رواية نعيمي وجحيمها الفصل الرابع عشر 14 بقلم أمل نصر
تقود سيارتها وصوت ضحكاتها التي لا تتوقف تكاد تصل للمارة في الشارع، حتى انها كانت تضرب بكفيها على عجلة القيادة من فرط مرحها، مما اضطر زهرة التي كانت تشاركها الضحك للكزها بمرفقها على خصرها حتى تنتبه للطريق: - يابت بس الله يخربيتك هاتودينا في داهية.
- مش قادرة والنعمة ماقادرة ههههههه.
لكزتها مرة أخرى قبل ان تيأس منها وتوجه نظراتها نحو النافذة، وبعد أن هدأت كاميليا قليلًا خاطبتها: - ماتزعليش مني لو كنت غلست عليكِ، بس بجد انا مش قادرة، جيبتي منين الجرأة دي يازهرة؟ ومع مين؟ مع جاسر الريان؟
أجابتها زهرة بابتسامة شقية: - والله مااعرف اهي جات كدة بقى، بس كمان هو خنقني بإصراره انه يعرف رايحة فين؟ وانا بقى دبيت الجملة وانا بايعة بصراحة، يطردني بقى يقعدني، براحته.
ردت كاميليا وهي تضحك بمكر: - بعد اللي قولتيه دا ياحبي، لايمكن اتوقع انه يطردك، بقى جاسر الريان ياناس، يسمح لموظفته انه تتحداه كدة، دي حاجة ولا في الخيال.
خبئت ابتسامة زهرة وهي تسألها بارتياب: - تقصدي ايه ياكاميليا بكلامك ده؟
أجابتها كاميليا بابتسامة: - بصراحة مش عارفة، بس انا اسمع يعني عن المثل اللي بيقول، حبيبك يبلعلك الزلط.
- حب ايه وكلام فارغ ايه انتِ كمان؟ قفلي عالسيرة دي ياكاميليا قفلي.
قالت زهرة وقد تغير لون وجهها وشحب، ردت كاميليا التي انتبهت لها: - خلاص ياستي هاقفل ولا تزعلي.
زهرة بتردد: - مش حكاية ازعل، بس انا مصدقت اني خلصت من الموضوع ده، مش عايزة افتح فيه تاني.
ابتعلت كاميليا كلماتها حتى لاتزعجها، وفضلت تغير مجرى الحديث: - طب ايه؟ احنا وصلنا المنطقة اللي انتِ قولتي عليها، مكتب الراجل السمسار دا فين بقى؟
أجابتها زهرة وهي تشدد بذراعيها على حقيبة النقودة الموضوعة بحجرها: - اخر الشارع ياكاميليا، هتلاقي يافطة كبيرة اوي مكتوب عليها باللون الأخضر اسم السمسار ماهر بركات.
قادت قليلًا كاميليا حتى وصلت للعنوان المذكور، فوقفت بسيارتها امام البناية التي معلق عليها اليافطة، ترجلت هي وزهرة التي كانت تحتضن في حقيبة النقود بتخوف، حينما دلفن الى داخل المكتب وجدن الساعي فقط أمامهم ينظف أرضية المكتب، سألته زهرة: - السلام عليكم، استاذ ماهر بركات موجود؟
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لا حضرتك، ماهر بيه خرج مع زبون من شوية.
كان رد الساعي، سألته زهرة بتوجس: - طب وهايرجع امتى، انا عايزاه ضروري.
- والله حضرتك معرفش هايرجع امتي، بس هو مدام اتأخر كدة يبقى أكيد بيفرج الزبون على اماكن تانية وممكن يستنى مايرجعش المكتب تاني النهاردة.
- يعني مافيش فرصة انه يرجع النهاردة؟
سألته كاميليا فكان رد الرجل بضحك: - والله حضرتك لو عايزة انتِ والاَنسة تستنوا براحتكم، بس انا مضمنش بقى انه يجي مدام اتأخر كدة.
تبادلت الفتاتين النظرات بإحباط، قبل أن يغادرن بيأس.
في طريقهم للعودة للمنزل خاطبتها كاميليا: - خلاص يازهرة، النهاردة بكرة واحدة يعني مفرقتش.
ردت زهرة بحزن: - لأ فرقت، عشان انا كنت عايزة افش غلي دلوقتِ وارميهم في وشه ابن الورمة ده، بعد ما هددني اَخر مرة انه هايفسخ عقد الشقة لو اتأخرنا أكتر من كدة.
عادت كاميليا للضحك مرة أخرى مرددة لها: - بقيتي شرسة أوي انتِ يازهرة ومعندكيش صبر، طب ما احنا نيجي بكرة ان شاء وبرضوا نرميهم في وشه، زعلانة ليه بقى؟
- زعلانة عشان هاستغلك واتعبك معايا تاني، ماهو انا بصراحة ماينفعش انزل بالشيلة دي في الموصلات، الواحد مايضمنش.
قالت زهرة ببعض الحرج، وردت كاميليا بترحاب: - ياستي استغلي براحتك وانا موافقة، هو انا جايبة العربية وبدفع اقساطها اللي بالشئ الفلاني دي كل شهر ليه بقى؟ عشان ابات فيها مثلًا؟
- طب والمصيبة اللي على رجلي دي هاعمل فيها إيه من هنا لبكرة وانا عندي شغل بكرة الصبح.
سألتها زهرة بحيرة، أجابتها كاميليا بلهجة مطمئنة: - يابنتي سيبيها في البيت وانا هعدي عليكي بعربيتي أخدك من الشغل على بيتكم، تسحبي الشنطة وبعدها نروح عالسمسار على طول نخلص.
تنهدت زهرة قائلة بامتنان: - ريحتي قلبي بكلامك ده، ربنا يريح قلبك ياكوكو وتتجوزي اللي انتِ بتحلمي بيه؟
رددت خلفها كاميليا وهي تتنهد بابتسامة حالمة: - يارب يااختي يارب.
طلبتها للجواز كدة على طول من غير مقدمات؟ طب كنت جرب الأول الطرق الودية، يمكن كانت لانت معاك من غير جواز أصلًا.
سأله طارق بدهشة وهو جالس معه أمام بار المشروبات في الملهي الليلي، رد جاسر بنزق وهو يرتشف من كأس المشروب الذي بيده: - زهرة محترمة ماينفعش معاها أي طريق تاني غير الحلال.
- ياسلام طب أهي رفضتك ياناصح، دي تلاقيها خدتها فرصة وقالت تطمع فيك.
ردد جاسر ردًا على كلمات صديقه.
- تطمع في إيه؟ دي قدمت طلب استقالة وكانت عايزة تسيب الشغل.
- كمااان!
اردف بها قبل أن يرتشف من مشروبه هو الاَخر، ثم قال بتفكير وهو يستوعب كلماته: - دي جريئة أوي بقى انها ترفض جاسر الريان ذات نفسه، هي تطول واحد زيك أساسًا يبصلها؟
رمقه جاسر بنظرة حانقة قبل يرد بابتسامة جانبية ساخرة: - زهرة مش جريئة أساسًا على فكرة، بالعكس بقى دي بتخاف من خيالها، بس بقى هي دماغها ناشفة حبتين وتفكيرها مختلف شوية.
- طب وانت تتعب نفسك معاها ليه؟ اقبل استقالتها وريح دماغك.
تنهد بثقل وهو ينظر لكأسه صامتًا لعدة لحظات وانتبه عليه طارق الذي كان يحدق بهِ بتفكير، ثم قال باقتضاب: - مش قادر ياطارق، مش قاااادر.
هم ليرد طارق ولكن أوقفه ظهور إحدى الفتيات من عاملات الملهى وهي تتقرب منهم بملابسها العارية وابتسامة لعوب على شفتيها توقفت فجأة من نظرة مخيفة رمقها بها جاسر، قبل أن يشير لها بسبابته فارتدت هاربة من أمامهم.
ردد طارق الذي تابع ذهاب الفتاة بأسى: - يخرررب عقلك حرام عليك طفشت الرزق، إيه ياأخي؟ هي البت لحقت تتكلم حتى؟ طب نديها فرصتها، يمكن تطلع كويسة وتنسيك البت اللي شاغلة تفكيرك دي.
اومأ بذقنه جاسر قائلًا بازدراء: - انتِ عايزة دي، تنسيني زهرة؟
قطب طارق يقول بابتسامة مندهشًا: - غريب أوي انت ياصاحبي، مرة تبقى زير نسوان، كل يوم مع واحدة شكل، ومرة تكرهم مرة واحدة وبعدها ترجع مصمم على واحدة بس، وكأن متخلقش غيرها؟
رد جاسر بجدية: - اولًا انا عمري ما كنت بتاع نسوان وانت عارف كدة كويس، دي كانت فترة وعدت بعد ماخفيت ورجعت للحياة بعد الحادثة، اما بخصوص زهرة...
صمت قليلًا بتفكير ثم استطرد: - مش عارف بصراحة الاَقي تفسير للي بيحصلي بمجرد مااشوفها، عندي رغبة قوية إني امتلكها ومتبقاش لراجل غيري، أي همسة منها بتقتلني من جوا.
قطب طارق مرة اخرى يتفحصه باندهاش والاَخر تابع بشرود: - عليها ابتسامة بتحرق قلبي لما اشوفها بتوجها لحد غيري، ضحكتها من يوم ماسمعتها وانا بعيد تكرارها في عقلي ليل ونهار من روعتها، كل حاجة فيها بت...
قطع كلمته يتوقف عن استرساله وقد استفاق اَخيرًا، ليجد صديقه يحدق بهِ مضيقًا عيناه بتركيز ويخاطبه: - كمل ياجاسر، وايه تاني؟
- أكمل ايه تاني انت كمان؟ هي حكاية؟
قال جاسر بدفاعية مرتبكًا، أجفله طارق يسأله: - انت متأكد ان اللي حاسس بيه تجاه البنت دي مجرد رغبة؟
ارتبك أكثر فنهض عن كرسيه فجأة قائلًا بتوتر: - انت باينك متقل في الشرب وبتخرف وانا معنديش وقت ليك ياعم، سلام.
تفوه بكلماته وذهب على الفور أمام نظرات صديقه الذي ظل صامتًا يتتبع أثره حتى خرج من الملهى.
وعند محروس الذي اللتزم مكانه بداخل المنزل ولم يعد يخرج سوى للعمل، بعد تهديد فهمي له وعصيان ابنته الذي يعلم تمام العلم، أنه لو ضغط عليها سوف تتجه لخالها حامي الحمى دومًا لها، بالإضافة لخطيبته المحامية أو شقيقها رجل الأمن، ضرب جبهته بيأس وحيرة، وصداع رأسه يكاد يفتك بها، لا يعلم ما الحل القريب لهذه المعضلة، كان يجب عليه أن يتروى قبل أخذه المال، ولكن كيف كان سيفعلها ورؤيته للمال الذي وضعه فهمي أمامه ليضغط على نقطة ضعفه وحاجته اليه، شلت عقله عن التفكير، كيف يرفض واحتياجات رأسه من المكيفات أصبحت متوفرة فجأة وبكثرة، كيف سيرد لفهمي مبلغه الاَن والذي تحصل عليه من الزبائن وتداين به لأصدقائه لا يكمل العشرة الاف؟ كيف سيقنع ابنته لترحمه من هذا الذل بموافقتها على فهمي؟ هو يعلمها جيدًا، على قدر رقتها وهشاشتها فإنها تملك رأسٍ عنيدة كالثور، ولكنها طيبة فليعمل على هذه النقطة ويحاول معها من جديد.
في صباح اليوم التالي تفاجأت به زهرة وهي تهبط الدرج كي تذهب الى عملها، واقفًا أمام باب شقته وعيناه للأعلى، كأنه في انتظارها، القت عليه التحية بتردد كي تتخطاه وتذهب: - صباح الخير.
- صباح النور، هاتمشي وتسيبي ابوكي في المصيبة اللي واقع فيها يازهرة.
ردد بتعجل كي يوقفها، فالتفت اليه ترد من تحت أسنانها: - ياصباح ياعليم يارزاق ياكريم، يعني عايزني اعملك ايه بقى؟ هو انا اللي كنت وقعتك في المصيبة اللي انت بتقول عليها دي؟
قال بمسكنة: - لأ ماوقعتنيش، بس انا لما وافقت على فهمي كان غرضي انك تتستري مع واحد غني، يريحك من الشقا، وقبلت بفلوسه مهر عشان اجهزهك، بعد ما اسدد ديوني واشغل ورشتي من تاني.
ردت زهرة وهي تجاهد لضبط النفس: - برضوا مش فاهمة، انا ايه دخلي بوقعتك مع فهمي؟ انت عارف من الأول اني مابطيقهوش ولا اطيق سيرته، تقبل ليه تاخد فلوسه؟
- مالكيش دخل وانا غلطت ياستي، بس اهو دلوقتِ ماسكني من إيدي اللي بتوجعني، دا ممكن يخلص على ابوكي واخواتك يتشردوا يازهرة، يرضيكِ يابنتي؟
التمعت عيناها وهي تحدق به صامتة بحزن، فقد استطاع ان يجد مدخله أليها، ثم ما لبثت ان ترد قائلة بأسى: - كان نفسي اساعدك والله، بس بصراحة مقدرش، سامحني يابويا.
القت بكلمتها الاَخيرة وتحركت تهبط بقية الدرجات مسرعة من أمامه، تخفي عنه سيل دمعاتها على وجنتيها بحزن يعصر قلبها.
تابعها بعيناه وهي تغادر، يجز على اسنانه من الغيظ.
- حتى حياتي هانت عليكِ يابت ال، ماشى يازهرة، ماشي.
ارتد ليعود داخل منزله يتناول وجبة فطوره قبل الذهاب للورشة ولكن استوقفه هذا الحديث الدائر بين صفية ووالدتها داخل غرفتها: - والله ياماما زي مابقولك كدة، الشنطة كانت متعبية بالفلوس اللي سحبتها زهرة من البنك امبارح، دا انا اول مرة اشوف رزم الورق الجديدة وريحتها اللي تشرح القلب، ميات كلهم والورقة فيهم تجرح الطير زي ما بيقولوا.
- والله يابنتِ مافيش حاجة بعيدة عن ربنا، خالد تعب وكبر قوي على ماقال ياجواز، ربنا يقرب البعيد ويتجوز زميلته المحامية دي قريب بقى، قادر ياكريم.
قالت سمية، ورددت من خلفها ابنتها بلهفة: - ان شاء الله ياماما السنة دي يخلص اقساط الشقة، زهرة بعد ماترجع من شغلها النهاردة هاتسدد اقساط خمس اشهر يعني خمسين الف جنيه، يبقى كدة سدد نص تمن الشقة والنص التاني هايبقى حاجة هينة ان شاء الله، ياما نفسي احضر فرحه في قاعة زي اللي بنشوفها في التليفزيونات كدة ياماما، دا هايبقى حلو قوي جمب مراته اللي زي القمر دي.
اكتفى بهذا القدر محروس وخرج على الفور بخفة كما دلف بخفة، يسوقه شيطانه، غير عابئ بشئ سوى نجاة نفسه!
ينظر الى سيده الذي يقلب في اوراق الملف الذي أمامه ويقرأ فيها بتركيز، وعدد من الأسئلة الملحة داخل رأسه، يريد إجابتها.
- هي دي كل المعلومات اللي عندك؟
سأله جاسر باهتمام، اجاب كارم: - حضرتك دي معلومات سريعة جمعتها بعد ماطلبت حضرتك مني امبارح.
- ابوها شغال منجد! يعني إيه؟
اجاب كارم على سؤال سيده بابتسامة: - منجد حضرتك، دا يبقى الصناعي اللي بيعمل مراتب القطن وكنب الصالون وحاجات شبهم.
- يعني راجل كويس؟
ردد كارم بابتسامة متوسعة: - كويس دا ايه بس ياباشا؟ دا راجل برشامجي وبيمشي بس بكيفه، بنته اساسًا متربية مع خالها وستها بعد ما والدتها ما اتوفت واتجوز غيرها.
اومأ برأسه يستوعب الكلمات واستطرد كارم: - انا شوفت البيت اللي ساكنينه، حاجة بجد مؤسفة، قديم قوي واَيل للسقوط، تقريبًا المباني اللي في الحارة كلها اَيلة للسقوط، بس هو انت يعني شاكك في حاجة ياباشا؟
- حاجة إيه اللي اشك فيها؟
سأله جاسر بعدم فهم، رد كارم باضطراب: - قصدي يعني في سلوك البنت أو سيرتها...
- ماتكملش ياكارم احسنلك.
اجفله بمقاطعته الحادة مما اثار الريبة بداخله، أكمل جاسر باعين تقدح شررًا: - انا لو شاكك فيها مش هاشغلها عندي أساسًا، ثم دي حاجة تخصني، و انت من امتى بتسأل ولا تتدخل في أي حاجة بطلبها منك؟
- اَسف ياباشا.
اعتذر بأدب، تقبله جاسر واستطرد بأمر سلطوي: - عايز معلومات تانية أكتر من كدة، وطبعًا مش عايز أنبهك عالسرية.
خرج كارم من مكتبه وتوجهت عيناه على زهرة يخاطبها بزوق وهو يخطو بتمهل: - عاملة ايه يازهرة النهاردة؟
اجابته رغم دهشتها: - الحمد لله كويسة، متشكرة يااستاذ كارم عالسؤال.
- لا شكر على واجب ياستي، الباشا جوا طالب الملفات اللي قالك عليها من شوية.
قال كارم بابتسامة وهو يومى بسبابته للخلف، ردت وهي تنتفض من جلستها تتناول الملفات المطلوبة: - تمام ياكارم وانا جهزتهم، حالًا داخلة بيهم.
- ربنا يعينك.
تفوه بها وخرج على الفور، مما جعل زهرة تنظر في اثره لعدة لحظات بدهشة
بعد قليل وحينما دلفت اليه بداخل المكتب وبيدها عدد من الملفات لتضعها أمامه بعملية، كان بجلسته على كرسيه لا يفعل شئ سوا النظر اليها، ويده تتلاعب بالقلم الجديد.
- عايز حاجة تاني يافندم؟
صمت قليلًا وعيناه لا تُحيد عنها ثم رد بتمهل: - عدلتي الملف اللي قولتلك عليه من شوية؟
قالت وهي تشير بسبابتها نحو المجموعة التي أمامه: - طبعًا يافندم وحتى شوف بنفسك.
- طلعيه وخليني اشوفه.
قال بلهجة مسيطرة وهو يومئ لها بعيناه نحوهم، أذعنت لأمرها رغم دهشتها واقتربت من أمام المكتب تخرج له الملف المطلوب دون الألتفاف من ناحيته، عيناها لا ترفعها اليه كالعادة ولكنها تشعر بتحديقه الفج بها دون حياء.
- اهو يافندم.
وضعت الملف أمامه واستقامت لترتد باقدامها للخلف تخاطبه: - عايز حاجة تاني يافندم؟
رمق الملف بنظرة سريعة ثم ارتفعت عيناه اليها بصمت ونفى برأسه.
ارتدت تخرج بعملية رغم استغرابها من حالته، اغمض عيناه هو بعد خروجها يتنهد بثقل، ويدها تطرق بالقلم على سطح مكتبه بتفكير.
ايه دا بقى؟ جبتهم منين دول؟
سأله فهمي رافعًا حاحبه المقطوع في المنتصف وهو يتفحص في رزم النقود داخل الحقيبة التي أمامه على الطاولة، أجاب محروس بثقة وهو يجلس على مقعده مقابله: - وانتِ مالك بقى جبتهم من انه داهية؟ انت ليك فلوسك واتردتلك على داير المليم، ليك حاجة تاني عندي ياباشا؟
ضيق عيناه فهمي صامتًا يحدق به بتفكير وهو ينفث دخان الشيشة من أنفه، كرر محروس بثقة: - ماردتيش يعني ياباشا، ليك حاجة تاني؟
- حسك طلع يامحروس وشوفت نفسك، شكلك كدة معبي ايدك، مش ناوي تريحني وتقولي جبت الفلوس منين؟
- يوووه هي شغلانة بقى؟ ماقولنا فلوسك واتردتلك، انت هاتعملي فيها تحقيق؟
بصق كلمته الاَخيرة ونهض يغادر من أمام فهمي دون استئذان، والاَخر يتبعه بنظرة متشككة، حتى جلس امامه أحد صبيانه، يهمس له بجوار اذنه وكفه تشير نحو الحقيبة، استمع له فهمي ثم ردد بتساؤل: - يعني الشنطة بتاعة زهرة! ودي جابت الفلوس منين؟
بعد أنتهاء يومها في العمل وتوجهها للمغادرة مع غادة، كانت كاميليا في انتظارها بجوار الشركة على الإتفاق.
- ودي إيه اللي جابها دي بعربيتها دلوقتِ؟
ردت زهرة على سؤال غادة وهي تخرج معها من الباب الرئيسي: - جايا معايا هاتوصلني البيت ياستي، فيها حاجة دي؟
رمقتها غادة وحاجبها المرفوع بشر تردد: - جايه توصلك انتِ لوحدك، وانا إيه بقى؟ ماليش لازمة مابينكم؟
- في إيه ياغادة؟ هو انا معرفش اهزر معاكِ أبدًا، كل حاجة تاخديها كدة بنية وحشة، هاتوصلك طبعًا، وبعدها توصلني مشواري.
قالت زهرة وتمتمت الاَخيرة بصوتِ خفيض، اثار فضول غادة لتسألها: - انتِ بتقولي حاجة؟
نفت زهرة برأسها تجيبها بابتسامة مصطنعة: - لا حبيبتي هاكون بقول إيه بس؟ ماتخديش في بالكِ انتِ.
لوت غادة فمها قبل أن تهتف بنزق: - ياختي اهو الغتت كمان وصل عندها عشان تكمل.
تنهدت زهرة بغضب من كلمات غادة التي وجهتها نحو عماد الذي وصل بالقرب من سيارة كاميليا وخرجت اليه هي تتحدث بمودة كعادتها، حينما وصلن الفتيات استقبلهم عماد بقوله ضاحكًا: - طبعًا ياعم حقكم تدلعوا وتتأخروا براحتكم، مدام معاكم اللي يوصلكم ويغنيكم عن مواصلات الحكومة ووجع القلب.
ردت كاميليا بمشاكسة: - بطل قر بقى يخربيتك، ايه يابني؟ خف الحقد الطبقي دا شوية بقى.
- حقد طبقي!
هتفت بها عماد واستطرد ضاحكًا: - خلاص اتخليتِ عن طبقة الشعب وانضميتي لطبقة البشوات عشان جيببتِ عربية نص عمر، امال لو جبتيها اَخر موديل، هاتعملي ايه ياكاميليا؟
- ههاجر ههههه.
اردفت بها تلوح بكفها في الهواء ضاحكة، وانطلقت معها ضحكاته مع ضحكات الفتايات التي رحب بهن عماد بعد ذلك، فأصرت كاميليا على توصيله معهم، كاد أن يرفض، ولكن بنظرة واحدة منها تراجع لينضم إليهم، زهرة في المقعد الأمامي بجوار كاميليا، وعماد في الكنبة الخلفية مع غادة التي التفت كي تفتح باب السيارة من الناحية الأخرى تجاوره على مضص، فتفاجأت بهذا الحارس الثقيل يغمز لها بعيناه من الناحية الأخرى بمشاكسة كعادته قبل أن ينتبه على خروج سيده من باب الشركة ليستقيم باحترام في انتظاره، والذي انتبه هو الاَخر على السيارة الصغيرة وهي تلتف مغادرة، وتجمع بداخلها الفتيات ومعهم هذا المتحذلق عمااد.
اكمل هبوط الدرجات الباقية قبل أن يعتلي سيارته وشياطين غضبه تتراقص أمام عيناه، جسده يهتز من فرط غضبه.
- نروح البيت على طول ياباشا ولا في مشاوير تانية؟
سأله السائق بأدب، وكانت إجابته: - غور على أي مصيبة؟
ابتلع السائق كلماته ومعه إمام الحارس، رغم الإجابة المبهمة والغريبة من سيدهم الغاضب، تحركت السيارة نحو وجهة المنزل مؤقتًا، في انتظار تعليماتٍ أخرى منه.
توقفت كاميليا بالسيارة امام البنابة التي تقطنها زهرة، بعد أن أوصلت عماد الى وجهة عمله الاَخرى؛ التي يعمل بها مساءًا، ثم تخلصت من غادة بتوصيلها الى منزلها هي اولًا قبل زهرة التي ترجلت الاَن تاركة حقيبتها اليدوية بداخل السيارة، كي تصعد وتأتي بحقيبة النقود وكاميليا في انتظارها، ولكنها توقفت فجأة على هذا الصوت القبيح الذي هتف بإسمها: - اهلًا أهلًا بسنيورة الحتة، زهرة.
كان مستندًا بظهره على المبنى المجاور ثم تقدم بخطواته نحوها، توقفت هي أمامه بتحدي في انتظاره، حتى اذا وقف أمامها خاطبته بازدراء: - بنتده بإسمي في نص الشارع ليه؟ عايزة ايه يافهمي؟
- كنت عايز اشكرك رغم زعلي من رفضك لطلبي.
قال بسماجة زادت من الغضب بداخلها فقالت بحنق: - لا شكر على واجب ياسيدي، وسع بقى خليني امشي،
- طب مش هاتسأليني بشكرك على إيه قبل ماتمشي؟
تكتفت ناظرة اليه بصمت متأففة، اردف هو: - كنت عايز اشكرك على الفلوس اللي ردتيهالي مع والدك النهاردة، اصلي كنت محتاجهم قوي، لكن انتِ جبتيهم منين ياأبلة؟
- فلوس إيه؟
سألته بعدم فهم، أجابها بتأكيد: - الفلوس اللي بعتيهم النهاردة مع ابوكي، رزم الاَلفات الجديدة.
- انا بعتلك مع ابويا فلوس جديدة ورزم كمان؟
ابتسم داخله فهمي وهو يرى وجه زهرة الذي شحب وانسحبت منه الدماء، فقد تأكد الاَن بصدق تخمينه، وهو سرقة محروس للنقود الجديدة والمعروف وجهتها أكيد من البنك.
أتت اليهم كاميليا تسأل زهرة بتحفز وهي تومئ بذقنها نحوه: - في ايه يازهرة؟ الجدع ده بيتصدرلك ليه؟ هو لسة مترباش.
ابتسم فهمي بزواية فمه رغم تلميح كاميليا الصريح بسجنه ولم يرد، فقد اكتفى بمشاهدة زهرة التي نظرت لها برعب تغمغم بكلمات غير مفهومة قبل ان تهرول لداخل المبنى وهرولت من خلفها كاميليا تتبعها.
- يانهار اسود يانهار اسود، الشنطة مش موجودة ياكاميليا، الشنطة اختفت.
كانت تهذي بها بانهيار وهي تبحث بخزانة ملابسها وتقلبها رأسًا على عقب، هتفت كاميليا وهي تبحث معها بأرجاء الغرفة: - إنت متأكدة انك حطتيها هنا؟ مش يمكن تكوني سبتيها في أؤضة ستك وانت ناسية؟
- والله حطيتها في الدولاب بتاعي وفي الضرفة الوسطانية كمان، أنسى ازاي بس ياناس أمانة كبيرة زي دي؟ أنسى إزااااي؟
انضمت كاميليا معها رغم يأسها تخاطبها: - طب يعني هاتكون راحت فين بس؟ دي حتى شنطة كبيرة وتقيلة مش حاجة هينة.
توقفت زهرة فجأة وقد بدأت تستوعب الكارثة ترد ووجهها مغرق بالدموع: - فهمي مكنش بيهزر يا كاميليا، ابويا فعلًا خد الفلوس، بس ازاي وانا مكتمة من امبارح وحتى غادة مجبتش قدامها سيرة؟ ياستي ياستي.
هتفت الاَخيرة وهي تخرج مسرعة نحو جدتها الذي منعها المرض من مشاركة البحث مع حفيدتها.
- ماشوفتيش اي حد غريب دخل النهاردة؟ او حتى قريب، أي حد؟
رددت رقية بصوتِ مرتعش: - والله ياحبيبتي ماشوفت، انتِ من ساعة ماخرجتي وسبتيني في البلكونة وانا فضلت مكاني لحد اما جات صفية على الساعة عشرة جابتني هنا، وانت عارفاني على حطة ايدك ياحبيبتي.
خرجت كلمات زهرة بنشبج مع بكائها: - ياستي والله مااقصد اجرحك، انا بس عايزة اعرف لو كنت حسيتي او لمحتي أي حد في البيت هنا بعد انا ماخرجت؟
صمتت قليلًا تعصر ذاكرتها رقية ثم أجابت: - هو انا اللي فاكرها يعني ااا بعد انتِ ماخرجتي يجي بنص ساعة كدة، حسيت بكركبة خفيفة، بس خمنت تكون صفية رجعت بعد ما نسيت حاجة، حتى ندهت عليها وماردتش.
التفتت زهرة نحو صديقتها تردد بتأكيد: - يبقى هو فعلًا ياكاميليا، ودخل خدهم بعد مااتخانقت انا معاه ومشيت على شغلي، بس عرف ازاي؟، هو انا لسة هاسأل نفسي؟ انا رايحالوا.
قالت الاَخيرة وهرولت راكضة نحو ورشته التي لمحته فيها منذ قليل قبل ان تصل لمنزلها، ركضت كاميليا خلفها ولكنها توقفت قبل دخول الورشة، وقد شعرت بالحرج من حضور موقف مخزي كهذا بين فتاة وابيها، فوقفت تنتظرها في الخارج وتراقب.
وعند محروس الذي انتفض على صرختها وهي تلج مندفعة داخل ورشته.
- سرقت الفلوس يابا، سرقت فلوس خالي واديتها لفهمي.
استدرك نفسه فهتف على صبيه ليخرج من الورشة: - اطلع انت دلوقتِ ياعامري وتعالى بعد شوية، بسرعة ياض.
انتظر خروج الفتي ثم رد عليها مستنكرًا: - مش تنقي الفاظك يابت، داخلة كدة هاجمة زي البهيمة وبتتهميني ظلم حد قالك ابوكي حرامي؟
هتفت بسخرية مريرة
- اه تصدق انه حصل فعلًا، وانا اتأكدت بنفسي دلوقتِ
ان انت سرقت فلوس خالي ياحرامي.
- لمي نفسك يابت فهمية.
هدر بها ويده توقفت في الهواء قبل ان تنزل على وجنتها، استطرد مهددًا: - انا مش عايز امد ايدي عليكِ، لكن لو طولتِ لسانك اكتر من كدة لكون دافنك وانتِ حية مكانك هنا.
- ادفني، قطع من جتتي حتى، بس هات الفلوس ابوس ايدك، فهمي أكدلي ان انت اللي خدت الفلوس وادتهالوا رد الدين بتاعك النهاردة، بأمارة كمان انها ورق جديد من البنك.
قالت برجاء، فاأخرج هو سبة بذيئة من فمه نحو فهمي وهو يبتعد قليلًا عنها قبل ان يعود اليها متبجحًا: - ماشي يازهرة انا اللي خدتهم، وانتِ قولتيها بنفسك عشان اسد ديني؛ بعد انتِ ما اتخليتي عني ونشفتي راسك.
- انا نشفت راسي، لكن هو ذنبه ايه؟
صاحت بها وتابعت: - حرام عليك، انا لو مسددتش الشهر ده السمسار هايفسخ العقد وتروح الشقة من خالي، وتروح الجوازة كلها كمان، دا ابوها المستشار بيتلكك وحالف بعد السنة مافيش جواز، مش كفاية ضيع نص شبابه على بنتك اليتيمة كمان عايز تحرمه من حب عمره؟
اصدر من فمه صوت ساخر قبل أن يرد: - وماله ياحلوة، مش عاملي فيها البطل وحامي الحمى، خليه يضحي شوية كمان.
- يضحي ايه تاني؟ يعني يموت بالحيا بقى عشان يرضيك؟
قالت صارخة قبل أن تنتبه على ضحكة ساخرة وصاحبها على مدخل الورشة يتقدم نحوهم ويردد: - ههههههه عليا النعمة عرفت لوحدي، دا انا استاهل اوسكار بقى في الزكاء والمفهومية ياجدعان.
رد محروس من تحت أسنانه: - انت جيت ياوش الفقر، مش كفاية فتنت الأهل في بعضيهم؟
التفت على جملته بنظرة حانقة قبل ان تنتبه الى هذا الكريه الذي تجاهل أباها ليقترب منها مرددًا: - مستعد ارجعلك فلوس خالك دلوقتي حالًا وعليهم خمسين كمان مهرك، بس انتِ قولي اه.