رواية نعيمي وجحيمها الفصل الرابع و العشرون 24 بقلم أمل نصر
رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل الرابع والعشرون
كان الوقت يقترب من الظهيرة حينما استيقظت من نومها في هذه الغرفة التي بدأت تعتاد عليها وعلى هذا الجو اللطيف الساحر بها، ونسمات البحر العليلة تطير الستائر البيضاء أمامها، فردت ذراعيها تتمطع بكسل محبب بدأت تعتاد عليه، انتبهت تنظر بجانبها عليه، فلم تجده كالعادة، يستيقظ مبكرًا قبلها كي يتابع أعماله على حاسبه، نهضت من التخت نحو النافذة لتتطلع أمامها على البحر بلونه الأزرق الذي يبعث على الصفاء النفسي داخلها، أمواجه العتيدة تضرب بقوة في دعوة صريحة لمجابهتها واللحاق بالسباحة ومصارعتها، قبل أن تزداد قوتها مع دخول الشتاء وقد قارب الصيف على الرحيل، أغمضت عيناها تستقبل هذه البرودة اللذيذة على وجهها وشعرها، وشعور بالراحة والسعادة يدغدغ قلبها مع هذا الرجل الذي يغمرها بالعشق وهو يعلمها قواعده بتمهل وصبر حتى جعلها تسقط في فخه، يسقيها من حنانه بإغداق ليثير بقلبها الامتنان نحوه، سعادة لم تكن في بالها ولم تخطط لها، ولكنها تتمنى أن تدوم.
ابتعدت عن النافذة لتخرج إليه فتذكرت هيئتها وهي ترتدي المنامة الحريرية القصيرة جدًا، ذات الحمالات الرفيعة، شهقت بدون صوت تتذكر حشمتها قبل زواجه به وهي تتناول بيجامة بيتية مريحة لترتديها من خزانة الملابس مرددة: - فينك يارقية تشوفي بنت بنتك بقت تلبس إيه؟!
وجدته كالعادة في صالة الطابق الأول منكفئ على حاسبه والهاتف على أذنه، أكلمت لتهبط الدرج بخطواتِ تقصدت أن تجعلها خفيفة وفور أن هبطت للأرض سارت على أطراف أصابعها لتقترب بخفة رويدًا رويدًا تريد مفاجأته بوضع كفيها على عيناه بحركة طفولية معروفة وهي مستغلة إنشغاله، وفور أن وصلت لتصبح خلفه تمامًا، و همت لترفع كفيها وجدته يميل برأسه للخلف ناظرًا نحوها ليسألها بمكر: - انتِ بتعملي إيه؟
ضربت كفيها ببعضهم تجيبه بإحباط: - وانا لحقت اعمل ياحسرة، ماباظت اللعبة والبركة فيك.
ضحك مجلجلًا بصوته وهو يتناول كفها ليجعلها تلتف حول الكرسي الجالس عليه ويجلسها على قدميه مرددًا: - طب يعني انتِ كنتِ عايزة تخدعي مين بس؟ دا انا حسيت بيكي من أول ما طليتي تبصي عليا من الدور التاني واتأكدت من حضورك من أول مانزلتِ السلم بخطوتك الخفيفة اللي زي الحرامية دي، وانتِ ماتعرفيش بقى ان ريحتك الحلوة زغزغت روحي من جوا، صباح الفل.
قال الاَخيرة قبل أن يقبلها على وجنتيها.
ردت زهرة الصباح ثم قالت بمرح: - حلوة اوي ياجاسر حكاية زغزغت روحي دي وجديدة، جيبتها منين؟
قربها يسحب من أنفه رأئحتها بقوة قبل أن يجيبها بهيام: - جيبتها منك يازهرة جاسر، انا روحي بتتردلي وبحس بانتعاشها لما اشم ريحتك الطبيعية دي، مش بيقولوا كل إنسان له نصيب في اسمه، انتِ بقى خدتِ من إسمك المعنى كله.
الجمتها كلماته الرائعة عن الجدال، فمن هي لتجاريه وهو الأستاذ والمعلم، صمتت تتلقى منه قبلاته العاشقة بحب وهو يردف لها بكلمات الغزل التي تخدر اعصابها كالعادة لتبادله الإستجابة على استحياء، بعد قليل نزعت نفسها فجأة تسأله: - اه ياصحيح ياجاسر، إنت ماقولتليش هانروح امتى؟ عشان الم هدومي وحاجتي.
ضيق عينيه قائلًا بخبث: - ومين قال ان احنا مروحين؟
توسعت عيناها تجيبه باندهاش: - انت ياجاسر اللي قولت يومين عسل واليومين كملوا اسبوع، ولما سألتلك بعدها قولتلي هانقعد يومين كمان، احنا كدة مكملين عشر تيام.
رد ببساطة أذهلتها: - وماله لما العشر تيام يكملوا اسبوعين ولا نزود عليهم تاني كمان، دا حتى بيقولوا عليه شهر عسل.
قال الاَخيرة ليدفن رأسه في عنقها هتفت بعدم تصديق: - طب ومصالحك وشركاتك دي اللي انت سايبها وشغلي انا كسكرتيرة في شركتك، هابرر للي في الشركة غيابي ازاي؟
رفع رأسها إليها يجيبها بضيق: - ان كان على شغلي انا بتابعه يوماتي مع كارم وان كان على وضعك انت، انا هاخليهم يقيدوا أجازتك مسببة بجوازك، ودا على الأقل حتى عشان الكل يعرف انك مش متاحة.
شدد في الاخيرة قبل أن يستطرد.
- وهي الموظفة لما بتتجوز مش بتاخد أجازة برضوا ولا بتحضر تاني يوم؟
- طب وجدتي وخالي دا اللي من ساعة مارجع ماشفتوش تاني وهو كلها يوم ولايومين ويرجع يسافر.
توسعت ابتسامته وهو يرد عليها بمكر: - قولي كدة من الأول، انتٍ هاتموتي عشان ترجعي لخالك وجدتك، على العموم يعني خالك دا اللي كل يوم بيزن على دماغك بالرجوع عشان وحشاه، مش قادر بقى يميز انك في شهر عسل مع جوزك، ثم حكاية سفره دي كمان، دول كلهم يومين هايخلص فيهم مستحقاته وأوراقه عشان يرجع يستقر هنا في الشغل الجديد.
سألته زهرة بانتباه: - وانت عرفت منين انه هايشتغل هنا ويستقر؟
سهم قليلًا لها باستدراك ثم أجابها بذكاء: - عرفت منك، ماانتِ قولتي قبل كدة قدامي
قالت زهرة بتفكير: - لا بس انا مش فاكرة خالص اني قولت قدامك الموضوع ده.
رد بتصميم وهو ينهض وينهضها معه: - لا قولتِ يازهرة بس انتِ مش فاكرة، ويالا بقى عشان نفطر انا هاموت من الجوع.
التهت زهرة بجملته الاَخيرة فقالت بإشفاق وهي تتحرك معه نحو المطبخ: - طب ومافطرتش ليه من الصبح ياجاسر؟ دا احنا بقينا الضهرية!
ضمها بذراعه اليه ليقبلها من وجنتها قائلًا بهمس: - وافطر من غير زهرتي، يرضيكي برضوا!
دلفت سمية تلقي التحية بابتسامة مشرقة على رقية والتي كانت جالسة بقلب الصالة في مكانها المعتاد: - مساء الخير ياخالتي عاملة إيه النهاردة؟
ردت رقية بابتسامتها المعتادة: - مساء الخير ياختى وشك ولا القمر، توك ماافتكرت تجي تطلي عليا؟
اقتربت منها سمية تكشف عن طبق بيدها وهي ترد عليها بحماس: - معلش بقى مانا كان لازم اخلص اللي بعمله الأول قبل مااجيلك، عشان اَخد رأيك بنفسي في اللي عملاه.
دنت برأسها رقية تنظر جيدًا للطبق قبل أن تتناول معلقة فقالت وهي تتزوق الطعم: - دا طبق رز بلبن يابت صح؟ بس ماله كدة شكله متغير على اللي بنعمله دايمًا؟
ردت سمية وهي تجلس بجوارها: - اصل انا المرة دي عملاه بطريقة جديدة شوفتها في التليفزيون، اهو بقى قولنا نجدد.
قالت رقية وهي تتزوق في المكسرات التي على الوجه: - وماله ياختي جددي مدام بتعرفي تقلدي، لكن انت جايبة طبق واحد يابت؟
ردت سمية على سؤالها بوجه ضاحك.
- ودا برضوا كلام ياخالتي، انا محضرالك انتِ وسي الأستاذ خالد، حلة صغيرة ليكم تاكلوا منها براحتكم، حكم انا عملت كمية كبيرة، ياما كان نفسي زهرة تدوق منه، حكم دي كذا مرة تعيب على طريقتي.
- حقها ياختي تعيب، وهو انتِ تعرفي تعملي الطبق اللي بتعملوا هي مهما اتعلمت ولا شوفتي في التليفزيون.
قالتها رقية بتفاخر ومرح، تقبلته سمية بالضحك قبل أن تسألها: - طب هي عاملة إيه دلوقت؟ بتتصلوا بيها وتكلموها ياخالتي.
أجابتها رقية: - طبعًا بنتصل بيها وبنكلمها يوماتي، هي تقدر تفوت يوم عشان كان خالد يطب عليها هي وجوزها في المطرح اللي هما قاعدين فيه.
شهقت سمية تضع كفها على فمها ضاحكة على طبع رقية الذي لا يتغير ابدًا في المزاح
- ماشي ياجاسر يا ريان وديني ماهافوتهالك.
تفوه بها خالد بغيظ وهو ينفض سيجارته قبل أن يعيدها إلى فمه ليدخنها، وهو جالس بإحدى المقاهي الشعبية الشهيرة في خارجها، وامامه في الناحية الأخرى من الطاولة خطيبته نوال التي ردت باستغراب: - وكان عملك آيه بس ياخالد؟ واحد في شهر العسل مع عروسته، فيها إيه دي بقى؟
ردد حانقًا: - فيها إيه برضوا؟ دا قاصد يحرق دمي، يعني انا دلوقتِ اسافر من غير مااشوفها؟
ردت نوال بابتسامة هادئة: - طب وإيه يعني برضوا؟ ماهم كلهم يومين ولا تلاته ولا حتى اسبوع وبعدها هاترجع وتشبع منها، مش انت خالها وحبيبها يبقى لازم تفرح لها انها مبسوطة مع جوزها مش تتقمص وتزعل. يابختهم.
قالت الاَخيرة بمغزى وهي تنظر إليه بمكر فهمه فردد يغيظ: - بلاش الأسلوب دا يانوال، عشان انا مش هاضم موضوع جوازها دا من أساسه.
قالت بانفعال: - اه وبعدين بقى؟ نطلق البنت يعني عشان تستريح انت؟
- اعوذ بالله، اللي بتقوليه دا يانوال؟
اردف بها على الفور بوجهِ متغير، فعادت إليها ابتسامتها ترد عليه: - عارف ياخالد، انا لولا اني فاهماك كويس وفاهمة علاقتك الأبوية بزهرة لكنت سيبتك من زمان وفسخت خطوبتي منك بسببها.
ارتفع حاجبه بخطر فقال بتهديد وهو يجذبها من أطراف اصابع كفها المستندة على الطاولة بينهم: - تسيبي مين يا أبلة؟ كرري الجملة كدة عشان انا ماسمعتش كويس ولا يمكن عايز اتأكد من اللي سمعته، ماتكررري.
ضحكت تداري فمها بقبضتها وعيناها تتنقل على البشر حولها: - الناس بتبص علينا ياخالد، بلاش جنانك دا.
أكمل بوجهه العابس: - وانتِ لسة شوفتي جنان؟ والنعمة افرجهم عليكِ بجد وأشهر بوالدك المحترم كمان.
اومأت بكفها الحرة باستسلام أمامه مرددة: - لا وعلى إيه ياعم الطيب أحسن، خلاص بقى كدة يرضيك؟
ارتفعت زاوية فمه بابتسامة مستترة قائلًا لها: - أيوة كدة اتعدلي، ماعنديش انا حريم تعترض ولا يبقى ليها رأي تاني بعد ماوافقت انها تدخل القفص، دا تنبيه من أولها عشان دماغك ماتلفش بعدين.
ترك يدها لتشيح بوجهها عنه مغمغة بكلمات غير مفهومة فتابع يسألها بشر: - بتبرطمي بتقولي إيه؟
التفت اليها برأسها قائلة بمهدانة: - لا ياراجل وانا هاشتمك برضوا؟ دا انا بقول عليك عسل.
رد بابتسامتة منتشية: - ايوة كدة اتعدلي بحسب كمان.
صمتت تدعي الطاعة وقلبها يقفز من السعادة لمزاحه الثقيل فهي أعلم الناس به وبما يكنه نحوها رغم انشغاله دومًا بالقلق على ابنة شقيقته فعلاقتهما تعدت التفاهم والحب بل هي أصبحت تؤأمة بين روحين يشغلها ما يشغله ويقلقها ما يقلقه.
بداخل سيارتها التي كانت تحاول في محركها عدة مرات، ضربت بكفيها على المقود بحنق، وقد تعبت من تكرار المحاولات في تحريكها لتقابل بهذا الصوت الغريب للموتور وعدم الإستجابة، رددت بغضب وهي تتناول حقيبتها وسلسلة المفاتيخ قبل أن تخرج منها: - اَدي جزاة اللي يجيبلوا عربية نص عمر، تعطل منه كل شوية ويفضل بس مداوم على مشوار المكانيكي والصنايعية.
صفقت بابها بعنف ثم التفتت تضع النظارة الشمسية على عيناها قبل ان تتجه بخطواتها نحو الرصيف لتشير لإحدى سيارات الأجرة، ولكن السائق لم يستجيب، واشارات لأخرى وفعل أيضًا سائقها نفس الأمر. حتى تفاجأت بالسيارة الضخمة العالية السوداء وهي تقف أمامها، ليترجل منها صاحبها ويخاطبها: - بتشاوري على تاكسي ليه ياكاميليا؟ وعربيتك دي؟
زفرت تجيبه بضيق: - عربيتي باظت يا طارق ومش بتدور ولا بتتحرك يبقى هاتوصلني ازاي؟
عرض المساعدة قائلًا: - تحبي ادورها واشوف العطل اللي فيها؟
اعترضت تهز برأسها: - لالا ولاتشوف ولا تحاول انا قرفت منها اساسًا، اركبلي تاكسي ارحم.
- وتركبي تاكسي ليه وعربيتي موجودة؟ تعالي اوصلك معايا في طريقي.
قال عارضًا عليها بزوق فردت هي بالرفض: - لا يا طارق، روح انت وشوف وراك إيه ماتعطلش نفسك.
عبس يرد على كلماتها: - عطلة إيه ياكاميليا اللي هاتجيني من مشوارك؟ هو انا هاخدك واسافر بيكِ يعني ولا انت عندك الركوب مع سواق غريب أامن من الركوب معايا في عربيتي.
أحرجها بكلماته فتحركت أليًا لتنضم معه في الأمام بجواره، اعتلي السيارة ليدير المجرك ويقودها بجوارها صامتًا حتى لايزعجها بنهجٍ اتخذه منذ مدة حينما لاحظ جفاء ردها معه كلما حاول التقرب، فمهما حرقه قلبه ناحيتها لن يسمح بامتهان كرامته في عشق إمرأة لا تبادله نفس المشاعر.
قطعت هي شروده بسؤال: - خرجت بدري اوي النهاردة وسيبت الشغل، مش بعادتك يعني.
ارتفع حاجبيه لسؤالها المفاجئ ثم رد بروتينية يمنع نبة ألأمل التي تبذر بداخله لاهتمامها: - خرجت اسوي شوية مصالح كدة لجاسر اداني اوردر بيهم امبارح.
قالت مبتسمة: - وجاسر الريان دا استحلاها باينه؟ دا كان قايل يدوب يومين واحنا دلوقتٍ هانكمل اسبوعين في غيابه.
التفت آليها قائلًا بمغزى: - ومايقعد اسبوعين ولا شهر حتى، الراجل مبسوط مع مراته واظن هي كمان مبسوطة معاه، وأيام العسل دي مابتتعوضش ولا انتِ مكلمتهاس وعرفتِ منها: أجابت كاميليا: - طبعًا كلمتها وعرفت منها انها مبسوطة، بس دا الطبيعي على فكرة في البداية مع الدنيا الجديدة اللي اتحطت فيها فجأة بكل الأبهار والرفاهية اللي مكنتش تخطر على بالها.
صمتت قليلًا تضحك بدون صوت وهي تنظر للخارج من نافذة السيارة بجواره واستطردت ساخرة: - بس أقسم بالله الراجل ده ذكي بشكل يخوف، خد البنت في مكان منعزل ليهم وحديهم عشان تتعود عليه وعمل على عقلها حصار بحيث ان مايدهاش فرصة للتفكير، وتحبه مضطرة مع إلحاح عوطفه ناحيتها والبنت بريئة ياعيني، عجينة طرية يشكلها بإيده.
التفت طارق إليها مضيقًا عيناه بتفكير وقد أثارت فضوله ليسألها مباشرةً بدون تحفظ وليحدث مايحدث بعدها: - هو انتِ إيه إللي أخرك في الجواز لحد دلوقتِ ياكاميليا؟ وماتقوليش نصيب عشان انا عارف ان السبب منك.
أجفلها بسؤاله المباغت فخرج صوتها إليه بحدة: - لاحظ ان سؤالك ده في جرأة انا ماسمحش بيها يااستاذ طارق، اتجوز مااتجوزش دي حاجة تخصني.
أكمل غير مبالي: - لأ يخصني ياكاميليا لما اشوف تعاملك الجاف معايا من غير سبب كل ماقرب خطوة ناحيتك وكلامك دلوقتِ على جاسر وتحاملك عليه، زود الشك في دماغي، انتِ عندك سبب غامض جواك ومش عايزة تبوحي بيه قدام حد.
قالت بتحدي: - وافرض عندي سبب بصحيح، انا مش ملزمة اقولك انت بالذات عليه.
صمت ينظر آليها بغيظ وهو يصك على فكيه من رأسها العنيد، فتابعت هي: - ممكن بقى تنزلني هنا على جمب الطريق.
- لا مش ممكن ياكاميليا، انا هاوصلك لحد باب بيتك وهالتزم مكاني من غير مااكلمك زي ما عملت الأيام اللي فاتت، مدام دا اللي يريحك.
قال بقوة قبل أن يلتفت للطريق يتابع في قيادة السيارة بصمت، متجنبًا الحديث والنظر إليها، تأملته قليلًا ببركان غضبها وقد نجح بجرأته في النبش عن المنطقة الخطرة برأسها في سابقة لم تحدث معها أبدًا قبل ذلك، وهي التي نجحت وتخطت هذه المرحلة إلى أن وصلت لما هي عليه الاَن دون مساعدة من أحد، التفتت للطريق من نافذة السيارة تدعي الامبالاة وبداخلها تفور غيظًا
- هي دي الحارة اللي فيها العنوان؟
تسائلت ميريهان بقرف وهي تتأمل المباني القديمة والجدران المقشرة بفعل مياه الصرف الصحي التي غطت نصف الحوائط، أجابت صديقتها وهي تسير بسيارتها بتأني وتتطلع حولها جيدًا هي الأخرى،
شكلها هي بس اظن يعني، بصراحة مش عارفة، المباني هنا شبه بعض وانا مش قادرة اعرف هي ساكنة في انه عمارة في هنا، بس العنوان هو نفسه اللي مكتوب في اوراق الشركة.
قالت ميري باشمئزاز: - ياي يامرفت، معقول في ناس ساكنة هنا وبتاكل وبتنام كمان، دي كلها عمارات اَيلة للسقوط ومياة الصرف الصحي مبهدلاها.
ردت ميرفت بتركيز في الطريق: - اتعودوا ياميري على العيشة فيها عادي يعني، المهم انا هوقف العربية قبل مانغوط في الحارة، عايزين نسأل من غير ماحد يحس بينا.
أومأت برأسها ميري بموافقة، وأوقفت مرفت السيارة لتلتفت إليها فوجدتها تداري رأسها بطاقية وتغطي عيناها بنظارة شمس، سألتها باستغراب: - ليه بتخبي نفسك اوي كدة؟ دا احنا لسة في العربية ومخرجناش؟
أجابت ميري على الفور: - لازم يابنتي، مش يمكن حد يعرفني انا شخصية عامة غيرك.
عوجت مرفت فمها على زواية تردد حانقة: - شخصية عامة في إيه بقى؟ والدك وزير ومعروف اه لكن انتِ بقى الناس هاتعرفك منين؟
قالت ميري بانفعال: - ازاي مايعرفونيش بقى وانا عندي صفحة عليها اَلاف المتابعين، مش يمكن الاقي حد فيهم هنا.
صمتت مرفت تكتم غيظها من هذه التافهة، فتابعت ميري غير مبالية: - يالا بقى انزلي اسألي أي حد هنا عنها.
ردت مرفت من تحت أسنانها: - أسأل مين كمان وانا لوحدي هنا في المنطقة الغريبة دي؟ لو عايزاني أسأل يبقى تنزلي معايا.
- أنااا انزل بجزمتي Brand هناااا؟
هتفت بيها ميري بمبالغة، حركت كتفيها مرفت بعدم اكتراث تتلفت أمامها وترد وهي تهم لتدير السيارة: - خلاص ياحبيبتي ولا يهمك، خليك بجزمتك Brand ونرجع عادي.
اوقفتها ميري حانقة: - خلاص خلاص، هانزل معاكي وابقى اضحي بقى بجزمتي.
تبسمت مرفت بانتصار وهي تخاطبها قبل ان تترجل من السيارة: - طب ياللا بقى عشان مانتأخرش.
ترجلت ميري خلف الأخرى بتأفف، يتطلعن حولهن بتشتت في الوجوه المارة حولهم والتي تتطلع لهيئتهم باستغراب، حتى وجدوا صبيًا يبدوا في الثالثة عشر من عمره، أوقفته مرفت وهو يمر بجوارهم: - ثواني ياحبيبي ممكن خدمة؟
اجاب الفتى وهو يتطلع إليهم باندهاش: - نعم ياأبلة عايزين إيه؟
تدخلت ميري تجيبه على الفور: - عايزين نسأل على واحدة ولو جاوبت كويس ليك مني حاجة حلوة.
- عايزين تسألوا على مين ياأبلة؟
صدرت بالقرب منهم بصوتِ خشن، انتفضتا ميري ومرفت يلتصقن ببعض خوفًا، فور أن رأين صاحب الصوت بهيئته الضخمة وهو يقترب بخطواته إليهم
تلجلجت ميري وهي تجيبه: - إحنا مش قاصدين حاجة وحشة، احنا بس عايزين نسأل عن واحدة وهانمشي على طول.
قيمهم فهمي بنظرة شاملة من رأسهم إلى أقدامهم في الأسفل وقد خاب ظنه، بعد أن اعتقدهم ممن يأتين بقصد شراء الكيف والمواد المخدرة منه، ثم سألهم بهدوء مريب: - ومين هي دي بقى اللي مكلفين نفسكم وجاين الحارة مخصوص تسألوا عليها؟
أجابت مرفت: - اااحنا بس كنا عايزين نسأل على واحدة اسمها زهرة محروس، بيقولوا انها ساكنة في الحارة، هي زميلتنا في الشغل واحنا عايزين نطمن بس ونعرف سبب غيابها.
صمت قليلًا يرعبهم بنظراته الغامضة المخيفة قبل أن يرد: - هي فعلًا كانت ساكنة هنا في العمارة اللي في اَخر الحارة اللي في وشكم دي بس هي دلوقتِ بح، ومعدتش موجودة.
انتقلت انظارهم نحو المبنى المتهالك قبل أن يعدن إليه فسألته ميري: - بح ازاي يعني؟ عايزين نفهم كلامك.
بصق من فمه على الأرض أثار اشمئزازهم قبل أن يجيب من تحت أسنانه وهو يتحرك ليغادرهم: - ماتسألوا بنت عمتها معاكم في الشركة، البت غادة بنت شعبان ماهي كانت معاهم وحضرت فرحها على الراجل العربي، بدل ماتيجوا وتتعبوا نفسكم.
هتفت مرفت خلفه لتتأكد مما سمعته: - يعني انت تقصد انها اتجوزت فعلا؟ وراجل عربي كمان زي مابتقول.
التف بجذعه يجيب عن سؤالها بحنق: م
اقولنا اتنيلت هي حدوتة، دي حاجة غريبة والله.
ذهب بعدها وتركهم يتطلعن لبعضهن باستغراب فقالت ميري تسأل الأخرى: - يعني إيه راجل عربي؟
التفتت إليها مرفت تجيبها بنزق: - يعني مواطن من دولة عربية ومش مصري ياميري.
اومأت برأسها بتفهم ثم تابعت بسؤالٍ اَخر: - طب إنتِ تعرفي اللي اسمها غادة بنت عمتها دي؟
اجابت مرفت بتفكير: - معرفهاش شخصيًا، بس اعرف واحدة كانت مرفقاها دايمًا اسمها غادة برضوا، اظن كدة انها هي!
في العاصمة الأوربية وبداخل جناحه، تأمل عامر زوجته وهي تدلف إليه بسعادة ووجه مضيء تردد له: - الدكتور شاف الأشعة الجديدة وطمني عليك ياعامر،
ابتسم بسعادة على سعادتها، وتابعت هي تجلس بجواره على الاَريكة الجلدية الكبيرة: - وقالي كمان ان بوضعك دا احتمال تخرج قبل المدة اللي كان محددهالك في الأول.
اومأ رأسه يتمتم بالحمد يقول: - الحمد لله يالميا، الواحد كان خايف لمقدرش اكمل رحلة العلاج او ارجع بلدي في صندوق.
نهرته بوجه غاضب: - اعوذ بالله ياعامر، ليه بس كلامك الوحش دا واحنا ماصدقنا ان ربنا كرمنا، دا انا بحمد ربنا اوي عشان كان رؤوف بيا في مرضك، وحادثة جاسر كمان، دا كفاية ان كل ما اشوفه واقف قدامي ولا ماشي على رجليه، اعرف ان ربنا كان بيحبنا عشان محسرش قلوبنا عليه.
- فعلا يالميا عندك اللهم لك الحمد
اردف بها عامر فقالت لمياء بتمني: - كمان بقى لو ربنا يهديه ويوافق يرجع لميري ويخلف لنا احفاد يملوا علينا البيت، ياسلام ياعامر، اهي دي الفرحة اللي بجد بقى.
كالعادة صمت مطرقًا برأسه لا يجاربها ولا يعترض على حديثها، فقد يأس من اقناعها وهذه الفتاة تتلوى في الحديث معها كالحرباء تثير العاطفة لديها بتذكيرها دائمًا بشقيقتها الفقيدة والدتها، وقد زادت هذه الأيام باتصالاتها المكثفة إليها وزادت معها جرعة المسكنة أيضًا لتزيد من تأثيرها عليها، قطعت شروده زوجته بالهتاف عليه حانقة: - برضوا سكت ياعامر ومش راضي ترد على كلامي، وكأن سيرة ميري دي بتعملك قشعريرة في جسمك.
تنهد عامر يرد بهدوء: - يعني عايزاني ارد اقولك إيه بس وابنك نفسه مش طايقها اجبره يعني؟
ردت لمياء بتصميم: - تحاول تقنعه ياعامر مش تكبر دماغك واكن الموضوع مايخصكش، تحاول تعقله عن جنانه، بدال ماهو مختفي كدة وماحدش عارف غطسان فين ومع انه واحدة من اياهم.
تأفف عامر ينهض من جوارها كي يتجنب الصدام معها، هتفت لمياء تسأله: - قايم كدة وسايبني وانا بكلمك، رايح فين ياعامر؟
أجاب بمرواغة وهو يتحرك ذاهبًا: - داخل الحمام يالميا، ولا كمان ممنوع عليا ادخل الحمام!
خرج من غرفة القيادة بعد ان قام بظبط الاتجاهات نحو العودة بعد قضاء معظم اليوم باليخت في عرض البحر، حتى قارب اليوم على المغيب واقتربت الشمس من إسدال ستائرها على الأرض، وجدها على نفس وضعها جالسة في نفس المكان الذي تركها به في الجزء المكشوف من اليخت، مستندة بمرفقها على السور الحديدي الصغير، تبدوا شاردة وشال رأسها الذي سقط للخلف ليعطي فرصة للشلال الأسود خلفها كي يتطاير مع الهواء البارد بحرية، كأميرة غجرية تخيلها تأسره بسحرها وهو لا يدري لما في كل مرة يراها تخطف أنفاسه ولا يكف عن الانبهار بها، أجفلت من شرودها على جلوسه خلفها تمامًا هو يسألها: - عجبك البحر ولا مشهد الغروب؟
ردت وهي تتأمل المياه وانعكاس الشمس وهي ترحل الذي يترك خيوطًا متلالأة تتراقص على صفحتها: - كله والله ياجاسر، سبحان من أبدع.
قبلها فوق رأسها من الخلف قبل أن يهمس بصوت أجش: - يبقى انا عندي حق بقى لو أصريت اننا نقعد هنا على طول ومانروحش أبدًا بقى.
التفت بجذعها قائلة بإجفال: - انت بتتكلم جد؟ يعني انت فعلًا عايزنا نقعد هنا على طول.
لم يجيب بل ظل صامتًا واعتلت زاوية فمه ابتسامة عابثة اثارت حنقها فعادت تعطيه ظهرها وتردد غاضبة: - بتستهزأ بيا صح؟ عشان عارفني هبلة وبصدق على طول
قبل رأسها قائلًا بحنان: - سلامتك من الهبل ياقلبي، انتِ بس طيبة ودا اللي بيعلقني ويجنني بيكِ بجد.
لانت من كلماته وخف تشنج جسدها فتابع هو: - بس إيه رأيك يازهرة؟ مش فكرة حلوة والنبي، انا وانتِ والبحر والشمس والهوا، إيه بزمتك هانعوز تاني؟
ردت زهرة: - بس الجنة من غير ناس ماتنداس ياجاسر.
لفها من كتفيها إليه لينظر في عيناها قائلَا بصدق: - بس انا مالي بالناس وانتِ جنتي يازهرة.
صمتت قليلًا وعيناها مازالت أسيرته ثم قالت: - حتى لو كنت شايفني زي مابتقول كدة، برضوا انت ليك حبايب وانا ليا حبايبي اللي مانقدرش نعيش من غيرهم، دا غير المسؤليات والشغل اللي وراك، ولا انت نسيت؟
هذه المرة كان الصمت من نصيبه هو، وقد اعادته كلماتها لواقعه، شعرت بتغير وجهه فقالت لتغير دفة الحديث وهي تلتف بجذعه لتدعوه: - سيبك من الكلام دا وخلينا نتأمل المنظر الجميل دا قبل ماالدنيا تضلم ويدخل الليل علينا.
انتقلت عيناه نحو ماتشير وتنهد من خلفها بعمق وهو يتمنى بداخله بالفعل لو يتوقف الزمان والمكان ويظل هو وهي في جزيرة وحدهم، لا يزعجهم شئ، ولا يشغلهم التفكير في المال أو ثمة شئ اَخر، فهي نعيمه الذي وجده اَخيرًا ويتمنى الا يخرج منه أبدًا.