رواية احفاد الجارحي 5الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم اية محمد رفعت


  رواية احفاد الجارحي 5الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم اية محمد رفعت

_عرفت مكاني منين؟ 

سؤال حائر تردد على لسانه، ومازال يراقبه بفضولٍ، فرفع كوز الذرة إليه، ليلتهم جزءً منه وهو يراقب المياه الراكضة من أمامه، متجاهلًا فضول الأخر بمعرفة الاجابة عن سؤاله، فوجوده هنا وبالوقت ذاته يعجز عقله عن التفكير بالأمر، وضع الاسطورة ما بيده جانبه، ثم استدار برأسه تجاهه ليخبره بنبرة ثابتة كتجلي المياه عن ثرثرة ميائها الغائرة: 

_شخص دخل وسطنا ميسألش السؤال ده يا عدي! 

هز رأسه ببسمةٍ ساخرة، ثم عاد يستقيم بجلسته بجمودٍ، فتابع"رحيم"  قائلًا: 

_الحالة اللي أنت فيها دي أكدتلي إن كلام مراد صح! 

قال وعينيه تراقب الفراغ بجمودٍ: 

_حالة أيه؟ 

رد عليه ومازالت عينيه لا تفارقه، فكادت بالتهامه عن قرب يستطلع به عما أصابه: 

_أنت من غير شغلك ميت يا عدي.. قدامي بس روحك مش موجودة. 

ورفع يده على كتفيه الأيسر وهو يحثه بكل عاطفة صداقة امتلكها بحقه: 

_ارجع.. صدقني ياسين الجارحي بنفسه مش هيعارضك في قرارك وهو شايفك بالحالة دي! 

اتسعت تلك البسمة الخافتة، فالتفت ليقابله العين بالعين، وتناطحه كلماته إن شاءت: 

_مينفعش يا رحيم.. أنا بمكاني هنا بعيد عنكم وعن الشرطة وعاجز اني أعرف اللي بيدور حواليا. 

واسترسل بغصة هاجمته بشراسةٍ: 

_مش عارف انا مالي، بحس إن رجال الاعمال اللي اتعاملت معاهم كلهم مجرمين ووراهم كوارث، معرفش ده بسبب شغلي اللي اتعودنا إن الشكوك تكون جزء منه ولا إني خسرت أكون انسان طبيعي!  

تفهم ما يمر به جيدًا، فصمت قليلًا يختار كلماته جيدًا، ثم بدأ بالحديث: 

_انك تأخد حذرك بالتعامل مع كل اللي حواليك ميزة مش عيب يا عدي، بس لا ده مكانك ولا العالم اللي هتقدر تتكيف فيه.. ارجع وعيش في البيئة اللي انت بقيت جزء منها. 

ونهض عن الحجر الضخم، فاستقام الأخير بوقفته حتى بات قبالته، وضع رحيم يده بجيوب جاكيته الأسود، ثم قال بحنكٍ: 

_لو كان لينا لقاء تاني مش عايز أشوفك بالشكل ده... أنا واثق انك قادر تواجه والدك وترجع لمكانك.. سبق ليا واتعاملت مع ياسين الجارحي شخصيًا وقدرت أكون فكرة عن شخصيته. 

انتبه لكلماته بحرصٍ، فاستطرد الاسطورة قائلًا: 

_اصراره انه يدخلك المقر مع ولاد عمك غريب قصده بيه شيء تاني، يمكن عايز يعلمك حاجة أو يبعدك عن أذى وظيفتك المحاوط بيك.. بس حتى السبب ده مش منطقي لانك في دايرة الخطر من اللحظة اللي قبلت بيها بوظيفتك الا لو حس إن الخطر زاد عليك! 

أراد أن يرسل إليه رسالة مبطنة، وقد نجح بزرع شكوكه داخل من يستمع إليه بحرصٍ، غادر رحيم وتركه يعيد حسابات حديثه جيدًا عله ينتبه لما يدور من خلفه، اتجه لسيارته السوداء، فما أن اقترب منها حتى أسرع السائق بفتح بابها استقبالًا لسيده، صعد رحيم لسيارته، ثم خلع نظارته القاتمة لتظهر زيتونية عينيه الساحرة، حرر زجاج النافذة رغم برودة الأجواء، ولكنه كان بحاجة للهواء النقي يصل إليه، على رنين هاتفه فتناوله وهو يجيب على مضضٍ بعد رؤية اسم المتصل، ليجده يردد بانفعالٍ: 

_عملت اللي في دماغك يا رحيم وروحت لعدي!! 

وحينما لم يجد رد من أخيه المتعجرف، فاض بضيقٍ: 

_قولتلك والده بنفسه أصر عليا انه ميعرفش حاجة.. أنت مش مدرك ان حياته في خطر! 

استمع اليه بجمودٍ تام، حتى انتهى من ذروة غضبه، فقال بصلابة: 

_أنا عارف أنا بعمل أيه يا مراد، عدي لازم يأخد احتياطاته ويفوق للي بيحصل حواليه.. ال*** ده هيهاجمه في اقرب وقت وساعتها لا أنا ولا أنت ولا حتى ياسين الجارحي نفسه هيقدر يحميه، هو كفيل انه يحمي نفسه عدي مش ضعيف!! 

بغيظٍ دامي ردد: 

_رحيم زيدان مستحيل هتدي لنفسك فرصة تسمع اللي حواليك.. قرارك من دماغك مع اني نبهتك يا أخي! 

بعنادٍ قال: 

_أنا صح.. وبعدين اللي أنا عملته من شوية يخليك تمدح في الاسطورة لسنين جاية قدام. 

بفضولٍ تساءل: 

_عملت أيه؟

ابتسامة ماكرة تشكلت على طرفي شفتيه المقوسة، فاسترخى بجلسته بخبثٍ تسلل لوجهه رويدًا رويدًا. 

                          ******

ساعده بفتح عينيه لشيءٍ هام،ما يحدث حوله ليس طبيعيًا بالمرةٍ، وبالأخص الحادث الذي كاد بقتله هو وابن عمه، تراجع عدي للحجر وهو يحمل كتفه الأيسر بألمٍ مفاجئ اكتسح أعلى كتفه، فحاول أن يحرك ذراعه ولكن الآلآم جعلته كالعاجز، دقيقة كاملة استغرق بها الألم رحلة شاقة حتى انتهت مفعولها سريعًا، ومازال يتفحص كتفه بدهشةٍ وسبب الألم ليس معروف إليه بالمرة، كاد بخلع قميصه ليتفحص جلده بعنايةٍ، ولكن رنين هاتفه برقم رحمة جعله ينشغل عما أراد فعله!   

                            ******

بسيارة الاسطورة. 

فتح الحاسوب الخاص به، وهو يتابع اشارات التعقب الذي زرعها بكتف عدي دون أن يدرك ذلك، لعبته التي لطالما برع بها وأضافت لاحدى مميزاته، لجئ اليها الآن ليضع تحركات عدي نصب عينيه، حتى يتمكن بالفريق المشكل بقيادته بالقبض على المجرم الهارب من العدالة، ابتسامة الرضا احاطته وهو يراها تعمل بحرفيةٍ ليبدو الآن بأن مهمته بتأمين رفيقه تمت على أكمل وجه! 

                          ******

 بالمنزل الخاص بالفتيات.. 

وجد الشباب الباب شبه موصود، فدفعه رائد بقدميه، ثم ولجوا جميعًا للداخل، الهدوء والظلام كان يخيم على المنزل، وكأنه خالي من سكانه المشاغبات، شق صوت جاسم الغبار المتهالك وهو يتساءل بحيرةٍ: 

_هما راحوا فين؟ 

اتاه صوت أحمد الساخر يجيبه: 

_تحت التربيزة! 

انطلقت النظرات لأسفل الطاولة الخشبية العتيقة، فوجدوهن يترصون أسفلها، يكادون يكتمون أصوات رجفتهن بصعوبةٍ بالغة، رفع عمر ومعتز الغطاء المنسدل على طرفي الطاولة، فصرخن الفتيات رعبًا، وسرعان ما افرغت كلًا منهن ما تحمله بزجاجتها الخاصة في أعين الأشباح المتطفلة عليهن، إلتهبت أعين الشباب فجأة حينما استقبلت وابل الشطة الحارقة، فتراجعوا للخلف وصوت تأوهات خافتة تحيط بمن كان في مقدمة العاصفة القاتلة، فكان عمر، وحازم، ومعتز، وجاسم من أوائل من تعرضوا لتلك الغارة، بينما ظل أحمد وياسين يرقبون ما يحدث باستغرابٍ، اتجه رائد للائحة الكهربائية، فشغل المصابيح، فردد ياسين بغضب: 

_اخرجوا وبطلوا شغل العيال ده؟ 

سماع صوته البشري أفاض بقلوبهن الطمأنينة، فخرجوا خلف بعضهن البعض، ليتأملوا ما أصاب الشباب بصدمةٍ، جذب أحمد زجاجة مياه من البراد وأخذ يسكب على أعينهم بمساعدة رائد، فقال معتز بعصبيةٍ: 

_دول لا نافعهم بلطجية ولا أشباح!  

بينما صرخ حازم بألم وهو يفرك عينيه: 

_آه عيني منكم لله.. حسبنا الله ونعم الوكيل.

نجح جاسم بفتح أحد عينيه، فقال بعتاب يستميلهم لما فعلوه من بطولة مشهودة: 

_ده جزائنا اننا جينا على ملى وشنا نطمن عليكم،  بتروشنا بالشطة!!  ده انتوا لو بتهاجموا طبق كشري مش هتعملوا كده! 

شعور الذنب بات مضاعفًا داخل كل فتاة، فوقفن يتأملن أزواجهن بخزيٍ، تفرق جمعهم تاركين رئيسة القيادة عزلاء، واتجهت كل فتاة لزوجها بالمنشفة الورقية، تحاول مساعدته، بينما ظلت نور بمفردها تتأملهم بغيظٍ، فصاحت باندفاعٍ: 

_ده مكنش اتفاقنا! 

تجاهلها الجميع، فدنا عمر منها ثم قال بسخطٍ: 

_منظرك مش لطيف بصراحة! 

استهزأ به جاسم: 

_ده تمامك يعني!  المفروض تاخد موقف قوي بحيث تتراجع عن اشعال الثورات تاني، هي أساس كل البلاوي دي اتعامل على هذا الأساس! 

وقف جوارها، ثم همس وهو يشير لها باصبعه: 

_عجبك كده... جايبلي الكلام من الكل.. نفسي أعرف بس أنتي كان طموحاتك أيه في الحياة.. لو حابة تعملي حزب سياسي وثورة على نظام الحكم يبقى بره بيت الجارحي مش جواه انتي كده مش هتلحقي تدخلي المعتقل! 

جلست على المقعد المجاور لها وعدلت من طرف فستانها الأسود بعنجهيةٍ لحقت نبرتها المتغطرسة: 

_أنا مستمرة وهستمر في قمح ظلم الرجال المستبدة اللي زيك وزي ولاد عمك، لحد ما تلجئوا للتوبة الأكيدة وعلى ايدي بإذن الله. 

خرج عن رزانته، فكاد بالسقوط بها للخلف وهو يصيح من بين اصطكاك أسنانه: 

_والله محد مستبد غيرك.. اعقلي يا نور وفكك من شبح ريتشارد قلب الأسد اللي ساكن جواكي ده، الشباب لو حطوكي في دماغهم هيكرهوكي في نفسك.. لو عدي فاقلك هيفرمك. 

دفعته بقوةٌ للخلف وهي تصيح بانفعالٍ نجح بجرف قدميها اليه: 

_عدي مين.. احنا معانا الكنج يا حبيبي، مكالمة واحدة لياسين باشا الجارحي يقعدكم في البيت. 

راقب الشباب ما يحدث بضجرٍ وملل ينتابهم حينما يحاول أحدٌ منهم التوصل لحل حيادي مع قوة زعامة النساء داخل نسل الجارحي، فتدخل أحمد بينهما، حينما قال بتريثٍ: 

_أيه اللي يراضيكِ يا نور وصدقيني مش هنختلف. 

ابتسامة واسعة تسللت على شفتيها، فغمزت بمكر لعمر ومن ثم جذبت المقعد المجاور لها، واتجهت لمنتصف الردهة، وضعته وجلست عليه لتكون قبالتهم، وجذبت ورقة وقلم واخذت تدون أشياء مجهولة زرعت القلق بالنفوس، عما تخطط له، ومن ثم قالت: 

_نبدأ بالأكبر سننًا فالأصغر... ومعانا ياسين. 

رمش بعينيه بذهوٍ، ومع ذلك بدى ساكنًا بإشارة أحمد المتوسلة له، فتابعت نور قائلة: 

_والله يا بشمهندس سجلك نضيف لدرجة إني زعلانه وأنا بناقشك بالشكوة التافهة دي،بس ما علينا..

وتنحنحت وهي تسترسل بصوتٍ خشن:

_ الزوجة تشتكي إنك أحيانًا بتقصر بواجباتك كزوج وإنك بتخرجها كل فين وفين، مع ذكر مميزات كتيرة تخلينا ممكن نتغاضى عن أخطائك. 

ردد بصدمة: 

_اخطائي!! 

أشار له أحمد مجددًا، فرسم ياسين بسمة مصطنعة وهو يخبرها: 

_حاضر يا نور، هحاول أخد بالي من النقطة دي.. أي نصايح تانية؟ 

هزت رأسها بالنفي، وأشارت له وهي تمزق صفحته من دفترها: 

_براءة. 

وجذبت ورقة أخرى ثم قالت: 

_أستاذ احمد. 

كبت أحمد ضحكة كادت بالانفلات منه، وقال بثباتٍ: 

_خشي في العيوب على طول يا نور، انتي قريبة منهم وهتقدري تسمعي عيوب احنا منعرفهاش عن نفسنا.. فالافادة خيرًا من المؤامرة. 

ابتسمت وهي تخبره: 

_سجلك أبيض وبورد فوشيا. 

وضع يده على موضع قلبه بمرحٍ: 

_اللهم لك الحمد.

رفعت القلم تحذره: 

_بس عندك ثغرة لازم تاخد بالك منها. 

ضحك تلك المرة وهو يخبرها: 

_سامعك اتفضلي. 

قالت وهي تطوي صفحته: 

_اسمع الولية وسامح يا عم.. ده رمضان داخل المسامح كريم وكل سنة وأنت طيب. 

وقبل أن يجيبها، فتحت صفحة جديدة وهي تتطلع للشخص المقصود: 

_الأخ رائد بقا ما شاء الله كل تاريخه أسود، مفيش حاجة شفعتلك خالص. 

أشارت رانيا الى نور لتتوقف عن حديثها هذا، ففضحت أمرها حينما قالت: 

_بتشاورلي ليه مهو ضعفك وحبك الزايد ده اللي مخليه شايف نفسه عليكي يا خايبة، لو كنتي مشيتي معايا في جلسات علاجه وعملتي لنفسك قيمة وكاريزما كان زمانه الوقتي بيعض أصابعه ندمًا، لكن من أول يوم بوظتي خططنا وراحة تتكفي على وشك قدامه بوظتي كل شيء!!! 

كز رائد على أسنانه فكاد بأن يجيبها بكلماتٍ لازعة، لولا اشارة أحمد المتحكم بانفعالات الجميع، فقال ببسمة ساخطة: 

_أوعدك اني هتغير. 

مزقت الصفحة وهي تردد بنزقٍ: 

_هنشوف ياخويا.. كل شيء هيتكشف ويبان. 

ودونت على الصفحة الاخرى قائلة: 

_كابتن معتز بقا. 

قاطعها بتوعد: 

_بلاش أنا يا نور عشان زعلي وحش. 

هدرت بغضبٍ: 

_على نفسك يا حبيبي قولت انا مسنودة من ياسين الجارحي... وبعدين انتوا محتاجين حد يواجهكم بعيوبكم عشان تفوقوا للجواهر اللي معاكم دول، حياة رجال الأعمال دي متلزمناش انا بحارب عشان الغلابة دول! 

تطلعوا تجاه الفتيات بناء على إشارة اصبعها، فوضعت كلا منهن بخاخة الشطة الحارقة من يدها، وتوسدن ملامح البراءة المصطنعة، استرسلت نور قائلة: 

_انت يا أخ معتز مش قادر تفرق بين كيان المرأة وبين طقم السكرتارية اللي محدش طايقك فيهم.. الكلام جايلي وأنا في قلب الحدث ومع ذلك مصممة اساعدك تتغير، يبقى تاخد بالك وتلم الجلافي اللي ملهاش صاحب دي وتأخد بالك من الغلبانه اللي قررت تحارب عشان كيونة المرأة. 

_أيـه! 

تساءل عمر بدهشة، فقالت وهي تمزق صفحته: 

_كيان المرأة يا دكتارة روق. 

اتجهت أعين عمر لنظرات الشباب المتوعدة له ولزوجته، فقال بخوفٍ: 

_مستعد أطلق! 

رددت نور بصوتٍ عالي: 

_أستاذ جاسم. 

أجابها بنفورٍ: 

_مش موجود. 

تجاهلت ما قال وأخذت تدون وهي تردد بصوت مرتفع: 

_انعدام المسؤولية. 

جحظت عينيه بصدمةٍ، فاسترسلت: 

_مينفعش ترمي مسؤولية البيبي على مراتك طول الوقت، دي بنت ناس اتجوزتك واتشاركتوا معًا في عملية الانجاب كونك تخلع من مسؤوليتك بعد كده يخليك أب غير مسؤول بالمرة. 

أمسك جاسم معصمه، حينما شعر بأنه على وشك مهاجمتها في الحال، وهمس إليه: 

_عدي المركب تمشي.. دي الريسة يا باشا. 

ابتلع ما تردد على لسانه وقال بهدوءٍ زائف: 

_ماشي يا نور.. هاخد بالي حاضر. 

مزقت الصفحة من أمامها، ثم دونت الأسم التالي وهي تردد بضجر: 

_حازم باشا انت صفحة واحدة لا تكفي العيوب اللي قدامي، أنت عايز مجلد يمتد إلى ما لا نهاية، أنا حقيقي والله مكسوفالك، بكبورت شكاوي تم لصقه في صفحة شكواك لدرجة اني عاجزة اعاتبك عن أيه ولا أيه.

برق بعينيه، فوزع نظراته بينها وبين زوجته التي تناطحه النظرات بكل برود، وكأنها لا تهرب من فعلتها، فتحرر لسانه عن لجام تحكمه: 

_كل ده شكاوي ليه يا بنتي هو القسم قصر معاكي في أيه؟ اطلعي واعمليلي بلاغ اني متحرش بالمرة!

أغلقت نور الدفتر ثم قالت: 

_احنا هنا مش للخناق يا حضرت احنا هنا عشان نحل المشاكل بالعقل والرقي. 

لوى فمه بسخطٍ: 

_رقي!  هو لو في رقي هيبقى في المهزلة دي. 

وشكك بمصدقيتها حينما طعنها بسؤالٍ فضح نواياها: 

_طب وفين استاذ عمر من المجلدات والسيدهات دي!  حالًا اطلعيلي بصفحته! 

بسمة شبه ساخرة ارتسمت على معالمها، واتبعها نبرتها الساخطة: 

_تفتكر انا محتاجة اعمل مجلد.. أنا بتناقش معاه أول بأول لكن انتوا اللي حسيت اني قصرت في التحقيقات شوية بسبب انشغالي بالحمل والولادة والامور اللي أنا في غنى عنها. 

كاد باستمرار المعركة بينهما، فقاطعهما أحمد: 

_حازم خلاص.. 

واستدار تجاهها ثم قال بجدية تامة: 

_نور أنا عارف إنك قريبة من البنات أوي، وبعترف اننا كلنا قصرنا بالفترة الاخيرة، عايزك تعرفي اننا مش مضايقين من مساندتك للبنات، بس ياريت كمان توضيحي ليهم انهم كمان غلطنين زيهم زينا.. الغلط عمره ما كان عيب، العيب اننا منعترفش بيه أو نرمي مسؤوليته على الطرف التاني. 

ردت عليه قائلة: 

_هم خدوا نصيبهم.. ثم اني مبقولش شيء مش باين لينا كلنا.. مشاكلكم يا محترمين مسمعة للقصر كله حتى رحمة الملاك اللي محدش كان بيعرف عنها حاجة انضمت للحزب. 

وتساءلت بتركيزٍ: 

_هي فين رحمة صحيح؟ 

اجابتها آسيل: 

_طلعت من أول ما النور رجع. 

هزت رأسها بخفوت، ثم اغلقت الدفتر وهي تتابع بمرحٍ قصدته من البداية: 

_عمومًا اعتبروا ان الدفتر اتقفل ومش هيوصل للباشا الكبير، بس بعد كده انا بنفسي هاخد توقعيه بعد استلام الشكاوي.. وده لاني جدعة وأخت عظيمة. 

ناطحها حازم بغيظ: 

_أخت عظيمة أوي بصراحة.. انتي شاطرة بس كل سنتين تقومي علينا الحزب وآ.. 

ضمه رائد اليه وهو يغمز له: 

_ما خلاص يا حازم بتقولك هنفتح صفحة جديدة. 

رددت نسرين بغضب: 

_سيبه يتكلم ويقول اللي عنده.. مهو الموضوع مش على هواه! 

تدخلت داليا قائلة: 

_خلاص يا نسرين نبدأ صفحة جديدة وربنا يستر وتفضل بيضة. 

دنت رانيا منهما ثم قالت: 

_ان شاء الله هتفضل بيضة يا بنات.. وبعدين انتوا من شوية اول ما لجئتوا لجئتوا لمين؟! 

عم السكون بينهن الى أن قالت شروق: 

_يبقى لو كلامهم صح وفتحنا صفحة جديدة يبقى نشتغل كلنا مع بعض وخصوصا بالعرض اللي عمي طالبه. 

أجابها رائد: 

_مفيش مشكلة. 

تطلع كلا منهن للاخرى، ثم رددوا معًا: 

_واحنا كمان معندناش مشاكل. 

                       ******

أخر لقاء جمعهما كان محبطًا للغاية، عبروا لمنتصف الطريق به وتركوا قلوبهما من خلفهما معلقة، تمنت لو تمكنت من رؤياه بالمقر، عساها تحظى بلقائه، تخشى أن تكون تسببت كلماتها بوجعٍ يزيد ألمه ألمًا، وربما ازدادت تلك الآلام بداخلها هي فعنفتها بقسوةٍ لما تفوهت به، كل ما تريده الآن أن يضمها إليه، ويخبرها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، فحاولت الإتصال به مرارًا، وفي كل مرة لم يجيبها كانت تشعر بغصة تذبح صدرها، فأرسلت إليه رسالة قصيرة، تطالبه بالقدوم لرؤيتها فهي ليست بخير، لجأت لأخر طريقة تعلم بأنها لربما ستجدي نفعًا معه، عشقه الجنوني إليها سيجعله يعبر البحور السبع إن تطلب الأمر لذلك، وقد كان لامنيتها التحقق بسماع بوق سيارته، تمهلت بخطاها وضربات قلبها تعلو بعنفٍ، فشعرت بأنها لن تستحمل التحمل على قدميها لأكثر من ذلك، جلست رحمة على الأريكة المقابلة لباب الغرفة، عينيها متعلقة بمقبض الباب بلهفةٍ تسبقها إليه، دقائق طعنت وحدتها رغم تأكدها بأنه هنا، رغم رؤيتها لسيارته بنفسها، رغم سماع صوته بالأسفل يسأل عنها، رغم كل شيء مازالت لا تحتمل تصديق وجوده هنا_لجوارها_ فُتح باب الغرفة، وعينيها التي تلامس أرضية الغرفة ترى حذائه اللامع بوضوحٍ، انتقلت ببطءٍ لتغدو قبالة عسلية عينيه المضطربة، ولسانه يتحرر لينطق بقلقٍ: 

_انتي كويسة؟ 

انصهرت مشاعرها المتجمدة، ورددت بخفوتٍ: 

_عدي! 

أغلق الباب من خلفه، وهرع إليها، تخشبها بمقعدها جعله يتفحصها بعنايةٍ وهو يتساءل: 

_قادرة تتحركي؟! 

هزت رأسها وهي لا تعلم إن كانت تؤكد له أم تنفي، وجوده لجوارها هنا يربكها فحسب، أمسكت رحمة يده تستند عليها حتى استقامت بوقفتها وانطوت داخل ذراعيه تبكي وهي تردد بحزنٍ شديد: 

_أنا حاسة انك لسه زعلان من الكلام اللي قولته، أنا بالغت في كلامي عنك يا عدي.. متزعلش مني أنا غلطت. 

طالبته بالاحتواء ووجدته يرحب بها بحبٍ، حاوطها بذراعيه، ومال برأسه عليها، فعاتبها بإستنكارٍ لحالتها تلك: 

_سبق واتكلمنا عن الحوار ده يا رحمة وقولتلك اني مش زعلان.. أنا مبسوط إنك ماشية كويس على خطوات علاجك. 

اندهشت من حديثه، فابعدها عنه ثم ذهب بها للجلوس على الأريكة، فأبعد عن شعرها حجابها المنفرد، ثم تمعن بالتطلع لحدقتيها قبل أن يخبرها ببسمةٍ زرعت البهجة داخلها: 

_أنا كنت بحاول أكون مختلف في علاقتي معاكِ بعيد عن عصبيتي وتهوري الغبي بس الظاهر إني فشلت، ومواجهتك ليا هو السلمة اللي هتتعالجي منها واللي هتكون بداية اني أفوق وأخد بالي من تصرفاتي كويس. 

واسترسل بصرامة مخادعة بعدما استجمع طرق علاجها كاملًا: 

_ثم انك هتسيبي شغلك والعرض اللي وراكي وهتقعدي تفكري فيا ولا أيه؟  لا كده مش هينفع لو ياسين الجارحي شم خبر هيقعدك في البيت تاني! 

ابتسمت وهي تجيبه: 

_جاهزة اقعد في البيت وفي الحبس نفسه لو أنت راضي عني ومش زعلان. 

سكن الحزن عينيه وهو يرى عشقها يعمي عينيها عن أي شيء حولها، العالم بالنسبة اليها لا يتشكل من غيره، هو وكفى، وليذهب العالم بأكمله للجحيم، تمددت رحمة على الأريكة، واضعة رأسها فوق ساقه، فعبث بخصلات شعرها الطويل حتى غفت تمامًا، فرفض تركها تلك المرة، وحملها للفراش الصغير الذي يتوسط الغرفة، تمدد لجوارها وهو يضمها اليه ربما لأنه هو الذي بحاجة لها على عكس ظنونها باحتياجها الدائم لوجوده وحنانه الدافئ! 

                     *******

انتهى رائد وجاسم من صنع أكثر من خيمة، بعدما قام عمر ومعتز بعزل الأساس بغرفة منعزلة بالأسفل، فحسبة الغرف كانت ضئيلة بالنسبة لعددهم، لذا لجئوا لهذا الحل البديل، ليقضي كل منهم ليله بصحبة زوجته، فكان اختيار الأربع غرف ينطبق لحازم ومعتز، لحصول زوجتهم الحوامل على الراحة، ولياسين لأن مليكة مازالت لم تتعافى بشكلٍ كلي، وبالطبع كان الخيار الرابع لعدي دون سماعه لترشيحات أحدٌ، انتهى الشباب من صنع ما بدأوا به، فراقبهم عمر بضيقٍ اتبع نبرته: 

_شباب اللي عنده رومايتزم ولا أي مرض عضوي يروح ينام في فرشته بدل نومة الأرض دي الله يكرمكم العملية مش ناقصة خنقة ولا جري وش الفجر! 

منحه كلا منهم نظرة ساخطة قبل ان ينحنوا لخيمتهم ليظل بالردهةٍ بمفرده! 

                         *****

بالأعلى وبالأخص بالغرفة الخاصة بمليكة.. 

كان يحمل صغيرته بحنانٍ، يقتطف القبلات على خديها الناعم، انزعجت الصغيرة من لحيته النابتة، فابتسم وهو يراقب انفعالات وجهها بحبٍ، وضعها ياسين على الفراش مجددًا، ثم استعد للتمدد جوارها، فأخذ يهددها بطبطبة يده، وتسلل اليه ضحكة خافتة، جعلته يستدير فوجد مليكة تراقبه، فدنت حتى تمددت قبالتهما ثم قالت ساخرة: 

_حبيبي انت بتبذل مجهود يحترم بس البنت نايمة من ساعتين!! 

وزع نظراته بينها وبين الصغيرة، فابتسم وهو يخبرها: 

_صح. 

وحملها بين يده ثم وضعها بفراشها الهزاز، وعاد ليتمدد قبالتها، حيث احتلت حرف الفراش وهو يجلس بمقدمته، وكلا منهما يواجه الاخر، انتظر ياسين فرصة جلوسهما بمفردهما ليخبرها ما يشغله، فقال بمكرٍ: 

_أنا شايفك بقيتي ما شاء الله افضل من الأول كتير ومع ذلك مجتيش المقر مع البنات ولا مرة! 

بدى الارتباك يغلب وجهها الصافي، فقالت بتلعثمٍ: 

_بصراحه يا ياسين مش حابة أنزل معاهم. 

اعتدل بجلسته وهو يسألها باهتمامٍ: 

_ليه يا حبيبتي.. حد ضايقك؟! 

اجابته سريعًا: 

_لا خالص.. بس مش حابة المبدأ نفسه، أنا عايزة أكون جنب يحيى وملاك مش عايزة أقصر معاهم بشيء.. وشغلي هيجبرني أقصر. 

ارتخت معالمه المشدودة وقال بتفهمٍ: 

_فاهم بتفكري في أيه، بس ده مش مبرر يا مليكة لازم تحافظي على كيانك، مش عايزك تنسي نفسك ولا تركني شهاداتك لمجرد انك تكوني أم ناجحة! 

واسترسل ما بداه قائلًا: 

_ولو على المسؤولية فأنا كمان ليا واجبات زيك بالظبط، مينفعش أشيل ايدي منها.. تربية الاولاد عليا وعليكي، وليكي عليا يا ستي لما تنزلي تشتغلي معانا هروحك بدري ساعتين تلاته بحيث متحسيش بالتقصير مع إن وجود ماما وطنط آية مش هيخلق أي نوع من التقصير بس لو هيريحك فانا معنديش مشاكل نهائي. 

تسللت الراحة اليها، فنمت عن ابتسامتها الرقيقة، دنت منه وهي تخبره ببسمتها الفتاكة:

_أنا مش بحبك من قليل. 

منحها ضحكة هادئة، وبادلها القرب منها بكلامه المعسول: 

_حبي ليكِ صعب يتوصف يا ملاكي. 

                        ********

أغلق أحمد الستار القماشي جيدًا، ثم زحف ليتمدد أرضًا بصمتٍ تام، فاجئ به آسيل، فلحقت به حتى باتت ملصقة به لضيق خيمتهما المؤقتة، تمددت جواره وأغلقت عينيها مدعية انغماسها بالنومٍ، وما مر عليها سوى دقائق بسيطة حتى زفرت بمللٍ وهي تردد بشكٍ: 

_أحمد هو أنت لسه زعلان مني! 

وضع يده أعلى جبينه، وأغلق عينيه بهدوءٍ تام، جعلها تنحني بجسدها تجاهه فطرقت بيدها على صدره وهي تناديه: 

_أحمد. 

أحاط بها فجأة، ففتح عينيه وهو يشير لها بالصمت، هامسًا بمزحٍ: 

_بيفصلنا عنهم حتة قماش.. صوتك!!  

فهمت مقصده بعد وقت من التفكيرٍ، فطرقت بيدها على جبينها بحرجٍ، وانفجرت ضاحكة فكمم يدها وهي يردد بمرح: 

_أخوكي في الخيمة اللي جنبنا! 

                        ******

جلس رائد وزوجته، وجاسم في انزعاج داخل الخيم البائسة التي تقع خيمة عمر منتصفهما، فكانت صوت المشاجرة لا يعلو عليه شيء، وخاصة صوت نور كان يتردد بأنحاء الردهة بأكملها وخاصة حينما صاحت به: 

_بتحاسبني على أيه يا عمر.. ولاد عمك افتروا على خلق الله.. أنت لما تقعد مع البنات وتسمع منهم قلبك هيرق. 

صاح بها بانفعال تام: 

_مينفعش تتدخلي بينهم يا نور.. انتي بتفضحي أسرارهم يا بنتي!  لو واحدة قالتلك كلمتين تعرفي جوزها باللي قالته؟ 

أشارت باعتراض: 

_لا في فرق.. اللي حصل قدامنا كلنا نعرفه مش شيء خاص.. وبعدين أنا كل اللي بعمله ده عشانهم والله.. بصراحة يا عمر حاسة إن ولاد عمك بياكلوا بعقول البنات..عكسي تماما معايا شخص بيقدر النعمة وعمره ما جيه عليا. 

كز على أسنانه بغيظ وأهدر من وسط اصطكاك أسنانه: 

_يا مغرورة هانم.. انزلي على الأرض وبطلي تخلقي مشاكل بين العالم انا معرفش هما مستحملينك ومتقبلين عمايلك المنيلة دي.. واخده عليهم زلة! 

قالت بعنجهيةٍ: 

_لا هما عارفين اني بلطف ليهم الاجواء مع البنات بس بعد ما يعترفوا بغلطتهم. 

خرج عن رزانته: 

_نـور.. ابعدي عن المشاكل ودور ناشطة حقوق المرآة دي عشان هتزعلي من تصرفاتي صدقيني! 

خرج رائد من خيمته، فحاول ان يطرق على قماش خيمتهم، فوجد جاسم يزحف جواره وهو يشير له بالحذاء الملقي لجواره ساخرًا: 

_اضرب فردتين ببعض عشان تعلن وجودك. 

منحه نظرة صارمة، فتابع بسخط: 

_اضرب خلينا ننام في الليلة ال** دي. 

انصاع اليه وأخذ يصدر صوتًا يجذبهما لوجوده، ومن ثم قال: 

_يا عمر احنا مسامحينها ومدينلها الأذن تتدخل وتحل بينا، من فضلك ما تتدخلش بينا وسيب نور ترتاح وتريحني من الصداع ده.. ورانا شغل بكره. 

واستشهد جاسم: 

_نور بتسعى لنشأ امبراطورية جوه الامبراطورية ومدام معاها اذن الباشا الكبير يبقى ازاي أنت هتعترض، نام واسكت يا عمر العملية مش ناقصة! 

وعاد كلا منهما لخيمته ظنًا من أنهم سيحظون بنومة هنيئة بعد محاولات فض النزاع، وشتان بين ذلك انطلق النزاع تلك المرة بينهما حتى سقطت خيمتهم بصحبة الخيم بأكملها! 

                             ******

كان صباح هذا اليوم ينتظره الجميع بصبرٍ كبير، للخلاص من نومةٍ لم تكن مريحة بالمرة، كُلف معتز وحازم بشراء طعام الافطار، فما كان منهما بالاستعداد للخروج، ففتحوا الباب ليغادروا معًا، تراجع حازم للخلف بفزعٍ حينما وجد عثمان يقف قبالته يحمل العديد من الأكياس البلاستيكة بثبات فزع من يقف قبالته، وكأنه رأى شبحًا يطالعه بثباتٍ، فقال برعبٍ: 

_في أيه يا عم على الصبح؟! 

قدم لهم الأكياس وهو يجيبه: 

_الباشا بعتني بالفطار ده. 

تناول منه الأكياس وهو يشير له بارتباكٍ: 

_طب انصرف انصرف. 

حمل عنه معتز بعض الأكياس ثم وضعها فوق الطاولة الخشبية، وعقله شارد بصورة كانت ملحوظة لرائد الذي دنى منه وهو يردد بنومٍ: 

_مالك مش على بعضك ليه؟ 

أجابه وهو يشير على الأكياس: 

_عمي ياسين بعتلنا فطار.. وواضح من حجم الأكل انه عارف بوجودنا هنا! 

تثاءب أحمد وهو يستقيم بوقفته بنومٍ: 

_يعني تفتكر إنه ميعرفش حاجة زي كده! 

وأشار لهم وهو يتناول أحد ثمار التفاح الأحمر: 

_وزعوا الأكياس واستعدوا عشان هنتحرك. 

                         ****

لأول مرة منذ بدأ عملهن بالمقر تأتي كل فتاة بصحبة زوجها، توقفت السيارات بالچراج الخاص بالمقر، وتوافدوا تباعًا للطابق المخصص للشباب حيث اجتمعوا جميعًا بمكتب واحد، فنقل الشباب بنفسهم المكاتب للأسفل باستخدام المصعد، عملوا معًا كفريق جماعي لايجاد معطيات مثالية للعرض المؤكل الفتيات به، وخاصة بعد أن تم قبول عرض عدي، فجلست الفتيات تراجعن العقود جيدًا، وكلا منهن تحاول وضع مقترحاتها لأجل انشاء العرض، انشغلت رحمة بتدقيق جزء خاص بالملف الذي تحمله، فقالت بعد تردد بدى عليها، وكأنه يلجم لسانها عن الحديث بالأمر، بداخلها صوتًا غريبًا يخبرها بأن النقطة التي ستتحدث بها ليست هامه بالمرة، ربما ستحرج ذاتها بالحديث عنها، ولكن لا تعلم لما قالت ببعض الحرج: 

_هو ليه كل العمال اللي في المصانع رجالة؟ 

انتبه الجميع اليها، فترك الشباب مجلسهم البعيد عنهم بقليل، واقتربوا ليجلسون على الطاولة الضخمة المحاطة بعدد ضخم من المقاعد، كقاعة الاجتماعات، فأجابها احمد قائلًا: 

_لأن الشغل في المجال ده صعب أوي يا رحمة.

أضاف رائد قائلًا:

_هو مش من مبدأ التفرقة بس كمان المصانع على الطريق الصحراوي أعتقد مفيش ستات هتقدر تروح المشوار ده كل يوم وترجع! 

واستطرد جاسم: 

_أنا نفسي روحت هناك قبل كده المشوار بعيد وصعب.. بس في نفس المكان مكانه مثالي عشان الادخنة اللي ممكن تسبب مخالفة لو اتعاملت بمنطقة فيها ناس.

هزت رحمة رأسها وحاولت اقناع ذاتها، فقالت بعدم اقتناع: 

_نقدر نعمل كده بدون ما ننقل مكان المصانع، لو وفرنا وسيلة مواصلات ثابتة ليهم وظبطنا المواعيد ومرتبات كويسة أيه اللي هيمنعهم من إن يكون ليهم تواجد جوه المصانع.. 

واستكملت بتردد: 

_أي مكان مفيش فيه لمسة للست جواه بيبقى شبه السجن.. يعني أكيد المصنع مش أنضف حاجة حتى لو عمال النضافة شغالين فيه ليل نهار.. يمكن وجودهم اضافة كبيرة.. حتى لو هنعملهم فرع ومكان مخصص ليهم.. متنسوش أن في ستات كتيرة مطلقة ومحتاجة للشغل ده ويمكن كمان احتياجهم للمسكن يخلينا نعملهم مكان جوه المصنع للسكن وده اختياري، لو واحدة حابة ترجع بيتها وترجع تاني مفيش مشكلة. 

الصمت أطبق عليهم جميعًا، والفكرة تتراقص بعقولهم، ابتسم لها عدي ثم قال: 

_ياسين نفذ فكرة رحمة عملي.. ده هيقوي من فكرة العرض خاصة لو نتيجتها ونجاحها ملموس على الواقع. 

وفتح محفظته الجلدية ثم اخرج منها الفيزا الخاصة به قائلًا: 

_انا اللي همول المشروع ده بنفسي. 

أخرج عمر الفيزا الخاصة به قائلًا: 

_المشروع ضخم وهيحتاج سيولة كبيرة.. أنا معاك في تنفيذه. 

نهض احمد ليضع خاصته هو الأخر قائلًا بمشاكسة: 

_الموضوع محتاج مجازفة.. بس كرجل أعمال المجازفة جزء من شغلي. 

اتبعه رائد ومعتز وحازم وكذلك ياسين وضع الفيزا الخاصة به مثلهم جميعًا وهو يردد بفخر: 

_رغم إن سكونك مكنش مبشر بالبداية بس ابهرتيني يا رحمة.. حقيقي براڤو مشروع زي ده هيفتح بيوت ناس كتيرة أوي.. خاصة إن زي ما قولتي في جزء كبير من السيدات المطلقات واللي محتاجة لشغل  ومسكن فعلا. 

ابتسمت بامتنان وعينيها لا تفارق أعين أول من كان الداعم لها... زوجها وشريكها في كل نبضة امتلكتها يومًا.

ومن خلف الزجاج الشفاف المعاكس لما يحدث بالداخل، كان يراقبهم بنظرة ثاقبة، نادرًا ما تعكس خفياها، ومن جواره رفيق دربه يشاهد بعينيه عظمة جني ثمار تعب ياسين الجارحي بما فعله، فقال يحيى بفخرٍ: 

_مكنتش قادر أفهمك بالبداية يا ياسين.. دلوقتي فهمتك! 

الفصل الرابع والعشرون من هنا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات خليها علي تليفونك وحمل تطبيقنا

تحميل تطبيق سكيرهوم
تعليقات



close
حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-