رواية نعيمي وجحيمها الفصل السابع و العشرون 27 بقلم أمل نصر
رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل السابع والعشرون
تتفاوت المحبة في القلوب من شخصٍ لاَخر، وكلما زادت المحبة و درجة القرب من احبابنا زادت العفوية وانطلقت الاَلسنة حتى بالتفاهات.
تتحدث بأريحية وكلماتها تخرج بلهفة في فتح مواضيع شتى دون توقف، والاَخر يبادلها الحديث بالحديث و يجاريها بالأندماج معها ومع كل ما يخرج منها، ومع أقل دعابة منه تُجفل الجالس بالقرب منهم على جمر الغيظ؛ بضحكة رنانة تصدر منها دون تحفظ أو خجل يتلقاها الاَخر بنظرة خبيثة نحوه وكأنه يوصل إليه رسائل مبطنة ويعلمها الاَخر بفطنته!
- ياجاسر باشا لو تعبان روح ريح جسمك، انا مش غريب.
قالها خالد وهو مضجع في جلسته بجوارها على الاَريكة التي لم يفارقها من وقت جلوسهم، امال الاَخر برأسه يرمقه بنظرة منذهلة قبل أن يرد بذكاء لا يفوته: - ليه ياعم خالد؟ حد قالك اني معنديش زوق وما بعرفش اكرم ضيوفي؟
بضحكة مستترة تصنع الصدمة قائلًا: - ضيوف إيه ياعم؟ دا انا بقولك مش غريب تقولي ضيوف؟
تدخلت زهرة ببنهم ترد: - مايقصدش ياخالي طبعًا، ما انت فعلًا مش غريب.
خاطبها جاسر من تحت أسنانه: - طيب ولما هو مش غريب، مش تقومي بقى تحضريلنا العشا عشان نتعشى.
انتفضت زهرة شاعرة بالحرج: - اه صحيح، ثواني طيب...
قاطعها خالد يجذبها من ذراعها للجلوس مرة أخرى: - اقعدي يازهرة انا مش جعان.
- بس انا جعان ياخالد، يرضيك اقعد كدة من غير ما اتعشى؟
قالها بزوق أللجم خالد الذي رد بابتسامة إليه: - لا طبعًا مايرضنيش، قومي يازهرة حضري العشا لجوزك وانا كمان هاكل معاكم، حكم انا ناوي اطول السهرة معاكم.
بشبه ابتسامة اومأ له جاسر ليجفل فجأة على شهقة كبيرة من خالد وهو يوقف زهرة التي نهضت من جواره: - استني يابنت هو انتِ قصيتي شعرك؟
انتبهت زهرة لتمسك بالأطراف التي اشار عليها خالد واجابت بعفوية: - ياخالي دا عشان الأطراف تتساوى، البنت الكوافيرة قالتلي كدة.
زام مابين شفتيه بتفكير يخلتس النظرة بخبث نحو جاسر الذي جحظت عيناه من ملاحظته ثم قال: - خلاص يازهرة انا خوفت لتكوني بتجربي تقصريه ولا حاجة بس الحمد لله.
جعدت انفها ترد عليه بمزاح قبل أن تتحرك وتتركهم، نظر خالد في أثرها قليلًا ثم توجه لجاسر يقول ببرائة: - لتكون استغربت يعني من كلامي وافتكرتها حشرية، بس اللي انت متعرفوش بقى، ان زهرة دي مكنتش بتروح المدرسة غير لما العبد لله هو اللي يسرح لها شعرها.
سهم إليه جاسر قليلًا يجاهد للمحافظة على المتبقى من تعقله، ثم أشاح بوجهه يعض على شفتيه غيظًا، فهذا الخالد مُصر على استفزازه بتذكيره الدائم بدرجة قربه ومكانته المميزة في قلب زهرة.
بداخل الملهى الليلي الذي اصبحت تأتيه يوميًا لتسهر به منذ فترة، أتت معها هذه المرة مرفت لتقضي الوقت معها وتتحدث عما حدث صباحًا: - يابنتي زي مابقولك كدة، جاية في عربية اَخر موديل وقال ايه مش عايز تقول على اسم عريس الغفلة ولا حتى تطلع صور الفرح للبنات الموظفين.
اومأت لها ميري تدعي التركيز رغم تشتت نظراتها كل دقيقة: - اه يعني هي اتجوزت واحد غني فعلًا، طب ومش عايزة تقول على اسمه ليه بقى؟
ارتشفت الأخرى من كأسها قليلًا قبل أن تجيبها: - خمني انتِ بقى، عشان لما اقولك ان البنت دي اكيد بتربطها حاجة بجوزك تبقي تصدقيني.
انتبهت تسألها بتخوف: - يعني تفتكري تكون شرعية ولا حاجة زي اللي فاتوا كدة؟
هزت بأكتافها تجيبها بخبث: - الله أعلم، بس البنت دي شكلها مش سهلة، رسمالي كدة فيها دور البريئة والملتزمة وانا اراهن بحياتي انها مية من تحت تبن.
صمتت قليلًا ثم استطردت: - بس على فكرة انا لقيت سكة مع البنت قريبتها واتعرفت عليها، هي بنت خفيفة بس انا متأكدة اننا هنلاقي من وراها فايدة.
قالت ميري بسأم: - فايدة ايه يامرفت؟ ماهي ممكن فعلًا تطلع تخمينات من دماغك وتكون اتجوزت راجل تاني غني فعلًا.
ردت مرفت وهي تجز على أسنانها: - بطلي خيابة بقى انا بتكلم بناءًا على شواهد، يعني تفوقي كدة لتكون البنت دي بتلعب على جوزك.
التوى ثغر ميري تقول لها بإحباط: - وافرضي يعني فوقت زي مابتقولي كدة، ماهو هاجرني بقالوا فترة طويلة يامرفت وانا بصراحة بقى زهقت.
احتدت عيناها وهدرت فيها بصوت خفيض: - تزهقي دا إيه انتِ كمان؟ دا جوزك يعني لازم تدافعي عن حقك فيه ضد أو واحدة عايزة تخطفوا ولا انتِ عايزة تفهميني انه ماعدتش فارق معاكي ولا كرهتيه؟
أجفلت ميري قليلًا من حدتها ثم سهمت بتفكير فقالت وهي تمط بشفتيها: - هو انتِ عندك حق طبعُا اني ادافع عن حقي ضد أي واحدة جربوعة تطمع فيه، وحكاية فارق معايا او مافارقش، انا ابقى كدابة لو قولت انه مش فارق معايا، جاسر قبل مايقلب عليا كان صبور لأقصى درجة، دا غير انه وسيم واي ست اعرفها كانت بتحسدني عليه طبعًا.
قالت الاَخيرة وهي تتلاعب بشعرها غافلة بغباء عن تغير وجه الأخرى وقد تكورت شفتيها تحدجها بنظراتٍ مبهمة، واستطردت بعصبية: - بس انا تعبت من الهجر يامرفت ونفسي بقى اعيش حياتي.
خرجت عن طورها مرفت تهتف بعصبية: - اوكيه ياميري مدام انتِ تعبتي وزهقتي ابقى اخدها انا من قاصرها واصرف نظر بقى عن مساعدتك.
- خلاص يامرفت ماتتعصبيش انا كنت بقولك بس ع اللي حاسة بيه.
قالتها ميري بمهادنة لها، فهتفت تسألها بحدة: - طب وهاتعملي إيه لو الموضوع طلع حقيقي، والبنت دي ثبت إن ليها علاقة بجوزك.
اجابت ميري بنظرة شرسة: - طبعًا هاطربق الدنيا على دماغ الاتنين واسيب بابي هو اللي يتصرف، طب اقولك على حاجة، انا هاجي بكرة الشركة اعدي عليكي و اشوف البنت دي.
ارتخى وجه مرفت بابتسامة جانبية قبل ان تجفلها شاهقة وهي تنهض من أمامها: - مارو وصل.
قالتها وذهبت من أمامها لتصافح الشاب الذي كانت تراقصه سابقًا، توسعت عيناها مرفت وهي ترى تساهل الأخرى في احتضان الشاب وتقبيله لها من وجنتيها، زفرت مغمغمة بقرف وهي ترتشف من مشروبها: - غبية!
انتهت السهرة اَخيرًا بمغادرة خالد الذي لم تتركه زهرة سوى حينما دلف بالسيارة التي أمر بها جاسر لإيصاله، والذي ظل على وضعه مع تصنع الإبتسام حتى خلى المنزل لهم.
- دلفت منتشية لداخل الغرفة التي تجمعهم والإبتسامة لم تفارق وجهها بعد. وجدته واقفًا بوسط الغرفة بوجهه الجامد بعد أن سبقها بخطواته، وحاجبيه عادا للإنعقاد، خاطبته بتوجس من هيئته المريبة: - ايه مالك ياجاسر هو انت واقف كدة ليه؟
رمقها بنظرة حادة دون أن يجيبها بشئ، قبل أن يستدير عنها متوجهًا نحو حمام الغرفة ليخمد نيران غضبه حتى لا يؤذيها.
نظرت في اثره بعدم فهم وهي تهتف خلفه: - ياجاسر، طب رد عليا طيب.
حينما لم يجيبها خطت لتجلس على تختها تقضم أظافرها بتوتر، تفكر بتمعن في تغيره فجأة وانقلابه بعد مغادرة خالها على الفور، فطن الى عقلها انه لربما اجهد نفسه بجسلته معها ومع خالها لهذا الوقت مع عودته من يوم عمل مرهق، نهضت لتزيح عن عقلها التفكير وتقوم بتبديل ملابسها.
بعد قليل خرج من حمامه ينشف رأسه بالمنشفة الصغيرة، وهو يرتدى بنطال قطني وفوقه فانلة ملتصقة بجسده، وقعت أنظاره عليها أمامه بمنامة حريرية فوق ركبتيها، ارتدت فوقها المئزر الخفيف، لتخفي الأجزاء العارية منها وقد صففت شعرها حول وجهها الذي زينته ببعض المساحيق الخفيفة، توقفت انظاره عليها قليلًا بشغف وابتلع ريقه ليخفي ارتباكه من جمالها الخاطف، ثم استدار مبتعدًا نحو المراَة ليمشط شعر رأسه بتجاهل لها، قاومت خجلها لتقترب منه وتحتضن جذعه من الخلف قائلة برقة: - طب قولي طيب على اللي مزعلك عشان افهم حتى.
اغمض عيناه متفاجًا من فعلتها وتصلب جسده للمستها
ثم نظر إلى انعكاس وجهها بالمراَة والتقت عيناها بخاصتيه لتسأله بتردد: - هو انت زعلت عشان انشغلت عنك شوية ووهزرت مع خالي؟
احتدت عيناه فتابعت بترجي غير منتبهة للعواصف التي انطلقت مع كلماتها.
- شكلك زعلت صح، بس انت عارف ان خالي كان مسافر وشئ طبيعي اني انشغل شوية في الكلام والهزار معاه...
التف مقاطعًا يقبض على ذراعيها بقوة قائلًا بغضب: - ما اسمهاش انشغلت، اسمها سيبتك تتفلق زي الكنبة اللي انت قاعد عليها، تهزري وتضحكي بصوت عالي ولا اكن في واحد قاعد جمبكم.
توسعت عيناها تتطلع لهيئته المخيفة بهلع وردت بلجلجة: - والله ما اقصد اللي بتقول عليه ده، انا بس كنت فرحانة بمجية خالي، وكان واحشني قعادتنا بتاعة زمان.
زاد بضغطه على ذراعيها يهدر من تحت أسنانه: - كان واحشك قعادتكم والضحك اللي بصوت موصل لخارج الفيلا، دا انا من ساعة ما اتجوزتك يازهرة، ماسمعتش الضحكة دي منك ولا شوفتك بتتكلمي بالحماس ده.
غامت عيناها وألم ذراعيها اصبح لا يحتمل فقالت معتذرة: - انا اَسفة بجد لو كنت زعلتك، بس انت عارف بمكانة خالي عندي، وان كان على ضحكتي فدي بتطلع طبيعي معاه، عشان...
صمتت فزاد من ضغطه يريد سماع باقي: - عشان إيه يازهرة قولي.
تأوهت تجيبه والدموع تتساقط منها: - عشان وانا مع خالي بحس دايمًا اني بنته الصغيرة اللي مكملتش السبع السنين، لكن معاك انت ببقى الحبيبة اللي لسة في بداية التعارف مع حبيبها.
رق قلبه ولانت ملامح وجهه على بكاءها، نزع يداه عنها لينزل بذراعيه على خصرها وضمها بقوة تكاد تسحق عظامها مرددًا بهزيان: - مش الحبيبة وبس يازهرة، انتِ بنتِ وانا كل أهلك سمعاني؟ انا كل أهلك يازهرة؟
صمتت مقررة السكوت وقد فاجئها بهذا الجانب المظلم بشخصيته وهو الغيرة العمياء، مع انتباهها للجزء الجيد وهو عدم التصريح بما يشعر به أمام خالها؛ تقديرًا وتفهمًا لها.
وفي مكانِ اَخر.
كانت تتقلب على تختها في محاولة يائسة لاستدعاء النوم وقد بدا انه هرب دون رجعة لهذة الليلة، مع هذه الافكار المتزاحمة برأسها، تطاردها عيناه بنظراتها المُعذبة، كلماته لها والتي تحمل في باطنها الألم، مالذي يجري لها؟ لماذا تشعر الاَن بتصدع الجدار الذي قامت ببناءه من زمن ضد أي هجمة تلمس قلبها المحصن؟ لقد اصبح ينتابها التوتر ويساورها القلق، وهي يؤلمها الصدق الذي بدأت تتلمسه داخلها منه نحوها، ولكنها تخشى ان تكون البداية لتضعف وتسقط في فخه، تشعر بالتخبط؛ عقلها يدفعها للأستمرار بالحفاظ على العهد الذي قطعته على نفسها منذ زمن، وهذا الخائن بصدرها يطالبها بالتريث وإعطاء الفرصة.
فركت بكفيها على وجهها وهي تعتدل بجذعها وتزفر بضيق، فيبدوا ان هذه الليلة الغريبة لن تنتهي بالنوم أبدًا، أسقطت قدميها على الأرض لتخرج قاصدة مكتبة أبيها علُها تجد ماتقرأه ويلهي عقلها، وصلت إلى الغرفة لتفاجأ بالإضاءة المنبعثة من الجزء المفتوح قليلًا من بابها بمواربة، خمنت بوجوده بداخلها رغم استغرابها من تأخر الوقت، قررت بمفاجأته وهي تتسحب على أطراف أصابعها حتى دلفت لداخل الغرفة دون أن يشعر تبسمت بمرح توقف فورًا وخبئت ابتسامتها وهي ترى انكفاءه على الألبوم القديم، تتحسس أصابعه على الصورة بلوعة واشتياق، مازال يتذكرها ويتألم لبعدها، ويُخفى ألمه بالأبتسامة أمامهم كما سيفعل الاَن.
- ايه دا كاميليا؟ انتِ صحيتي أمتى يابنت؟
قالها والدها وهو يرفع رأسه إليها ويغلق مابيده سريعًا بعد أن انتبه لها، تقدمت نحوه وهي ترسم ابتسامة على وجهها لتجيبه: - عادي ياسيدي انا مجانيش نوم اساسًا، وانت بقى ايه اللي صحاك؟
زام بابتسامة جانبية يرد بمرواغة: - لا ياختي انا صحيت عشان نمت بدري، بقولك إيه مدام فوقتي كدة ماتعمليلنا فنجانين قهوة ونسلى بعض انا وانتِ في البلكونة.
قال الاَخيرة وهو ينهض عن مقعده بتهرب، قابلته هي بذكائها المعهود ترد بابتسامة: - ماشي يابابا بس انا بقول بلاش قهوة عشان السهر والبرد كمان في البلكون، وخليها فشار احسن ونقعد نتفرج شوية عالتليفزيون واحنا بندردش.
- تمام حصليني ياللا.
قالها وخرج أمامها من الغرفة تتبعته بعينها حتى ابتعد لتلقي نظرة اَخيرة نحو الالبوم الموضوع على سطح المكتب بإهمال، قبل أن تلحقه وبداخلها ازدادت تصميمًا على الوفاء بعهدها القديم!
في اليوم التالي.
استيقظت باكرًا عن ميعادها اليومي وخرجت إلى عملها سريعًا قبل أن يستيقظ، كانت بمكتبها تباشر الأعمال التي كلفت بها وغادة أمامها في الجهة المقابلة تتحدث في عدة مواضيع لم تنتبه إلى معظمها زهرة، وعقلها في جهة أخرى، حتى دلف إليهم وتوقفت خطواته فجأة أمامهم يُلقي التخية وقد تركزت أنظاره عليها: - صباح الخير.
لم تصدق نفسها غادة وهي ترد إليه تحيته، و اقتربت منه بلهفة: - ازيك ياجاسر بيه انا غادة أكيد فاكرني؟
رد بعدم انتباه وانظاره نحو الأخرى وهي واقفة مطرقة رأسها، حاجبة عنه عيناها.
- اهلًا ياغادة، زهرة تعالي عايزك فورًا.
قال الاَخيرة وخطى نحو مكتبه بخطواتٍ سريعة، تتبعته غادة حتى اختفى ثم التفت لزهرة تسألها باستغراب: - هو ماله كدة شكله مش طبيعي؟ هو انتوا متخانقين؟
نفت برأسها زهرة وهي تجلس لتتفحص ملفات العمل تقول: - ما انا قولتلك ياغادة، جاسر ماعندوش امور شخصية في الشغل.
لوت ثغرها غادة حانقة من زهرة التي لا تريحها أبدًا في الحديث، ونهضت الأخرى بمجموعة من الملفات تقول لها: - ماتنسيش معادنا واحنا ماشين، انا اتصلت بكاميليا نقضي اليوم مع بعض.
هتفت غادة توقفها بعدم رضا: - وتيجي كاميليا معانا ليه؟ هو حرام اقعد معاكي لوحدي؟
التفت برأسها إليها ترد بهدوء: - ونقعد لوحدنا ليه؟ ما البيت كبير ويساعي من الحبايب الف، ثم إن دي صاحبتنا على فكرة، مش واحدة وخلاص.
زفرت غادة تتفتت من الغيظ وهي تنهض وتغادر نحو عملها الشيئ الوحيد المتبقي لها.
وبداخل غرفة المكتب.
دلفت بخطواتها الهادئة حتى وضعت مابيدها على سطح المكتب أمامه وقبل أن ترفع يدها وجدته يقبض على رسغها، رفعت اليه عيناها باستفسار لتفاجأ بهذه النظرة الغريبة منه ثم نهض عن مكتبه ليسحبها معه، استسلمت له صامتة حتى جلس بها على الاَريكة الجانبية بركن الغرفة وأجلسها بجواره، يتطلع لوجهها عن قرب، ترسم عيناه ملامحها بدقة، ظلا لعدة لحظات صامتين قبل ان يقطع الصمت بصوته الأجش قائلًا: - انتِ لسة زعلانة مني؟: نفت برأسها بتردد شعر به فقال: - ولما انتِ مش زعلانة مشيتي بدري ليه من قبل حتى ماتصبحي عليا؟
أجابته وهي تتهرب بعيناها عنه: - لا يعني. اصل لقيتك اتأخرت في نومك وانا كنت عايزة اخلص حاجات مهمة، دا غير اني خوفت اتأخر.
بسبابته وإبهابه امسك بذقنعها يرفع وجهها إليه، ليقول وعيناها تقابل عينيه: - ماتحاوليش يازهرة، عشان انتِ مابتعرفيش تكدبي أساسًا، انا عارف اني خوفتك مني امبارح.
صمت قليلًا ثم استطرد: - تعرفي ان دا أول مرة من ساعة ما اتجوزتك اقوم مضايق وكاره اليوم من أوله.
أسبلت أهدابها عنه وهي لا تجد ماترد به على كلماته، فترك ذقنها والتفت كفه حول رأسها من الخلف ليستند بجبهته على جبهتها ويردف وهو ينتهد بعمق: - أنا بحبك أوي يازهرة، والأحساس اللي بحسه معاكي مجربتوش مع أي واحدة ست مرت في حياتي، نفسي عيونك ماتشوفش غيري وضحكتك الحلوة تبقي ليا أنا لوحدي.
خرجت من صمتها لترد: - ايوة بس دا مش غريب دا...
- عارف انه خالك اللي رباكِ.
قالها مقاطعًا بحدة وابتعد عنها قليلًا ليواجه عيناها وأكمل: - بس غياظ أوي يازهرة وبيضغط عليا بالجامد.
لاح على وجهها الإزبهلال قبل أن تنفجر ضاحكة، ضحكتها التي تدغدغ أعصابه بجمالها لتجعله ثغره ينشق بابتسامة سعيدة لها ثم أردفت مابين ضحكاتها: - انا بقيت حاسة ان انتوا أطفال وبتعاندوا بعض ياجاسر؟
جذبها من مرفقها يقبلها على وجنتها ويردف لها بتأكيد: - حتى لو أطفال وبنعاند بعض، خليها هو بقى اللي يبقى العاقل.
في وقت لاحق.
وقبل انتهاء دوامها بالعمل كانت منكفئة على حاسوبها وتعمل على الإنتهاء من مراجعة بعض العقود المطلوبة وتجهيزاها، حتى تفرغ منهم قبل أن تغادر الشركة، انتبهت على رائحة عطر نسائي نفاذة اخترقت حواسها، رفعت رأسها لتجد امرأة جميلة، لم تتبين ملامحها من النظارة التي تغطي نصف وجهها، شعرها البني مصفف بقصة بالكاد تصل إلى أكتافها، ترتدي بلوزة من القماش الخفيف لونها أبيض بدون أكمام، وفي الأسفل ترتدي بنطال من الجينز ضيق على جسدها النحيف، برقعتين اظهرتا ركبتيها، واقفة بتمايل وسترة جلديه متدلية للأسفل وتمسكها بيدها، سألتها زهرة: - أفندم حضرتك؟
ظلت على وضعها للحظات تنظر إليها من تحت نظارتها بتفحص قبل أن تتقدم بخطواتٍ متأنية نحو المكتب لتجلس بعنجهية مقابلها، ثم قالت: - ادخلي لجاسر وقوليلوا ميري عوزاك.
قطبت زهرة تتطلع إليها باندهاش قبل أن تنزع الأخرى عنها نظارتها وظهر كامل وجهها فتذكرتها زهرة على الفور، رغم أن رؤيتها السابقة كانت عبر صور عادية عبر شاشة الهاتف ولكن تذكرتها، بلعت ريقها بتوتر قبل أن تتماسك وتجيبها بعملية: - جاسر بيه حضرتك عنده ضيف جوا، ممكن تتنظريه على مايخلص الإجتماع.
ردت ميري رافعة ذقنها باستعلاء: - يعني انتِ عايزاني أنااا انتظر على مايخلص الإجتماع، بقولك إدخلي وقوليلوا ميري برا.
استفزتها طريقتها المستعلية، فذهب عنها التوتر ليحل محله شئ اَخر يقارب العند فقالت لها بحزم.
رغم عدم علمي بصفة حضرتك عنده، بس انا برد من واقع وظيفتي بقولك استني على مايخلص الإجتماع، غير كدة انا مش مسؤلة.
فغرت ميري فاهاها بدهشة من تحديها لها، فهمت لتنهض وتقتحم الغرفة على جاسر، ولكنها انتبهت لغضب الاَخر، فهي الأعلم بغضبه، عادت بجسدها لخلف الكرسي لتضع قدمًا على الأخرى فقالت لها بأمر: - طب روحي هاتيلي فنجان قهوة.
ضيقت عيناها قليلًا زهرة بتفكير، وفطنت ان هذه المرأة أتت خصيصًا لإهانتها وهي ما لم ولن ستسمح به، فخرج صوتها بقوة: - حضرتك انا سكرتيرة مش ساعي المكتب، يعني عايزة فنجان قهوة أو حتى كوباية مية، زوقيًا مني اتصل ويجيلك اللي انت عايزاه.
قالت ميري ببرود: - بس انا عايزاكي انتِ اللي تعملي فنجان القهوة وتجيبه بنفسك.
ردت زهرة غير مبالية: - وانا قولتك ان مش الساعي بتاع المكتب، ولو حضرتك جاية مخصوص عشان تقطعي عيشي اهلًا وسهلًا.
فقدت تحكمها ميري فهتفت بعدم سيطرة: - انت بتتحديني ياجربوعة انتِ؟
هتفت زهرة هي الأخرى ترد بغضب: - لو سمحتي ماتغلطيش عشان انا مش هاسمحلك.
صاحت ميري تنهض عن مقعدها بتحفز: - مين دا اللي يسمح أو مايسمحش ياحيوانة، دا انتِ باينك عايزة تتربي.
لم تهابها زهرة ونهضت تقابلها بشجاعة وقد بلغ الغضب منها قدره وصاحت ترد: - انا هابقى فعلًا انسانة مش متربية لو هارد على واحدة زيك.
- واحدة زيي ياجربوعة.
هتفت بها وهي تلتف نحو المكتب تبغي الهجوم عليها ولكنها أجفلت منتفضة بزعر على صيحة قوية باسمها: - ميريهااااان.
استدارت برعب لتفاجأ بملامح وجهه التي توحشت بعنف وعيناه التي كان يتطاير منها الشرر، تخشبت محلها وسقطت يدها التي كانت ستمتد نحو زهرة إلى جانبيها، تنحى جانبًا هو ليمر من جواره رجلًا اربعيني بهيئة وقورة، صافحه جاسر على عجل ليغادر الرجل وعيناه تنتقل نحو الاثنتان بحرج، هتفت ميري بعد خروج الرجل وهي تشير بسبابتها نحو زهرة التي انعقد لسانها وتسمرت تدعي الصلابة رغم ارتجاف اوصالها من فرط التوتر: - تعالى شوف الجربوعة دي ياجاسر، بتقل أدبها على مراتك.
تقدم نحوها بخطواته البطيئة وكفيه انعقدا خلف ظهره، بنظرات مريبة بعثت على قلبها الخوف فتابعت بلهجة مهزوزة: - انا كنت بقولها بس اطلبيلي فنجان قهوة.
قطعت جملتها بتخوف من هيئته حينما اقترب منها برأسه قائلًا بلهجة هادئة ومخيفة: - قدامك حل من الاتنين، ياتخرجي دلوقتِ حالًا، ياتعتذري من زهرة.
وكأنها ضربت على رأسها بمطرقة من حديد، اهتز جسدها وتحركت رأسها بعدم استيعاب، تظن انها لم تسمع جيدًا: - إيه؟ بتقول إيه؟
اقترب مؤكدًا وازدادت لهجته شراسة: - مش هاكرر في كلامي من تاني، انا قولت وانتِ اختاري ياتخرجي دلوقتِ حالًا، ياتعتذري من زهرة.
استفاقت من الصدمة فهتف صارخة: - انتِ بتقولي انا كدة ياجاسر، بتنصر البنت الجربوعة دي على مراتك، انا ميري ياجاسر!
تركها تصرخ بغيظ وصوتها الرفيع يكاد يصم أذنه ليخرج هاتفه ويتصل برقم الأخرى: - ايوة يامرفت تعالي هنا حالًا.
- انتِ اتجننني ياميري؟ هو دا برضوا اللي احنا متفقين عليه.
هتفت بها مرفت وهي تضرب بكفها على سطح مكتبها، والأخرى أمامها جالسة تهتز من فرط غيظها، فقالت بلهجة الطفل المذنب: - انا مكانش في بالي أصلًا ان كل دا يحصل، بس اعمل ايه بقى؟ بعد ما شوفتها وحسيت ان ممكن يبقى مابينها وبين جاسر أي علاقة مادرتش بنفسي وانا بحاول اعرفها مقامها.
ارتدت مرفت عائدة بظهرها للكرسي تسالها بتهكم وهي تتكتف بذراعيها: - وعرفتيها مقامها بقى ولا هي اللي علمت عليكِ؟
احتدت عيناها ميري وهي تتطلع إليها بشراسة قائلة: - انا محدش يقدر يعلم عليا، دا انا كنت هامسح بكرامتها الأرض لولا بس خروج جاسر هو اللي وقف كل حاجة.
عضت على شفتيها مرفت تتفتت من الغيظ، وهذه الغبية بفعلتها قد تفسد كل مخطاطاتها، فخرج صوتها اخيرًا: - يعني انتِ عايزة تفهميني انك لما تضربيها ولا تمدي ايدك عليها؛ بكدة هاتمسحي بكرامتها الأرض ولا كرامتك انتِ؟ فيه إيه ياميري؟ انتِ بكدة كنتِ هتلمي الموظفين والعملا في الشركة كلهم عليكم ومش بعيد كانت بقت فضيحة وترند عالسوشيال ميديا.
صمتت ميري شاعرة بحجم خطئها لتستطرد الأخرى: - وعلى فكرة بقى، الموضوع دا لو خرج لوالدك ولا اهله، الحق هايبقى ناحيته هو عشان بيحافظ على اسمه وسمعته اللي ماخدتيش بالكِ انتِ منهم لما نزلتِ بمستواكي واتخانقتي مع السكرتيرة.
صاحت هاتفة بغضب: - يعني إيه بقى؟ بعد اللي حصل دا كله عايزاني اسكت على حقي؟ دا انا دلوقتي بس اتأكدت بخطورة البنت دي، يعني لازم اشوفلي حل معاها.
ردت مرفت وقد وصلت لمبتغاها: - حلو اوي، مدام اخيرًا فهمتي يبقى أكيد هانلاقي حل!
وفي الناحية الاخرى كانت ترتجف من رأسها حتى أقدامها وهو يضمها بذراعيه، يربت على ظهرها ويهدهدها: - خلاص يازهرة بقى اهدي، ما انتِ برضوا مااسكتيش عن حقك زي ماحكيتي.
رفعت رأسها إليه ترد: - انا مسكتش ياجاسر، عشان ماقدرتش اتحمل الإهانة، لكن مش عشان مراتك والله.
ابعدها قليلًا ليقول بصدق: - انا عارف يازهرة بقصدك مش محتاجة تبرري ولا تحلفي.
سهمت قليلًا ترد عليه بتفكير: - بس دي شكلها كان قاصد الإهانة ياجاسر، مش مجرد سوء تفاهم وكأنها جايالي مخصوص.
قربها ليشدد عليها بذراعيه مغمغًا بلهجة غامضة: - انا عارف ومتأكدة من كدة، ولازم اشوف لي صرفة قريب.