رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل السابع عشر17 بقلم سهام صادق


 

    رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل السابع عشر بقلم سهام صادق

 

أغلق "عزيز" أَزْرَار قميصه بِعُجالة لكن حركة يديه عند الأَزْرَار العلوية تباطأت. 

زفرة طويلة خرجت من شفتيه عبرت عما يجيش بصدره. 

عاد المشهد -الذي لم يمر عليه سِوَى ساعةً واحدة- يخترق ذاكرته. 

لقد ركض وراء القِطة ...لم يدفعه فعل هذا إلاّ من أجلها هي عندما وجدها تركض بلهفة وراء القِطة وتنادي اسمها. 

أسبل جفنيه مع خروج تنهيدة عميقة منه واستكمل إغلاق أَزْرَار قميصه وقد علت وجهه الحيرة من أفعاله الأخيرة. 

التقط المِشْط ليُمَشط به خُصلات شعره الغزير بحركة سريعة ثم التقط قنينة عطره. 

هبط درجات السُلم بخفة ليتحرك صوبه العم "سعيد" قائلًا. 

_ مكنش المفروض تطاوعهم يا بيه وتوافق إن القطة تفضل في الجنينة... مش كفايه خربشتك في ايدك. 

لقد نَسِيَ أمر خَرْبَشَة القطة له. 

ألقىٰ بنظرة خاطفة نحو يده..؛ فأسرع العم "سعيد" بالإقتراب منه لرؤية ما فعلته القِطة. 

_ يا راجل يا طيب متقلقش.

_ أقول إيه عليهم... بقى يخلوك يا بيه تجري ورا قطه. 

ابتسم "عزيز" وربت على كتف العم "سعيد". 

_ مَا دام البنات عايزينها سيبهالهم يا راجل يا طيب. 

امتقعت ملامح العم "سعيد"، فهو بالفعل رضخ لأمره وأخبرهم أنه لولا موافقة السيد "عزيز" ما كان أبقى تلك القِطة بحديقة المنزل. 

_ نص ساعه بالكتير وحضر الغدا. 

قالها "عزيز" بعدما نظر إلى ساعة يده واتجه إلى غرفة مكتبه حيث جلس "نيهان" يتحدث بهاتفه. 

أشار إليه "عزيز" أن يواصل كلامه... 

أنهى "نيهان" مكالمته واقترب منه يجلس قُبَالته ثم أطلق زفيرًا طويلًا بعدما أرخى رابطة عنقه قليلًا. 

_ مشاكل العمل لا تنتهي يا صديقي. 

كان "نيهان" يتحدث اللغة العربية بمزيج من الفصحى والعامية المصرية؛ لكثرة تواجده في مصر ومشاريعه. 

_ شربت قهوتك؟؟.

تساءَل "عزيز"، فابتسم "نيهان" ثم مسح على بطنه. 

_ يا رَجُل أنا جائع...  متى سيأتوا ضيوفك. 

اعتدل "عزيز" في جلوسه، ثم نظر إلى ساعة يده وكاد أن يتحدث لكن "نيهان" قطع كلامه مازحًا بلُطف. 

_ صحيح يا رَجُل مَن تلك الفتاة التي ركضت وراء قِطتها... لم أصدق عيناي وأنا أراك تركض وراء قِطة لكن يبدو أن تلك الفتاة جعلت "عزيز الزهار" ينسى كرهه للقِطط. 

ألقىٰ "نيهان" كلامه ثم قهقه عاليًا بعدما عاد المشهد إلى رأسه. 

_ دي مجرد ردة فعل... البنت كانت واقفه قدامي مفزوعة ولما القطة وقعت من ايدها اتفزعت أكتر وكانت هتقع وهي بتجري وراها. 

بثبات استطاع "عزيز" إخفاء مشاعره وإظاهر اللامبالاة بكلامه حتى لا يكشف "نيهان" أمره. 

هز "نيهان" رأسه لكن المكر تجلى بوضوح في مقلتيه وتساءَل. 

_ أهي من أقارب العم "سعيد". 

_ بنت أخو "عزيز" السواق. 

قدوم "سمية" والسيد "هارون" -زوجها- قطعوا استرسالهم بحديث أراد "عزيز" الهَرب منه وكان له ما أراد...فقد أصبحت جلستهم بعد ذلك تخص العمل وكيف سيتم التأكد من أمر حادث المصنع. 

هل كان كما أخبرتهم الشرطة أم أنَّ هناك يد خفية مندسة. 

تقدمت "عايدة" بالصنية التي وضعت عليها فناجين القهوة وقد فاحت رائحتها. 

_ تسلم ايدك على طعامة الأكل يا ست "عايدة". 

قالها "نيهان" بعدما التقط منها فنجان قهوته، فابتسم "عزيز" وهو ينظر لها بنظرة ممتنة. 

_ "عايدة" طول عمرها نَفسها لا يُعلىٰ عليه في الأكل.

تخضبت وجنتيّ "عايدة" بالخجل من مديحهم وقد أبدى كذلك "هارون" رأيه مادحًا الطعام... أما "سمية" اِكتفت باِرتشاف قهوتها ببطئ دون النظر إليها. 

انسحبت "عايدة" وعادت أدراجها إلى المطبخ. 

نهض "عزيز" بعدما وضع فنجان قهوته الذي أنهاه للتو جانبًا ونظر إلى شاشة هاتفه الذي ارتفع رنينه. 

_ عن إذنكم. 

اعتذر منهم وابتعد عنهم تحت نظرات "سمية" التي التقطت على الفور اسم المتصل بعدما أجاب "عزيز". 

_ ده "سـيـف" 

اتجهت أنظار كلا من "هارون" و "نيهان" عليها بعدما نهضت من المِقعد وسَارت وراء "عزيز". 

_ بقالها كذا يوم بتحاول تتصل بيه ومش عارفه توصله... حتى كانت ناويه تسافرله آخر الاسبوع. 

قالها "هارون" تبريرًا لفعلة زوجته، فحرك "نيهان" رأسه له متفهمًا... رغم علمه بأفعال "سمية" ومحاولتها التقرب من "عزيز" على مدار تلك السنوات.

خرج "عزيز" إلى الحديقه حتى يستطيع الحديث بحرية معه... لكنه تفاجأ بوجود "سمية" ورائه وفي عينيها التمعت اللهفه. 

_ أنا كويس يا "سيف" متقلقش عليا... الحمدلله الحريق عدى على خير ومفيش حد من العمال جراله حاجة... مجرد إصابات عاديه.

وضع "سيف" أغراض التخييم الخاصة به أرضًا جوار باب الشقة بعدما فتح الباب ثم دلفت ورائه تلك الشقراء. 

_ أنا أول ما شوفت رسالة "نيرة" ومكالمتها الكتير اترعبت... كنت في مكان مافيهوش تغطيه ولسا فاتح التليفون أول ما وصلت. 

ثم واصل "سيف" كلامه بعدما ألقى بنظرة خاطفة نحو "كارولين" التي خلعت سترتها القصيرة وألقتها على الأريكة ثم اتجهت نحو البراد لتلتقط زجاجة الماء. 

_ أنا هشوف حجز وهكون قريب عندك. 

_ يا "سيف" قولتلك أنا بخير، أهم حاجه عندي إنك تهتم بنفسك وبرسالة الماچستير.

عندما استمعت "سمية" هذا الحديث منه امتقعت ملامحها وأسرعت على الفور تلتقط منه الهاتف. 

_ بقالي يومين بحاول اتصل بيك وتليفونك مقفول حتى التليفون الأرضي مبتردش عليه. 

غرز "سيف" أصابع يده في خصلات شعره بعدما استمع إلى صوت والدته. 

_ مكنتش في المدينة... كنت في تخييم مع زمايلي.

أشاحت "سمية" عيناها عن "عزيز" بعدما رمقها بنظرة حادة لتسرعها بالكلام ... فزفرت أنفاسها بقوة. 

_ هتنزل امتي مصر... لو "عزيز" بيشجعك على اللي في دماغك إنك تكمل دراستك وتفضل في أمريكا... فأنا بقولك كفايه كده...أنا وهو محتاجينك جانبنا... إحنا مش بنعمل كل الثروة دي لينا. 

_ "سمية"، هاتي التليفون. 

قالها "عزيز" بضيق، فكل ما تفكر به هو المال دون النظر إلى رغبة ابن أخيه. 

أعطته الهاتف ثم أطلقت تنهيدة قوية وأشاحت عيناها عنه. 

أكمل "عزيز" مكالمته مع ابن أخيه وقد اعتذر منه "سيف" كثيرًا لشعوره بالتقصير معه وفي نهاية الحديث كان "سيف" يخبر "عزيز" أنه أبيه وليس عمه وكم يُحبه كثيرًا.

توهجت ملامح "عزيز" بعدما أنهى مكالمته مع ابن أخيه وقد ازدادت ملامح "سمية" مقتًا، فهي لا يعجبها تشجيع "عزيز" له بسلك طريق أخر بعيدًا عن تجارتهم. 

_ طول ما أنت بتشجعه مش هيرجع وهيكمل في طريقه يا "عزيز". 

تلاشت تلك اللمعة التي احتلت ملامح "عزيز" منذ لحظات. 

_ وانا عمري ما هجبر ابن أخويا إنه يتخلى عن حلمه. 

_ حلم إيه يا "عزيز"... 

خرج صوت "سمية" هذه المرة بقوه، فاحتدت عينيّ "عزيز" وتحرك من أمامها. 

_ صوتك ميعلاش عليا تاني يا "سميه"... وأنا حر مع ولاد أخويا اللي اتخليتي عنهم زمان. 

أسرعت "سمية" خلفه تجتذبه من ذراعه حتى يتوقف لكن تراجعت إلى الوراء بعدما رمقها بنظرة جعلتها تسحب يدها عنه. 

_ هتفضل لحد امتى تعايرني بالماضي... 

تجاهلها ومضى في طريقه دون أن يهتم. 

_ أنت السبب يا "عزيز"، لو كنت عاملتني كزوجة وادتني حقوقي مكنتش قررت ابعد عن ولادي... 

توقف "عزيز" مكانه وأغلق جفنيه حتى يستطيع طرد تلك الليلة المخزيه بعدما استطاعت استدراجه لحضنها وعاشرها كزوجة وهذت بين ذراعيه أنها أرادته ليالي طويلة أن يكون هو وليس "سالم". 

اشتعل لهيب الغضب في عينيه، فمهما مضى من سنين طويلة هو لا ينسى ذلك الخزي ولا ينسى حقارتها في تمنيها له وقد كانت تتغنا بحب شقيقه وفجعتها لوفاته. 

تحرك "عزيز" من أمامها دون النظر إليها وقد فتحت
"سمية" بحديثها أبواب الماضي الذي لن يغفره لها يومًا. 

حاولت "ليلى" تخبأت جسدها خلف إحدى الشجيرات قصيرة الطول بعدما استدارت "سمية" بجسدها وتحركت ناحية الجهة التي تقف بها. 

نظرت "ليلى" لما تحمله بيدها ، فهي كانت بطريقها إلى العم "سعيد" بالمطرقة والمسامير من أجل بناء منزل خشبي صغير للقِطة. 

في تمام الساعه السادسة مساءً كانت سيّارة السيد "هارون" برفقة زوجته "سمية" تغادر. 

تعلقت عينين "ليلى" بالسيارة، فكانت بالحديقة بعدما انتهت هي والعم "سعيد" من بناء منزل خشبي للقِطة. 

أتى العم "سعيد" ورائها وهو ينفض جلبابه ثم يديه. 

_ عملنا ليها بيت ولا القصر... عارفين لو لقيتها في البيت هيكون مكانها الشارع. 

ثم أردف مستاءً بعدما نطق الاسم الذي أطلقوه على القِطة. 

_ مسمينها "بوسي"... 

حاولت "ليلى" نفض الأفكار التي تدور برأسها منذ أن لمحت وقوف تلك السيدة مع السيد" عزيز" وابتسمت وهي تتحرك ورائه عائدين إلى مسكنهم. 

_ أنا مش عارفه ليه بتكره "بوسي" يا عم "سعيد". 

استدار لها العم "سعيد" برأسه. 

_ أنا بكره كل القطط، ذكر وأنثى. 

ضحكت "ليلى" ودخلت ورائه المنزل وقد اقترب "عزيز" - العم- منهم قائلاً. 

_ كويس إنكم خلصتوا، أنا و "شهد" سخنا الأكل ورايح اشوف "عايده" عشان نتغدا كلنا سوا. 

اجتمعوا جميعهم ملتفين حول مائدتهم الصغيرة التي تسعهم وقد جلى الإرهاق على ملامح "عايده". 

نهضت "عايدة" بعدما أنهت تناول طعامها. 

_ أنا راجعه الڤيلا عشان انضف المطبخ وأشوف "عزيز" بيه والسيد "نيهان" لو محتاجين مني حاجه تاني...

ثم نظرت لكلاً من "شهد" و "ليلى". 

_" ليلى" أنتِ اعملي الشاي و "شهد" تنضف السفره وتغسل الأطباق. 

زمت "شهد" شفتيها بإعتراض لكن "عايدة" نظرت إلي "ليلى" بحسم. 

_ اوعي يا "ليلي" تضحك عليكي هعاقبكم انتوا الاتنين. 

اتجهت "عايدة" إلي الڤيلا ونهض العم "سعيد" هو الأخر قائلًا. 

_ هستنا اشرب الشاي من ايدك يا "لولو" وبعدين اروح مشواري. 

غادر العم "سعيد" لشراء دوائه الشهري بعدما تناول كوب الشاي وقد أنهت "شهد" جلي الأواني واتجهت إلى غرفتها لتُذاكر دروسها. 

ضاقت عينيّ "ليلى" عندما وجدت عمها يرتدي خفه المنزلي وقبل أن تسأله إلى أين هو ذاهب كان يخبرها. 

_ رايح لـ "عايدة" الڤيلا أساعدها... النهاردة تعبت في شغل المطبخ. 

أسرعت "ليلى" بوضع الصنية التي وضعت عليها أكواب الشاي الفارغة. 

_ أنا هروح ليها يا عمي وأساعدها. 

_ لا يا "ليلى" أنتِ كمان تعبتي النهاردة.

قالها "عزيز" وهو يربت على وجنتها بحنان لكن مع إصرار "ليلى" كان يرضخ بالنهاية. 

شعرت "ليلى" بالشفقة على زوجة عمها التي بدى على وجهها التعب هذا اليوم وقد كانت تقف أمام آلة غسل الأطباق بعدما وضعت داخلها الصحون والأكواب. 

اندهشت "عايدة" من وجودها وقطبت حاجبيها متسائله. 

_ جيتي ليه يا "لولو"... أنا خلاص قربت أخلص المطبخ.

أسرعت "ليلى" إليها تلتقط منها المنشفة الصغيره التي تحملها لتنظف بها رخام المطبخ. 

حاولت "عايدة" مرارًا حتى تستثنيها عن فعل هذا الأمر لكن "ليلى" أصرت كعادتها أن تساعدها. 

_ أنا هقعد قصادك هنا على الكرسي استناكي.

لكن "ليلى" هزت رأسها رافضه اقتراحها، فهي أتت لتجعلها تعود للمسكن وترتاح وتُكمل هي تنظيف المطبخ بدلاً عنها. 

حدقت بها "عايدة" بنظرة أخيرة وهي تتحرك من أمامها. 

_ ربنا يسعد قلبك يا بنت "وردة". 

"وردة" تلك المرأة التي أنجبتها ولا تتذكرها إلاّ حينما  تنظر لصورها أو يحكي لها عمها عنها كلما نظر لها ورأى صورة مصغرة من زوجة أخيه وأخيه أمامه. 

ترقرقت الدموع في عينيها وهي تكمل  تنظيف المطبخ وقد عادت بها الذكريات إلى امرأة ورَجُل لم ترى منهم إلاّ الخير. 

_ "عايدة". 

دلف "عزيز" المطبخ وهو يهتف باسم "عايدة" وقد انتفضت "ليلى" ذعرًا في وقفتها. 

عيناها اتسعت في هلع عندما باغتها بدخوله المطبخ فجأة وقد أخذ صدرها يعلو ويهبط مع اضطراب أنفاسها. 

عيناه رغمًا عنه تعلقت بعينيها التي التمعت بالدموع وقد ضاع بالنظر داخل مقلتيها التي تشبه لون القهوة. 

اقترب منها وعلى محياه ارتسم تساؤل كاد أن يتفوه به لكنه كالعاده سيطر على مشاعره وتوقف مكانه ثم ألقى نظرة خاطفة حوله. 

استطاعت "ليلى" تمالك أنفاسها أخيرًا وسُرعان ما كانت تفرد أكمام بلوزتها التي قامت بثنيها من أجل ألا تبتل أثناء تنظيفها. 

ضاقت حدقتاه عندما جذبته فعلتها وسُرعان ما كانت تخرج نحنحته متسائلًا بحشرحة. 

_ فين "عايدة" ؟ 

رفعت عيناها إليه ثم أخفضتهما وبنبرة خافتة ردت. 

_ محتاج مني حاجه اعملها.

حدجها "عزيز" بنظرة غامضة وسُرعان ما كانت تواصل كلامها لتبرر له سبب وجودها بدلًا من زوجة عمها. 

_ تعبت من الوقفه طول اليوم وأنا جيت أكمل مكانها. 

حرك "عزيز" رأسه ثم تساءَل بعدما تحركت عيناه نحو الموقد. 

_ بتعرفي تعملي قهوة. 

سرعان ما كانت تتحرك نحو إناء القهوة لتلتقطه قائله. 

_ آه بعرف... أنت بس قولي عايزاها إيه مظبوطة ولا سادة. 

_ واحدة مظبوطه وواحدة سادة. 

ظنته "ليلى" سيغادر المطبخ لكن وجدته يقف مكانه وقد أخرج هاتفه من جيب بنطاله وانشغل في تصفحه. 

تعلقت عيناها به بتوتر وانحبست أنفاسها كعادتها في حضوره. 

عندما وجدته لا يطالعها أصرفت بصرها عنه وانشغل عقلها في تجهيز القهوة. 

رفع عيناه عن هاتفه خلسه عندما وجدها لم تعد تطالعه. 

حاول إزاحة عيناه عنها لكنه كالعاده لم يعد يملك سلطان عليها...لا عيناه ولا قلبه ولا حتى عقله لكنه يستمر برؤية الأمر مجرد شعور وسيختفي مع الوقت لأنه لن يعترف بمشاعر الانجذاب وهو في هذا العمر.

_ اتمنى إن طعمها يطلع حلو.

فاق من شروده المخزي وقد أسرع في سحب عيناه عنها بعدما استمع إلى صوتها. 

اقتربت منه بالصنية التي وضعت عليها فنجانين القهوة. 

أسرع "عزيز" بالنهوض من المقعد الذي جلس عليه وتناول منها الصنية يتمتم بنبرة خشنه يخفي خلفها شعور يخاف أن يفضحه. 

_ شكرًا يا "ليلى" ... 

سار خطوتين ثم وقف واستدار بجسده إليها وقد عادت لتلتقط المنشفة المبلله لتكمل تنظيف ما تبقى. 

_ "عايده" تقدر تكمل ده بكره أو تطلب حد بالأجرة يساعدها. 

قالها ثم غادر المطبخ وقد استقبله "نيهان" بتساؤله عن سبب تأخيره عليه. 

_ ظننت نسيت وجودي يا راجل. 

اقترب منه "نيهان" ليلتقط منه فنجان قهوته بعدما أشار "عزيز" له على فنجانه. 

_ اشرب قهوتك يا "نيهان"... أنا مش عارف اعد كام فنجان شربته لحد دلوقتي وبسببك بشرب معاك. 

قهقه "نيهان" عاليًا وجلس على الاريكة وعاد يطالع جهاز الحاسوب أمامه. 

تعجب "نيهان" من نهوض "عزيز" فجأة بعدما انتهوا من شرب القهوة. 

_ ثواني وراجعلك يا "نيهان". 

تمتم بها "عزيز" سريعًا وتحرك نحو المطبخ على أمل أن يجدها لم تنفذ أوامره وتغادر. 

وجدها تمسح الأرضيه وهي منتصبة في وقفتها. 

فور أن شعرت بوجوده توقفت عن مسح الأرضيه وتساءَلت. 

_ القهوة عجبتكم.

وهل شعر هو بمذاق القهوة عندما كان يرتشفها!! 

وكيف كان سيشعر بمذاقها وعقله لم يكن معه!! 

_ تسلم ايدك يا "ليلى".

ابتسامة واسعة ارتسمت على شفتيها والتمعت عيناها بوهج سلب فؤاده. 

_ "عزيز". 

صدح صوت "نيهان" وقد اقترب من المطبخ الذي دخله مراراً من قبل أثناء استضافة "عزيز" له. 

اندهش "نيهان" من وجود نفس الفتاة التي ركض "عزيز" وراء قِطتها وقد انتقلت عيناه بينهم. 

ضاقت حدقتيّ "نيهان" في حيرة وهو يرى "عزيز" مَازال يعطيه ظهره ولم يتحرك. 

"عزيز" كان في وضع لا يحسد عليه وقد وقف حائرًا محدقًا بها. 

هربت "ليلى" بعينيها بعيدًا وسرعان ما كانت تتحرك بالممسحة وتقول بتعلثم. 

_ أنا خلصت خلاص، محتاج مني حاجه تانيه يا "عزيز" بيه. 

والرد على تساؤلها كان يخرج من شفتيّ "عزيز" بصعوبة. 

_ شكرًا يا "ليلى"، اتفضلي أنتِ. 

غادرت "ليلى" في عُجالة وقد استعجب "نيهان" توترها لكن ما زاد استغرابه ودهشته توتر "عزيز" هو الآخر وكأنه ضبطه في وضع فاضح. 

_ كنت محتاج حاجه يا "نيهان".

سأله "عزيز" بعدما استطاع السيطرة على خلجات نفسه ثم أشاح عيناه دون النظر إليه. 

حدجه "نيهان" بنظرة ماكره ثم ابتسم. 

_ أردت اخبارك إنني سأغادر... اتصل بي أحد الأصدقاء سأذهب لمقابلته. 
.... 

اتجهت أنظار الزبائن الجالسين -في ذلك المطعم النائي الذي لا يرتاده إلا القلائل- نحو ذلك الذي دخل للتو مرتديًا زيًا عسكريًا. 

ألقى "ماهر" نظرة سريعة بالمكان وكما توقع وجد "صالح" يجلس على تلك الطاوله البعيدة التي اعتاد الجلوس عليها. 

رفع قبعته العسكرية ووضعها تحت إبطه وتقدم منه. 

_ بقالي شهر بحاول أقابلك وأنت كل شوية مشغول لكن أول ما طلبت تقابلني يا ابن "الزيني" جيتلك على طول وبسببك هتأخر على الخدمة.

قالها "ماهر" ثم جلس ووضع قبعته أمامه. 

فرك "صالح" جفنيه ومال بجسده للأمام واستند بساعديه على الطاولة. 

_ مالك يا "صالح"؟ 

تساءَل" ماهر" بعدما شعر بالقلق، فصديقه يبدو عليه الهم.

_"شاكر" بيه عايزني اتجوز تاني. 

قالها "صالح" دون مقدمات لا هدف منها وسرعان ما كان يزفر "ماهر" أنفاسه وظهر الارتياح على ملامحه. 

_ يا راجل قلقتني... أنا قولت "يزيد" فيه حاجه. 
"شاكر" بيه من بعد  موت "سارة" عايزك تتجوز... 

امتقعت ملامح "صالح"؛ فكلام جده معه اليوم لا يُغادر رأسه. 

_ المرادي"شاكر" بيه عرف يلعبها صح... 

تمتم بها "صالح" ثم قبض على يديه من شدة غضبه. 

_ تقارير "يزيد" الطبيه أول بأول بتوصله... بيلومني
دلوقتي على مرضه.

زفرة طويلة خرجت من شفتي "ماهر" مشفقًا على حال صديقه.. فـ "يزيد" يبدو وكأنه طفلًا طبيعيًا في نموه وملامحه ولكنه سلوكيًا يحتاج لمتابعة طبية دورية. 

تركه "ماهر" يخرج كل ما يجول في صدره إلى أن فرَغ من كلامه. 

_ لو جوازك هو الحل ليه لاء يا "صالح"... الولد ممكن يكون محتاج فعلاً حد معاه يشاركه ألاعبه وحياته... وأنت زي ما بتقول ملهوش أي أصحاب في سنه والكل بيبعد عنه... 

_ "يزيد" عدواني مع الناس يا "ماهر".

_ ابني" ياسين" كان كده برضو لكن دلوقتي مع "ريتال" أُخته لو شوفته تستغرب حنيته عليها. 

تنهد "صالح"، فهل نَسِى صديقه حالة "سارة" وعمه من قبل والتي ربما يرثها طفله عنهم وقد شخص بعض الأطباء حالة صغيره بالوراثه والبعض الآخر بسبب رؤيته لحادثة والدته. 

_ لو العروسة بنت ناس كويسين وهتعرف تربي ابنك.. اتجوز يا "صالح" بلاش تعاند جدك وتحرم "يزيد" من إنه يكون ليه اخوات... 

لم يختلف كلام "ماهر" عن كلام جده، الكل يقنعه بضرورة الزواج من أجل حالة صغيرة وحاجته لوجود أُخوة. 

عاد إلى منزله في ساعه متأخرة وعلى وجهه تجلى التعب بوضوح وقد تفاجأ بالفوضى التي تعم أرجاء الشقة. 

_ "صالح" بيه.

انتبه على صوت "نعمات" التي تعتني بالمنزل وصغيره وقد تعجب من استيقاظها بهذا الوقت. 

_ إيه اللي حصل؟ 

أطرقت "نعمات" رأسها وعندما طال صمتها عرف الجواب. 

_ "يزيد" هو اللي عمل كده؟؟ 

رفعت "نعمات" رأسها إليه ثم هزتها بأسف. 

_ المربية كمان مشيت بعد ما عورها في رأسها وبتقول لحضرتك إنها مستقيله. 

حتى المرأة المتخصصه بعناية أطفال كحال ابنه لم تتحمل إلا أسبوعًا وفرت هاربة. 

ألقى بنظرة خاطفة حوله ثم سار نحو غرفة صغيرة ليجده نائم كالملاك في فراشه. 

تنهيدة طويلة خرجت من شفتيّ "صالح" حملت معها كل ما يجيش داخل صدره والقرار كان عليه إتخاذه في أسرع وقت. 
.... 

ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتيّ "صالح" بعدما وجد والديه فَرِحين بموافقته على أمر الزواج وتلك العروس التي أختارها جده. 

_ لو عايزني اروح أشوفها أنا الأول يا "صالح" ... 

كادت أن تواصل والدته كلامها الذي يعرف مقصدها منه. 

_ لا متقلقيش "شاكر" بيه المرادي جايبها تصلح عشان تخلف طفل سليم. 

_ ولد حاسب على كلامك. 

قالها السيد "صفوان" بحده ثم نهض من مقعده وعلى وجهه ارتسم المقت. 

_ اكتر من خمس سنين وإحنا واقفين معاك وضد جدك لكن المرادي كلنا بنفكر في ابنك وأنت بنفسك شايف حالته اللي بتتأخر يوم بعد يوم. 

أغلق "صالح" جفنيه ثم أطلق زفيرًا قويًا، فلم يغير قراره بأمر الزواج إلا صغيره. 

شعر بذراعين والدته على كتفيه ثم قُبلتها على رأسه. 

_ ابنك حتى أنا مش متقبلني، وأنا مش قادره اساعد معاك في حِمله يا بني.

_ ومرات أبوه هتتقبله في حياتها وتشيل حِمله. 

تدخل "صفوان" بالكلام وهو ينظر إلى كلا من زوجته وابنه الوحيد. 

_ جدك بيقول إن البنت يتيمه وبتراعي جدها ده غير أعمامها معاملتهم قاسيه ليها لأنها من زوجة تانيه لوالدهم... ظروف البنت صعبه ووجودها في عيله هتحتويها زينا فرصه ليها. 

قالها السيد "صفوان" حتى يوضح الصورة له وسُرعان ما كانت تعود تلك الابتسامة الساخرة لتعلو شفتيّ "صالح". 
..... 

ربت "نائل" على كف حفيدته وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة حانية. 

_ أنتي و "زينب" أغلى أحفادي يا "سما". 

أسرعت "سما" بتقبيل خده وقد أشرق وجهها بابتسامة واسعه. 

_ حبيبي يا جدو يا فارس أحلامي أنت... تعرف أنا مش هتجوز غير واحد شبهك وبنفس شخصيتك.

ضحك "نائل" ضحكة قصيرة واجتذبها إلى حضنه ثم ربت على ظهرها بحنان. 

_ طيب شكلي دا نجيبوا إزاي؟ 

ابتعدت عنه "سما" ثم أسرعت بتحريك إصبعها السبابة أسفل ذقنها. 

_ مش عارفه ، بس أهو أنا مستنيه لحد ما الاقيه مع إن مفيش غير "نائل الرفاعي" واحد بس. 

ارتفعت ضحكات الجد وعاد لاحتضان حفيدته الغالية. 

_ يعني أسيبكم نص ساعه أرجع الاقي قدامي خيانة عظمى. 

أسرعت "زينب" نحوهم وأزاحت بيدها "سما" لتجلس بالمنتصف محتضنه جدها. 

_ خليني أخد حضن من حبيبي. 

التمعت عينين الجد بالدفئ وهو يضمهم إليه وقد انسابت دمعه على خده لم يلاحظاها. 

_ يلا يا عروسه عشان نلحق نشتري فستان شيك تقابلي بيه الضيوف بكره. 

تمتمت بها "سما" بعدما نهضت من جوار جدها والتقطت سترتها لترتديها. 

تخضبت وجنتيّ "زينب" بالخجل عند ذكر هذا الأمر ونهضت هي الأخرى من جوار جدها. 

_ يلا يا بنتي روحي مع بنت عمك واشتري أشيك وأغلى حاجة  ومش مهم الفلوس.

ترقرقت الدموع في عينيّ "زينب" وأسرعت بمسحها وعادت لتعانق جدها الحبيب. 

_ ربنا يخليك ليا يا جدو. 

نظر إليهم "نائل" وهما يتجهوا نحو باب الشقة وقد استدارت "سما" ناحيته ونظرت له بنظرة جعلت "نائل" يبتسم لحفيدته التي تعرف كيف تحفظ أسرار جدها. 

والوعد الذي قطعه معها أن لا والدها ولا عمها "هشام" ولا أي فرد من العائلة يعلم بأمر هذا العريس إلاّ عندما يتم كل شئ. 

وها هو اليوم المتفق عليه لـ حضورهم منزل "نائل الرفاعي" والتقدم لخطبة حفيدته قد أتى.

عندما ارتفع رنين جرس الباب، ارتفعت دقات قلب "زينب" ونظرت نحو "سما" التي أسرعت نحو الباب لتفتح لهم وقد وقف "نائل" جوارها مرحبًا بضيوفه. 

عادت إليها "سما" لتُكمل لها زينة وجهها. 

_ شوفي اهو أنا شغاله بنفس المطار اللي هو المدير التنفيذي له وأول مرة أشوفه عن قرب... 

_ حلو يا "سما"؟؟ 

خرج السؤال من شفتيّ "زينب" ثم هربت بعينيها بعيدًا بعد حرجها من سؤالها للتأوه بخفوت بعدما قرصتها "سما" في ذراعها. 

_ حلو بس... ده عينه زرقا يا بنتي ولا كأنه نجم سينما... 

قالتها "سما" ثم غمزت لها بإحدى عينيها. 

_ هو لازم اقدم أنا ليهم العصير.

رمقتها "سما" ثم ضحكت بخفوت وهي تعطيها الصنية التي وضعت عليها أكواب العصير ثم عادت لتحمل الصنية الأخرى التي تم وضع أطباق الحلوى عليها. 

_ للأسف. 

امتقعت ملامح "زينب"؛ فهي لأول مرة تُجرب موقف كهذا. 

_ يلا يا "زوزو". 

دفعتها "سما" برفق ورغمًا عنها كانت تتحرك نحو الصالة التي جلسوا بها. 

شعرت "زينب" بالرجفة وهي تقترب منهم لكن صوت "شاكر" ومديحه لها أزال بعض من حرجها لتستطيع السيدة "حورية" والسيد "صفوان" بلُطفهم من إزالة الباقي. 

تحركت عينيّ "صالح" إليها ليتأكد من الوصف الذي أعطاه له جده عنها وقد رأي "شاكر" بخبرته الرضى في عينيّ حفيده. 

اقتربت منه لتناوله كأس العصير وقد رفعت عيناها إليه تهمس بخجل. 

_ اتفضل.

جميلة الملامح وبجسد يحمل معالم أنثوية واضحة ونبرة صوت رقيقة ناعمة. 

ڪان عليه دراسة البضاعة كما شبهها أثناء موافقته على تلك المهزلة السخيفة ومن أجل صغيره سيتظاهر بالقَبُول ببراعه. 

أخذت العائلتين تتحدث بأمور عدة إلى أن ألجمهم "شاكر" بما تفوه به وقد تعلقت نظرات "صفوان" و "حورية" بـ "صالح" الذي تجمدت ملامحه. 

_ مالكم يا جماعه بتبصولي كده ليه. 

قالها "شاكر" وهو ينظر نحو "زينب" التي أطرقت رأسها بحرج بعدما غادرت الصدمة ملامحها وتخضبت وجنتاها بحمرة بالخجل.. 

_ كفاية شهرين خطوبه... هما العيلتين محتاجين لسا يتعرفوا على بعض ولا أنت إيه رأيك يا "نائل"... عمومًا اللي هيقرروا "نائل" أنا هوافق عليه.

تساءَل "شاكر" وهو ينقل أنظاره نحو "نائل" الذي أخفض رأسه لثواني معدودة ثم رفعها واتجه بعينيه نحو حفيدته التي علم من خجلها وربكتها أن "صالح" نال استحسانها. 

كاد أن يتحدث "نائل" رافضًا التعجل بالأمر قبل أن يعتادوا على بعضهم ويتخذوا القرار سويًا بعيدًا عن رغبتهم هم في إتمام هذا الزواج. 

_ اعذرني يا "نائل" بيه إني هقاطع حضرتك.

قالها "صالح" بتهذيب وقد اعتدل في جلوسه وارتسمت الجدية على ملامحه الوسيمة. 

لمحته "زينب" بطرف عينيها ولا تنكر أن حضوره الطاغي ووسامته جذبتها وجعلتها راغبة في التقرب منه. 

منذ بداية هذه الجلسة العائلية نال "صالح" إعجاب "نائل" الذي لم يخطأ حدسه يومًا في معرفة الناس. 

والديه ترقبوا ما سيتفوه به وسُرعان ما احتلت الصدمة ملامحهم وهم يستمعوا لقراره. 

_ أنا شايف إن شهر كفايه نقدر نرتب فيه أمورنا... ده طبعًا بعد موافقة أنسه "زينب". 

ضاقت عينين الجد وهو يستمع إلى كل كلمة ينطقها حفيده بتهذيب لم يكن يظنه أنه سيتسم به الليله. 

تلاقت نظراتهم وقد فهم "شاكر" أخيرًا تهذيب حفيده وسبب رغبته في تعجيل الزواج الذي كان يرفضه بشدة. 

نظرة ساخرة رمق بها "صالح" جده ثم انتقلت عيناه نحو "زينب" التي رفعت عيناها نحوه. 

هو ليس بالسهل حتى لا يعرف أن تلك الصغيرة ذات العينين الواسعتين والأهداب الطويلة وقعت تحت سيطرة سحره الذي يجذب النساء من حوله. 

مغرور وبارد المشاعر صفات يعلم أنها به وقد وقعت هي في لُعبة زواج الغرض منها الإنجاب ليكون لطفله الغالي أخوة ويحصل جده على نسل بلا عيوب يصلحون من بعده  على تولي إمبراطورية "الزيني" العريقة.
تعليقات



×