد ان رمقهم بنظرة مشتعلة بالغضب.
أمام المراَة كانت تلتف بفستانها يمينا ويسارًا، حتى للخلف كي ترى جمال قصته على قدها الرشيق ومنحنياتها البارزة، سألت بلهفة والدتها الجالسة خلفها على التخت وهي تتفحص باقي المشتريات: - شايفة ياما الفستان على جسمي حلو ازاي؟ دا مخليني زي البرنسيسة.
رمقتها إحسان بملامح ممتعضة قبل أن تجيبها بتردد: - هو حلو وكل حاجة يعني، بس مش غالي حبيتين ياغادة؟ دا تمنه يساوي مرتب موظف في الحكومة يابنتي.
استدارت اليها بابتسامة تعلو وجهها، قائلة بحماس: - وماله ياما لما يبقى غالي؟ الغالي تمنه فيه، ولا انتِ ناسية كلمتك الشهيرة، الغالي بيجيب الغالي.
- أيوة يابت، بس مش بالشكل ده، دا انتٍ بعزقتي تقريبًا المرتب كله على فستاين وجزم ومكياجات.
قالت إحسان وهي تلوح بالمشتريات المنتشرة أمامها على التخت بإهمال، ضحكت غادة وهي تجلس بجوارها تتأملهم بسعادة وأردفت: - انا فعلًا بعزقت معظمه، بس مايضرش، أهم حاجة ان ابقى زيها، البس واتشيك وابقى احلى منها كمان.
سألتها إحسان بانتباه: - هي مين يابت اللي عايزة تبقي زيها وأحسن كمان منها؟
اجابتها غادة بأعين يملؤها الإنبهار: - كاميليا ياما، لو تشوفيها وهي ماشية في الشركة كدة واكنها هانم مش موظفة عاديه؛ شياكة إيه؟ ولا إسلوبها في الكلام، عاملة كدة زي البنات اللي بنشوفهم في التليفزيون بالظبط يامًا
- بس عانس!
أردفت إحسان وهي تمصمص بشفتيها، ردت غادة بابتسامة ساخرة: - بمزاجها ياماما، مش قلة حظ ولا نقص حلاوة
قطبت إحسان تسألها باستفسار: - يعني ايه ياغادة؟ مش فاهماكي!
برقت غادة عيناها وهي تجيب عن السؤال: - يعني كاميليا رفضت كل اللي اتقدمولها عشان كانوا أقل منها ياما، وهي عارفة ومتأكدة انها حتى لو كبرت مش هاتقبل غير بواحد في مستواها أو اعلى.
صمتت إحسان قليلًا تستوعب كلمات ابنتها ثم سألت: - وانتِ بقى عايزة تبقي زيها؟
- أبقى أحسن منها.
تفوهت بها غادة بتصميم وتابعت: - انا اصغر واحلى منها، يعني ناقصني بس البس وابقى بنفس شياكتها عشان اقدر اصطاد اللي يرفع من مستوايا ده وابقى هانم انا كمان، اصلك مابتشوفيش الرجالة و الستات اللي بتيجي عندنا الشركة ياماما، ولا حتى الموظفات والموظفين، كلهم بيبروقوا كدة ويلمعوا من النضافة، مش زي الأشكال الضالة اللي في الحارة النحس دي، الواحدة تتجوزلها واحد مصدي ويبقى فاكر نفسه جايبلها الديب من ديله لو دخل عليها بكيس فاكة او ربع عكاوي.
قالت الاَخيرة بقرف، أومأت لها إحسان بإعجاب: - شاطرة ياغادة وبنت امك على حق، تعجبني دماغك المتكلفة دي، ايوة كدة، تكتكي وخططي على كبير، عشان ماتخبيش خيبة امك اللي يوم ما اتجوزت ابوكي، كانت فاكراه ياما هنا وياما هناك.
قالت الاَخيرة وهي تلوك بشفتيها، دافعت غادة عن ابيها باستحياء: - ايوة ياماما، بس ابويا مابيتأخرش عن طلباتك لما ييقبض ولا يبقى معاه فلوس.
قاطعتها بأشمئزاز ملوحة بكفها: - ياختي افتكريلنا حاجة عدلة.
صمتت غادة فسألتها والدتها بتفكير
- الا قوليلي صح يابت؛ هي المنيلة زهرة بنت خالك دماغها بتفكر زيك كدة رضوا؟
انشق ثغر غادة بضحكة ساخرة ترد: - هههه انتِ عايزة زهرة الهبلة تفكر زي ياما؟ دي لو لقت شوال بطاطس قدامها، هاتلبسه عادي، بنت اخوكي خيبة ياما هههه.
علي الأرض الباردة كانت ماتزال داخل أحضان جدتها رغم توقفها عن البكاء منذ فترة، مستمتعة بدفء حنانها، مغمورة بإحساس الأمان الذي تستمده منها؛ رغم ضعفها، ورقية مشدد عليها بذراع والأخرى تلمس على شعرها وظهرها حتى شعرت بارتخائها فقال متصنعة الحزم: - ايه يابت انتِ هاتنامي ولا إيه؟ لا اصحي كدة يااختي انا مش حملك.
اهتز جسد زهرة، تردف ضاحكة: - مش حملي ازاي بس؟ دا انتِ خوفتي ابويا ذات نفسه، جيبتي الشدة دا منين يارقية؟
انتفشت رقية قائلة باعتزاز: - ايوة امال ايه، عشان يتأكد ان وراكي ناس في ضهرك، وما يظنش ان بسفر خالد ابني هيلاقي فرصته بقى عليكي، انا مكسحة اه، لكن عندي حنجرة صوت توصل لمدينة العلمين، هو فاكريني هاينه ولا إيه؟
اهتز جسد زهرة بالضحك مرة اخرى مرددة
- للعلمين! دا انتِ جامدة أوي بقى يارقية.
- اوي اوي.
تمتمت بها رقية وهي تقبل رأس حفيدتها التي انتفضت فجأة منتزعة نفسها منها وسألت: - صحيح هو ابويا عرف منين اني قبضت النهاردة؟
لوت رقية شفتها بزاوية قائلة بحنق: - تفتكري هايكون مين يعني ياام العريف، أكيد من إحسان اللي بنتها شغالة معاكي.
استوعبت قليلًا قبل أن تتنهد قائلة بإحباط: - عندك حق، بس انا هالوم على غادة ليه؟ ماهو اكيد طلب فلوس من عمتي وهي قالتله بحسن نية.
رددت خلفها رقية باستهجان: - بحسن نية! والنبي دا انتٍ اللي طيبة وعلى نيانك.
اومأت زهرة ترمي رأسها لتسلتقي بحجر جدتها: - طيبة ولا وحشة، هو اصلًا كان يوم غريب من أوله النهاردة، كله عياط وحرقة دم، رغم الخروجة الحلوة مع البنات.
- ليه يابت؟ هو ايه اللي حصل؟
سألت رقية بفضول فجاوبتها زهرة: - هاحكيلك ياستي، بس احنا مش المفروض نقوم بقى؟
الأرض باردة عليكِ.
ردت رقية بلهفة أثارت ابتسامة بوجه زهرة: - ياختي ولا برد ولا حاجة، احكي الأول وبعد كدة نقوم.
وفي مكانٍ اَخر
بداخل منزل كبير تحاوطه الأشجار الكبيرة بكثافة، تدلت اغصانها على السور الخارجي، الذي انتشر جمع من الحراس الأشداء على أطرافه، فلا يجرؤ أحد غير معلوم للقرب منه إلا بإذن مسبق.
كان بصالة الألعاب الرياضية الكبيرة أسفل المنزل، يتساقط العرق على جبهته وصدره بكثافة وهو يركض بسرعة على جهاز الممشى وكأنه في حلبة سباق ويريد الفوز، صوت انفاسه الهادرة كانت مسموعة، توشك أن تنقطع من فرط اصراره في افراغ طاقة الغضب المستعرة كحمم البركان بداخله، لا يدري متى تنطفئ؟ وقد تعقدت فرص الحل؛ حتى اصبح الخلاص هو المعجزة بحد ذاتها!
أجفل فجأة على صرخة نسائيه دوت بمحيط صالة الألعاب هاتفة بإسمه: - كفاية بقى باجاسر، هاتموت نفسك.
وكأنه لم يستمع، مستمر بركضه وعيناه نحوها لم تحيد حتى صرخت بصوتٍ أعلى.
- بقولك كفاية بقى، انت مابتسمعش؟
اذعن اخيرًا يبطء من سرعة الجهاز حتى اوقفه، ثم حرك جسده يبتعد بصعوبة وصوت لهاث انفاسه يصدر بحدة.
رفع رأسه اخيرًا ليواجه بأعّين خضراء قاتمة بلونها، تبرق بالغضب وهي تتقدم نحوه حتى لكزته بقبضتها على كتفه العاري: - انت مجنون، مش خايف لا قلبك يقف وتموت فيها؟ ايه يابني؟ هي دي برضوا عمايل ناس عاقلين؟
استقام بجسده يتناول المنشفة يجفف بها العرق المتساقط منه، تجاهلها بصمت، وما ان تحرك ليذهب، استوقفته تجذبه من ذراعه هاتفة بغضب: - سايبني وماشي على طول من غير كلام، هو انا مش بكلمك يابني انتِ؟
تبسم قائلًا بهدوء، عكس العاصفة الهوجاء الدائرة بداخله
- نعم ياماما، عايزة إيه؟
- عايزة اعرف الغضب اللي جواك دا من إيه؟ اتكلم وقول خليني اسمع منك، بدل الحيرة اللي تاعب قلبي فيها دي.
سألت والدته، فتصنع هو التفكير مضيقًا عيناها بتركيز: - عايزة تعرفي إيه سبب الغضب اللي جوايا؟ أممم يكونش يعني عشان بنت اخوكي بتسافر وتخرج مع اصحابها رجالة وستات من غير ماتقولي، ولا يمكن عشان دايرة على حل شعرها في السهر مع ناس تعرفها وناس ماتعرفهاش من غير ماتراعي هي بنت مين ولا مرات مين؟
شدد على كلماته الاَخيرة، سألته هي: - طب ولما انت مضايق اوي من عمايلها كدة، ماتوقفها وتواجها، بدال ماانت وهي كدة كل واحد في عالم لوحده ولا اكنكم متجوزين.
ضيق عيناه سائلًت هو الاَخر: - اقولها إيه؟
- قولها عاللي مضايقك، حلو مشاكلكم دي مع بعض، بلاش حالة الجمود اللي مسيطرة على علاقتكم دي.
اهتزت كتفاه ومط شفتيه مردفًا بعدم اكتراث: - بس انا مش مهتم اتكلم معاها ولا هاممني حتى حالة الجمود اللي بتقولي عليها دي.
تسمرت تنظر اليه بعدم فهم فتحرك هو مغادرًا ولكنه توقف على ندائها فجأة: - طب ولما انت مش هامك التفاهم ولا الصلح معاها، شحنة الغضب اللي جواك دي بقى، سببها إيه؟
استدار اليها بملامح قاتمة، ضاغطًا بقبضة يده، يجز على أسنانه ليجيبها بعنف: - انها على زمتي؟! 1
في اليوم التالي.
علي مكتبها الصغير كانت مُنكفأة على الحاسوب أمامها تعمل عليه بتركيز داخل الحجرة الكبيرة الخالية الا منها، بعد ان صعد مديرها وكل طاقم المكتب إلى الطابق الرابع، للمشاركة في الإحتفال الصغير بتولي جاسر الريان مسؤلية قيادة الشركة الأم لمجموعة الريان خلفًا لأبيه، الذي صرف لجميع موظفي الشركة مكافأة وأعطى لهم أجازة نصف يوم. احتفاءًا، ولكي يتعرفوا على القائد الجديد للشركة.
انتبهت على صوت هاتفها الذي كان يصدح بورود مكالمة من غادة التي فتحت ترد عليها بتأفف: - ايوة ياغادة عايزة ايه تاني؟ ماقولتلك يابنتي مش طالعة.
وصلها صوت غادة المتحمس: - ليه بس يامنيلة؟ دي الدنيا هنا بتشغي بالموظفين، وبيوزعوا جاتوه وحاجات حلوة كدة وغريبة، في حياتك ماشوفتيها ولا هاتشوفيها يافقر.
- ماانتِ قولتي فقر،
همست بها وتابعت بحزن: - والنبي بس حاولي ماتتاخريش عشان نمشي بدري.
- ونمشي بدري ليه من الأساس دا انت...
وصلت الى أسماعها من غادة هاتفة بحنق، قبل ان تنقطع كلماتها وتتولى كاميليا الباقي.
- ايوة يازهرة، اطلعي يابنتي وبلاش اللي في دماغك ده، هو انت مزهقتيش من الشغل ولا نفسك تفكي شوية.
جاوبت، وعيناها تدور في أركان المكتب الخالي: - هو مش زهق قد ماهو خوف، اصل المكتب فاضي خالص من الموظفين، كلهم سابوني ياكاميليا وطلعوا عندك.
- يخرب عقلك ياشيخة، اخلصي وتعالي ياللا زهرة، وبلاش شغل العيال بتاعك ده، هو عفريت يابنتي هاياكلك.
بعد قليل.
صعدت زهرة مضطرة تحت إصرار الفتيات، لتنضم الى جمع العمال والموظفين المحتمعين للإحتفاء بالرئيس الجديد لشركتهم، ارتخت أعصابها المشتدة قليلًا، حينما اختلطت في الزحام، فالردهة الواسعة للشركة والتي تضم العدد الأكير لمكاتب الموظفين، كانت ممتلئة عن اَخرها بالمهنئين، بعد ان قدٌم الرجل الكبير خليفته في الرئاسة ووزعت الحلوة والمشروبات الغازية.
شعرت زهرة بالخوف حينما راته بجوار ابيه ومجموعة من رؤساء الاقسام ومعهم مديرها، يتحدثون ببعض التباسط لظرف المناسبة. سرعت بخطواتها حتى وجدت كاميليا مع إحدى الزميلات تضحك وتتسامر معها، رأتها هي الأخرى فاستاذنت من الفتاة وتقدمت اليها بابتسامة واسعة وانيقة مثلها: - اَخيرًا جيتي يابنتي دا انا خوفت لا ترجعي في رأيك وبرضوا ماتجيش.
قالت زهرة بتردد: - انتِ بتقولي فيها؟ والنبي دا انا على اَخر لحظة قبل مااطلع الاَنساسير كنت هاغير رأيي وامشي عالشارع.
- ياجبانة! طب والله تعمليها.
شاكستها كاميليا ضاحكة، اومأت زهرة برأسها موافقة بابتسامة قبل أن تسألها: - هي البت غادة فين صح؟ مش شايفاها يعني.
أشارت لها بعيناها نحو زاوية قريبة من جاسر الريان ومجموعته، كانت تقف بها غادة هناك، وقد عدلت من هيئتها وزادت من مساحيق وجهها كي تلفت اليها الأنظار وتشارك مع الفتيات في توزيع الحلوي والمشروبات، فغرت زهرة فاهاها وعادت لكاميليا هامسة بدهشة: - هي عاملة كدة ليه؟
اجابتها كاميليا بابتسامة ماكرة: - باينها فاكراه فرح بلدي وعايزة تظهر في الكاميرا لما تقرب من الكوشة والعرسان.
استجابت زهرة لمزحة كاميليا ضاحكة، وهي تغطي بكفها على فمها باستحياء.
لتندمج بعد ذلك في الحديث المرح معها وتنسى ماكان يخيفها، وما كان يقلقها في الصعود.
وفي الناحية الأخرى كان يتحدث ويتلقى التحية على مضض بداخله، بعد أن فاجأه ابيه بهذه الفعلة، بحجة زرع المودة بينه وبين الموظفين، يبتسم بتكلف ومجاملة، مراعاةً لشعور ابيه، فكم هي ثقيلة عليه المناسبات الإجتماعية وتملق الناس اليه، كان يحتسب الثواني والدقائق حتى يصرفهم وينتهي من هذه المهزلة، حتى وقعت عيناه عليها بالصدفة، واقفة في اَخر الردهة تتحدث وتتسامر مع كاميليا، بفستان واسع كالأمس، ولكن هذه المرة بالوانِ مفرحة وجميلة وليس باهت كالأمس، حجابها الطويل بلونه الوردي انعكس على صفاء بشرتها الرباني مع ابتسامتها الساحرة التي فاجأته بروعتها، أسرت عيناه نحوها، حتى اصبح يومئ برأسه لمن يتحدث اليه دون انتباه، لا يعلم سر هذه الهالة الغريبة التي تحاوط هذه الفتاة وتجذبه اليها، وبلفتة نادرًا ماتصدر عنه، وجده نفسه دون أن يدري يشملها بنظرة رجولية خالصة؛ أنبأته بما قد يخفى عل الجميع الا عنه؛ كرجلٍ اختبر ورأى من اصناف النساء الكثير، طالت نظرته حتى شرد بها، وتذكر لقاءه بالأمس معها، حياءها الشديد وحشمتها النادر ما يجدها في فتيات هذا العصر، نسي الزمان والظرف وكل ما حوله، فاحتلت جميع تفكيره في هذه اللحظة، فخرج اسمها من بين شفتيه وكأنه يخاطب نفسه: - زهرة!