رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل الخامس عشر بقلم سهام صادق
قطب "عزيز" حاجبيه في دهشة وهو يرى العم "سعيد" يضع أمامه كأس الحليب ثم أخذ يرتب ما وضع على طاولة مكتبه.
ضاقت نظرات "عزيز" في شك، فالعجوز لا يفعل ما يفعله الآن إلى إذا أراد أن يُحادثه في شئ ولا يعرف كيف يبدأ حديثه.
تراجع "عزيز" إلى الوراء واستند على ظهر مقعده وأخذ يرمق أفعال العجوز الذي جلى الإرتباك بوضوح على ملامحه.
_ عايز تقول إيه يا راجل يا طيب.
توقف العم "سعيد" عما يفعله ونظر إليه وسُرعان ما كان يخرج الحديث من بين شفتيه.
اِستمع "عزيز" إليه وقد اِخترق اسمها أذنيه وخفق قلبه لوهلة استطاع إخمادها.
فرغ العم "سعيد" من كلامه أخيرًا وعاد التوتر ليحتل ملامحه بعدما أفصح عن وجودها بالمطبخ منتظرة مقابلته لتخبره بأمر العامل الذي نسى اسمه.
_ أنا طلبت منها تيجي تحكيلك بنفسها لان زي ما أنت شايف يا "عزيز" بيه بجيب كلمة من الشرق وكلمة من المغرب.
لم يبدي "عزيز" أي ردة فعل حتى هذه اللحظة بل جلس صامتًا وقد اِزداد توتر العم "سعيد" عندما وجده ينظر بنظرة ثاقبة نحو طاولة مكتبه وينقر عليها بإصبعه.
_ أنا قولتلها أنك اتسرعتي...مكنش المفروض تتدخل في الأمر وتوعد إنها تساعده...
تراجع العم "سعيد" بخطواته للوراء واستطرد قائلًا.
_ اعتبرني مقولتش ليك حاجه يا بيه.
_ نادي على "ليلى" يا راجل يا طيب وخليها تيجي تفهمني حكاية العامل... أنت عارفني مبحبش قطع أرزاق حد مادام الحاجة مش مستاهله ونقدر نعديها.
تهللت أسارير العم "سعيد" وابتهجت ملامحه.
_ أنا قولتلها "عزيز" بيه مبيحبش قطع الأرزاق... اشرب كوباية اللبن على ما أنده عليها من المطبخ.
ابتسم "عزيز" وهو يرى العم "سعيد" يُغادر الغرفة لكن تلاشت ابتسامته عندما عاد حديث العم "سعيد" يتردد داخل أذنيه.
شعور كان جديد عليه وعليه أن يثبت لنفسه سريعًا أن تلك الفتاة التي تعيش داخل أسوار منزله ما هي إلا ابنة شقيق سائقه اليتيمة التي عليه ألا ينظر إليها إلاّ بنظرة تحمل العطف.
زفر أنفاسه بقوة وأسرع بنفض رأسه من أفكاره عندما استمع إلى صوت نحنحة العم "سعيد".
_ تعالي يا "ليلى"..."عزيز" بيه عايز يسمع منك موضوع العامل عشان يعرف يساعده ويرجعه المصنع.
أطرقت "ليلى" رأسها عندما صارت بمنتصف الغرفة ووقف جوارها العم "سعيد" يحثها على الحديث.
رفعت رأسها قليلًا وسُرعان ما أخفضتها وأخذت تفرك يديها بتوتر.
عيناه خانته نحوها وقد ترك لهما الحرية في تأملها... وقد عادت صورتها بشعرها الأحمر وعنقها الطويل تطرق حصون ذاكرته مرة أخرى.
انتفض من مقعده كمن لدغته لدغة عقرب؛ فاندهش العم "سعيد" وسُرعان ما أدرك أن "ليلى" تقف صامته وعلى ما يبدو أن سيده قد ضجر من صمتها.
_ اتكلمي يا "ليلى".
قالها العم "سعيد" بعدما زجرها بنظرة من عينه.
أعطاهم "عزيز" ظهره ووقف قرب الشرفة ينظر أمامه.
صوتها الخفيض تسلل داخله... أغمض عيناه ثم فتحهما واستدار جهتها وقد توقفت عن الكلام بعدما سردت له كل شئ.
_ اسمه إيه المشرف المسئول عن العامل.
تساءَل "عزيز" بنبرة جامده، جعلتها تعود لخفض رأسها على الفور.
_ اسمه.. أستاذ "أحمد".
أماء "عزيز" برأسه ثم تساءَل مجددًا عن اسم العامل.
_ العامل اسمه... "مصطفى".
_ تمام.
تمتم بها "عزيز" ثم عاد لجلوسه والتقط بضعة أوراق وقام بترتيبها ووضعها بمغلف.
ابتسم العم "سعيد" ؛ فهو أكثر الناس دراية بسيده...
_ يلا يا "ليلى"..."عزيز" بيه خلاص هيهتم بالموضوع.
تعلقت عينين "ليلى" بالعم "سعيد"، فالسيد "عزيز" لم ينطق إلا بضعة كلمات مقتضبه وقد أصاب التجهم وجهه منذ لحظة وجودها بغرفة مكتبه.
حرك العم "سعيد" لها رأسه بأن تتحرك أمامه؛ فقد انتهى الحديث الذي أتوا من أجله.
غادرت "ليلى" واتبعها العم "سعيد" بعدما أغلق الباب ورائه.
زفرة طويلة خرجت من شفتي "عزيز"، لا يستوعب ما صار عليه في حضور تلك الفتاة.
ألقى الأوراق -التي التقطها منذ لحظات- على طاولة مكتبه بإهمال ثم أعاد زفر أنفاسه بقوة.
....
مسح "نائل" شفتيه بالمحارم الورقية بعدما تناول وجبة فطوره؛ فأسرعت "زينب" بحمل الصَنية من أمامه واتجهت نحو المطبخ لتضعها به ثم عادت إليه بحبة الدواء وكأس الماء.
_ بالشفا يا جدو.
قالتها وهي تلتقط منه كأس الماء وكادت أن تغادر غرفته لتهرب من ذلك السؤال الذي يسأله لها منذ أيام.
_ مش هتروحي المدرسة.
توترت "زينب" من سؤاله، فكل يوم تخبره بنفس الجواب وجدها ليس بالرَجُل الذي تستطيع إخفاء شئ عليه.
_ أوعي تقوليلي إنك النهاردة كمان أجازة عشان تراعيني ومديرة المدرسة متفهمه الأمر...
أشاحت "زينب" بصرها عن نظرات جدها الثاقبة قبل أن تفضحها عيناها.
فركت يديها وخرجت الكلمات منها بتقطع، فها هي كذبه أخرى اختلقتها.
_ أصلهم قالولي لما نحتاجك هنطلبك...
هز "نائل" رأسه لها وقد تجلى الحزن في حدقتيه.
أرجع رأسه للوراء وأغلق جفنيه مُداعيًا حاجته للراحة.
_ اطفي نور الأوضه واقفلي الباب وراكي يا "زينب".
حدقت "زينب" به بنظرة حزن وأسرعت بتنفيذ ما أمرها به.
أغلقت الباب ورائها لتطلق بعدها سراح دموعها.
لا حيلة لها في أمرها.
كتمت صوت بكائها بكف يدها و ابتعدت عن غرفة جدها بعدما طالعت باب الحجرة المغلق.
_ سامحني يا جدو... سامحني إني كذبت عليك.
قالتها وهي تستلقي على الفراش ودست رأسها أسفل وسادتها لتتمكن من البكاء.
استمرت عينيّ "نائل" عالقة بسقف غرفته ومَا زال حديث ابنه يتردد صداه داخل أذنيه...لا يُصدق أن "هشام" صار بهذه القسوة... لقد ظن أن الزمن طوى صفحات الماضي وغفر له أولاده خطأ وقع به عندما أطاع رغبة فؤاده.
تنهيدة طويلة خرجت منه، لقد أحب "زينب" رغمًا عنه... أحب الفتاة المكافحة التي تسعى لمساعدة والدتها ليستطيعوا العيش...
_ حبيتك وخذلتك يا "زينب"... ولحد الآن بخذلك.
تمتم حديثه بمرارة وأغلق جفنيه، ليستعيد تلك الذكريات التي جمعته بها...
رنين هاتفه الذي يضعه أسفل وسادته أخرجه من ذكرياته... ليسحبه من أسفل رأسه وسُرعان ما كان يغلقه ويعيده أسفل وسادته مرة أخرى.
نظر "هشام" إلى هاتفه بعدما ألغى والده المكالمه، أعاد الإتصال به ليجده أغلق هاتفه.
_ معقول تكون نطقت بكلمه...
أسرع بالتقاط هاتفه مرة أخرى وقد تجهمت ملامحه، فوالده لا يجيب على مكالماته وإذا زاره يتعلل بالنوم ولا يُحادثه.
نهض من مقعده وتحرك بغرفة مكتبه بضجر وعلى لسانه يتردد التوعد لها.
_ كل ده عشان تردي.
صاح بها "هشام" وقد ارتجفت يدي العامل الذي دلف له بفنجان القهوة.
زفر "هشام" أنفاسه بقوة وانتظر مغادرة العامل الذي تساءَل وهو يخفض رأسه.
_ محتاج مني حاجه تانيه يا فندم.
انصرف العامل بعدما أشار له "هشام" بالمغادرة ثم عاد لتجهمه وارتفع صوته مجددًا بنبرة قاسية.
_ قولتي لسيادة اللواء إيه، ما أنا عارفك يا بنت "أسامة"... مش هترتاحي غير لما تفرقي العيله... ما هي جدتك زمان عملت كده... عضت ايد الست اللي فتحت ليها بيتها واكرمتها لكن أقول إيه الحثاله لازم يعضوا أيدين أسيادهم.
لم يعطيها "هشام" فرصة للدفاع عن نفسها ولا عن تلك المرأة التي تحمل اسمها وقد أصبحت ذكراها تحت التراب.
_ روحي اطمني على سيادة اللواء وشوفي مش بيرد عليا ليه.
صَبّ "هشام" جام غضبه عليها كعادته ثم أطلق زفيرًا قويًا واتجه إلى مقعده خلف مكتبه الذي وضع وراءه على الجدار صورة ضخمة حملت
" وَإِذَا حَكَمۡتُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُوا۟ بِٱلۡعَدۡلِۚ ".
حرك رابطه عنقه قليلًا ليُخفف من تقيدها حول عنقه ثم التقط فنجان القهوة وبدأ بإرتشافها ببطئ.
أغمض "نائل" عيناه بعدما وجد مقبض الباب يتحرك...اقتربت منه "زينب" ورغمًا عنها انسابت دموعها.
جلست على ركبتيها قرب فراشه لتتعلق عيناها بصدره الذي أخذ يعلو ويهبط جراء تنفسه المنتظم.
التقطت كفه لتمسح عليه برفق وانسابت دموعها وخرج صوتها يهمس تظنه لن يسمعه.
_ متسبنيش لوحدي يا جدو.
....
_ أستاذه "ليلى".
توقفت "ليلى" عن سيرها وقد وقفت "سلوى" زميلتها جوارها بعدما استمعوا لصوت أحدهم.
استدارت "ليلى" لتعرف هوية الشخص الذي يُنادي اسمها وقد أسرع "مصطفى" بخطواته نحوها.
_ "سالم" قالي إنك السبب بعد ربنا في رجوعي للشغل... أنا مش عارف اشكرك إزاي... جميلك هيفضل على راسي طول العمر.
ضاقت عينيّ "سلوى" في فضول بعدما استمعت لحديثه وازداد فضولها بعدما استمعت لرد "ليلى" عليها.
_ أنا معملتش حاجه غير إني وصلت مشكلتك لـ "عزيز" بيه.
شكرها "مصطفى" مرة أخرى وابتعد عنهم حتى لا يجعل أحد العمال يتحدث عنهم إذا طالت وقفته معهم.
اجتذبت "سلوى" ذراع "ليلى" قبل أن تسبقها وتتحرك نحو حافلة العمل.
_ شغل إيه اللي كنتي السبب في رجوعه ليه... و "عزيز" بيه إيه اللي دخله في الحكاية... هو أنتِ تعرفي "عزيز" بيه يا "ليلي".
ألقت "سلوى" اسألتها دفعة واحده وانتظرت أن تفهم ما سمعته.
_ خلينا نتحرك للباص يا "سلوى" دلوقتي وأنا هحكيلك.
اضطرت "ليلى" لسرد حكاية العامل وقد أخذت "سلوى" تهز رأسها لها ومَا زال فضولها يأخذها كيف توسطت "ليلى" للعامل لدى السيد "عزيز".
_ وأنتِ عرفتي إزاي تتوسطي ليه عند "عزيز" بيه؟؟
هذا ما انتظرت "سلوى" معرفته.
_ أنتِ ناسية إن عمي شغال سواق عند "عزيز" بيه.
قالتها "ليلى" ولا تعلم لما اخترق فؤادها غصة مؤلمة، حبها المستحيل الذي تكتشفه يومًا بعد يوم.
_ تصدقي نسيت خالص...
قالتها "سلوى" ثم استطردت بمزاح.
_ أنا قولت لنفسي "ليلى" خلاص عدت ووصلت لـ "عزيز" بيه شخصيًا.
ارتسمت ابتسامة شاحبة على وجه "ليلى" وقد أسرعت بفتح النافذة جوارها.
_ أنا مجرد موظفه في المصنع يا "سلوى"... هوصل لـ
"عزيز" بيه إزاي.
لم تكن "سلوى" تعلم ولا أحد من زملائها بالمكتب أنها تعيش مع عائلة عمها في منزل "عزيز الزهار".
_ شوفتي أهو عمك رغم إنه سواق عند "عزيز الزهار" قدر يرجع عامل للمصنع... وبقى ليكي جمايل عند عمال المصنع يا "ليلى".
خرج حديث "سلوى" في دعابة ثقيلة أشبه بالتهكم وانشغلت بعدها باللعب بهاتفها.
_"عزيز" بيه بيعتبر عمي فرد من عيلته، عمره ما اتعامل معاه إنه مجرد سواق عنده.
توقفت "سلوى" عن العبث بهاتفها وسُرعان ما كانت تستدير برأسها جهتها تتساءَل.
_"ليلى" هو أنتِ زعلتي مني...
ثم واصلت كلامها بمزاح.
_ يا بنتي يعني هو أنا اللي من الأكابر... ما أنا أبويا سباك.
وصلت الحافلة أخيرًا إلي تلك المنطقة التي تنقلهم منها وتعيدهم إليها.
زفرت "ليلى" أنفاسها بعمق ثم أخرجت هاتفها لتُهاتف "شهد" التي أجابت على الفور تتساءَل.
_ أنتِ فين يا "ليلى"، طيب خليكي واقفة عندك عشر دقايق وهتلاقيني قصادك...
أتت "شهد" لكن بعد نصف ساعة وهي تحمل حقيبتها خلف ظهرها.
_ اتأخرت عليكِ.
رمقتها "ليلى" بنظرة حانقة ثم نظرت إلى الوقت بهاتفها.
_ هي دي العشر دقايق يا "شهد".
_ معلش بقى... المستر النهاردة أخرنا عشر دقايق عن ميعاد خروجنا.
ثم أردفت بتساؤل بعدما تأبطت ذراعها .
_ قوليلي بقى هنشتري لخالي هدية على ذوقك ولا ذوقي.
قالتها " شهد"؛ فأتاها رد "ليلى".
_ ودي محتاجه سؤال يا "شهد" ... على ذوقي طبعًا.
توقفت "شهد" عن السير لتنظر نحو "ليلى" وقد مطت شفتيها للأمام... فهذه عادتها إذا لم يُعجبها الكلام.
انفلتت ضحكة صغيرة من شفتيّ "ليلى" ثم عادت تسحب ذراعها ليُكمِلوا سيرهم.
_ خلاص نختار سوا.
_ إذا كان كده ماشي.
تمتمت بها "شهد" لترتفع بعدها صوت ضحكاتها التي كممتها "ليلى" بكف يدها.
انتهوا من شِراء الهدايا التي سيقدموها غدًا، لتنظر "شهد" إلى ما قاموا بشرائه.
_ أنا عارفه بعد اللف ده كله مش هتعجبوا الهدايا وهيقول خسارة الفلوس اللي دفعتوها.
قالتها "شهد" وهي تعطي حقيبة الهدايا إلى "ليلى" التي داعبت شفتيها ابتسامة خفيفة.
_ هو بيقول كده لكن من جواه بيكون فرحان يا "شهد".
ذهبت كل منهن في طريقها؛ "شهد" نحو أحد مراكز الدروس الخصوصية و "ليلى" استقلت إحدى سيارات الأجرة.
أخرجت "ليلى" جزدانها لتخرج المال لكن حدقتاها اتسعت فجأة عندما تذكرت الأغراض التي كان عليها شرائها من متجر مستلزمات الحلويات.
طالعت الطريق بنظرة ثاقبة وسُرعان ما كانت تغلق حقيبة يدها وتلتقط الأكياس التي وضعتها جوارها.
_ ممكن أنزل هنا.
أعطت السائق أجرته وترجلت من سيّارة الأجرة.
من حُسن حظها أنها كانت قريبة من المتجر المختص ببيع تلك المستلزمات وقد أخذتها إليه "عايدة" من قبل.
اشترت ما ستحتاجه ثم نظرت إلى الطريق وأطلقت زفيرًا طويلًا.
رغم أنها تحب السير بهذا الطريق الخاص بالمجمع السكني الراقي الذي تسكن به إلا أنها اليوم لا تحتمل السَير بسبب تورم أحد قدميها.
_ خلاص قربنا يا "ليلى".
أخبرت حالها بقرب وصولها ومن وقت لأخر كانت تلتف حولها عندما تستمع إلى صوت سيّارة قادمة.
ضاقت حدقتيّ "عزيز" وقد أبطئ من سرعة سيّارته قليلًا.
لم تستدير "ليلى" برأسها هذه المرة لترى السيّارة القادمة ورائها.
_ انا مش هلبس الجزمه دي تاني...
تمتمت بها بصوت خافت مستاء ثم سقطت منها إحدي الأكياس التي تحملها.
تنهدت تنهيدة طويلة ثم انحنت لتحمل الكيس الذي سقط أرضًا.
تيبست "ليلى" في حركتها عندما وجدت سيّارة ذات زجاج معتم تقف جوارها... بنظرة خاطفة تعرفت على السيّارة التي وقفت قربها...إنها سيّارة السيد "عزيز".
ابتعلت لُعابها وتحاشت النظر نحو السيّارة تتساءَل داخلها... هل وقف من أجلها مرة أخرى؟
انفتح زجاج نافذة السيّارة وسُرعان ما كان ينفتح الباب جهتها في دعوة صريحة منه أن تصعد السيّارة.
نظرت إليه وعلى وجهها ظهر الإرتباك.
تنهد "عزيز" ،فهو كلما حاول إخراج الكلام من بين شفتيه يتوقف على طرف لسانه.
_ اركبي يا "ليلى".
خرج الكلام منه أخيرًا ثم أشاح عيناه عنها.
توقفت "ليلى" للحظة تنظر حولها ثم له وسُرعان ما كان قلبها يحسم قراره.
صعدت السيّارة ثم ضمت الأكياس التي تحملها إلى حضنها.
رمقها "عزيز" بنظرة خاطفة وكاد أن يتحرك بالسيّارة مرة أخرى لكن ارتفع صوت رنين هاتفه.
انشغل بمكالمته وجلست هي ملتصقة بمقعدها دون حركة أو صوت.
ضمت شفتيها ورفرفت برموشها وتشبثت بضم الأكياس التي تحملها لحضنها.
حديثه مع المتصل كان يخص العمل لكن كل كلمة كانت تخرج منه تخطفها لعالم أخر، عالم تعلم أنه لن يجمعها به لكنها اِختارت أن تضعه بعالمها الوردي.
اختلس النظر إليها ؛فسقطت عيناه على شفتيها المطلية بطلاء وردي خفيف.
تلك الحركة التي تُحرك بها شفتيها جعلته رغمًا عنه ينتبه على فمها الصغير وسُرعان ما كان يشيح عيناه عنها ليتمكن من زفر أنفاسه بقوة ونفض رأسه من أفكاره التي تقوده للهلاك و السقوط نحو وزر يعلم عاقبته.
_ نكمل كلامنا بكرة يا أستاذ "بهجت".
انتبهت "ليلى" على فعلته العجيبة وقد شعرت بالتوتر، إنها تخشى أن يكون تضايق من وجودها بسيّارته.
سحبت جسدها برفق جهة باب السيّارة والتصقت به.
انطلق "عزيز" بسيّارته فجأة؛ فازذاد تشبثها بما تحمله.
انفتحت البوابه وقد أغلق "عزيز" زجاج السيّارة المعتم أثناء عبوره إلي الداخل.
توقفت السيّارة لتلملم "ليلى" حاجتها سريعًا لتترجل من السيّارة.
بنظرات مختلسة كان يتابعها ثم أشاح عيناه بعيدًا عنها منتظرًا خروجها من سيّارته قبل أن يتجه بها لداخل الجراچ.
كادت أن تفتح "ليلى" باب السيّارة لكن تلك السعادة التي وجدتها على ملامح ذلك العامل اليوم وشكره لها جعلها تستدير جهته بتردد وعلى محياها ارتسم الخجل.
_ شكرًا إنك ساعدت العامل... كان مبسوط أوي وهو بيشكرني النهاردة...
خرج الكلام من شفتيّ "ليلى" بتعلثم ودون أن تنتظر رده فتحت باب السيّارة وترجلت منها.
تجمدت ملامح "عزيز" وعاد الكلام الذي ألقته عليه قبل خروجها من السيّارة يتردد صداه داخل رأسه.
باليوم التالي وفي تمام الساعة العاشرة مساءً...
كانت الضحكات ترتفع بصخب من الحديقة الخلفية لباحة المنزل حيث مسكن عائلة العم "سعيد".
نهض "عزيز" من فوق مقعده بعدما التقط مغلف صغير من درج مكتبه.
التمعت عينين العم "سعيد" بالدموع وهو يرى ما أعدته له كلاً من "ليلى" و "شهد".
احتضنهم بحب ثم ابتعد عنهم ليمسح دموعه.
تأثرت "عايدة" لمشاعر شقيقها كما تأثر "عزيز" هو الأخر لكن سعادته اليوم كانت لا توصف وهو يرى ابنته وابنة شقيقه صارتا متقاربتين من بعضهم وقد فعلوا هذا الإحتفال سويًا.
شعور الراحة ارتسم على محياه كما تغلغل داخل فؤاده.
تقدم "عزيز" منهم وقد انتهوا للتو من إطفاء الشمعة التي وضعوها على قالب التورتة التي تعاون نساء المنزل في صناعتها.
_ "عزيز" بيه.
قالها "عزيز" - العم - ثم أسرع نحوه.
اتجهت عينيّ "ليلى ناحيته وقد خفق قلبها لرؤيته لكن كعادتها أخفضت رأسها حتى لا تفضحها عيناها.
ابتهجت ملامح العم "سعيد" عندما رأي "عزيز" يتجه صوبهم ثم قال بسعاده.
_ شايف البنات عملوا ليا إيه يا "عزيز" بيه ؟
ابتسم "عزيز" وهو يرى مظاهر الإحتفال البسيط وقد ارتدوا جميعهم -على رؤوسم- قبعة العيد ميلاد.
_ كل سنه وأنت طيب يا راجل يا طيب.
قالها "عزيز" ثم مدّ له ذلك المغلف وقد التقطه منه العم "سعيد" وتساءَل بفضول.
_ إيه ده يا بيه.
_ افتحوا وهتعرف يا راجل يا طيب.
تعلقت أعينهم جميعًا بالعم "سعيد" أثناء فتحه للمغلف الصغير، لتنساب دموعه فجأة.
من دموع العم "سعيد" علم الجميع بما قدمه له السيد "عزيز"، لم تكن المرة الأولى التي يُقدم فيها "عزيز" للعم "سعيد" أو أحد أفراد عائلته هذة التذكرة بل قدمها لهم من قبل.
_ كنت مشتاق لزيارة الحبيب .... قلبي كان مشتاق يا بيه.
احتضنه العم "سعيد" وقد ربت "عزيز" على كتفه في مودة.
عادت مظاهر السعادة والفرح تحتل جلستهم العائلية وقد زادها حضور "عزيز" بهجة.
_ "ليلى"... هاتي لـ "عزيز" بيه من التورته... ابعدي عن الشيكولاته لانه مش بيحبها.
أسرعت "ليلى" بتلبية ما أمرت به "عايدة" وقد جلس "عزيز" بين العم "سعيد" و "عزيز" سائقه وجلست "شهد" قبالة "عزيز" لتمازحه كعادتها.
اقتربت "ليلى" منهم بقطعة الحلوى وقد ارتفعت ضحكات "عزيز" عاليًا بسبب مشاغبة الصغيرة "شهد".
_ أنتِ مصيبة يا "شوشو".
قالها "عزيز" ليضمها والدها إلى صدره بعدما ارتفع صوت العم "سعيد" بتهكم.
_ دلع فيها يا أخويا دلع... أنا مش عارف مين متعوس الحظ اللي هيتجوزها.
_ الدكتوره "شهد" ألف مين يتمناها... بنتي هيقف ليها العرسان طوابير.
ارتفعت الضحكات وقد وقفت "ليلى" قربهم وهو تحمل الطبق بحرج.
انتبه العم "سعيد" عليها حيث وقفت ورائهم تحمل طبق الحلوى.
_ اهي "ليلى" بقى اللى هيتجوزها هيكون محظوظ.
ابتسم "عزيز" - العم - وهو يؤكد على كلامه ثم نهض ليأخذ منها ما تحمله.
_ "لولو" دي جوهره ومش أي حد بيفوز بـ جوهرة.
استدار "عزيز" برأسه دون إرادة منه جهتها وقد ضمها عمها لحضنه وقبل رأسها.
خفق قلبه بشدة وهو يراها في حضن عمها وقد تلألأت الدموع في عينيها.
_ دوق يا "عزيز" بيه من طبق الحلو.... أغلب الأصناف المعموله "ليلى" هي اللي عملاها...
قالتها "عايدة" بفخر و "عزيز" رغم رفضه بالبداية من تناول الحلوى ليلًا إلا أنه تناول ما صنعته.... وها هو يسقط يومًا بعد يوم في قارورة العسل.
.....
اندهشت "زينب" من أمر جدها لها بأن تغلق باب حجرتها ورائها بعدما أتت لضيفه بواجب الضيافه.
نظر "شاكر" نحو "نائل" الذي اعتدل على فراشه ثم أخذ يسعل.
_ أنت كويس يا "نائل".
ابتسم "نائل" بعدما مسح شفتيه بالمحرمة الورقية.
_ شوية كحة ليه مكبرين الموضوع.
هز "شاكر" رأسه بيأس، فهو أيضًا يُحاط بتلك الأسئلة لمجرد أن يسعل قليلًا.
_ والله ما عارف ليه دايمًا يحسسونا إننا خلاص بنودع.
اتسعت ابتسامة "نائل" على حديثه، فهو أكثر الناس دراية بحب "شاكر" للحياة.
_ ما أحنا رِجل بره ورِجل جوه يا راجل يا عجوز ولا أنت لسا مشبعتش من الدنيا.
امتعضت ملامح "شاكر" ثم أخذ يدق بعصاه أرضًا.
_ لا لسا فاضل ليا أمنية من الدنيا لو اتحققت هقول خلاص اخدت كل حاجه.
وبنبرة تحمل الحب واصل كلامه وقد لمعت عيناه بالدموع.
_ نفسي اشوف "صالح" زي زمان... نفسي اجوزه واشوفه سعيد... أنا ظلمته يا "نائل" لكن اعمل إيه عيشت طول عمري هدفي مصلحة العيلة وترابطها.
ثم أخفض رأسه بخزي وآسف.
_ سامحني على كلامي أخر مرة معاك، الكلام خاني...
أول ما "نجيب" قالي إنك عايز تشوفني جيتلك على طول.
قدم "شاكر" إعتذاره الذي قليلًا ما يُقدمه.
_ اعتبرني مقولتش حاجه... وشغل حفيدتك عندي يا "نائل" لو حابب إنها تشتغل في شركتي.
_ أنا موافق يا "شاكر" على عرضك لو لسا فعلاً عايز حفيدتي لحفيدك.
....
انتفض "عزيز" من المقعد الذي جلس عليه للتو جوار حارس الأمن الذي قدم له كوب الشاي حتى يثرثروا قليًلا بالحديث.
خروج سيده من باب المعرض بتلك الطريقة وصوت صراخه عبر الهاتف بأحدهم جعل "عزيز" يسرع خلفه في قلق.
_ إيه اللي حصل يا "عزيز" بيه.
تساءَل "عزيز" السائق وهو يُحاول إلتقاط أنفاسه من شدة فزعه.
_ بسرعه يا "عزيز"، في حريق في المصنع.
قالها "عزيز" ثم أسرع بالتحرك نحو سيارته.
_ مصنع، "ليلى".
خرجت الكلمات من فم "عزيز" بتقطع وقد وقف مكانه وارتعش جسده من الذعر.
القلق الذي كان يحتل قلب "عزيز" على عمال مصنعه تضاعف.. حتى أنه لم يشعر بنفسه وهو يقود سيّارته بسرعة قصوى وجواره جلس "عزيز" سائقه يمسك هاتفه بأيدي مرتعشة ويُحاول الإتصال بـ "ليلى".
_ مش بترد؟؟
تساءَل "عزيز" بنبرة تحمل القلق وهو ينظر لـ "عزيز" سائقه الذي أخذ يهز رأسه له وقد ثقل لسانه عن الكلام.
خرجت زفرات "عزيز" بقوة وهو يضرب بوق السيّارة حتى تفسح له السيّارة الأخرى الطريق.
_ أنا مصدقت رجعتلي يا "عزيز" بيه...
سقطت دموع "عزيز" -العم- بعدما خرجت الكلمات من فمه.
وكلما كان "عزيز" -العم- يتحدث...كان "عزيز" يزيد من سرعة سيّارته.
أخيرًا وصل "عزيز" المصنع وقد اصطف العمال بالخارج وأتت الشرطة وسيّارات الإسعاف وارتفع الدخان بغزارة من المصنع.