رواية نعيمي وجحيمها الفصل الخامس عشر 15 بقلم أمل نصر
علي أقدام جدتها كانت مستريحة برأسها، بعد أن أنهكها البكاء والجدال دون فائدة معه، نفذت طاقتها ولم تعد لديها قدرة على شئ، سوى الإستكانة بحجر جدتها التي كانت تلمس على شعرها بحنان، وبجوارها كانت جالسة كاميليا التي لم تقوى على المغادرة وترك صديقتها بهذه الهيئة الغير مطمئنة، خيم الصمت ولم تعد سوى اصوات انفاسها الهادرة بالقهر مما حدث.
- مساء الخير.
هتفت صفية بالتحية بعد أن ولجت فجأة اليهم بداخل الشقة المفتوح بابها كالعادة، فاستطردت بقلق حينما لم يرد أحد وقد انتبهت لهيئتهم الغير مطمئنة: - في إيه ياجماعة مالكم؟ حصل حاجة؟
تنهدت زهرة ترفع أنظارها إليها كما فعل الجميع وتجيبها بصوت متحشرج من أثر البكاء: - إيه ياصفية؟ هو انتِ ماحدش قالك؟
- قالي إيه بالظبط؟ انا واصلة من درس الأحياء حالًا، دا انا حتى معدتش على بيتنا عشان قولت اجي اذاكر عندك هنا على طول.
قالت صفية وهي تجلس على أقرب مقعد وجدته أمامها: - أمممم
صدرت من زهرة بتهكم وكان الرد من رقية: - ابوكي سرق الفلوس اللي بعتها خالد امبارح من سفره ياصفية واداها لفهمي، سداد لدينه.
- يانهار اسود، دا حصل امتى وازاي؟ وعرف منين أساسًا؟
هتفت صفية وهي تضرب بكفها على صدرها بجزع، ردت كاميليا من ناحيتها: -اهو دا اللي حصل بقى يا صفية، والدك عرف مكان الفلوس واتسحب أخدهم من الشقة بعد زهرة ما مشيت على شغلها؟
تسائلت مرة أخرى بعدم تركيز: - أيوة بس عرف ازاي؟ دي زهرة امبارح كانت متبتة على الشنطة ونبهت ان محدش يجيب سيرة خالص و.
قطعت صفية جملتها وقد وعت اَخيرًا لموقفها، انتبهت عليها زهرة فاعتدلت بجذعها تسألها بتوجس: - انتِ اللي قولتِ قدام ابوكي ياصفية؟
نفت على الفور: - لا والله ياابلة انا بس...
- بس إيه؟ كملي يااختي واتحفيني، ماانا كان لازم اعرف من البداية ان انتِ الوحيدة اللي ممكن تطلع السر مابينا.
هتفت بها زهرة غاضبة وهي تشير بيدها على أربعتهم، ردت صفية بدمعة ساخنة: - والله ياابلة ماقولت قدام حد تاني غير أمي ودي انتوا عارفينها كويس، دي بتتمنالكم كل خير وبتحبكم.
أكملت رقية على قولها بتأكيد: - سمية بنت حلال، لا يمكن تعمل حاجة زي دي.
سألتها زهرة بحدة: - انتِ قولتي لامك امتى يابت.؟
أجابت صفية وهي تمسح بظهر يدها الدموع المتساقطة على وجنتيها: - الصبح كدة قبل ما اروح على مدرستي، بعد هو ماخرج وراح على ورشته، كنت معاها في الأوضة لوحدنا رغينا مع بعض شوية وهي بتطبق الهدوم، دا حتى البيت كان فاضي علينا واخواتي الصغيرين كانوا سبقوني على مدرستهم.
اغمضت زهرة عيناها بتعب وردت كاميليا من ناحيتها: - كدة اتفهمت ياصفية، يبقى والدك بعد ما اتخانق مع زهرة عالسلم دخل وسمعكم، ونفذ بوقتها على طول.
أجهشت صفية بالبكاء تردد بندم: - ياريت كان اتقطع لساني قبل ما انطق ولا اقول كلمة حتى.
- بس الله يخليكي انا مش ناقصة، انا فيا اللي مكفيني.
هدرت بها زهرة بعدم تحمل، فردت كاميليا ملطفة: - خلاص ياجماعة اللي حصل حصل، خلينا في اللي جاي دلوقتِ، عايزين نشوف صرفة نسدد بيها اقساط الشقة.
قال زهرة بيأس: - هانلحق امتى بس نجمع ولا نسدد ياكاميليا؟ دا احنا داخلين عالشهر السادس، يعني المطلوب هايبقى 60 الف دا اذا صاحبنا مافسخش العقد زي مابيهدد على طول.
اردفت كاميليا: - ماهي المشكلة بقى اننا في اَخر الشهر، يعني لو في أوله كنت جمعت انا أي مبلغ معاكم ونكملهم حتى لو قسط واحد نسكت بيه الراجل صاحب البيت أو السمسار دا كمان.
هتفت رقية ردًا على حديث الفتاتين: - ولا تجمعوا ولا تزفتوا، خالد راجل ويتحمل يعني لو...
قاطعتها زهرة بحدة صائحة بتهديد: - والنعمة لو عملتيها يارقية وقولتيله لكون سايبالك البيت وهاجة واحلف ما اخليكِ تشوفي وشي تاني.
تخصرت لها رقية تهتف: - نعم ياعين ياستك؟ امال عايزاني اشوفك يابت في الوحلة دي وافضل ساكتة؟ ولتكونيش ياختي هاتنطسي في عقلك وتوافقي على هباب البرك فهمي عشان تردي فلوس خالك؟ دا انا ادفنك مكانك يابت.
هزت برأسها لتنفي بتعب ولكنها أجفلت على سؤال كاميليا: - صحيح يازهرة انت مقولتليش رديتي عليه بأيه الراجل ده بعد ماعرض عليكِ العرض اللي زي وشه ده.
هزت كتفيها تجيبها بابتسامة مريرة ساخرة: - يعني كنت هاقوله إيه؟ اذا كان ابويا نفسه هو اللي غدر بيا، مشيت طبعًا من غير كلام.
ابتلعت رقية كلماتها الحادة بعد أن اللجمتها حفيدتها بالحقيقة المرة، هتفت صفية من جهتها تسألها: - هو ابن ال، عرض عليكِ إيه بالظبط؟
اجابتها كاميليا على الفور: - عرض عليها ياستي انه يرجع لها الفلوس وعليهم كمان خمسين الف زيادة في مقابل انه يبقى مهرها من جوازه بيها.
جزت صفية على أسنانها تردد بسبة: - يا ابن الكل...
- مافيش منها فايدة الشتيمة ياصفية.
تفوهت بها زهرة وهي تعود لتلقي برأسها التي ثقلت من الصداع على حجر جدتها فخاطبتها كاميليا: - طب احنا مش هانشتم يازهرة، لكن الحل ايه بقى؟
تنهدت بثقل تجيبها: - ربنا يحلها من عنده بقى؟ ومن هنا لبكرة ماحدش عارف ربنا كاتب إيه؟
- ايه دا يازهرة؟ طلب سلفة!
قال جاسر وهو يتمعن النظر في الورقة التي دستها بين الملفات أمامه، تعرقت زهرة وخرج صوتها بصعوبة من الحرج: - ايوة حضرتك، انا كنت عايزاك تمضيلي عليها النهاردة لو تسمح؟
- مش حكاية اسمح، بس دا مبلغ كبير بالنسبة لموظفة جديدة زيك.
عضت على شفتيها وهي تجاهد للتماسك أمامه في قولها: - عارفة يافندم، بس انا محتاجة المبلغ ضروري.
- ليه؟
- نعم!
اعتدل بظهره يواجها بنظراته جيدًا وهو يعيد على أسماعها بسؤاله: - بسألك عايزة المبلغ في إيه؟
اذردقت ريقها وهي مطرقة رأسها أمامه وردت بصوت خفيض: - يعني وهو انا لازم اقول واحكي يافندم؟
- طبعًا لازم اعرف السبب قبل ما امضي، ان كنتِ طلباها بسبب أزمة مالية، أو تجهيز لجواز مثلًا.
خرجت الاَخيرة من تحت أسنانه قبل أن يستطرد: - ثم متنيسش كمان انك موظفة يدوب من شهور قليلة وعلى قوانين الشركة ماينفعش السلفة غير على الأقل لما تكملي سنة.
اومأت برأسها بخيبة أمل متمتمة تستأذن للذهاب: - تمام يافندم، عايز حاجة مني قبل ما اخرج؟
تنهد قانطًا وهو يعود لعمله ويتناول أحد المستندات: - خدي الملف دا راجعيه واعمليلوا ملخص.
همت تتناوله ولكنها تفاجأت بعدم سماحه لمرور الملف من يده اليها بتشديده على إمساكه، رفعت عيناها اليه بتفسير، فأعطته الفرصة بدون قصد؛ للنظر جيدًا إلى وجهها الحزين وعيناها التي كان بها أثر احمرار من فرط بكاءها أمس مع بعض الهالات الصغيرة حولها نتيجة لسهرها طوال الليل بالتفكير في الكارثة التي حلت عليها، فسألها: - إنتِ كنتِ معيطة؟
نفت برأسها وهي تحاول سحب الملف من جديد ولكنه فاجئها بترك الملف، ليقف فجأة مقابلها يحدق بها من مستوى طوله ويُعيد إليها السؤال بقلق: - في إيه يازهرة بالظبط؟ وايه اللي مزعلك قوي كده؟
أجابت بإنكار وقد أصابها التوتر من هذا القرب المفاجئ له ورائحة عطره غطت على الهواء حولها: - لا حضرتك مافيش حاجة، ماتشغلش بالك انت.
صمت قليلًا ليزيد بداخلها الشعور بعدم الراحة قبل يردف بصوته الأجش: - انا مستعد اديكِ اللي انتِ عايزاه، بس انتِ تقولي السبب.
- سبب إيه؟
سألته وهي ترفع عيناها اليه، أجابها يومئ بذقنه نحوها: - السبب اللي مخليكِ بالشكل ده؟
ارتدت قليلًا بتوتر ثم قالت تواجهه بشجاعة: - حضرتك قولت من ثواني بس مافيش سلفة لموظفة جديدة زيي غير لما اكمل سنة، يبقى الفلوس اللي هاتدهاني، دي هاتبقى ازاي بقى؟
أجفلته بردها كالعادة فقال بهدوء مع ابتسامة جانبية: - انا مستعد اعملك استثناء يازهرة، بس انتِ قوليلي مشكلتك.
صمتت قليلًا وعيناها الجميلتان تقابل عيناه الصقرية دون الخجل الذي يعتريها كالعادة تفكر بكلماته بتأني قبل أن تجيبه بردٍ مناسب: - متشكرة جدًا يافندم على اهتمامك، بس انا ماافضلش ابدًا اني اعالج مشكلتي بإنك تستثنيني عن بقية الموظفين.
حينما لم يتحرك وظل على جموده أمامها تحركت بخطواتها تستأذنه للخروج وقد اصبح الملف في يدها: - طب انا ماشية يافندم، عايز مني حاجة تاني؟
بهزة بسيطة من رأسه أجابها بالنفي لتخرج وتتركه على وضعه، تبعها بعيناه حتى أغلقت الباب خلفها، ليسقط على طرف مكتبه جالسًا يمسح بكفه على شعر رأسه ووجهه بتفكير
بعد خروجها من مكتبه وجدت غادة جالسة أمام مكتبها.
تتأمل بأظافرها التي طلتها منذ قليل في وقت انشغال زهرة بالداخل مديرها: - صباح الخير انتِ جيتي ياغادة، ماشوفتكيش يعني من الصبح؟
قالت زهرة وهي تجلس على مقعدها خلف المكتب، اجابتها غادة: - جيت من زمان ياحبيبتي، بس انتِ اتأخرتي قوي جوا، قولت اسلي نفسي.
- غااادة خلي بالك من كلامك.
خاطبتها زهرة بتحذير، التفت اليه الأخرى برأسها تقول بمكر: - الله بقى هو انا قولت أيه يعني؟ ولا انتِ كل كلمة مني لازم تاخديها بضمير وحش؟
ردت زهرة بشبه ابتسامة ساخرة: - يعني المشكلة بقت فيا انا دلوقت ان ضميري بقى وحش؟ ماشي ياستي، المهم بقى انا كنت عايزاكي في حاجة ضروري.
رددت غادة وهي تعتدل بجلستها نحوها باهتمام: - حاجة ايه دي اللي انتِ عايزاني فيها ضروري؟
سألتها زهرة بتردد: - انا عرفت ان والدك سوى معاشه بعد ما كمل مدته في شغل الحكومة
- ايوة ياختي سوى معاشه وقعد لنا في البيت زي الست المطلقة، دي امي هاتطق من جنابها منه.
قالت غادة وهي تلوح بيدها في الهواء بنزق، اردفت اليها زهرة: - دا انا سمعت كمان انه مكافأت الشغل في المصلحة بتاعتهم بتبقى مبالغ حلوة.
- ايوة هي المكافأة كانت كويسة يعني بس طبعًا قبض المعاش قل كتير قوي على مرتب الشغل اللي كان بيقبضه كل شهر...
توقفت فجأة عن استرسالها فسألت زهرة بدهشة: - بس عجيبة يعني، دي اول مرة تسأليني!
ردت زهرة بسؤالها مباشرةً: - غادة هو انتِ ابوكي يرضى يسلفني مبلغ كدة احل بيه مشكلتي؟ وانا والله هاعمل جمعية واردلوا المبلغ كامل في أقرب وقت.
اربكتها المفاجأة في البداية ثم تداركت تردد بتبرير: - ياريت ياحبيبتي كنت اقدر اكلمه ولا اقولوا حتى، اصل ابويا دا بمية حال ومحدش يعرف ابدًا بيفكر في إيه؟
- بس عمتي تعرف، ابوكي مش بيمشي خطوة من غير شورتها، كلميها ياغادة ولا اَجاي انا اكلمها بنفسي، ابويا خد الفلوس اللي بعتها خالي لاقساط شقته وراح سد بيها دين فهمي، خليها توقف معايا والنبي، شقة خالي هاتروح مني.
قالت زهرة كلماتها برجاء وكان رد الأخرى مصمصمة بشفتيها تدعي الحزن قبل أن تجيبها باصطناع: - ياعيني عليكِ يابنت خالي، دا انت واقعة في مصيبة على كدة، بس ياريت والنبي كنا نقدر نساعدك، ما انا نسيت اقولك، ابويا بعد ما سحب الفلوس من شغله راح بيهم دوغري واداهم لواحد صاحبه هايعمل معاه مشروع، اهو يشغل نفسه بدل مايناكف في أمي ويقرفها.
- يناكف في امك ويقرفها!
رددت زهرة بعدم تصديق وهي تتمتم بداخلها: - دا يتعملوا تمثال اساسًا في التناحة والجلد التخين من كتر التهزيق اللي بياخده منها، على العموم انا كنت عارفة من الأول ان مافيش رجا منك ولا من امك، قال يا مستني السمنة من بطن النملة!
وفي عملها كاميليا وبعد انتهائها من اجتماع مهم بانصراف الوفد الضيف والقادم من شركة على وشك التعاون معهم. زفرت بتعب وهي تلقي نظارتها على سطح الطاولة الجالسة عليها، تفرك بأطراف أصابعها على جبهتها من الإرهاق.
- ايه مالك؟ هو انت تعبتي ولا ايه؟
سألها طارق بعد أن عاد للجلوس أمامها، أجابته وهي تريح رأسها على كف يدها المستندة على الطاولة امامها: - بصراحة هاموت، انا كان هاين عليا اسيب الإجتماع واهرب واسيبكم.
- مدام تعبانة كنت عملتيها بجد، تيجي على نفسك ليه يعني؟
ردت وهي تفتح عيناها اليه جيدًا: - دا بجد بقى ولا هزار.
- لا والله ما هزار انا بتكلم جد، هو البني ادم يملك ايه تاني غير صحته عشان يضحي بيها يعني؟
قال بصدق وصل اليها فاأجابته بابتسامة مشرقة: - مرسي ياسيدي متشكرين على زوقك.
راقه ابتسامتها الصافية على وجهها الجميل ولون القهوة بعيناها وهو يتحقق من لونهم لأول مرة عن قرب، فقال ليجلي رأسه من الأفكار التي طرأت فجأة بها: - هو انا ممكن أسألك عن سبب تعبك والأرهاق الشديد اللي باين على وشك؟ اصل دي مش عوايدك بصراحة؟
وعلى عكس المتوقع أجابته: - بصراحة هي مش مشكلتي انا، هي مشكلة واحدة صاحبتي، أو بالأصح هي مصيبة مش مشكلة.
- ياه لدرجادي؟
- وأكتر من الدرجادي كمان، الخيانة لما تيجي من اقرب الناس إليك بتقسم الضهر، خصوصًا لما يكون الشخص ده المفروض يكون هو السند او الركن الحنين اللي ممكن ترمي حملك عليه بقلب مليان، يطبطب عليك وقت جرحك ويقويك.
قالت كلماتها الاَخيرة بشرود لفت انتابهه، فسألها بفراسة: - هو انتِ تقصدي راجل ولا ست؟ اصل انا حاسك بتتكلمي عن الاتنين.
اجفلت تتدارك نفسها وتعتدل بجلستها وهي تتناول نظارتها مرة اخرى جعلته يصيح بداخله معترصًا كارهًا إخفاءها للون القهوة، فقالت بجدية: - كنت عايزة أسألك يعني لو تعرف، عربيتي دي لو حبيت ابيعها تجيب كام، اصل انا اشتريتها تقسيط ومعرفش التمن الأصلي.
قطب يسألها بدهشة: - ولما انتِ اشترتيها تقسيط، عايزة تبيعها ازاي بقى قبل ما تخلصي اقساطها؟
أجابته بابتسامة مرتبكة: - يعني انا بسألك عشان لو حبيت ابيعها عشان اجيب غيرها، هاتعرف تقدرها؟
مط بشفتيه مرددًا بتفكير: - مش عارف بصراحة، لأني مجربتش النوع بتاعها، بس ممكن اسأل ناس اصحابي واشوف واقولك.
في وقت استراحة الموظفين، خرجت زهرة لتجلس بداخل كافتيريا الشركة بركن وحدها بجوار النافذة الزجاجية الكبيرة، تتأمل الأشجار الخضراء أمامها وعقلها يسبح في العديد من الأفكار لحل لهذه المعضلة: - مش بعادة يعني تقعدي لوحدك من غير غادة.
ارتفعت عيناها اليه وقد علمته من صوته، ردت بابتسامة: - لا ما احنا حبينا نغير بقى، اقعد ياعماد انت محتاج عزومة؟
جلس على الفور وسألها: - شكلك متغير، هو انتِ في حاجة مزعلاكي يازهرة؟
رددت بابتسامة متوسعة رغم الحزن الذي سكن داخلها: - هو باين عليا اوي كدة؟
- باين جدًا يازهرة، حتى لو خبيتي وداريتي بابتسامتك.
اومأت برأسها قبل أن ترتشف من فنجانها، فتابع: - فكي يابنتي وسيبي حمولك على الله، قادر ربنا يحلها.
قالت بابتسامة مشرقة: - انت طيب قوي ياعماد.
ردد خلفها: - مش أطيب منك يازهرة، انتِ ربنا ميزك بالاتنين، حلوة من جوا ومن برا.
حاولت تخفي ابتسامة خجلة فضحها تورد وجهها، وهي تتهرب من نظراته بارتشافها من القهوة باللبن، طلبها الدائم.
نهض فهمي من جلسته على القهوة التابعة له، بعد أن نبهه احد صبيانه عن وجود من يسأل عليه بزاوية قريبة من القهوة، تمخطر بخطواته وهو يتحقق من الجسد الصغير والتي كانت تتلفت يمينًا ويسارًا بتوتر قبل ان تنتبه لوجوده فانتفضت تلاقئ من ضخامة جسده وهيئته الإجرامية قبل ان تتدارك نفسها أمامه وقالت: - انا اللي كنت عايزاك ياعم فهمي.
رد فهمي بابتسامة ساخرة: - نعم يابيضة، وكنتِ عايزة عمك فهمي في ايه بقى؟
ابتعلت ريقها تشجع نفسها وهي تحاول تذكر الكلمات التي ظلت تحفظها طوال الليل عسى أن يرق قلب الحجر.
- طبعًا انت عارفني ياعمي، ماانت ياما جيت بيتنا قبل كدة، والنبي وحياة غلاوة اغلى حاجة عندم، رجع الفلوس اللي بعتها خالد لاختي، دي الشقة هاتضيع منه والله.
ضحك بدون صوت وهو يحدق بها بنظراته الوقحة يجيبها: - طب ما انا عايز ارجعها ياعسل، بس اختك هي اللي مش راضية، ماتقنعيها ياقمر مدام انتِ كدة عاقلة وشاطرة، ولا اقولك، ماتيجي انت ياصغنن، حكم عمك يحب يرم جسمه برضوا بالبدارة.
تسمرت صفية تنظر بصدمة من وقاحة الرجل التي تعدت الحدود، حتى أجفلت على صيحة من خلفها باسمها، التفت الى شقيقتها التي كانت واقفة بوسط الشارع بوجهها الغاضب، تشير اليها بكفها، هرولت على الفور اليها تترك هذا البغيض الذي ردد من خلفهم بصوته العالي: - ااه ياني ياما، طب اختار مين فيهم ياجدعان دلوقتِ، الوظوظ الصغنن، ولا الوحش اللي مطير النوم من عيني ليلاتي؟
هتفت زهرة فور ان ادخلتها الى داخل المنزل معها وهي تدفعها بعنف امام نظرات رقية الجالسة بوسط الصالة كعادتها في هذا الوقت.
- انتِ اتجننتِ يابت؟ واقفة مع فهمي في نص الشارع وبتتكلمي وتتحاكي معاه كمان؟
ردت صفية بتوتر وندم: - امال اعمل ايه ياعني وانا شايفاه بيشتري ويبيع فينا؟ افضل ساكتة وانا السبب في كل اللي حصل؟ قولت اكلمه يمكن قلبه يحن.
- ها ياختي وقلبه حن بقى على كلامك؟
سألتها زهرة ساخرة فردت صفية تنفي برأسها: - لأ طبعًا دا عاكسني وقالي اتجوزيني كمان.
- قال ايه ياختي؟
هتفت عليها زهرة وهي ترفع بقبضتيها في الهواء، تجاهد للتحكم في انفعالها معها ثم، مالبثت أن تدفعها من أمامها وهي تتجه نحو غرفتها مغمغة بالكلمات: - انا لازم اشوف صرفة، لازم اشوف حل النهاردة.
سقطت صفية بجوار رقية التي لكزتها بقبضتها: - ارسي على حيلك بقى وبطلي عمايل العيال بتاعتك دي، مش كل الناس عبيطة زيك!
وإلى زهرة التي تسمرت بجوار خزانة ملابسها بعد أن اخرجت سلسال والدتها الحبيبة من الصندوق القديم، تنظر اليه بحسرة، وقد اجبرها الظرف المقيت لبيعه، عسى بالمال الذي سيأتي من خلفه، ان يساهم بحل جزئي لمشكلتها.
- كان نفسي احافظ عليك عشان من ريحة الغالية لكن اعمل ايه بقى؟ سمحيني ياامي.
تفوهت بها بقهر المغلوب، على أمره.
ترجلت من سيارة الأجرة التي أوقفتها سريعًا فور ان رأت الرجل المقصود أمامها خارج من البناية التي بها مكتبه، يتحدث مع الحارس قبل أن يتوجه لسيارته.
- أستاذ ماهر، لو سمحت استنى.
التفت على مصدر الصوت الرجل قبل أن يهم يفتح باب سيارته، ينتظر قدومها بنظرات متفحصة خلف النظارة الشمسية، اقتربت زهرة تحدثه بلهاث نتيجة عدوها السريع نحوه: - الحمد لله اني لحقتك، خوفت لا محصلكش زي امبارح.
- أهلًا يااَنسة زهرة، يارب تكون جيتك على خير المرة دي.
تفوه بها الرجل الأربعيني بلهجة ممتعضة وصلت لزهرة التي ابتعلت ريقها تخاطبه بحرج: - خير ان شاء الله ياأستاذ ماهر، انا بس عايزاك تفهمني الأول.
اومأ لها بكفه معترضًا: - لا عايز اسمع ولا عايز افهم، هي كلمة وبس، خالك اللي قاعد يتمرمغ في فلوس الخليج، افتكر العبد الغلبان في الأقساط اللي عليه ولا لأ؟
- والله بعت قسط خمس اتشهر اول امبارح وجيتلك هنا عشان اسددهم حتى اسأل الساعي بتاعك، بس انت بقى مكنتش موجود.
قالت زهرة بلهجة مترجية فعاجلها بطلبه: - ياستي واديني جيت وقدامك أهو، فين بقى الفلوس؟
عضت على شفتيها تردد بهمس: - للأسف الفلوس اتسرقت.
ردد خلفها بغضب: - نعم! ولما هي اتسرقت بقى جايلي ليه اَنسة؟ ولا دي حجة جديدة للتأخير تاني؟ لأ بقى بقولك ايه ماتزعليش مني لما افسخ من بكرة، انا كدة عداني العيب يابنت الناس، عن اذنك بقى.
- استنى والنبي يااستاذ ماهر واسمعني؟
هتفت بها وهي توقفه حتى جذبته من مرفقه بدون قصد، فالتف اليها برأسه بنظرة مذهولة جعلتها تتدارك نفسها لتنزع يدها سريعًا مردد باعتذار: - انا اَسفة معلش، هما كلمتين بس عايزاك تسمعهم مني.
نزل بعيناه نحو كفها التي تشير بها فسألها بغموض: - كلمتين ايه بالظبط اللي عايزاني أسمعهم؟
اجابته ببرائة غافلة عن عيناه المتخفية تحت النظارة التي تغيرت بها النظرة اليها: - انا جايالك النهاردة عشان اعمل معاك اتفاق يااستاذ ماهر، وطمعانة في كرمك ان توافق عليه.
تحمح يجلي حلقه ليهتف على حارس البناية وهو يرفع بيديه حزام بنطاله الذي يتساقط دائمًا مع تهدل كرشه في الأمام: - عبد السميع خلي بالك من العربية على ما اطلع شوية كدة اتفاهم مع الاَنسة في مكتبي.
اومأ له الرجل بالإيجاب وهو يرتشف من كوب الشاي خاصته يجيبه بلهجة غير مفهومة: - انت تؤمر يابيه.
- هو انا هاطلع معاك المكتب دلوقتِ؟
سألته باستفسار، أجابها بانفعال: - امال عايزانا نتفاهم في الشارع يااَنسة ولا ايه؟ انا مافياش حيل للوقفة كتير.
اومأت برأسها رغم قلقها وسارت خلفه تتبعه للصعود على الدرجات القليلة المؤدية لمكتبه في الطابق الأرضي.
تبعتهم نظرات حارس المبنى الذي كان يمصمص بشفيته بعدم رضا.
بعد قليل.
كانت جالسة أمامه تشرح وهي تضع المبلغ الذي بيدها على سطح المكتب: - دول سبعة الاف وبعد بكرة ان شاء الله هاجيبلك من القبض 3 الاف، كدة يبقى كملنا قسط واحد والباقي ان شاء الله هاتصرف فيهم واجيبهم.
- وانتِ بكدة هايبقى حليتي ايه يااَنسة؟ ما هو بعد بكرة هانكون دخلنا في الشهر الجديد، يعني هايبقوا ست اتشهر، وهايفضلوا برضوا الخمسين الف جنيه.
سألها باسترخاء وهو جالس بأريحية على مقعده خلف المكتب، أجابته برجاء: - ماانا بقولك هاحاول اتصرف ان شاء الله، انا بس مش عايزاك تفسخ العقد وتضيع الشقة من خالي، دا احنا مصدقنا.
- هو خالك عارف بالكلام ده؟
هزت برأسه تنفي سريعًا في إجابة عن سؤاله، فصمت قليلًا ينظر نحوها بوجه مغلف وهي تنتظر إجابته على أحر من الجمر ثم مالبث أن يقول: - بصراحة يااَنسة انتِ صعبتي عليا قوي بعد كلامك ده، بس دي فلوس ناس وانا اَخري وكيل عن صاحب العمارة، يعني مش عمارتي انا شخصيًا، بس ااا.
- بس إيه؟
سألته بلهفة بعد أن أصابتها كلماته بالأحباط وخيبة الأمل، نهض عن كرسيه بخطواتٍ متمهلة حتى وصل ليجلس مقابلها امام المكتب، اردف بصوت خفيض: - بس انا ممكن اتفاهم مع الراجل بأي حجة عشان خاطرك...
نهضت منتفضة عن مقعدها فور ان امتدت كفه لتربت على ركبتها فسألته بأعين نارية غاضبة: - في إيه؟
ردد متصنعًا عدم الفهم وهو ينهض خلفها: - يعني هايكون في إيه بس يااَنسة؟ انا بس بحاول اخفف عنك، ثم انتِ قولتِ هانتفاهم؟
- انا قولت هانتفاهم وقولتلك عاللي في إيدي، يعني مش قصدي حاجة تانية ليكون فكرك يروح لبعيد.
هتفت بها بحزم لم يؤثر فيه، فقال ببرود: - وانا احترمتك يااَنسة زهرة طبعًا، ومستعد كمان اديكي دلوقتِ حالًا وصل شهرين مش واحد، وابقى وفرت عليكِ 10 الاف جنيه زيادة، ايه رأيك بقى؟
فغرت فاهاها ورأسها تتحرك بعدم تصديق وقد تأكد ظنها من هذا الرجل.
- اما صحيح راجل خرفان ومجنون.
هتفت وهي تتحرك بخطواتها نحو باب الغرفة، ولكنها تفاجأت به يعترض طريقها بجسده البدين يردد
- جرا إيه ياعسل ماتبقيش طماعة، هو انتِ عايزاني اتنازلك عن كام شهر بالظبط؟
حاولت جاهدة للتماسك وعدم البكاء أمامه وهي تحاول للهروب منه حتى وصلت لباب الغرفة حاولت الفتح بتحريك قبضته ولكن لا فائدة، صرخت بجزع: - انت قافل الباب بالمفتاح ولا إيه؟
ضحك بسماجة لا تليق بالموقف: - لأ طبعًا ياغزال دا عيب في الباب نفسه، ليكي عليا من بكرة اجيب النجار يصلحه، بس تعالي دلوقتِ والنبي
قال الاَخيرة وهو يندفع بجسده ليهجم عليها فقفزت تبتعد عنه مستغلة خفتها وثقل حركته، وتناولت أول شئ تطوله يداها من على سطح المكتب، فصاحت مهددة بقلب يقفز بين اضلعها كأرنب مذعور: - اقسم بالله لو ما اتحركت وفتحت الباب لكون فاتحة دماغك باللي في إيدي دي.
ردد مقهقهًا: - هاتفتحي دماغي بدباسة الورق يخرب عقلك ياشيخة، تعالي يابنت الناس وليكي عليا اضحيلك بشهر تالت كمان، بس خلاص بقى ماتتعبيش قلبي.
حينما وجدت انه لافرصة للنجاة مع هذا القبيح تركت مابيدها وتوجهت نحو النافذة، لتفتحها بنية صادقة تهدده بعد أن صعدت اليها بفضل الكنبة الجلدية أسفلها: - خطوة تاني هاتتحركها واكون رامية نفسي في الشارع وجيبالك مصيبة وعليا وعلى اعدائي.
- ايه ده ايه ده هو انتِ بتتكلمي جد ولا إيه؟
اردف بها وهو يتقدم بخطوته فصرخت هي بصوت عالي توقفه: - بقولك اوقف مكانك وافتحلي الباب لارمي نفسي من الشباك حالًا دلوقتِ.
وقبل ان ينبت ببنت شفاه اندفع الباب فجأة بدفعة كبيرة من الخارج أدت لكسره، ودلف منه رجل ضخم الجسد يهجم عليه و يقيد حركته وهو يغمغم بالكلمات المنددة والمندهشة: - انت مين ياجدع انت؟ واذا تقتحم المكتب من غير احم ولا دستور كدة؟
شهقت زهرة بعدم تصديق وقد علمت بهوية الرجل والذي كان إمام حارس مديرها في العمل رغم تعجبها لحضوره، لتجفل منتفضة على صيحة غاضبة غفلت عن صاحبها الذي كان واقفًا على مدخل الباب في غمرة فرحتها بنجدتها: - هاتفضلي واقفة عندك كتير؟ اتحركي وابعدي عن الشباك.
تسمرت محلها تنظر اليه باذبهلال ليُفيقها بصيحة أقوى بوجهه الذي توحشت ملامحه: - اخلصي ياللا وتعالي من عندك.
علي الفور تحركت مسرعة تهبط من الكنبة الجلدية حتى اقتربت لتفاجأ به وهو يقبض على كفها ليقربها منه اكثر ويرمقها بنظرة نارية قبل أن يتجه بأنظاره الى حارسه الشخصى الذي سأله: - اعمل في إيه دا ياباشا؟
أجابه بقوة: - اكسرله ايده، عايز اسمع صوت ايده وهي بتتكسر.
وقبل أن تستفسر عن ماسمعته فوجئت بصرخة عاليه من الرجل مترافقة بصوت كسر العظام الذي سمعته حقًا مما جعل غمامة سوداء تلفها لتسقط مغشي
الفصل السادس عشر من هنا