رواية نعيمي وجحيمها الفصل الثالث عشر 13 بقلم أمل نصر
- أنا عايز اتجوزك يازهرة.
فور سماعها الجملة، ارتد ظهرها للخلف بصدمة تحدق به مبهوتة، مجفلة، نحو الرجل الجالس أمامها بهيبته المعتادة، صامتًا يراقب بتفحص وقع الجملة عليها، أردف لها: - عارف انك مصدومة، بس انا راجل دوغري وماليش في اللف والدوران، انا عايز أتجوزك بجد.
رددت بشفتيها هامسة بعدم استيعاب: - ازاي يعني؟
أجابها مرددًا ببساطة: - زي اي اتنين بيتجوزا يازهرة، ماتعرفيش الناس بتتجوز ازاي؟
رفعت عيناها اليه بنظرة غاضبة، قابلها بابتسامة متلاعبة اثارت بداخلها الغيظ، اردف ملطفًا: - بلاش تفهميني غلط، انا لو مش بحترمك ماكنتش دخلتلك من سكة الحلال، كنت جربت معاكي أساليب تانية، ما انا برضوا جاسر الريان.
تذكيرها بهويته أعادتها لنفس النقطة لعدم التصديق، أسبلت عيناها عنه وبداخلها تنتظر تفسيرًا، تابع هو: - أظن ان يعني في الفترة البسيطة اللي انتِ قضيتيها في الشغل معايا، خدتِ فكرة عني تعرفك بأخلاقي.
رددت بعدم تركيز: - بس انت متجوز.
- اعتبريني مش متجوز، ودا حقيقي على فكرة، كل اللي بين وبين ميري مسألة وقت مش أكتر، ثم انت هاتفرق معاكي في إيه؟
قطبت ناظرة إليه بعدم فهم، أكمل هو: - وافقي يازهرة وانا موافق على كل اللي تطلبيه.
- كل اللي اطلبه!
رددت خلفه الجملة وهي تعيد تكرارها داخل رأسها بتشتت، ثم ما لبثت أن تسأله بفطنتها: - عامر بيه عارف بالكلام ده حضرتك؟
- لأ مش عارف، وانا مش هاعرفه دلوقتِ وهو بيتعالج بعيد عني، ولا والدتي هاتعرف كمان عشان بنت اختها.
أومأت برأسها وقد صدق تخمينها تردد: - يعني حضرتك عايز تتجوزني في السر؟
- بس دا وضع مؤقت يازهرة، على ما تستقر أموري.
التوى فمها المطبق بابتسامة غريبة لم يفهما، قبل أن تتناول مشربها ترتشف منه صامتة عن الرد اليه بإجابة مفيدة تريحه.
خرجت غادة من الباب الرئيسي للشركة وهي تغمغم بالكلمات الحانقة، بعد أن علمت من ساعي المكتب بمغادرة زهرة للشركة تقريبًا منذ ساعة.
- ماشي يازهرة، بقيتي تخرجي وتمشي على كيفك دلوقتِ، بعد ماكنتِ بتخافي ماتعدي الشارع من غيري، طبعًا ماهي الترقية قوة قلبك، ماشي.
- انت بتكلمي نفسك يااَنسة؟
شقهت مرتدة باقدامها للخلف، حينما فاجئها هذه الثقيل بها وظهوره أمامها من العدم.
- يخربيتك هو انت متسلط عليا ياجدع انت؟ ناقصاك انا ولا ناقصة خفة دمك دي دلوقتِ.
تفوهت بها اليه ساخطة، فكان رده ضحكة سمجة وهو يردف: - هههه عجبتني خفة دمك دي، اصلها حقيقة على فكرة.
جزت على أسنانها تود لو امتلكت المقدرة لضربه فقالت وهي تتحرك لتتخطاه: - طيب ياخويا، أسيبك انا بخفة دمك دي واستظرافك، مش فاضيالك.
غمغم من خلفها: - الحق عليا اللي استنيت لميعاد انصرافك عشان اونسك بدل ما تمشي لوحدك بعد صاحبتك ماخرجت مع جاسر بيه وسابتك.
ابتسم بعرض وجهه وهو يرى تأثير كلماته الخبيثة، حينما استدارات اليه بأعين تقدح شررًا تسأله: - انت قصدك ان صاحبتي انا، اللي هي زهرة، خرجت مع جاسر الريان؟
اجابها رافعًا حاجبه بتسلية: - اَه امال ايه، دي حتى ركبت معاه في عربيته كمان، وجاسر بيه الله يستره، استغنى عني في مشواره معاهم النهاردة، باينه كدة عايز يريحني شوية.
اصبح جسدها يهتز من فرط انفعالها وهي تسأله مرددة: - يعني كمان خرجت معاه لوحدها، وهي ازاي قبلت؟
ردد هو بمكر: - لا ياغادة مش لوحدهم، عبده السواق كان معاهم.
- مش فارقة، تغور ماتغورش انا ايه هايهمني اساسًا، ايه اللي ها يهمني؟
بصقت كلماتها والتفت مغادرة بغضبها ونيران صدرها تحرق الأخصر واليابسة، قهقه هو من خلفها على هيئتها مرددًا لنفسه بمرح: - الله يخرب عقلك ياواد ياإمام، فتنت الاصدكاء في بعضيهم.
بداخل سيارته وهي جالسة بجواره في الخلف ملتصقة في الباب، مسبلة عيناها ولا تنطق ببنت شفاه، من وقت أن اخبرها بعرضه وعرفت نيته، وهي على هذه الحالة، كم مرة سألها وهي تجيبه بكلماتٍ مبهمة مقتضبة، أصابت رأسه الحيرة من جمودها وغموض موقفها، يريد استشعار رد فعل واحدة تؤنبه بشئ ولا يجد الطريقة.
- ااا كفاية لحد هنا وقف ياا.
قالت زهرة فجأة تخرج عن جمودها، انتهزها فرصة ليخاطبها: - يستنى ليه؟ هو انت بيتك هنا؟
سألها يقصد أحد الأبنية الكبيرة في الميدان، أجابته على مضض: - لا حضرتك احنا بيتنا في الحارة اللي ورا الميدان، وقف هنا يااخ اا.
- اوقف ياباشا؟
قال السائق مخاطبًا جاسر الذي تفهم موقفها، وأومأ له بالموافقة، وفور أن توقفت السيارة قبض على مقبض الباب بجوارها مع ترك مسافة اَمنة بينهم قبل أن تترجل منها، هامسًا: - زهرة، حاولي تفكري كويس في الكلام اللي قولته، انا مش مستعجل على الرد، خُدي وقتك.
اومأت برأسها دون أن ترفع انظارها اليه حتى تركها تترجل، فخرجت مسرعة دون ان تلتفت ولا حتى تلقي السلام مع مغادرتها.
تسير مسرعة بخطواتها وقد تنفست اَخيرًا الهواء الطبيعي بعيدًا عن محيط هذا الرجل، مازالت حتى الاَن لا تصدق ماسمعته منه، اَخر ما كانت تتصوره ان تلقى عرض الزواج من جاسر الريان نفسه، ذلك المتجبر والذي لطالما أخافها بتجهمه وجموده يطلب منها الاَن الزواج وفي السر؟!
- زهرة، زهرة.
التفت برأسها نحو مصدر الصوت وجدت أباها أمام مدخل ورشته يشير اليها بيده ليوقفها.
حركت رأسها أليه باستفسار، فأشار بيده لتذهب اليه، اذعنت مغيرة اتجاه عودتها لترى مالذي يريده منها.
بعد قليل وبعد أن استمعت منه وهي جالسة أمامه بجمود متكتفة الذارعين، عاقدة حاجبيها، تنظر اليه بصمت.
- ها يازهرة ماسمعتش ردك يعني؟
رددت خلفه: - ردي في إيه بالظبط؟
- ردك في اللي بحكي فيه بقالي ساعة، في المصيبة اللي ورطتوني فيها انتِ وخالك وخطيبته واخوها الظابط، فهمي حالف ليطين عيشيتي بسببكم.
- بسببنا!
تفوهت بها زهرة وهي على وشك الإنفجار ردًا على كلمات والدها، وتابعت تجاهد ببعض التماسك.
- يعني انت تشرب وتاخد فلوس من واحد زي فهمي، عارفه كويس، وعارف نيته الوس، ناحية بنتك، واما خالي يتحرك عشان يدافع عني مع خطيبته المحترمة واخوها اللي بينفذ القانون مع واحد لبس العيال الصغيرين في السجن وخرج هو منها زي الشعرة من العجين عشان يحاسبك على غلطك معاه، تقوم تحط غلبك فينا احنا!
وقف محروس قبالها مشددًا على كلماته: - ماهو انتِ السبب، لو كنتِ وافقتي من الأول مكانش دا كله حصل، الراجل عايز يتاقلك بالدهب بس انتِ ترضي، هاتلاقي فين في حارتك الفقرية دي واحد زيه؟ واحدة غيرك كانت خدتها فرصة وخدت منه اللي هي عايزاه، بس انتِ فقرية...
قاطعته صارخة: - إييييييه؟ هي بيعة وعايز تكسب فيها؟ ولا انا متحرم عليا اعيش اللي بتعيشه أي بنت في جوازة طبيعية مع واحد مناسب لها، بتحبه ويحبها؟ ولا...
توقفت بحلقها الكلمات تبتلع الغصة، لاتدى ان كانت موجهة كلماتها له ام لهذا الذي سبقه منذ قليل، فذهبت من أمامه مغادرة قبل أن تنفجر به مخرجة ماتراكم مافي قلبها نحوه منذ سنوات
ولجت لداخل بنايتها الذي أتت اليه مهرولة، فتوقفت على أول درجات السلم تلهث بتعب من كل ما مر بيومها، أخرجت هاتفها من حقيبتها الذي كان على وضع الصامت، فتفاجئت بكم الاتصالات الهائلة من غادة، تجاهلتها واتصلت بمن تستطيع مساعدتها بالفعل،.
- الوو، ايوة ياكاميليا، تعالي والنبي اللحقيني بسرعة، انا حاسة نفسي في مصيبة.
- يابت اهمدي بقى خايلتيني، يخربينك
قالت إحسان مخاطبة ابنتها التي تقطع الغرفة أمامها ذهايابًا وإيابًا وهي تتاَكل من الغيظ، ردت غادة وهي تشير اليها بالهاتف: - تعالي وشوفي بنفسك كام مرة اتصل بيها والست هانم مابترودش، طبعًا ماهي شافت نفسها عليا، بعد ما بقت تركب عربيات مع رجالة غريبة.
هتفت إحسان لتوقفها: - يابت اعقلي بقى وبلاش كلامك ده اللي يودي في داهية، انتِ عايزة تأذيها وتأذي نفسك معاها؟
- وأذي نفسي معاها ليه بقى ها؟ كنت ركبت معاهم مثلًا وانا مش دريانة؟
تفوهت بها غادة وهي تمد برقبتها نحو والدتها الجالسة على طرف التخت أمامها، زفرت إحسان قبل أن تجذبها وتُجلسها عنوة بجوارها لتخاطبها: - طب اقعدي بس واسمعي مني، كلام الجنان ده ماتهلفتيش بيه قدام حد، عشان مايوصلش للبيه بتاعكم ويكدرك يابت الخايبة، او يطردك من شركته، دا انت ماصدقتِ تلاقيها.
ردت غادة وهي تضرب بكفيها على ركبتيها من الغيظ: - طب اعمل ايه بس يامٌا؟ انا قاعدة محلك سر، والهانم اللي طول عمري بقول عليها خايبة، شكلها كدة اتعلمت تلعب من ورا ضهري، بعد مااتقدمت عليا، هي والمحروسة كاميليا.
مطت شفتيها إحسان قائلة باستخفاف: - ولا أي حاجة ياعين امك، عشان زهرة دي اللي انتِ خايفة منها، ابوها مورط نفسه في مصيبة مع فهمي بسببها، واخد منه فلوس بالهبل مهرها والبت رافضة، وفهمي حالف لخالك ياينفذ ويتجوزها، يايجيبلوا الفلوس على داير مليم خلال اسبوع، وانت طبعًا عارفة خالك، ايده والأرض.
- يعني خالي لو غُلب في أمره، هايجوزوا زهرة؟
تسائلت غادة بابتسامة ترتسم على محياها، ردت إحسان: - أمال تفتكري يعني، خااالك هايقدر يسد ويدفع الفلوس في اسبوع.
نفت تحرك رأسها بارتياح وهي تعتدل بجلستها واضعة قدم فوق الأخرى تردد: - ساعتها بقى اَخد انا مكانها عند جاسر بيه، ماانا مش هافوت دي عند كاميليا، مش هي وعدتني انها تتوسطلي بترقية، وساعتها بقى يبتدي الشغل الصح.
- معقووول؟ انتِ بتتكلمي جد؟
سألتها كاميليا فاغرة فاهاها، وهي تهز برأسها وترمش بعيناها بعدم تصديق لما سمعته منها، ردت زهرة بغضب: - أمال يعني هاكون بهزر انتِ كمان؟ دي مصيبة واتحطت فوق راسي، قال وانا اللي كنت بسأل نفسي على عاميله الغريبة معايا، اتاري البيه كان حاططني في دماغه وانا مش دريانة.
اومأت لها كاميليا بتفكير: - عندك حق، انا عن نفسي في مرة من المرات شكيت، بس استبعدت الفكرة من دماغي فورًا، عشان معرفتي البسيطة بجاسر، مخلتنيش اتوقع منه أبدًا حاجة زي، بس انتِ هاتردي تقولي إيه؟
- ودي فيها رد؟ انا مش معتبة الشركة دي تاني نهائي، وخلي الباشا يدورلوا على واحدة غيري بقى.
قالت زهرة بانفعال ردًا على سؤال كاميليا التي اعترضت: - لا طبعاً ماينفعش الكلام اللي انتِ بتقوليه ده؟ هو محل ملابس، دي وظيفة في شركة محترمة يابنتي، يعني في أصول قبل ما تتصرفي بأي تصرف
هتفت زهرة بانهيار: - اصول ايه بس ياكاميليا؟ دا انا كنت بخاف منه من غير سبب، دلوقتِ بقى عايزاني اشتغل معاه وانا عارفة بنيته ناحيتي، دا ايه المرار ده بس ياربي.
زحفت كاميليا لنتحشر بجوارها تحت الفراش كي تضمها اليها، مربتة على ذراعيها تخاطبها بتهوين: - على فكرة اللي انتِ شايفاه مرار ده، في غيرك هايموت عليه، جاسر الريان ده مش راجل هين، كون انه يبصلك دي حاجة كبيرة قوي تديكي ثقة في نفسك، تعرفك انك جميلة ومرغوبة بجد.
ردت زهرة ورأسها مستريحة على كتف كاميليا: - كل ده ملوش قيمة عندي ياكاميليا، انا عمري ماحلمت بواحد زي جاسر ده يبصلي، طول عمري بحلم بالعش اللي يضمني مع واحد يحبني واحبه، يكون مُتعلم ومتوظف في الحكومة أو شركة كويسة عشان ماتبهدلش في العيشة معاه، وانا اساعده بمرتبي، نعمل فرح الشارع كله يشهد عليه و نربي ولادنا بلقمة حلال، انا نفسي في عيشة عادية زي بقية البنات ياكاميليا، حرام اعيش عيشة عادية؟
قالت كاميليا بحنان وهي تزيد بضمها: - لا ياحبيبتي مش حرام أبدًا طبعًا، أكيد ربنا هايديكي اللي بتحلمي بيه واكتر كمان، بس تبقي قوية وماتخافيش من حد، ولو عايزة ترفضيه، ارفضيه بقلب قوي كمان، ولو عالوظيفة تغور الوظيفة وان شاء الله ربنا يعوض باللي أحسن منها.
رفعت زهرة رأسها ناظرة إليها لتخاطبها برجاء: - صح ياكاميليا، يعني انا ممكن اقول له لأ،
واسيبلوا شركته واغور من وشه؟
- ممكن طبعًا.
- طب ازاي؟
- هاقولك، بس قومي تعالي معايا الاول طمني رقية، دي هاتموت من القلق عليكي.
قالت كاميليا وهي تسحبها لتنهض معها عن التخت، استجابت زهرة لتخرج من الغرفة التي لازمتها من وقت أن عادت الى المنزل، لتذهب الى رقية التي كانت جالسة على دكتها بوسط الصالة، تسبح على مسبحتها بقلق على حفيدتها، وفور أن رأتها تهلل وجهها فهتفت بسخرية متصنعة الغضب: - هل هلالك شهر مبارك، اَخيرًا ياحلوة اتهز بيكي السرير وقومتي عشان نشوف وشك؟
ردت بابتسامة زهرة قبل أن ترتمي تدخل في أحضان جدتها التي شددت عليها بذراعيها تنهرها بعتب: - برضوا دي عمايل يازهرة، تسبيني كدة على ناري بقعدتي هنا من غير ماتطمنيني عليكِ وانا هاموت واعرف اللي صابك.
ردت بصوت مكتوم داخل حضن جدتها: - بعد الشر عليكِ ياستي، سمحيني مش هاتكرر تاني.
- لا كرريها ياختي عشان ادخل فيكِ السجن المرة الجاية.
قالت رقية بمزاح كعادتها استجابت له زهرة ضاحكة، وردت كاميليا مضيقة عيناها.
- ياشرس انت، ماكنتِ زي القطة من شوية بس.
لوحت لها رقية بقبضة يدها مهدد بحزم مصنع: - بس يابت انتِ، عشان ماحطش غلبي فيكِ دلوقتِ وانا على اَخري أساسًا وايدي بتاكلني.
هتفت كاميليا وهي ترتمي بجوارهم: - ياااولد ياجااامد، طب انا نفسي اجرب ايدك بجد بقى ياللا يارقية.
لكزتها رقية بخفة قبل أن تجذبها هي الأخرى داخل أحضانها مع زهرة، فخاطبت الاثنتان سائلة
- عايزة اعرف منكم بقى، ايه السبب اللي خلى زهرة تزعل كدة؟
- ضغط شغل ياستي.
خرجت من فاه الاثنتين، قبل ان تلكزهم بقبضتها غير مصدقة: - ضغط شغل برضوا ياولاد الجزمة، فاكريني عبيطة؟
في اليوم التالي.
كانت جالسة على مكتبها تردد في الأدعية والسور الحافظة، واطرافها ترتشعش من الخوف في انتظاره، تشعر بجفاف حلقها كل دقيقة، لترتشف من زجاجة المياه الموجودة على سطح المكتب، ثم تعود لترديد الأدعية مرة أخرى، أجفلت حينما ولج فجأة اليها داخل الغرفة الواسعة بخطواته السريعة، قبل أن يبطئها وهو يقترب منها، وقفت هي احترامًا له.
- صباح الخير.
القى التحية وعيناه تتفحص وجهها بدون تحفظ كعادته، خرج صوتها برد التحية بصعوبة وعيناها لا ترفعها اليه: - صباح الخير يافندم.
- عاملة إيه؟
أجفلها بسؤاله فارتفعت عيناها اليه دون إردتها تومئ برأسها: - تمام يافندم والحمد لله، ااا انا كنت عايزة اقولك اي...
- تعالي المكتب جوا وقولي اللي انتِ عايزاه، انا مستنيكِ.
قال كلماته وخطى ذاهبًا نحو مكتبه على الفور، ارتفعت شفتها العليا وهي تنظر في اثره مرددة بدهشة: - هو فاكرني هاقوله إيه ده؟
بعد قليل وبعد ان قرأت الاَيات المنجيات على باب مكتبه، وفعلت تمارين الشهيق والزفير عدة مرات قبل أن تطرق ويسمح لها بالدخول، وصلت لتقف أمامه ودون أن تنطق ببنت شفاه وضعت الورقة التي بيدها على سطح المكتب.
- إيه دي؟
سألها قاطبًا وهو يرمق الورقة التي أمامه بنظرة سريعة، ظلت هي على صمتها، مطرقة راسها للأسفل، تناول الورقة ليقرأها، فارتفع حاجبيه يردد بدهشة: - دا طلب استقالة، افهم من كدة ان دا ردك على عرضي؟
ابتلعت ريقها وهي تجاهد للسيطرة على ضربات قلبها السريعة لتجيبه بتماسك: - لا طبعًا حضرتك بس دا منعًا للحرج.
- مش فاهم يازهرة وضحي أكتر، موافقة على عرضي ولا لأ.
قال بحدة ويده تطرق بالقلم على سطح المكتب، استجمعت شجاعتها وهي تتذكر توصيات كاميليا لها بالأمس، فنفت برأسها المتشنجة تردد: - لا حضرتك، وارجو منك تتقبل أستقالتي.
صمت قليلًا وظل صوت قلمه الذي يطرق به على سطح المكتب هو سيد الموقف، وظلت هي على وضعها لاتستطيع أن تواجه عيناه التي تشعر بسهامها المسلطة عليها تكاد أن تُرديها قتيلة، ثم مالبث أن يرد بهدوء مريب أدهشها: - تمام يازهرة، دا كان عرض مني وانتِ رفضتيه براحتك طبعًا.
رفعت اليه عيناها تسأله: - طب والإستقالة حضرتك هاتمضيلي عليها طبعًا مش كدة؟
حرك رأسه بالرفض قائلًا باقتضاب: - لأ.
- لأ ليه حضرتك؟
سألته تريد تفسيرًا، أجاب بلهجة مسيطرة: - عشان مش انا الراجل اللي يغصب واحدة ست على جوازه منها، ولا انا الرئيس اللي يضيق على موظفته عشان رفضت عرضه، انا قولتلك براحتك يعني مافيش داعي لمخاوفك دي كلها.
تنفست قليلًا وقد أدخلت كلماته بعض الإرتياح بقلبها، فقالت مستغلة طيبته الجديدة عليها: - طب مدام كدة يافندم، يبقى رجعني تاني لمكتب الأستاذ مرتضى، احسن برضوا.
- اخرجي دلوقتي يازهرة.
- نعم!
اردفت بها مندهشة لتجد ملامح وجهه تحولت فجأة وعاد الى تجهمه المعتاد مع انقلاب حاجبيه وهو يهدر عليها: - الموضوع وخلاص اتقفل، يبفى قفلي على كدة انتِ كمان وارجعي شغلك حالاً، دلوقتِ يازهرة.
مع صيحته الاَخيرة انتفضت ترتد بأقدامها لتخرج مغادرة من أمامه على الفور.
خارج مكتبه تنفست الصعداء اخيرًا واضعة يدها على قلبها الذي هدأت سرعاته قليلًا، زفرت وهي تسقط على كرسي مكتبها، تمسح بكفيها على وجهها حامدة ربها على مرور هذه اللحظة العصيبة وانتهاءها على خير، وجدت هاتفها يصدح بدوي صدور مكالمة، التقطته سريعًا لتجيبها على الفور: - الوو، ايوة ياكاميليا.
- عملتي ايه يازهرة طمنيني؟
زفرت مرة ثانية مع سؤال صديقتها الذي أتى سريعًا قبل أن تجيبها وعيناها على باب مكتبه، بصوت خفيض وحذر: - هو قالي براحتك انك ترفضي أو توافقي وانا مبغصبش واحدة ست على جوازها مني ولاهاضيق عليكِ عشان رفضتيني.
ردت كاميليا: - طب كويس والله راجل محترم.
هتفت زهرة جازة على أسنانها: - أيوة ياختي بس مرديش يمضيلي عالإستقالة او حتى يرجعني عند الأستاذ مرتضى، يعني مشكلتي معاه مستمرة، انا بخاف منه بجد ياكاميليا، ونفسي بقي الاقي حل لمشكلتي دي.
ردت كاميليا بحزم من جهتها: - بس يابت اعقلي كدة وخليكِ جامدة، تخافي منه ليه ان شاء الله هو هاياكلك؟ مدام طمنك من جهته يبقى خلاص بقى، شوفي شغلك تمام عشان ماتديهوش فرصة يضيق عليكِ زي ماقال، وعلى فكرة بقى، جاسر الريان محترم بجد يعني مابيقولش كلام في الهوا، فاطمني بقى.
ردت زهرة وهي تستوعب كلمات صديقتها
- يارب ياكاميليا يطلع كدة زي ماقولتي، عالعموم انا ححاول اللتزم زي ماقولتِ واما اشوف اَخرتها إيه.
- اَخرتها خير ان شاء الله.
- طب بقولك إيه؟ ماتنسيش بقى ميعادنا، عايزة اللحق البنك قبل مايقفل.
قالت زهرة وردت كاميليا بسؤال: - تمام انا معاكِ، بس انتِ ميعاد انصرافك على تلاتة العصر، جاسر الريان هايسمحلك بقى بالانصراف بدري.
خبطت زهرة بكفها على جبهتها بإحباط مرددة: - مش عارفة.
مر اليوم بعملها بروتيتية عادية دون تغير تشعر به، سوى تجاهله لها كلما دلفت اليه بمستند او ملف ضروري، يومئ لها بيده على سطح المكتب لتضعه أمامه، دون أن يرفع رأسه اليها، ومن جهتها كانت تعمل بجدية وتركيز حتى لا تعطيه فرصة للتضيق عليها كما ذكرت كاميليا، ولكن ارتباطها مع كاميليا للحاق بميعاد البنك قبل ان يغلق، جعلها على صفيحٍ ساخن من القلق، حتى أجمعت أمرها للدلولف اليه بشجاعة وطلب الإنصراف مبكرًا عن موعدها.
- نعم يا اَنسة وعايزة تخرجي بدري ليه ان شاء الله؟
كان رده بسؤاله السريع على طلبها، أجفلت من عودة فضوله الغريب نحوها، وحاولت الرد بزوق وعدم الخطأ: - عادي يافندم، عايزة اخرج بدري في أمر ضروري يخصني.
ترك مابيده واعتدل بظهره للخلف بالمقعد يسألها بسماجة وتصميم: - وانا بقى يازهرة ماينفعش اسمحلك بالانصراف، غير لما اعرف السبب واشوفه يستاهل ولا لأ.
- من فضلك ياجاسر بيه، انت قولت بنفسك انك مش هاتضيق عليا، وانا دلوقتِ بترجاك في أمر ضروري.
أجفلته بجرأتها على تذكيره بوعده اليوم لها، ضيق عيناه واصبح يصك على فكه غيظًا منها ومن رأسها العنيدة، ثم رد على مضض وهو يزفر من أنفه دخانًا: - ماشي يازهرة هاسمحلك بالانصراف، عشان مابقاش المدير الظالم اللي بيضيق على الموظفة اللي عنده.
انتشت داخلها وهي تحاول جاهدة كبت ابتسامة النصر، فتحركت لتخرج مستنئذنة بلطف: - الف شكر ليك يافندم، عن اذنك بقى.
أوقفها هادرًا فور أن التفت تنوي الخروج من مكتبه: - بس بقى مافيش بريك النهاردة يازهرة.
استدرات بكليتها اليه وعلى وجهها ابتسامة جميلة، أنسته موقفها العنيد ورفضها له اليوم بل أنسته نفسه، وهي تقول بأدب: - تحت أمرك يافندم.
وخرجت من أمامه متهادية بخطواتها رغم شعورها بعدائيته نحوها وصوت أنفاسه الهادرة خلفها تكاد أن تصل لأذنها.
فور خروجها تفاجأت بغادة الواقفة أمامها بجوار المكتب.
- غادة انتِ هنا من إمتى؟
سألتها زهرة وهي تتوجه ناحية الجلوس خلف مكتبها، ردت غادة وهي متكتفة الذراعين: - انا هنا من زمان ياحبيبتي، انتِ اللي اتأخرتي جوا، كل ده بتشتغلوا؟
أجابتها زهرة بحسن نية وعدم تركيز: - أمال يعني هاكون بلعب انتِ كمان؟ المهم بقى انت ليه جيتي الشغل بدري النهاردة ومااستنتنيش اَجي معاكي زي كل يوم؟
- عادي يعني، ماانت كمان بقيتي تروحي عالبيت من غير ماتقوليلي.
قالت غادة بتلميح عن الأمس فهمته زهرة فردت تجيبها: - يابنتي امبارح كنت في ميعاد شغل مع جاسر بيه، معلش ملحقتش اقولك وحتى من تعبي بعد ماجيت، نمت زي القتيلة ومارديتش على اي حد في التليفون.
- امممم.
صدرت منها مبهمة ثم تابعت وهي تلعب بخصلة من شعرها: - طب وعلى كدة بقى انت هاتروحي معايا النهاردة ولا برضوا معاكي مشوار مع الباشا؟
أسبلت عيناها زهرة وقد انتبهت اَخيرًا على تلميحاتها، فقالت مصححة ومشددة على كل حرف: - ماسموش ميعاد مغ الباشا، اسمه ميعاد شغل، الراجل اللي جوا ده يبقى مديري وانا السكرتيرة بتاعته، مش رفيقته ولا صاحبته، وردًا على سؤالك، لا ياستي مش ماشية معاكي النهاردة، عشان عندي مشوار مهم مع كاميليا، هاتاخدني بعربيتها توديني البنك عشان اوفر عليكِ السؤال كمان.
قالت غادة بعكس مايدور بنفسها: - يعم وانا مالي، تاخدك بعربيتها ولا تجيبك حتى، انتِ فاكراني هابصلكم كمان ولا إيه؟
همت لترد زهرة ولكن دوى صوت هاتف المكتب الداخلي، فتناولته لترد، فتفاجأت بصياحه: - فين ملف مناقصة الحديد يازهرة، انا مش منبه عليكِ تجيبيه.
- يافندم ماهو عندك مع بقية الملفات اللي دخلت بيها من شوية.
صرخ هادرًا حتى كاد أن يصم أذنها: - هو انا لو شوفته ولا لقيته، كنت هاتصل بيكِ وازعجك ياست زهرة، اخلصي يالا اتصرفي واجيببه.
- ططيب ثواني هادخل واشوفوا.
قالت بتلعثم ثم تحركت سريعًا نحو مكتبه، تاركة غادة التي تتلاعب بشعرها بعدم اكتراث.
دلفت اليه تشير بيدها أمامه نحو سطح المكتب: - انا جيبته مع مجموعة الملفات اللي دخلت بيها من نص ساعة، ممكن تكون اللي قدامك دي.
- اتفضلي طلعيه انتِ بنفسك، انا مش مدور على حاجة.
هتف غاضبًا وهو يضرب بقبضته على سطح المكتب أمامها، تحركت باَلية نحو خلف المكتب بجواره، تبحث عن الملف بتركيز وسط المجموعة المذكورة وبعض الملفات المتناثرة بفوضوية امامه.
ورغم المسافة الاَمنة بينهم إلا انه ارتبك فجأة مع حضورها بجواره، أسكرته رائحتها المسكية، والتي لا يعرف ان كانت هذا عطرًا ام أنه شئ اَخر لا يعلمه، توقف عقله عن العمل وتوقف الزمان والمكان وهو يشعر بحضورها قد ملأ المحيط من حوله.
استقامت فجأة ملوحة له بالملف: - أهو يافندم، الملف اللي انت طالبه.
اشار بيده اليها لتضعه أمامه، فاقدًا القدرة عن الكلام أو تصنع الجديدة، أذعنت تنفذ أمره باستغراب وتخرج بناءًا على إشارة سبابته لها للخروج.
بعد مغادرتها ظل لبعض اللحظات يجاهد لاستعادة ذهنه جيدًا وهو يفرك بكفه على صفحة وجهه، حتى فاض بهِ، فدفع بقلمه الذهبي نحو الحائط بقوة ليقع منكسرًا على الأرض، وبسرعة تناول هاتفه يتصل بيده اليمنى كارم والذي ما ان أجاب، خاطبه جاسر بأمر: - اسمع ياكارم، سيب اللي في إيدك وتعالالي حالًا دلوقتي، عايزك ضروري.