رواية احفاد الجارحي 5الفصل التاسع عشر بقلم اية محمد رفعت
أي جراحٍ ستفتك بنياطٍ قلبي سوى الفراق، وأي فراقٍ هذا الذي سيغتال مشاعري وجوارحي سوى فراقك، هل أخبركِ بما يحدث داخلي! عساكِ تشفقين على عاشق ود لو لم يأتي عليه هذا اليوم اللعين الذي سينهي سعادته، هذا اليوم الذي حُرمت من لقاء عينيكِ.
هل أخبركِ سرًا؟
أنا دونك بلا روح… أنا دونك جسدًا يتحرك دون غاية أو ادراك منه… أنا الضائع في بحر تاه فيه قاربه وبات يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومع ذلك يتمسك بقشة نجاة قد تصلني للنجاة .. وما النجاة سواكِ!
لمعت عينيه بالدمعٍ وهو يتأمل الطاولة التي أصابت يدها، لطالما كان يخشى البقاء بجناحه لفتراتٍ طويلة، ما يقضه لاجل تبديل ملابسه لا يقتصر سوى على خمسة دقائق ، لا يعلم لما اتجه للرواق الرئيسي فخانته عينيه لمكان سقوطها، ألمه قلبه وهو يتخيل رؤيته لدمائها، جذب “رائد” هاتفه ليتفحص رسائله فانتابته فرحة حينما رأها قد قرأتها بالكامل، حتى وإن لم تجيبه، فسجل لها تلك المرة رسالة صوتية
«حبيبتي عشان خاطري ردي عليا، أنا هموت من قلقي عليكي، أنتي مش متخيلة الحالة اللي أنا فيها، أنا مقصدتش أذيكِ، طلبت منك تخرجي وتسبيني لاني عارف اني لما بتعصب ببقى غبي وأعمى، أنا آسف وعارف اني لو فضلت أعتذرلك من هنا لسنة قدام مش هيكفي على اللي عملته ده، بس عشان خاطر اولادنا يا رانيا تردي عليا، أو على الأقل طمنيني انك بخير»
عساها تمكنت من قراءة رسائله دون فتح المحادثة، فارساله للتسجيل أثار فضولها، او ربما اشتاقت لسماع صوته، حتى ولو اجتمع السخط والغضب منه بقلبها، فتحت التسجيل فتهللت اساريره، فلم يتوقف عن ارسال الرسائل اليها، استغل كل ثانية كانت بها داخل المحادثة، عله يتمكن من استفزازها للرد، ولكن صمتها ذبحه أكثر مما كان يعانيه!
******
عقله توقف عن استيعاب ما يحدث أمام عينه بتلك اللحظة، تسلل لمسمعه صوت دعسات حذاء يقترب من باب المكتب، لا يعلم كيف تمكن بتلك اللحظة من استجماع ذاته، فجذب الصور من أمامه ثم اعادها للظرف، ووضعه بجيب جاكيته، أغلق “أحمد” الباب من خلفه ودنا من المكتب وهو يراقب التغيرات الطارئة البادية على أخيه، فجذب مقعده المقابل إليه وجلس وهو يتساءل بدهشةٍ:
_مالك! تعبت ولا أيه؟
اشار له بإيماءة بسيطة:
_أنا كويس.
وجذب حاسوبه ليتصنع انشغاله بالحسابات التابعة للملف الذي يراجعه، بينما عقله شارد بعيدًا عن مجلس عقله، اتجه أحمد للبراد الصغير ثم جذب زجاجتين من المشروب، وضع احداهما أمامه والاخرى أمام حازم، وقال وهو يعتدل بجلسته:
_مشروبك المفضل.. تقدر تعتبرها مكافاة لمساعدتك اللي لحد الآن بشكك فيها.
لم يأتيه ردًا مشاكسًا اعتاد عليه، فتأكد بأن شكوكه بمحلها، فناداه بصوتٍ مرتفع عله ينتبه اليه:
_حازم.
استدار برأسه تجاهه، فقال بشكٍ:
_لا أنت مش طبيعي.. في أيه قلقتني!
ابعد المقعد عنه، ثم جذب جاكيته ليرتديه على مضضٍ، واتجه للمغادرة وهو يخبره:
_أنا تعبان شوية ومش هقدر اكمل معاك النهاردة.. هرجع اريح شوية ولو اتحسنت كمان ساعتين هرجع.
انتابه القلق، فنهض خلفه يتساءل بلهفةٍ:
_تعبان مالك؟ تحب اطلبلك دكتور؟
منحه ابتسامة دافئة وهو يربت على كتفه:
_الموضوع مش مستاهل ، هرجع اريح شوية والدنيا هتظبط.
تعجب من نبرته الجادة وثباته الذي بدى له غير مبشر بالمرةٍ، ومع ذلك تركه ليغادر، عله ينال قسطًا من الراحة قبل أن يحاصره بأسئلته.
******
خلع عنه الحاجز الطبي الذي يريح كتفه الأيمن، ثم حرك يده ببطءٍ ببعض التمارين الطبية، علها تحظى على تحسن ملحوظ، ركوده يجعل الملل يشد متاعه ويحكم من اغلاقها حوله، تصبب عرقًا من شدة الألم ومع ذلك مازال يحاول، يكره استسلامه للتعب وقتًا طويلًا، فكيف سيصمد للبقاء كل تلك المدة بالمنزل، تمدد عدي أرضًا، ثم بدأ بلعب تمارين الضغط دون اللجوء ليده المصابة، ورغمًا عنه اختل توازنه فاستعان بها، ليتنحى جانبًا وهو يتأوه من شدة الألم، هرع إليه من كان بطريقه للاطمئنان اليه، فعنفه بعتابٍ:
_بذمتك في حد قايم من حادث موت يفكر في رياضة!
وعاونه عمر على الوقوف ثم جذب أحد المقاعد اليه وهو يسترسل بضيقٍ:
_أعملك أيه تاني طيب ده انا اخدت اجازة طويلة عشان أكون جنبك وأمنعك من أي تصرف.. ومع ذلك بتعاند وبتتفذ اللي في دماغك!
تلاش الألم عن نطاق حدوده المسموح، ورسم ابتسامة باهتة وهو يخبره:
_الحق عليا برجعك لذكريات الطب والاشراف على المرضى اللي نستهم وسط الحسابات والمقر!
جذب احد المقاعد ثم جلس جواره وهو يردد ببسمة هادئة:
_بتقول فيها ده أنا وحشني البلطو والمستشفى وكل حاجة!
واسترسل بمرحٍ:
_بس عوضت كل ده وانا بشرف على حالتك البائسة.
رفع احد حاجبيه بسخطٍ:
_بائسة!
هز رأسه ليؤكد له، فمنحه ابتسامة هادئة وهو يتابع تأثره بالحديث، وفجأة قاطعهما صوت طرقات الباب الخافتة، لتطل صغيرته من خلفه، فولجت للداخل حاملة ابنه عمها بين يدها، ثم قربتها منه وهي تخبره بابتسامة رقيقة:
_طنط نور بتقول لحضرتك حلا عاملة مشاكل وعدي بيعيط.
حمل عنها الصغيرة وهو يردد بتأففٍ:
_ما أنا قعدت للاستاذة حلا اللي كل ما أروح مكان القيها سابقاني فيه.
ضحكت الصغيرة بصوت مسموع، خاصة حينما التفت تجاه من يشاكسها، قدم لها عدي اصبعه فتعلقت به ومازالت البسمة تنير شفتيها الوردية، راقبه عمر ببسمة خبيثةٍ، ومن ثم حملها ليضعها بيده وهو يردد ماكرًا:
_حبيبة عمه.. روحيله بقا.
واتجه مسرعًا للخروج ليشير لمن يراقبه بصدمةٍ لما فعل:
_مش ممكن البنت واقعة في غرامك يا وحش.. هروح أنا اشوف مليكة وياسين.
ابتلع ما كاد بالتفوه به، وانتقلت نظراته لابنته التي تعالت ضحكاتها لترسم ابتسامة ساحرة على شفتيه، فسألها بفضولٍ:
_فين ياسين؟
اجابته وهي تلاعب الصغيرة:
_تحت في الحديقة… كلنا بنلعب تحت وهو كالعادة واخد جنب لوحده.
أشار لها عدي وهو يحمل الصغيره:
_تعالي ننزلهم.. يمكن حلا تسكت تحت.
أمسكت يده واتجهوا معًا للمصعد، فتفاجئوا بنور بالداخل، فما أن رأته يحمل ابنتها حتى التفتت للجهة الاخرى قائلة بتذمر:
_جبتها ليه يا عدي أنا مصدقت صرفتها، عايزاني اشيلها وأقف وأنا تعبانه ومش قادرة.
انحنى عدي تجاه اللائحة وقال ساخرًا وهو يضغط على زر الطابق الاول:
_على أساس انها مش سامعة صوتك! متخافيش مستحيل تتعلق بيكِ وهي معايا.
اعتدلت بوقفتها لتتفاجئ بالصغيرة غير عابئة بوجودها، فاتسعت ابتسامتها وهي تخبره بحبورٍ:
_انا هبعتهالك كل يوم مع رحمة.. أو مع عمر المهم اني أنام بليل براحة تامة.
مازحها قائلًا:
_أنا قعدت لانسة حلا ولا أيه؟
ضحكت ثم تساءلت باهتمامٍ:
_فين رحمة؟
اجابها بتريث:
_مش عارف.. بس أكيد تحت.
توقف المصعد فتركها وغادر، بينما اتجهت هي للبحث عنها.
*******
المدة التي قضاها بسيارته لم تكن بالقصيرة لاتخاذ قرارًا هامًا كهذا، ما يقع على عاتقه ضخمًا لدرجة جعلت رقبته تلتوي لما يحمله، لذا قاد سيارته بأقصى سرعتها متجهًا لشركة هذا الأرعن، نجح أخيه بتسديد ضربة قاتلة اليه ومازال يتخفى تحت رداء العمل والمنافسة المتوقعة بين رجال الأعمال فيما لا يلومه أحدٌ، بينما هو يختار المواجهة وجهًا لوجه وليفعل ما شاء، توقفت سيارته امام الشركة، فرفع رأسه تجاه اللافتة الضخمة التي تحوي اسم “مهاب أبو العزم” بنظرةٍ ساخرة، ومن ثم فتح باب سيارته واتجه بكبرياءٍ لا يليق سوى برجل أعمال بحجم امبراطورية “الجارحي” ، اتجه بكل عنجهية لمكتب السكرتارية الخاص به ثم قال:
_عايز أقابل مهاب أبو العزم اديله خبر.
رفعت السكرتيرة رأسها اليه، وهي تخبره بأسفٍ:
_الباشا برة مصر.. حضرتك تقدر تسيب الكارت بتاعك ولما يرجع يحدد المعاد المناسب للمقابلة.
ضيق عينيه بنظرةٍ أربكتها، فاخشوشنت نبرته المتعصبة:
_كلميلي أي مسؤول يجيلي هنا.
ابتلعت ريقها بتوترٍ حينما عاينت الحالة التي تسيطر عليه، فرفعت سماعة الهاتف وهي تردد بإيجازٍ:
_استاذ فؤاد هو النائب عنه.. ثواني هكلمه.
وبالفعل ما هي الا ثواني معدودة حتى أجابها، فأخبرته عن وجود شخص يريد مقابلته بأمرٍ هام، فسألها عن كنايته، وبدورها نقلت سؤالها إليه فقالت:
_أقوله مين؟
حدجها بنظرةٍ قاتلة، متعمدًا تجاهلها، وتحرك بكل ثقة تجاه باب المكتب المقابل اليه، ومازالت السكرتيرة تراقبه وهي تحمل السماعة بين يدها بدهشةٍ.
فُتح الباب على مصراعيه، فانتفض الاخير على مقعده وهو يتأمل ذاك الغريب الذي يستكمل مسيرته اليه، رمش بعينيه بحيرةٍ وهو يحاول التعرف عليه، سبق له التعرف على أفراد عائلة “الجارحي” وبالاخص الشباب ولم يكن له سابق التعرف على اصغرهم، الذي يفضل البقاء بعيدًا عن امور المناقصات واجتماعات كبار رجال الأعمال، الذي حرص جميع الشباب بالحضور باستثنائه هو، لذا فشل بتحديد هويته، فقال بعصبيةٍ بالغة:
_أنت مين وازاي تدخل عليا بالشكل الهمجي ده!
جذبه حازم من تلباب قميصه، ليضع جسده على المكتب بعدما ألقى محتوياته أرضًا بفوضويةٍ، وتحرر صوته الرجولي الخشن وهو يصيح به:
_أنت لسه مشفتش الهمجية اللي هتحصل هنا.
زرع الرعب داخل حدقتيه وهو يستمع لحديثه المقبض، فقال بصعوبة بالحديث:
_انت مين!
اجابه وهو يناوله لكمة أصابت فكه فاطاحته بالدماء:
_أنا اللي هشرب من دمك ودم اللي مشغلك.. الجبان اللي بيتحامي بألعيبه ال** خايف يواجهنا راجل لراجل.. بعد ما العرض اتسحب منه لجئ لطريقة فتحت عليه أبواب جهنم وأنا اللي هحدفه فيها بايدي.
وسدد له لكمة أخرى وهو يصيح باندفاعٍ:
_كنت عايزين الظرف يوصل لاحمد بس حظكم المنيل وقعكم في الاوس* منه.
وركله أسفل معدته فسقط بالمقعد أرضًا، فاتت السكرتيرة راكضًا، فما ان رأت ما يحدث هرولت للمكتب لتطلب رجال الامن، زحف “فؤاد” بجسده للخلف وقد استوعب الآن ما يحدث، فجذبه “حازم” ليقف قبالته، ولف يده حول رقبته وهو يصيح بتهجمٍ مخيف:
_الا بيتعدى على حرمة عيلة الجارحي مالوش غير الموت… وأنتوا ارتكبتوا الابشع لما فكرتوا تستغلوا والدتي وتدخلوها في الدايرة اللي هتتقفل فوق رؤؤسكم.
ورفعه عن الأرض حتى ازرق وجهه وهو يتملص بين يده بصعوبةٍ، مجهادًا ليلتقط أنفاسه، لولا تدخل رجلين من الأمن لكان لاقى حتفه بالتو، ابعده أحد الرجال للخلف، بين لكمه الاخر جوار عينيه، فسعى الاخير لتكتيفه، ركل حازم قدميه ببراعةٍ، ثم دفع رأسه ليصيبه بجبهته، وناوله لكمات متفرقة أصابته في مقتل، وحينما حاول الاخر الدفاع عن زميله، جذب حازم الحاسوب الملقي أرضًا وسط فوضة الاوراق المبعثرة، وهوى فوق رأسه بضربتين متتاليتين حتى سقط مغشي عليه، ولم يتبقى سواه هو وفؤاد الذي يزحف برهبةٍ وفزع، فأشار له وهو يكبت دماء رأسه:
_انا ماليش دعوة.. انا عبد المامور تارك عند مهاب باشا أنا هنا بشوف أكل عيشي!
ضيق حازم عينيه باستمتاعٍ، فوضع يده بجيب سرواله ثم رفع قدميه على حافة المقعد، ليخبره ببرود:
_ده تمام الحريم لما بتتحط في وش المدفع، بتخاف وبتتراجع لورا.. عشان كده يا فوزية عايزك توصلي الكلام اللي هقولهولك ده للبغل اللي مشغلك.. ومتتساش تضيف على كلامي انه يشغل معاه رجالة ويدورلكم على بيت العدل بعد ما يحجبكم!
وانحنى ليكون قبالته والاخير يزدرد ريقه الجاف برعبٍ، حتى تحررت الكلمات المقبضة على لسانه:
_قوله إن الحرب بينا بقت على المكشوف، وإن الصور دي تمنها رقبته وده وعد من أصغر شاب جوه بيت الجارحي يمكن اللي حصل بمكتبه هنا ده يخليه يفكر مرتين قبل ما يحاول يتحدى أسياده.
وأشار للرجلين المفترش باجسادهما الضخمة الارض:
_خليه يتحامى ورا كوم العضلات النفخ دي.. احنا مش محتاجين اللي يحمينا وهيشوف مصيره هيكون ايه.. اعلان الحرب ابتدت بكلمة مني.. واللي جاي خراب عليه وعلى الشركات اللي أسسها هنشوف هيقدر يصد قدام الامبراطورية اللي ميحلمش ينطق اسمها ولا لا.. وكل ده حسابه منفرد بعيد عن اللي عمله ويخص والدتي.
وحرر اخر كلماته بلكمة اخيرة جعلته يفقد وعيه ويترنح جوار رجاله:
_متنساش ولا حرف من اللي قولته!
وانتصب بوقفته ثم اتجه للخروج بخطواتٍ تلامس الأرض بقوةٍ، متعمدًا احداث جلبة عظيمة من خلفه، ففتح باب المكتب ليغادر، فوجد السكرتيرة تختبئ أسفل الطاولة، انحنى تجاهها ثم عاونها على الوقوف، فاحتضنت وجهها بيدها وهي تردد برعبٍ:
_معرفش حاجة والله.
ابتسم وهو يشير لها ساخرًا:
_مبضربش أشباه الحريم.
ثم أشار بإبهامه للداخل:
_اتصلي بالاسعاف تيجي تسعف فوزية عشان بوصل رسالتي للباشا اللي مشغلك.
أومأت برأسها بهستريةٍ عله يرحل قبل أن تتلقى مصيرًا مشابه، فوضع نظارته القاتمة بغرورٍ محاولًا تقليد عدي وياسين الجارحي بقامتهم المثالية، فتحرك خطوةٍ ثم عاد ليقف قبالتها، فقال وهو يشير لها بتقززٍ:
_وابقي استري نفسك انتي نازلة تشتغلي في كبارية ولا شركة محترمة صاحبها سفاح!
أسرعت للبلطو الخاص بها، فارتدته لتخفي فستانها العاري، ونظراتها المرتعبة تراقبه، تركها وغادر بهدوءٍ لا يتناسب عما خلفه من فوضى وهلاك بمثابة تهديد صريح لذلك الأرعن!
*****
جلس أرضًا جوار الصغار، مشاهدتهم وهم يلعبون من حوله بسعادةٍ جعلته يشعر المثل، وخاصة حينما عزفت مريم على البيانو شعر وكأن قلبه يرفرف مع كل لحن تعزفه بحرافيةٍ، لا يعلم لما تذكر بذاك الوقت اللقاء الأول الذي جمعه بمعشوقة قلبه، وكأنها تشبه ذاك اللحن المحمل بقيثارةٍ من شوقٍ، ود لو استمع اليها مطولًا لينعم بصفاء النفس الذي يطوفه، انسحب من عالمه الوردي ليوزع نظراته بين الاولاد، فتعجب حينما لم يجد ياسين من بينهم، حتى يحيى كان يجلس على الطاولة البعيدة يعيد مذاكرة دروسه على حاسوبه الخاص، نهض عدي ثم بدأ بالبحث عنه فوجده يقف بركنٍ منعزل، يضع به لوحاته وألوانه، ويرسم احدى رسوماته بتركيزٍ تام، دنى منه حتى بات خلفه فتفاجئ به يرسم فتاة بملامحها الرقيقة بحرافيةٍ، رفع احد حاجبيه وهو يردد بدهشةٍ:
_مرين!
صوته جعل ياسين ينتبه لوجوده، فنهض بعيدًا عن مقعده، ونظراته المرتبكة لم تترك أبيه الذي حمل اللوحة ليراقب ما نقله ابنه باحترافٍ، ابعد نظراته عن اللوحة بدهشةٍ اتبعت حديثه:
_دي بنت مراد اللي شوفتها.. معقول لحقت تحفظ ملامحها وترسمها بنفسك!
لعق الصغير شفتيه بارتباكٍ، قطعه حينما قال:
_متعودتش أنسى ملامح حد اداني شيء.. وهي ادتني هدية أنا حابتها.
لاحت على شفتيه ابتسامة ماكرة، فهمس بصوتٍ غير، مسموع:
_شكل موضوعنا مخلصش يا مراد.. ده بدايته!
ثم قال وهو يحك جبينه بسخريةٍ:
_ياسين مش عايزك تركز في الهدية وصاحبتها.. الاهم دراستك ومستقبلك ولو اصحاب الهدايا بياخدوا اهتماماتك وعد مني هجبلك صفقة أسلحه هنا.. عشان متبطلش ترسم غيري.
ضحك الصغير وهو يهز رأسه بتأكيدٍ، فمرر يده بين خصلات شعره البني ثم انحنى ليضمه اليه وهو يخبره بحزنٍ لمسه ياسين بنبرته:
_عايزك تكبر وتحقق حلمك.. ومهما حصل اوعى تتخلى عنه.. خليك واثق ان اللي بيتعب ربنا بيقدر تعبه وأنت هتتعب وهتوصل لحلمك وحلمي اللي لسه وقف في نص الطريق ومقدرتش أكمله.
وابعده عنه ليطوف وجهه بيده بحنان:
_عايز أشوف نفسي فيك. يا ياسين.. مش بس الشبه لا أنا عايزك تحقق حلمي اللي عجزت عن تحقيقه.. مستعد تعمل كده؟
لمع الدمع بحدقتيه العسلية، وهز رأسه وهو يجيبه بصوت باكي:
_أكيد.. بس وحضرتك جنبي.
ضمه مجددًا وهو يخبره ببسمة هادئة:
_أكيد يا حبيبي جنبك وعمري ما هكون غير جنبك.
الابتسامة الساحرة تسللت لشفتي من يراقبهما من الاعلى، للحظة شعر بلمعة عينيه تأثرًا بسماع ما دار بين ابنه وحفيده، اغلق ياسين الجارحي نافذة مكتبه الخاص بعدما استمع للحوار المتبادل بينهما، وظل سؤال يطارده
«هل ما فعله بحق ابنه منصفًا؟
وفي حين سماحه لحفيده بتحقيق حلمه بالالتحاق بالشرطة لماذا يحرم ابنه من هذا الحلم!»
شعر بتأنيب الضمير ولأول مرة يشعر بأنه أخطأ بحق عدي، ولكن ماذا سيفعل؟
اللعنة على ذاك القلب الذي يأبى الخنوع خوفًا من أن يصيبه السوء، فيعاتب ذاته مرتين ان أصابه شيئًا، عساه الآن لا يعلم أي طريق سيكمل مسيرته!
******
عاد أحمد للقصر ليطمئن على حازم، وخاصة بعد محاولاته للاتصال هاتفيًا به، وكل مرة كان يحاول بها الاتصال به وجده مغلقًا، كان بطريقه للصعود اليه، فانتبه لوجود الفتيات بأكملهن بالاسفل، فاتجه للقاعة ثم قال وعينيه لا تفارق الارض:
_السلام عليكم ورحمة الله.
انتبهن لوجوده فاعتدلن بجلستهن، بقاء عينيه ارضًا منحتهم فرصة الاستعداد لوجوده، اجابوه السلام فاتجهت عينيه لنسرين ليسألها بقلقٍ:
_حازم عامل ايه دلوقتي.. بحاول أكلمه مش بيرد؟
بدد القلق معالمها، فنهضت عن الاريكة ودنت منه بخطوات بطيئة تتناسب مع حملها المرهق:
_ماله حازم.. مهو كان كويس الصبح وهو نازل المقر!
تساءل باستغرابٍ:
_هو مش فوق!
هزت رأسها وهي تجيبه:
_لا لسه مرجعش! طمني ماله؟
رسم ابتسامة صغيرة وهو يخبرها ما تريح به أعصابها المشدودة:
_لا مفيش أنا افتكرته رجع.. بس يمكن خرج مع معتز وجاسم.
وتركهم واتجه ليصعد للاعلى، فاوقفته داليا حينما نادته قائلة:
_أنا شوفت حازم من شوية كان طالع فوق.
هز رأسه بإيماءة بسيطة، وأسرع للاعلى ليلحق به، وصل للطابق الثاني، فوجده يخرج من المصعد، وعلى ما يبدو بأنه كان باتجاهه لجناح أبيه وما أن رأه حتى عبث بخصلات شعره بفوضوية تخفى اللكمة التي تترك أثرها جوار عينيه اليسرى، قطع احمد المسافة بينهما، حتى بات يقف قبالته، فسأله بلهفة:
_كنت فين يا حازم؟
تعمد الا يتطلع اليه حتى لا يكشف اصابة وجهه، فقال:
_كنت بتمشى شوية.
وتركه وكاد بالمرور من جواره ليستكمل وجهته، امسك معصمه واجبره على الوقوف، فتمعن بالتطلع لوجهه وردد بدهشةٍ:
_أيه اللي في وشك ده!
ابعد يده عنه ثم قال:
_مفيش ده خدش صغير.
لم تمر عليه خدعته، فجذبه ليقف قبالته ثم صاح بانفعالٍ:
_بطل تلف وتدور عليا.. أنت مش طبيعي من الصبح.. قولي حالًا فيك أيه؟
جذب يده بنفاذٍ صبر:
_أحمد أرجوك أنا مش متحمل خناقات بينا حاليًا سبني في حالي.
وكاد بالمغادرة فنجح أحمد بإيقافه مجددًا، وصرخ بغضبٍ:
_مش هسيبك الا لما تقولي مالك؟
منحه نظرة قاتمة اتبعها تعصبه الشديد:
_عايز تعرف مالي… اتفضل.
وقال كلمته الاخيرة وهو يلقي تجاهه الظرف المطوي، فتحه أحمد وهو يتساءل بدهشةٍ:
_ده أيه؟
تعلقت عينيه بما يراه بصدمةٍ، كانت الصور تحوي والدته مع عدة رجال وهي بوضع مخل، وملابس تكاد تكون عارية، اعادها أحمد للظرف سريعًا قبل أن تسقط بيد أحدٌ، وجذبه بغضب كاد بقتله بين يده:
_جبت منين الصور دي يا حازم!
اجابه على مضض وهو يحاول ان يتخطاه ليدلف لغرفة والدته:
_مكافاة مهاب ابو العزم ليك.. ومتقلقش وصله الرد المناسب.
وتركه تلك المرة وتوجه لباب الجناح الرئيسي، طرق عليه حتى استمع اذن الدخول، فاتجه للداخل باحثًا عنها، اغلقت تالين مئزرها وهي ترحب بابنائها ببسمة مشرقة:
_ايه الزيارة المميزة دي.
أمسك احمد يده وهو يهمس له بصوت منخفض:
_بلاش يا حازم.. خلينا نتكلم الاول.
تطلع له بنظرةٍ ساخطة، اتبعها قوله المستهزأ:
_ليه خلينا نتكلم هنا ونعرف أيه اللي بيحصل بالظبط… الصور دي مش متفبركة يا أحمد.
وزعت تالين نظراتها الحائرة بينهما، ثم تساءلت بدهشةٍ:
_صور أيه.. انت بتتكلم عن أيه يا حازم؟
أشار له أحمد برجاءٍ، ولكنه لم ينصاع اليه، فجذب الظرف ثم جذب الصور الموضوعة بداخلها ووضعهم من امامها على الطاولة، انحنت تالين والتقطت ما ناولته يدها، فجحظت عينيها بصدمةٍ مما رأت، اهتزت الغرفة بحوائطها من حولها، فتراجعت بجسدها للخلف، اسرع احمد لمساندتها وهو يردد بخفوت:
_ماما!
ابتعدت عنه ثم جلست على المقعد وعينيها تنهمر بالدمعات، الموقف الذي وضعت به الآن يعد الأصعب على الاطلاق، اخفضت عينيها أرضًا بحرجٍ، لا تمتلك القوة لمواجهة ابنائها، الماضي الذي ظنته قد دفن تحت الانقاض، عاد ليلاحقها بتلك اللحظة، والأبشع من ذلك من يواجهها به.
ما حدث لها طعن قلبه بسلاحٍ نجح ذلك المعتوه بقصد قلبه هو بالأخص بعيدًا عن شقيقه، اقترب منها حازم وانحنى على قدميه ليقابل عينيها الباكية، بعينيه الغارقة بالدموع، فطوف يدها معًا بين يده، كانت هناك عاصفة تقبض روحه وتهز أعماقه، يود معرفة ما الذي دفع والدته لتكن بيومٍ من الأيام كذلك، ولكن مجرد رؤيتها منكسرة أمامه، ضعيفة، لا تقوى على مواجهته اخترق قلبه نغزة حادة كادت باسقاطه ذبيحًا، ضم يدها ثم مال برأسه على ساقيها وقال بصوتٍ محتقن:
_انا مش عايز أعرف حاجه عن الصور ولا عن الماضي.. انا اللي يهمني انك اعظم أم بالدنيا متفكريش إن اللي حصل ده هيقلل من مكانتك عندي أنا بس كنت مشوش.. حقك عليا.
وقبل يدها تاركًا دمعاته تلامس كفها، رفعت تالين يدها وازاحت عنه الدموع، واحاطت وجهه بيدها ثم قالت بصوتها الشاحب الحزين:
_محدش بيقدر يهرب من ماضيه يا حازم، لازم تعرف اني اتجبرت اعيش بالشكل ده، بس أول ما لقيت فرصة اني اتغير وأرجع عن الطريق اللي كنت فيه ده متترددتش ومسكت في ايد باباك اللي مدهالي وبعدت عن كل حاجه يا حازم… والدليل تربيتي ليكم وانكم عمركم ما سمعتوا عني اللي يخليكم توطوا راسكم.
ضمها اليه وقبل جبهتها وهو يردد بحزن:
_انا أسف اني وريتك الصور دي.. حقك عليا متبكيش عشان خاطري.
ابتعدت عنه وهي تمنحه ابتسامة هادئة، تلاشت حينما استعابت شيئًا فسألته:
_بس ازاي وصلك الصور دي.
تلاشت ابتسامة احمد الذي يراقبهما بأعين دامعة، تدخل احمد على الفور حينما جذب الصور ليعيدها بجيب جاكيته وهو يهمس لهما:
_بابا خارج.
انتبهوا معًا لحمزة وهو يخرج من حمامه الخاص، برق بحدقتيه بدهشةٍ:
_أيه اللي بيحصل هنا.. انتوا جيتوا أمتى؟
اجابه أحمد وهو يرسم بسمة هادئة:
_من شوية.
اشار على اخيه بسخط:
_بيعمل ايه الواد ده.. ماله لزق في أمك كدليه.
كبت احمد ضحكاته وهو يشير لحازم:
_قوم يا عم متجبلناش التهزيق الله يكرمك.
انتصب حازم بوقفته، ثم قال ممازحًا اياه:
_أمي ويحق ليا احضنها وأبوسها وأفعل ما شئت.
تهجمت ملامح حمزة، فاقترب من المدفأة ثم جذب سيخ الحديد المطول، وأسرع تجاهه وهو يردد بغيظ:
_وانا يحقلي أقتص منك ما شئت..
هرول حازم للخارج واتبعه أحمد، فما ان ابتعدوا عن محيط الغرفة حتى سأله بجدية تامة:
_احكيلي حالا عملت ايه وازاي اتصابت بالكدمة دي؟
استقام بوقفته أمامه، وهو يسأله بشكٍ:
_ثباتك لما شوفت الصور وطريقتك جوه تدل انك كنت تعرف ده من زمان!
رد عليه بنفور من تصرفه الاحمق:
_ايوه يا حازم كنت على علم بماضيها.. وباللي اختها عملته زمان مع ياسين الجارحي، ومفكرتش للحظة أواجهها عشان محطهاش بالموقف اللي انت حطتها فيه.. أنا مش عارف مخك ده كان فين وانت بتعمل كده!
وعاد ليتحكم بانفعالاته، فربت على كتفه وهو يخبره:
_سيبك من كل ده الوقتي واحكيلي كنت فين!
******
بالأسفل..
استغلت نور انسحاب الفتيات للخارج لتفحص الأولاد بالحديقة، فجلست قبالتها وهي تتأمل شرودها بنظرةٍ حزينة، فقالت بتريثٍ:
_رحمة..
عادت لتناديها من جديدٍ، فانتبهت اليها:
_بتناديني يا نور؟
قالت ساخرة:
_بقالي ساعة بناديلك.
انتقلت من مقعدها لتجلس جوارها على الاريكة، ثم قالت بوضوح:
_انتي فيكي ايه… قوليلي.
كادت بتصنع نبرة دافئة تخبرها بها بأنها على ما يرام، فاوقفتها نور حينما قالت:
_اللي قولتيه ودخل على ماما آية بالمستشفى مش هيدخل عليا يا رحمة.. انا كنت عارفة انك بتكدبي واستنيت الفرصة المناسبة عشان اتكلم معاكي ونكون على راحتنا.
ترقرقت عينيها بالدموع، وجاهدت للبوح عما يضيق صدرها، فقالت بتلعثم:
_نور أنا شوفت مصطفى.
انقبض قلبها لسماع ما قالت، فرددت بعدم استيعاب:
_مصطفى مين؟ ابن عمك!
هزت رأسها فجحظت نور عينيها بصدمةٍ، وخاصة حينما قصت رحمة عليها ما حدث بالتحديد، واتفاقية ياسين الجارحي معها والزامها بالصمت، وختمت حديثها بالمٍ:
_انا بين نارين لا عارفة اصارح عدي باللي عرفته ولا قادرة أخبي عنه أكتر من كده.. خوفي وتفكيري بيفضحوني يا نور.. غير اني هموت من قلقي عليه.
لعقت شفتيها بتوترٍ، وهي تجاهد للحصول على حل مثالي لما تخوضه، فقالت:
_أنا من رأيي تعملي زي ما عمي قالك يا رحمة، عدي عنيد ومش هيقدر يحل الموضوع ده بالعقل.. وانتي شايفة حالته.
قالت ببكاءٍ حارق:
_مهو المشكلة اني مش عارفة ادارى عنه.. عدي عارفني أكتر من نفسي يا نور، لما بيبصلي قلبي بيتقبض يعرف اللي خبيته عنه صدقيني لو عرف اني كنت عارفة وخبيت عنه مش هيعدهالي!
_هو أيه اللي مش عايزاني أعرفه وياسين باشا محظر عليكي الكلام معايا فيه!
صعقت حينما وجدته يستند على الطاولة المطولة، وعلى ما يبدو بأنه يتابع حوارها منذ البدايةٍ، ابتلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة وهي تردد بصوتٍ يكاد مسموع:
_عـدي!
قطع المسافة بينهما، وهي تتراجع للخلف بارتباكٍ وخوف يلمع بحدقتيها، فاستدارت تجاه نور التي تراقبهما بصدمة تماثلها، وانسحبت على الفور تأتي بنجاتها، بينما بقت رحمة في مرمى البصر أمامه، لم يعد هناك مفر من الهروب، وخاصة حينما أمسك راسخها، واجبرها على الاقتراب منه ليسألها بصوت على الرغم من كونه هادئ الا أنه خطير بالدرجة التي جعلت جسدها يرتجف بين يده:
_مخبية أيه عني طول الفترة اللي فاتت دي، أنا كنت واثق إنك بتداري شيء خطير وخايفة أكشفه!
وتحررت عصبيته بنجاحٍ حينما صرخ بها:
_ودلوقتي حالًا هتنطقي وتقولي أيه اللي ياسين الجارحي مش عايزني أعرفه؟
أغلقت عينبها برهبةٍ من صراخه، وترجته بنبرتها المرتجفة:
_عدي..
ذم شفتيه وهو يحركها بين يده بعنفٍ:
_دموعك مش هتشفعلك يا رحمة، انك تخبي عني حاجة ياسين الجارحي عارف بيها دي عندي كبيرة!
استندت بيدها على صدره الذي يعلو دقات قلبه بعصبيةٍ أسفل يدها، وقالت بصوتٍ خافت:
_مقدرش ده موضوع يخص عمي وهو منبه عليا متكلمش فيه.. أرجوك قدر موقفي!
تجمع غضب العالم بأكمله ليسكن عسليته القاتمة، فرفع ذقنها اليه وهو يبعدها عن أحضانه:
_لا مش هقدر.. أي شيء خاص بيكِ يبقى يخصني، الموضوع اللي مراتي فيه ميبقاش سر وهتنطقي بكل حاجة.
_ابعد ايدك عنها فورًا.
صوته الصارم تحرر ليلقي أوامره على من يجابهه بنظرة عند وشراسة، احتدت نظرات ياسين تجاهه، ومازال يحتجز وجهها بين أصابعه، فعاد ليكرر أمره بحسمٍ:
_سمعت أنا قولت أيه؟
اخفض عدي يده عنها، فانتقلت نظرات ياسين لرحمة الباكية وأشار لها:
_اطلعي لمي هدومك وانزلي لعثمان تحت هو عارف هيوصلك فين.
جحظت عينيها في صدمةٍ، فكيف ستتخلى عن زوجها وهو لم يتعافى كليًا، ترجته بنظراتها فلم تجد سوى نظرة جعلتها تهز رأسها في طاعةٍ، وتحركت بجسدها لتتجه للدرج، وفجأة وجدت من يمنعها بالصعود، أمسك يدها بقوةٍ جعلتها تتصنم محلها، ونظراتها المرتعبة تتوزع بينه تارة وبين ياسين الجارحي تارة أخرى!
ودت لو انشقت الارض وابتلعتها، كلا الاختيارين أصعب من الاخر، ولتكن صادقة كفة أي ميزان مقابله ستختل أمامه، هو وكفى، هو العالم بالنسبة اليها، أمانها.. قربه كالاكسجين وبعده سام كثاني أكسيد الكربون، قربه يعني حياتهما معًا، ارتعشت اصابعها فوق قبضة يده القوية، فحاولت ان تحرر يدها عنه ونظراتها تترجاه خلسة، عسليته تمكنت من قراءة ما ترسله له بسريةٍ تامة، يده اهتزت من فرط رجفتها فخشى أن يصيبها السوء لما تتعرض له بتلك اللحظة، فخفف يده عنها، رأها تهرول للأعلى باكية، فسن قلبه وكأنه ينازع بالا ينشق تحت قبضة ذاك الجلاد، اجتمع من بالقصر جميعًا من حولهما، فها قد عاد المشاغب لحلبة تحدياته التي لا تنتهي، هبط عدي الدرج الفاصل بينهما، فوقف قبالته وهو يتساءل بثبات قاتل:
_ممكن افهم ايه اللي بيحصل وانا معرفوش!
بادله النظرات بصرامةٍ، والصمت هو سبيله، فعاد عدي يتساءل:
_من فضلك يا بابا محتاج أفهم اللي بيحصل.. أنا مش عيل صغير عشان حضرتك تخبي عني وتجبر مراتي انها تعمل كده!!
ارتعب الجميع من الدخول لتلك الدوامة المغلقة، فخاضت آية تلك المعركة بمفردها، حينما اندفعت تجاه ابنها، فحاوطت وجهه بيدها معًا، اجبرته على التطلع اليها ثم قالت:
_عدي عشان خاطري تهدى.. ياسين عمره ما بيفكر غير في مصلحتك.. عشان خاطري تعالى معايا..
رفض الانصياع اليها وبقى كما هو، وجهه محاصر بين يدها وعينيه تحاصى عين أبيه، اجبرته آية على التطلع اليها، وهي ترجوه بدموعٍ انهمرت على خدها:
_عشان خاطري… بلاش تقف في وش باباك زي ما بتعمل.. صدقني هتندم يا عدي.. تعالى معايا.
اخفض عينيه عنه بصعوبة ليتطلع لها، فانصاع ليدها التي تدفعه لغرفة المكتب، وفي ذلك الوقت انتهت رحمة من اعداد حقيبتها، وما أن اتجهت للخارج حتى لحقت بها نور وهي تحمل صغيرها، وقبل ان تتفوه بكلمة واحدة قالت:
_مستحيل اسيبك لوحدك وانتي بالحالة دي.. انا قولت لعمر، وموافق اني اروح معاكي.
لم تترك لها المجال للبقاء بمفردها، لحقت بها حتى لابعد مكان تظن الذهاب اليه، وتبقى الوحش ثائرًا لا سبيل لتهدئته سوى معرفة ما يحدث بالتحديد!
******
وصل لمهاب ابو العزم ما حدث بمكتبه بالقاهرة على يد أصغر ابناء عائلة الجارحي، فود لو طالت يده رجاله ليضرم فيهم النيران بنفسه، ربما كان يسدد لهم الضربات خلسة ولكن الآن قد اعلنوا الحرب عليه بمنتصف الساحة، وما هزمه بتلك اللحظة تلاقيه اخر ضربات سددها له “ياسين الجارحي” بنفسه، حينما وصلته احدى مكالماته من رجاله بايطاليا يخبروه بتسجيل صوتي
«ما فعله أحمد الجارحي سبب لشركاتك الكثير من الخسائر، وليس أمامك سوى تلك الصفقة، عليك بكسب ذلك العرض لصالح شركتك والا ستعلن افلاسك، وما تسنى لنا معرفته بأن ياسين الجارحي سيقدم عرضين لشركتين مختلفتين، سمعت بأن العرض الاول المقدم باسم عدي الجارحي وياسين يحيى الجارحي، وأكثر من شاب، أما العرض الثاني المقدم يخص شركة جديدة باسم مليكة الجارحي وعدد من الفتيات، اعتقد بأنه لن يفوت تلك المناقصة سيفوز بعرضٍ منهما لا محالاة!»
كز على أسنانه بقوةٍ كادت باسقاطهما، من كان يفكر بالأمس القضاء عليه يغلبه بالغد دون ترك له مجال كيفية التخلص منه، انتابته رهبة مخيفة من مواجهة ذلك الرجل لذا لم يجد أي حل يلجئ له سوى ما يحيل رأسه منذ اللحظة التي قرر بها الانتقام من عدي الجارحي، خرج عن شروده على صوت احد رجاله وهو يتساءل بقلق:
_هنعمل ايه دلوقتي؟
ابتسامة خبيثة دنست وجهه الشيطاني المخيف، واتبعت فحيحه وهو يردد:
_هنعمل اللي كنا عايزين نعمله من البداية… هنساوم ياسين الجارحي بابنه، بس الفترة دي خلينا نلاعبه على الهادي لحد على الاقل ما اكسب المناقصة دي.
ارتعب وهو يسأله:
_بس ياسين الجارحي داخلها!
اجابه بسخط عظيم:
_ الصفقة دي هتعوض الخساير اللي الشركات اتعرضت ليها لازم نكسبها مفيش قدامنا اي اختيارات تانية… وبعدها هنعمل اللي قولتلك عليه وساعتها مش بس انتقامي من عدي هيكمل.. ياسين الجارحي بنفسه هيجيلي هنا زليل
هل أخبركِ سرًا؟
أنا دونك بلا روح… أنا دونك جسدًا يتحرك دون غاية أو ادراك منه… أنا الضائع في بحر تاه فيه قاربه وبات يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومع ذلك يتمسك بقشة نجاة قد تصلني للنجاة .. وما النجاة سواكِ!
لمعت عينيه بالدمعٍ وهو يتأمل الطاولة التي أصابت يدها، لطالما كان يخشى البقاء بجناحه لفتراتٍ طويلة، ما يقضه لاجل تبديل ملابسه لا يقتصر سوى على خمسة دقائق ، لا يعلم لما اتجه للرواق الرئيسي فخانته عينيه لمكان سقوطها، ألمه قلبه وهو يتخيل رؤيته لدمائها، جذب “رائد” هاتفه ليتفحص رسائله فانتابته فرحة حينما رأها قد قرأتها بالكامل، حتى وإن لم تجيبه، فسجل لها تلك المرة رسالة صوتية
«حبيبتي عشان خاطري ردي عليا، أنا هموت من قلقي عليكي، أنتي مش متخيلة الحالة اللي أنا فيها، أنا مقصدتش أذيكِ، طلبت منك تخرجي وتسبيني لاني عارف اني لما بتعصب ببقى غبي وأعمى، أنا آسف وعارف اني لو فضلت أعتذرلك من هنا لسنة قدام مش هيكفي على اللي عملته ده، بس عشان خاطر اولادنا يا رانيا تردي عليا، أو على الأقل طمنيني انك بخير»
عساها تمكنت من قراءة رسائله دون فتح المحادثة، فارساله للتسجيل أثار فضولها، او ربما اشتاقت لسماع صوته، حتى ولو اجتمع السخط والغضب منه بقلبها، فتحت التسجيل فتهللت اساريره، فلم يتوقف عن ارسال الرسائل اليها، استغل كل ثانية كانت بها داخل المحادثة، عله يتمكن من استفزازها للرد، ولكن صمتها ذبحه أكثر مما كان يعانيه!
******
عقله توقف عن استيعاب ما يحدث أمام عينه بتلك اللحظة، تسلل لمسمعه صوت دعسات حذاء يقترب من باب المكتب، لا يعلم كيف تمكن بتلك اللحظة من استجماع ذاته، فجذب الصور من أمامه ثم اعادها للظرف، ووضعه بجيب جاكيته، أغلق “أحمد” الباب من خلفه ودنا من المكتب وهو يراقب التغيرات الطارئة البادية على أخيه، فجذب مقعده المقابل إليه وجلس وهو يتساءل بدهشةٍ:
_مالك! تعبت ولا أيه؟
اشار له بإيماءة بسيطة:
_أنا كويس.
وجذب حاسوبه ليتصنع انشغاله بالحسابات التابعة للملف الذي يراجعه، بينما عقله شارد بعيدًا عن مجلس عقله، اتجه أحمد للبراد الصغير ثم جذب زجاجتين من المشروب، وضع احداهما أمامه والاخرى أمام حازم، وقال وهو يعتدل بجلسته:
_مشروبك المفضل.. تقدر تعتبرها مكافاة لمساعدتك اللي لحد الآن بشكك فيها.
لم يأتيه ردًا مشاكسًا اعتاد عليه، فتأكد بأن شكوكه بمحلها، فناداه بصوتٍ مرتفع عله ينتبه اليه:
_حازم.
استدار برأسه تجاهه، فقال بشكٍ:
_لا أنت مش طبيعي.. في أيه قلقتني!
ابعد المقعد عنه، ثم جذب جاكيته ليرتديه على مضضٍ، واتجه للمغادرة وهو يخبره:
_أنا تعبان شوية ومش هقدر اكمل معاك النهاردة.. هرجع اريح شوية ولو اتحسنت كمان ساعتين هرجع.
انتابه القلق، فنهض خلفه يتساءل بلهفةٍ:
_تعبان مالك؟ تحب اطلبلك دكتور؟
منحه ابتسامة دافئة وهو يربت على كتفه:
_الموضوع مش مستاهل ، هرجع اريح شوية والدنيا هتظبط.
تعجب من نبرته الجادة وثباته الذي بدى له غير مبشر بالمرةٍ، ومع ذلك تركه ليغادر، عله ينال قسطًا من الراحة قبل أن يحاصره بأسئلته.
******
خلع عنه الحاجز الطبي الذي يريح كتفه الأيمن، ثم حرك يده ببطءٍ ببعض التمارين الطبية، علها تحظى على تحسن ملحوظ، ركوده يجعل الملل يشد متاعه ويحكم من اغلاقها حوله، تصبب عرقًا من شدة الألم ومع ذلك مازال يحاول، يكره استسلامه للتعب وقتًا طويلًا، فكيف سيصمد للبقاء كل تلك المدة بالمنزل، تمدد عدي أرضًا، ثم بدأ بلعب تمارين الضغط دون اللجوء ليده المصابة، ورغمًا عنه اختل توازنه فاستعان بها، ليتنحى جانبًا وهو يتأوه من شدة الألم، هرع إليه من كان بطريقه للاطمئنان اليه، فعنفه بعتابٍ:
_بذمتك في حد قايم من حادث موت يفكر في رياضة!
وعاونه عمر على الوقوف ثم جذب أحد المقاعد اليه وهو يسترسل بضيقٍ:
_أعملك أيه تاني طيب ده انا اخدت اجازة طويلة عشان أكون جنبك وأمنعك من أي تصرف.. ومع ذلك بتعاند وبتتفذ اللي في دماغك!
تلاش الألم عن نطاق حدوده المسموح، ورسم ابتسامة باهتة وهو يخبره:
_الحق عليا برجعك لذكريات الطب والاشراف على المرضى اللي نستهم وسط الحسابات والمقر!
جذب احد المقاعد ثم جلس جواره وهو يردد ببسمة هادئة:
_بتقول فيها ده أنا وحشني البلطو والمستشفى وكل حاجة!
واسترسل بمرحٍ:
_بس عوضت كل ده وانا بشرف على حالتك البائسة.
رفع احد حاجبيه بسخطٍ:
_بائسة!
هز رأسه ليؤكد له، فمنحه ابتسامة هادئة وهو يتابع تأثره بالحديث، وفجأة قاطعهما صوت طرقات الباب الخافتة، لتطل صغيرته من خلفه، فولجت للداخل حاملة ابنه عمها بين يدها، ثم قربتها منه وهي تخبره بابتسامة رقيقة:
_طنط نور بتقول لحضرتك حلا عاملة مشاكل وعدي بيعيط.
حمل عنها الصغيرة وهو يردد بتأففٍ:
_ما أنا قعدت للاستاذة حلا اللي كل ما أروح مكان القيها سابقاني فيه.
ضحكت الصغيرة بصوت مسموع، خاصة حينما التفت تجاه من يشاكسها، قدم لها عدي اصبعه فتعلقت به ومازالت البسمة تنير شفتيها الوردية، راقبه عمر ببسمة خبيثةٍ، ومن ثم حملها ليضعها بيده وهو يردد ماكرًا:
_حبيبة عمه.. روحيله بقا.
واتجه مسرعًا للخروج ليشير لمن يراقبه بصدمةٍ لما فعل:
_مش ممكن البنت واقعة في غرامك يا وحش.. هروح أنا اشوف مليكة وياسين.
ابتلع ما كاد بالتفوه به، وانتقلت نظراته لابنته التي تعالت ضحكاتها لترسم ابتسامة ساحرة على شفتيه، فسألها بفضولٍ:
_فين ياسين؟
اجابته وهي تلاعب الصغيرة:
_تحت في الحديقة… كلنا بنلعب تحت وهو كالعادة واخد جنب لوحده.
أشار لها عدي وهو يحمل الصغيره:
_تعالي ننزلهم.. يمكن حلا تسكت تحت.
أمسكت يده واتجهوا معًا للمصعد، فتفاجئوا بنور بالداخل، فما أن رأته يحمل ابنتها حتى التفتت للجهة الاخرى قائلة بتذمر:
_جبتها ليه يا عدي أنا مصدقت صرفتها، عايزاني اشيلها وأقف وأنا تعبانه ومش قادرة.
انحنى عدي تجاه اللائحة وقال ساخرًا وهو يضغط على زر الطابق الاول:
_على أساس انها مش سامعة صوتك! متخافيش مستحيل تتعلق بيكِ وهي معايا.
اعتدلت بوقفتها لتتفاجئ بالصغيرة غير عابئة بوجودها، فاتسعت ابتسامتها وهي تخبره بحبورٍ:
_انا هبعتهالك كل يوم مع رحمة.. أو مع عمر المهم اني أنام بليل براحة تامة.
مازحها قائلًا:
_أنا قعدت لانسة حلا ولا أيه؟
ضحكت ثم تساءلت باهتمامٍ:
_فين رحمة؟
اجابها بتريث:
_مش عارف.. بس أكيد تحت.
توقف المصعد فتركها وغادر، بينما اتجهت هي للبحث عنها.
*******
المدة التي قضاها بسيارته لم تكن بالقصيرة لاتخاذ قرارًا هامًا كهذا، ما يقع على عاتقه ضخمًا لدرجة جعلت رقبته تلتوي لما يحمله، لذا قاد سيارته بأقصى سرعتها متجهًا لشركة هذا الأرعن، نجح أخيه بتسديد ضربة قاتلة اليه ومازال يتخفى تحت رداء العمل والمنافسة المتوقعة بين رجال الأعمال فيما لا يلومه أحدٌ، بينما هو يختار المواجهة وجهًا لوجه وليفعل ما شاء، توقفت سيارته امام الشركة، فرفع رأسه تجاه اللافتة الضخمة التي تحوي اسم “مهاب أبو العزم” بنظرةٍ ساخرة، ومن ثم فتح باب سيارته واتجه بكبرياءٍ لا يليق سوى برجل أعمال بحجم امبراطورية “الجارحي” ، اتجه بكل عنجهية لمكتب السكرتارية الخاص به ثم قال:
_عايز أقابل مهاب أبو العزم اديله خبر.
رفعت السكرتيرة رأسها اليه، وهي تخبره بأسفٍ:
_الباشا برة مصر.. حضرتك تقدر تسيب الكارت بتاعك ولما يرجع يحدد المعاد المناسب للمقابلة.
ضيق عينيه بنظرةٍ أربكتها، فاخشوشنت نبرته المتعصبة:
_كلميلي أي مسؤول يجيلي هنا.
ابتلعت ريقها بتوترٍ حينما عاينت الحالة التي تسيطر عليه، فرفعت سماعة الهاتف وهي تردد بإيجازٍ:
_استاذ فؤاد هو النائب عنه.. ثواني هكلمه.
وبالفعل ما هي الا ثواني معدودة حتى أجابها، فأخبرته عن وجود شخص يريد مقابلته بأمرٍ هام، فسألها عن كنايته، وبدورها نقلت سؤالها إليه فقالت:
_أقوله مين؟
حدجها بنظرةٍ قاتلة، متعمدًا تجاهلها، وتحرك بكل ثقة تجاه باب المكتب المقابل اليه، ومازالت السكرتيرة تراقبه وهي تحمل السماعة بين يدها بدهشةٍ.
فُتح الباب على مصراعيه، فانتفض الاخير على مقعده وهو يتأمل ذاك الغريب الذي يستكمل مسيرته اليه، رمش بعينيه بحيرةٍ وهو يحاول التعرف عليه، سبق له التعرف على أفراد عائلة “الجارحي” وبالاخص الشباب ولم يكن له سابق التعرف على اصغرهم، الذي يفضل البقاء بعيدًا عن امور المناقصات واجتماعات كبار رجال الأعمال، الذي حرص جميع الشباب بالحضور باستثنائه هو، لذا فشل بتحديد هويته، فقال بعصبيةٍ بالغة:
_أنت مين وازاي تدخل عليا بالشكل الهمجي ده!
جذبه حازم من تلباب قميصه، ليضع جسده على المكتب بعدما ألقى محتوياته أرضًا بفوضويةٍ، وتحرر صوته الرجولي الخشن وهو يصيح به:
_أنت لسه مشفتش الهمجية اللي هتحصل هنا.
زرع الرعب داخل حدقتيه وهو يستمع لحديثه المقبض، فقال بصعوبة بالحديث:
_انت مين!
اجابه وهو يناوله لكمة أصابت فكه فاطاحته بالدماء:
_أنا اللي هشرب من دمك ودم اللي مشغلك.. الجبان اللي بيتحامي بألعيبه ال** خايف يواجهنا راجل لراجل.. بعد ما العرض اتسحب منه لجئ لطريقة فتحت عليه أبواب جهنم وأنا اللي هحدفه فيها بايدي.
وسدد له لكمة أخرى وهو يصيح باندفاعٍ:
_كنت عايزين الظرف يوصل لاحمد بس حظكم المنيل وقعكم في الاوس* منه.
وركله أسفل معدته فسقط بالمقعد أرضًا، فاتت السكرتيرة راكضًا، فما ان رأت ما يحدث هرولت للمكتب لتطلب رجال الامن، زحف “فؤاد” بجسده للخلف وقد استوعب الآن ما يحدث، فجذبه “حازم” ليقف قبالته، ولف يده حول رقبته وهو يصيح بتهجمٍ مخيف:
_الا بيتعدى على حرمة عيلة الجارحي مالوش غير الموت… وأنتوا ارتكبتوا الابشع لما فكرتوا تستغلوا والدتي وتدخلوها في الدايرة اللي هتتقفل فوق رؤؤسكم.
ورفعه عن الأرض حتى ازرق وجهه وهو يتملص بين يده بصعوبةٍ، مجهادًا ليلتقط أنفاسه، لولا تدخل رجلين من الأمن لكان لاقى حتفه بالتو، ابعده أحد الرجال للخلف، بين لكمه الاخر جوار عينيه، فسعى الاخير لتكتيفه، ركل حازم قدميه ببراعةٍ، ثم دفع رأسه ليصيبه بجبهته، وناوله لكمات متفرقة أصابته في مقتل، وحينما حاول الاخر الدفاع عن زميله، جذب حازم الحاسوب الملقي أرضًا وسط فوضة الاوراق المبعثرة، وهوى فوق رأسه بضربتين متتاليتين حتى سقط مغشي عليه، ولم يتبقى سواه هو وفؤاد الذي يزحف برهبةٍ وفزع، فأشار له وهو يكبت دماء رأسه:
_انا ماليش دعوة.. انا عبد المامور تارك عند مهاب باشا أنا هنا بشوف أكل عيشي!
ضيق حازم عينيه باستمتاعٍ، فوضع يده بجيب سرواله ثم رفع قدميه على حافة المقعد، ليخبره ببرود:
_ده تمام الحريم لما بتتحط في وش المدفع، بتخاف وبتتراجع لورا.. عشان كده يا فوزية عايزك توصلي الكلام اللي هقولهولك ده للبغل اللي مشغلك.. ومتتساش تضيف على كلامي انه يشغل معاه رجالة ويدورلكم على بيت العدل بعد ما يحجبكم!
وانحنى ليكون قبالته والاخير يزدرد ريقه الجاف برعبٍ، حتى تحررت الكلمات المقبضة على لسانه:
_قوله إن الحرب بينا بقت على المكشوف، وإن الصور دي تمنها رقبته وده وعد من أصغر شاب جوه بيت الجارحي يمكن اللي حصل بمكتبه هنا ده يخليه يفكر مرتين قبل ما يحاول يتحدى أسياده.
وأشار للرجلين المفترش باجسادهما الضخمة الارض:
_خليه يتحامى ورا كوم العضلات النفخ دي.. احنا مش محتاجين اللي يحمينا وهيشوف مصيره هيكون ايه.. اعلان الحرب ابتدت بكلمة مني.. واللي جاي خراب عليه وعلى الشركات اللي أسسها هنشوف هيقدر يصد قدام الامبراطورية اللي ميحلمش ينطق اسمها ولا لا.. وكل ده حسابه منفرد بعيد عن اللي عمله ويخص والدتي.
وحرر اخر كلماته بلكمة اخيرة جعلته يفقد وعيه ويترنح جوار رجاله:
_متنساش ولا حرف من اللي قولته!
وانتصب بوقفته ثم اتجه للخروج بخطواتٍ تلامس الأرض بقوةٍ، متعمدًا احداث جلبة عظيمة من خلفه، ففتح باب المكتب ليغادر، فوجد السكرتيرة تختبئ أسفل الطاولة، انحنى تجاهها ثم عاونها على الوقوف، فاحتضنت وجهها بيدها وهي تردد برعبٍ:
_معرفش حاجة والله.
ابتسم وهو يشير لها ساخرًا:
_مبضربش أشباه الحريم.
ثم أشار بإبهامه للداخل:
_اتصلي بالاسعاف تيجي تسعف فوزية عشان بوصل رسالتي للباشا اللي مشغلك.
أومأت برأسها بهستريةٍ عله يرحل قبل أن تتلقى مصيرًا مشابه، فوضع نظارته القاتمة بغرورٍ محاولًا تقليد عدي وياسين الجارحي بقامتهم المثالية، فتحرك خطوةٍ ثم عاد ليقف قبالتها، فقال وهو يشير لها بتقززٍ:
_وابقي استري نفسك انتي نازلة تشتغلي في كبارية ولا شركة محترمة صاحبها سفاح!
أسرعت للبلطو الخاص بها، فارتدته لتخفي فستانها العاري، ونظراتها المرتعبة تراقبه، تركها وغادر بهدوءٍ لا يتناسب عما خلفه من فوضى وهلاك بمثابة تهديد صريح لذلك الأرعن!
*****
جلس أرضًا جوار الصغار، مشاهدتهم وهم يلعبون من حوله بسعادةٍ جعلته يشعر المثل، وخاصة حينما عزفت مريم على البيانو شعر وكأن قلبه يرفرف مع كل لحن تعزفه بحرافيةٍ، لا يعلم لما تذكر بذاك الوقت اللقاء الأول الذي جمعه بمعشوقة قلبه، وكأنها تشبه ذاك اللحن المحمل بقيثارةٍ من شوقٍ، ود لو استمع اليها مطولًا لينعم بصفاء النفس الذي يطوفه، انسحب من عالمه الوردي ليوزع نظراته بين الاولاد، فتعجب حينما لم يجد ياسين من بينهم، حتى يحيى كان يجلس على الطاولة البعيدة يعيد مذاكرة دروسه على حاسوبه الخاص، نهض عدي ثم بدأ بالبحث عنه فوجده يقف بركنٍ منعزل، يضع به لوحاته وألوانه، ويرسم احدى رسوماته بتركيزٍ تام، دنى منه حتى بات خلفه فتفاجئ به يرسم فتاة بملامحها الرقيقة بحرافيةٍ، رفع احد حاجبيه وهو يردد بدهشةٍ:
_مرين!
صوته جعل ياسين ينتبه لوجوده، فنهض بعيدًا عن مقعده، ونظراته المرتبكة لم تترك أبيه الذي حمل اللوحة ليراقب ما نقله ابنه باحترافٍ، ابعد نظراته عن اللوحة بدهشةٍ اتبعت حديثه:
_دي بنت مراد اللي شوفتها.. معقول لحقت تحفظ ملامحها وترسمها بنفسك!
لعق الصغير شفتيه بارتباكٍ، قطعه حينما قال:
_متعودتش أنسى ملامح حد اداني شيء.. وهي ادتني هدية أنا حابتها.
لاحت على شفتيه ابتسامة ماكرة، فهمس بصوتٍ غير، مسموع:
_شكل موضوعنا مخلصش يا مراد.. ده بدايته!
ثم قال وهو يحك جبينه بسخريةٍ:
_ياسين مش عايزك تركز في الهدية وصاحبتها.. الاهم دراستك ومستقبلك ولو اصحاب الهدايا بياخدوا اهتماماتك وعد مني هجبلك صفقة أسلحه هنا.. عشان متبطلش ترسم غيري.
ضحك الصغير وهو يهز رأسه بتأكيدٍ، فمرر يده بين خصلات شعره البني ثم انحنى ليضمه اليه وهو يخبره بحزنٍ لمسه ياسين بنبرته:
_عايزك تكبر وتحقق حلمك.. ومهما حصل اوعى تتخلى عنه.. خليك واثق ان اللي بيتعب ربنا بيقدر تعبه وأنت هتتعب وهتوصل لحلمك وحلمي اللي لسه وقف في نص الطريق ومقدرتش أكمله.
وابعده عنه ليطوف وجهه بيده بحنان:
_عايز أشوف نفسي فيك. يا ياسين.. مش بس الشبه لا أنا عايزك تحقق حلمي اللي عجزت عن تحقيقه.. مستعد تعمل كده؟
لمع الدمع بحدقتيه العسلية، وهز رأسه وهو يجيبه بصوت باكي:
_أكيد.. بس وحضرتك جنبي.
ضمه مجددًا وهو يخبره ببسمة هادئة:
_أكيد يا حبيبي جنبك وعمري ما هكون غير جنبك.
الابتسامة الساحرة تسللت لشفتي من يراقبهما من الاعلى، للحظة شعر بلمعة عينيه تأثرًا بسماع ما دار بين ابنه وحفيده، اغلق ياسين الجارحي نافذة مكتبه الخاص بعدما استمع للحوار المتبادل بينهما، وظل سؤال يطارده
«هل ما فعله بحق ابنه منصفًا؟
وفي حين سماحه لحفيده بتحقيق حلمه بالالتحاق بالشرطة لماذا يحرم ابنه من هذا الحلم!»
شعر بتأنيب الضمير ولأول مرة يشعر بأنه أخطأ بحق عدي، ولكن ماذا سيفعل؟
اللعنة على ذاك القلب الذي يأبى الخنوع خوفًا من أن يصيبه السوء، فيعاتب ذاته مرتين ان أصابه شيئًا، عساه الآن لا يعلم أي طريق سيكمل مسيرته!
******
عاد أحمد للقصر ليطمئن على حازم، وخاصة بعد محاولاته للاتصال هاتفيًا به، وكل مرة كان يحاول بها الاتصال به وجده مغلقًا، كان بطريقه للصعود اليه، فانتبه لوجود الفتيات بأكملهن بالاسفل، فاتجه للقاعة ثم قال وعينيه لا تفارق الارض:
_السلام عليكم ورحمة الله.
انتبهن لوجوده فاعتدلن بجلستهن، بقاء عينيه ارضًا منحتهم فرصة الاستعداد لوجوده، اجابوه السلام فاتجهت عينيه لنسرين ليسألها بقلقٍ:
_حازم عامل ايه دلوقتي.. بحاول أكلمه مش بيرد؟
بدد القلق معالمها، فنهضت عن الاريكة ودنت منه بخطوات بطيئة تتناسب مع حملها المرهق:
_ماله حازم.. مهو كان كويس الصبح وهو نازل المقر!
تساءل باستغرابٍ:
_هو مش فوق!
هزت رأسها وهي تجيبه:
_لا لسه مرجعش! طمني ماله؟
رسم ابتسامة صغيرة وهو يخبرها ما تريح به أعصابها المشدودة:
_لا مفيش أنا افتكرته رجع.. بس يمكن خرج مع معتز وجاسم.
وتركهم واتجه ليصعد للاعلى، فاوقفته داليا حينما نادته قائلة:
_أنا شوفت حازم من شوية كان طالع فوق.
هز رأسه بإيماءة بسيطة، وأسرع للاعلى ليلحق به، وصل للطابق الثاني، فوجده يخرج من المصعد، وعلى ما يبدو بأنه كان باتجاهه لجناح أبيه وما أن رأه حتى عبث بخصلات شعره بفوضوية تخفى اللكمة التي تترك أثرها جوار عينيه اليسرى، قطع احمد المسافة بينهما، حتى بات يقف قبالته، فسأله بلهفة:
_كنت فين يا حازم؟
تعمد الا يتطلع اليه حتى لا يكشف اصابة وجهه، فقال:
_كنت بتمشى شوية.
وتركه وكاد بالمرور من جواره ليستكمل وجهته، امسك معصمه واجبره على الوقوف، فتمعن بالتطلع لوجهه وردد بدهشةٍ:
_أيه اللي في وشك ده!
ابعد يده عنه ثم قال:
_مفيش ده خدش صغير.
لم تمر عليه خدعته، فجذبه ليقف قبالته ثم صاح بانفعالٍ:
_بطل تلف وتدور عليا.. أنت مش طبيعي من الصبح.. قولي حالًا فيك أيه؟
جذب يده بنفاذٍ صبر:
_أحمد أرجوك أنا مش متحمل خناقات بينا حاليًا سبني في حالي.
وكاد بالمغادرة فنجح أحمد بإيقافه مجددًا، وصرخ بغضبٍ:
_مش هسيبك الا لما تقولي مالك؟
منحه نظرة قاتمة اتبعها تعصبه الشديد:
_عايز تعرف مالي… اتفضل.
وقال كلمته الاخيرة وهو يلقي تجاهه الظرف المطوي، فتحه أحمد وهو يتساءل بدهشةٍ:
_ده أيه؟
تعلقت عينيه بما يراه بصدمةٍ، كانت الصور تحوي والدته مع عدة رجال وهي بوضع مخل، وملابس تكاد تكون عارية، اعادها أحمد للظرف سريعًا قبل أن تسقط بيد أحدٌ، وجذبه بغضب كاد بقتله بين يده:
_جبت منين الصور دي يا حازم!
اجابه على مضض وهو يحاول ان يتخطاه ليدلف لغرفة والدته:
_مكافاة مهاب ابو العزم ليك.. ومتقلقش وصله الرد المناسب.
وتركه تلك المرة وتوجه لباب الجناح الرئيسي، طرق عليه حتى استمع اذن الدخول، فاتجه للداخل باحثًا عنها، اغلقت تالين مئزرها وهي ترحب بابنائها ببسمة مشرقة:
_ايه الزيارة المميزة دي.
أمسك احمد يده وهو يهمس له بصوت منخفض:
_بلاش يا حازم.. خلينا نتكلم الاول.
تطلع له بنظرةٍ ساخطة، اتبعها قوله المستهزأ:
_ليه خلينا نتكلم هنا ونعرف أيه اللي بيحصل بالظبط… الصور دي مش متفبركة يا أحمد.
وزعت تالين نظراتها الحائرة بينهما، ثم تساءلت بدهشةٍ:
_صور أيه.. انت بتتكلم عن أيه يا حازم؟
أشار له أحمد برجاءٍ، ولكنه لم ينصاع اليه، فجذب الظرف ثم جذب الصور الموضوعة بداخلها ووضعهم من امامها على الطاولة، انحنت تالين والتقطت ما ناولته يدها، فجحظت عينيها بصدمةٍ مما رأت، اهتزت الغرفة بحوائطها من حولها، فتراجعت بجسدها للخلف، اسرع احمد لمساندتها وهو يردد بخفوت:
_ماما!
ابتعدت عنه ثم جلست على المقعد وعينيها تنهمر بالدمعات، الموقف الذي وضعت به الآن يعد الأصعب على الاطلاق، اخفضت عينيها أرضًا بحرجٍ، لا تمتلك القوة لمواجهة ابنائها، الماضي الذي ظنته قد دفن تحت الانقاض، عاد ليلاحقها بتلك اللحظة، والأبشع من ذلك من يواجهها به.
ما حدث لها طعن قلبه بسلاحٍ نجح ذلك المعتوه بقصد قلبه هو بالأخص بعيدًا عن شقيقه، اقترب منها حازم وانحنى على قدميه ليقابل عينيها الباكية، بعينيه الغارقة بالدموع، فطوف يدها معًا بين يده، كانت هناك عاصفة تقبض روحه وتهز أعماقه، يود معرفة ما الذي دفع والدته لتكن بيومٍ من الأيام كذلك، ولكن مجرد رؤيتها منكسرة أمامه، ضعيفة، لا تقوى على مواجهته اخترق قلبه نغزة حادة كادت باسقاطه ذبيحًا، ضم يدها ثم مال برأسه على ساقيها وقال بصوتٍ محتقن:
_انا مش عايز أعرف حاجه عن الصور ولا عن الماضي.. انا اللي يهمني انك اعظم أم بالدنيا متفكريش إن اللي حصل ده هيقلل من مكانتك عندي أنا بس كنت مشوش.. حقك عليا.
وقبل يدها تاركًا دمعاته تلامس كفها، رفعت تالين يدها وازاحت عنه الدموع، واحاطت وجهه بيدها ثم قالت بصوتها الشاحب الحزين:
_محدش بيقدر يهرب من ماضيه يا حازم، لازم تعرف اني اتجبرت اعيش بالشكل ده، بس أول ما لقيت فرصة اني اتغير وأرجع عن الطريق اللي كنت فيه ده متترددتش ومسكت في ايد باباك اللي مدهالي وبعدت عن كل حاجه يا حازم… والدليل تربيتي ليكم وانكم عمركم ما سمعتوا عني اللي يخليكم توطوا راسكم.
ضمها اليه وقبل جبهتها وهو يردد بحزن:
_انا أسف اني وريتك الصور دي.. حقك عليا متبكيش عشان خاطري.
ابتعدت عنه وهي تمنحه ابتسامة هادئة، تلاشت حينما استعابت شيئًا فسألته:
_بس ازاي وصلك الصور دي.
تلاشت ابتسامة احمد الذي يراقبهما بأعين دامعة، تدخل احمد على الفور حينما جذب الصور ليعيدها بجيب جاكيته وهو يهمس لهما:
_بابا خارج.
انتبهوا معًا لحمزة وهو يخرج من حمامه الخاص، برق بحدقتيه بدهشةٍ:
_أيه اللي بيحصل هنا.. انتوا جيتوا أمتى؟
اجابه أحمد وهو يرسم بسمة هادئة:
_من شوية.
اشار على اخيه بسخط:
_بيعمل ايه الواد ده.. ماله لزق في أمك كدليه.
كبت احمد ضحكاته وهو يشير لحازم:
_قوم يا عم متجبلناش التهزيق الله يكرمك.
انتصب حازم بوقفته، ثم قال ممازحًا اياه:
_أمي ويحق ليا احضنها وأبوسها وأفعل ما شئت.
تهجمت ملامح حمزة، فاقترب من المدفأة ثم جذب سيخ الحديد المطول، وأسرع تجاهه وهو يردد بغيظ:
_وانا يحقلي أقتص منك ما شئت..
هرول حازم للخارج واتبعه أحمد، فما ان ابتعدوا عن محيط الغرفة حتى سأله بجدية تامة:
_احكيلي حالا عملت ايه وازاي اتصابت بالكدمة دي؟
استقام بوقفته أمامه، وهو يسأله بشكٍ:
_ثباتك لما شوفت الصور وطريقتك جوه تدل انك كنت تعرف ده من زمان!
رد عليه بنفور من تصرفه الاحمق:
_ايوه يا حازم كنت على علم بماضيها.. وباللي اختها عملته زمان مع ياسين الجارحي، ومفكرتش للحظة أواجهها عشان محطهاش بالموقف اللي انت حطتها فيه.. أنا مش عارف مخك ده كان فين وانت بتعمل كده!
وعاد ليتحكم بانفعالاته، فربت على كتفه وهو يخبره:
_سيبك من كل ده الوقتي واحكيلي كنت فين!
******
بالأسفل..
استغلت نور انسحاب الفتيات للخارج لتفحص الأولاد بالحديقة، فجلست قبالتها وهي تتأمل شرودها بنظرةٍ حزينة، فقالت بتريثٍ:
_رحمة..
عادت لتناديها من جديدٍ، فانتبهت اليها:
_بتناديني يا نور؟
قالت ساخرة:
_بقالي ساعة بناديلك.
انتقلت من مقعدها لتجلس جوارها على الاريكة، ثم قالت بوضوح:
_انتي فيكي ايه… قوليلي.
كادت بتصنع نبرة دافئة تخبرها بها بأنها على ما يرام، فاوقفتها نور حينما قالت:
_اللي قولتيه ودخل على ماما آية بالمستشفى مش هيدخل عليا يا رحمة.. انا كنت عارفة انك بتكدبي واستنيت الفرصة المناسبة عشان اتكلم معاكي ونكون على راحتنا.
ترقرقت عينيها بالدموع، وجاهدت للبوح عما يضيق صدرها، فقالت بتلعثم:
_نور أنا شوفت مصطفى.
انقبض قلبها لسماع ما قالت، فرددت بعدم استيعاب:
_مصطفى مين؟ ابن عمك!
هزت رأسها فجحظت نور عينيها بصدمةٍ، وخاصة حينما قصت رحمة عليها ما حدث بالتحديد، واتفاقية ياسين الجارحي معها والزامها بالصمت، وختمت حديثها بالمٍ:
_انا بين نارين لا عارفة اصارح عدي باللي عرفته ولا قادرة أخبي عنه أكتر من كده.. خوفي وتفكيري بيفضحوني يا نور.. غير اني هموت من قلقي عليه.
لعقت شفتيها بتوترٍ، وهي تجاهد للحصول على حل مثالي لما تخوضه، فقالت:
_أنا من رأيي تعملي زي ما عمي قالك يا رحمة، عدي عنيد ومش هيقدر يحل الموضوع ده بالعقل.. وانتي شايفة حالته.
قالت ببكاءٍ حارق:
_مهو المشكلة اني مش عارفة ادارى عنه.. عدي عارفني أكتر من نفسي يا نور، لما بيبصلي قلبي بيتقبض يعرف اللي خبيته عنه صدقيني لو عرف اني كنت عارفة وخبيت عنه مش هيعدهالي!
_هو أيه اللي مش عايزاني أعرفه وياسين باشا محظر عليكي الكلام معايا فيه!
صعقت حينما وجدته يستند على الطاولة المطولة، وعلى ما يبدو بأنه يتابع حوارها منذ البدايةٍ، ابتلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة وهي تردد بصوتٍ يكاد مسموع:
_عـدي!
قطع المسافة بينهما، وهي تتراجع للخلف بارتباكٍ وخوف يلمع بحدقتيها، فاستدارت تجاه نور التي تراقبهما بصدمة تماثلها، وانسحبت على الفور تأتي بنجاتها، بينما بقت رحمة في مرمى البصر أمامه، لم يعد هناك مفر من الهروب، وخاصة حينما أمسك راسخها، واجبرها على الاقتراب منه ليسألها بصوت على الرغم من كونه هادئ الا أنه خطير بالدرجة التي جعلت جسدها يرتجف بين يده:
_مخبية أيه عني طول الفترة اللي فاتت دي، أنا كنت واثق إنك بتداري شيء خطير وخايفة أكشفه!
وتحررت عصبيته بنجاحٍ حينما صرخ بها:
_ودلوقتي حالًا هتنطقي وتقولي أيه اللي ياسين الجارحي مش عايزني أعرفه؟
أغلقت عينبها برهبةٍ من صراخه، وترجته بنبرتها المرتجفة:
_عدي..
ذم شفتيه وهو يحركها بين يده بعنفٍ:
_دموعك مش هتشفعلك يا رحمة، انك تخبي عني حاجة ياسين الجارحي عارف بيها دي عندي كبيرة!
استندت بيدها على صدره الذي يعلو دقات قلبه بعصبيةٍ أسفل يدها، وقالت بصوتٍ خافت:
_مقدرش ده موضوع يخص عمي وهو منبه عليا متكلمش فيه.. أرجوك قدر موقفي!
تجمع غضب العالم بأكمله ليسكن عسليته القاتمة، فرفع ذقنها اليه وهو يبعدها عن أحضانه:
_لا مش هقدر.. أي شيء خاص بيكِ يبقى يخصني، الموضوع اللي مراتي فيه ميبقاش سر وهتنطقي بكل حاجة.
_ابعد ايدك عنها فورًا.
صوته الصارم تحرر ليلقي أوامره على من يجابهه بنظرة عند وشراسة، احتدت نظرات ياسين تجاهه، ومازال يحتجز وجهها بين أصابعه، فعاد ليكرر أمره بحسمٍ:
_سمعت أنا قولت أيه؟
اخفض عدي يده عنها، فانتقلت نظرات ياسين لرحمة الباكية وأشار لها:
_اطلعي لمي هدومك وانزلي لعثمان تحت هو عارف هيوصلك فين.
جحظت عينيها في صدمةٍ، فكيف ستتخلى عن زوجها وهو لم يتعافى كليًا، ترجته بنظراتها فلم تجد سوى نظرة جعلتها تهز رأسها في طاعةٍ، وتحركت بجسدها لتتجه للدرج، وفجأة وجدت من يمنعها بالصعود، أمسك يدها بقوةٍ جعلتها تتصنم محلها، ونظراتها المرتعبة تتوزع بينه تارة وبين ياسين الجارحي تارة أخرى!
ودت لو انشقت الارض وابتلعتها، كلا الاختيارين أصعب من الاخر، ولتكن صادقة كفة أي ميزان مقابله ستختل أمامه، هو وكفى، هو العالم بالنسبة اليها، أمانها.. قربه كالاكسجين وبعده سام كثاني أكسيد الكربون، قربه يعني حياتهما معًا، ارتعشت اصابعها فوق قبضة يده القوية، فحاولت ان تحرر يدها عنه ونظراتها تترجاه خلسة، عسليته تمكنت من قراءة ما ترسله له بسريةٍ تامة، يده اهتزت من فرط رجفتها فخشى أن يصيبها السوء لما تتعرض له بتلك اللحظة، فخفف يده عنها، رأها تهرول للأعلى باكية، فسن قلبه وكأنه ينازع بالا ينشق تحت قبضة ذاك الجلاد، اجتمع من بالقصر جميعًا من حولهما، فها قد عاد المشاغب لحلبة تحدياته التي لا تنتهي، هبط عدي الدرج الفاصل بينهما، فوقف قبالته وهو يتساءل بثبات قاتل:
_ممكن افهم ايه اللي بيحصل وانا معرفوش!
بادله النظرات بصرامةٍ، والصمت هو سبيله، فعاد عدي يتساءل:
_من فضلك يا بابا محتاج أفهم اللي بيحصل.. أنا مش عيل صغير عشان حضرتك تخبي عني وتجبر مراتي انها تعمل كده!!
ارتعب الجميع من الدخول لتلك الدوامة المغلقة، فخاضت آية تلك المعركة بمفردها، حينما اندفعت تجاه ابنها، فحاوطت وجهه بيدها معًا، اجبرته على التطلع اليها ثم قالت:
_عدي عشان خاطري تهدى.. ياسين عمره ما بيفكر غير في مصلحتك.. عشان خاطري تعالى معايا..
رفض الانصياع اليها وبقى كما هو، وجهه محاصر بين يدها وعينيه تحاصى عين أبيه، اجبرته آية على التطلع اليها، وهي ترجوه بدموعٍ انهمرت على خدها:
_عشان خاطري… بلاش تقف في وش باباك زي ما بتعمل.. صدقني هتندم يا عدي.. تعالى معايا.
اخفض عينيه عنه بصعوبة ليتطلع لها، فانصاع ليدها التي تدفعه لغرفة المكتب، وفي ذلك الوقت انتهت رحمة من اعداد حقيبتها، وما أن اتجهت للخارج حتى لحقت بها نور وهي تحمل صغيرها، وقبل ان تتفوه بكلمة واحدة قالت:
_مستحيل اسيبك لوحدك وانتي بالحالة دي.. انا قولت لعمر، وموافق اني اروح معاكي.
لم تترك لها المجال للبقاء بمفردها، لحقت بها حتى لابعد مكان تظن الذهاب اليه، وتبقى الوحش ثائرًا لا سبيل لتهدئته سوى معرفة ما يحدث بالتحديد!
******
وصل لمهاب ابو العزم ما حدث بمكتبه بالقاهرة على يد أصغر ابناء عائلة الجارحي، فود لو طالت يده رجاله ليضرم فيهم النيران بنفسه، ربما كان يسدد لهم الضربات خلسة ولكن الآن قد اعلنوا الحرب عليه بمنتصف الساحة، وما هزمه بتلك اللحظة تلاقيه اخر ضربات سددها له “ياسين الجارحي” بنفسه، حينما وصلته احدى مكالماته من رجاله بايطاليا يخبروه بتسجيل صوتي
«ما فعله أحمد الجارحي سبب لشركاتك الكثير من الخسائر، وليس أمامك سوى تلك الصفقة، عليك بكسب ذلك العرض لصالح شركتك والا ستعلن افلاسك، وما تسنى لنا معرفته بأن ياسين الجارحي سيقدم عرضين لشركتين مختلفتين، سمعت بأن العرض الاول المقدم باسم عدي الجارحي وياسين يحيى الجارحي، وأكثر من شاب، أما العرض الثاني المقدم يخص شركة جديدة باسم مليكة الجارحي وعدد من الفتيات، اعتقد بأنه لن يفوت تلك المناقصة سيفوز بعرضٍ منهما لا محالاة!»
كز على أسنانه بقوةٍ كادت باسقاطهما، من كان يفكر بالأمس القضاء عليه يغلبه بالغد دون ترك له مجال كيفية التخلص منه، انتابته رهبة مخيفة من مواجهة ذلك الرجل لذا لم يجد أي حل يلجئ له سوى ما يحيل رأسه منذ اللحظة التي قرر بها الانتقام من عدي الجارحي، خرج عن شروده على صوت احد رجاله وهو يتساءل بقلق:
_هنعمل ايه دلوقتي؟
ابتسامة خبيثة دنست وجهه الشيطاني المخيف، واتبعت فحيحه وهو يردد:
_هنعمل اللي كنا عايزين نعمله من البداية… هنساوم ياسين الجارحي بابنه، بس الفترة دي خلينا نلاعبه على الهادي لحد على الاقل ما اكسب المناقصة دي.
ارتعب وهو يسأله:
_بس ياسين الجارحي داخلها!
اجابه بسخط عظيم:
_ الصفقة دي هتعوض الخساير اللي الشركات اتعرضت ليها لازم نكسبها مفيش قدامنا اي اختيارات تانية… وبعدها هنعمل اللي قولتلك عليه وساعتها مش بس انتقامي من عدي هيكمل.. ياسين الجارحي بنفسه هيجيلي هنا زليل