رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل الرابع عشر بقلم سهام صادق
توقف "عزيز" شاخص البصر، ينظر إلى فتنة تلك التي لا يعرف سبب وجودها بمطبخ منزله.
عيناه التي لا تعرف التأمل بفتنة النساء ولا ترتفع نحو امرأة... خانته للمرة الثالثة.
ازدرد لُعابه وتراجع خُطوة للوراء يمسح على وجهه وهو لا يصدق حاله.
إنه آتى للمطبخ وهو يظن أن من به هي "عايدة" وليست تلك التي صارت تسقطه يومًا بعد يوم في شرك خطيئة لا يتسم بها الرجال.
عقدت "ليلى" خصلات شعرها بإحكام وأسرعت بوضع حجاب رأسها وقد انتهت للتو من عملها في تقوير الخضار.
كادت أن تنهض من المقعد لكن دلوف "عايدة" جعلها تقف منحنية الجسد وسُرعان ما انتصبت في وقفتها بذعر وهي تستمع لما تُخبرها به "عايدة".
_"عزيز" بيه رجع من السفر.
التفت "ليلى" حولها في فزع وقد تعجبت "عايدة" من أمرها وسُرعان ما خرجت صوت ضحكاتها عندما علمت سبب ذعرها.
_ يا بنتي "عزيز" بيه إيه اللي هيدخله المطبخ متخافيش.
أطبقت "ليلى" جفنيها لعلها تستطيع إلتقاط أنفاسها، فماذا كان سيحدث إذا دخل المطبخ.
رفعت يديها نحو حجابها لتطمئن ثم ألقت بنظرة سريعة نحو حبات الخضار.
_ أنا خلصت تقرير البتنجان، هرجع البيت أشوف إيه اللي ناقص اعمله.
أسرعت بخطواتها لتُغادر المطبخ ولكن تراجعت بخطواتها للوراء عندما اصطدمت بالعم "سعيد".
_ معلش يا عم "سعيد" مأخدتش بالي.
غادرت "ليلى" المطبخ في عُجالة وقد اِرتفعت ضحكات "عايدة" ثم لطمت كفوفها معًا.
_ مالها "ليلى" يا "عايدة"؟؟
هزت "عايدة" رأسها له ثم اقتربت منه لتلتقط عنه ما يحمله.
_ يا سيدي أول ما عرفت إن "عزيز" بيه وصل من السفر اتفزعت.
قطب العم "سعيد" حاجبيه في دهشة وقد استطردت "عايدة" كلامها.
_ أصلها افتكرت إنه ممكن يدخل المطبخ... وأنت عارف "ليلى" بتتكسف إزاي.
ابتسم العم "سعيد" عندما علم السبب وقال وهو يغسل يديه أسفل الصنبور.
_ والله البنت ديه جوهرة يا "عايدة"، محظوظ اللي هيفوز بيها.
أنا هطلع أشوف "عزيز" بيه... واعتب عليه إزاي يقول لجوزك ميعاد وصوله وأنا لاء.
ضحكت "عايدة" على عبوسه، فشقيقها كلما تقدم بالعمر أصبح كالأطفال في تذمرهم.
نظر "عزيز" نحو حقيبة سفره التي ألقاها عند دلوفه غرفته.
إنه منذ صعوده لغرفته يدور حول نفسه بدون هواده...
لا يستوعب أنه وقف كالمراهق متلصصًا مُحدقًا في فتاة تُقارب ابنة شقيقه بالعمر.
زفر أنفاسه بقوة ؛فصورتها وهي ترفع ذراعيها من أجل لملمت خصلات شعرها وعقده طُبعت في عقله...
شعرها ذو اللون المميز لكن هل شعرها فقط ما رأه اليوم؟
عادت صورتها تطرق رأسه ولوهلة ارتسم المشهد أمام عينيه.
عنقها المرمري الطويل الذي تناثرت عليه مجموعه من الشامات وشعر أحمر لم يرى لونه من قبل.
أغمض عيناه بقوة لعله يطرد ما طبعه الشيطان في ذاكرته...
طرقات العم "سعيد" على باب غرفته ثم دلوفه بعدما أذن له بالدخول وحدها ما خلصته من أفكاره.
_ حمدلله على السلامة يا "عزيز" بيه.
_ الله يسلمك يا عم "سعيد".
قالها "عزيز" بعدما تنحنح بصوت أجش وقد ظهر الإرهاق على ملامحه بوضوح.
_ الست "نيرة" عامله إيه دلوقتي يا بيه.
ابتسم "عزيز" بعدما استدار كليًا ناحيته وقد تمكن أخيرًا من السيطرة على خلجات وجهه.
_ بخير يا راجل يا طيب وبتسلم عليك.
كاد أن يثرثر العم "سعيد" كعادته لكنه تراجع عن مواصلة كلامه عندما وجد "عزيز" يخلع سترته ويُلقي بها على فراشه.
_ أنا محتاج أنام ساعات كتير...ياريت يا عم "سعيد" متصحنيش حتى لو طولت في النوم.
_ امتى يا بني هتعرف إن لبدنك عليك حق.
قالها العم "سعيد" بشفقة على حال سيده الصغير الذي لا يرحم نفسه من العمل ولا يُفكر بحاله وبحاجته للراحة وزوجة تهون عليه أعباء الحياة.
أراد العم "سعيد" أن يعيد عليه ذِكر أمر الزواج لكنه ابتلع كلامه عندما وجده يتحرك نحو المرحاض قائلًا.
_ زي ما قولتلك يا عم "سعيد" مهما حصل متصحنيش حتى لو عشان الأكل.
أكد على كلماته الأخيرة، فهو أكثر من يعلم هذا الرَجُل الذي لا يتوانى في رعايته.
....
احتل التجهم ملامح "شاكر" بعدما فرغَ من كلامه؛ فهو حتى هذه اللحظة لا يصدق أن "نائل" رفض طلب زواج حفيده من حفيدته.
_ أنت زعلان من ردة فعله يا "شاكر"، ومفكرتش في كلامك قبل ما تقوله.
زفر "شاكر" أنفاسه بقوة متذكرًا لحظة نهوض "نائل" من مقعده ورده عليه.
"نائل" طرده من منزله بكل تهذيب لكن في النهاية يسمى طرد.
_ ما أنت اللي قولتلي إنه خايف على البنت من ولاده، ده جزاتي إني فكرت فـ كده... حفيدي أي عيلة تتمنى تصاهره يا "نجيب".
قالها "شاكر" بعجرفة لعله يُداري قليلًا من حرجه.
_ فعلاً "صالح" أي عيلة تتمناه يا "شاكر" لكن أنت اختارت الوقت الغلط... يعني "نائل" مستني منك تقوله إنك وظفت حفيدته عندك تقوم تقوله عايزها تتجوز حفيدك..
نظر له "شاكر" ثم أشاح عيناه عنه متأففًا بضيق.
_ خلاص يا "نجيب" ! أنا عارف إني اتسرعت، قولي دلوقتي أعمل إيه مع "نائل".
أطلق" نجيب" زفيرًا طويلًا ثم أطرق رأسه مفكرًا في حل هذا الخلاف بين صديقيه.
_ مع الوقت "نائل" هينسى.
_ بس أنا عايز البنت عروسه لـ حفيدي.
أسرع "شاكر" بالإفصاح عن رغبته بإتمام هذا الزواج.
فرمقه "نجيب" بنظرة يائسة.
_ ما أنت اللي اتسرعت يا "شاكر"... لو كنت وظفت البنت الأول في شركتك كانت الحكاية هتكون معقوله لو قولت إن "صالح" شاف البنت وعجبته وكان ممكن "نائل" يرحب بطلبك لكن عرضك ده أكدله إن زياراتك ليه الأيام اللي فاتت كان وراها هدف واهو أنت افصحت عن نواياك... "نائل" مش غبي يا "شاكر".
....
في تمام الساعه الثامنة مساءً.
هبط "عزيز" الدرج بعدما نام بضعة ساعات وقد زال الإرهاق قليلاً عن ملامحه.
خرجت نحنحته بخشونه عندما تحرك بخطواته نحو المطبخ.
انتفض العم "سعيد" من المِقْعَد عندما انتبه على صوته وتساءَل بعدما استدار بجسده ناحيته.
_ احضرلك العشا يا بيه.
و "عزيز" كان بالفعل جائعًا.
_ ياريت يا راجل يا طيب لأني جعان.
ابتسم العم "سعيد" عندما استمع إلى جوابه وأسرع على الفور ليسخن له الطعام الذي طهته "عايدة" و "ليلى" بالظهيرة.
تساءَل "عزيز" عندما اقترب منه ونظر نحو ما يقوم العم "سعيد" بتسخينه.
_ "عايدة" طابخه إيه النهاردة؟
اتسعت ابتسامة العم "سعيد"، فعلى ما يبدو أن سيده اليوم جائعًا بشدة.
_ عملالك محشي يا بيه وأنت عارف نفس "عايدة" في المحشي بس بصراحه....
توقف العم "سعيد" عن مواصلة كلامه عندما صدح رنين هاتفه.
_ دي "نيرة".
ابتهجت ملامح العم "سعيد" ونسى ما كان يرغب في إخباره به.
فتح "عزيز" مكبر الصوت ونظر نحو العم "سعيد" الذي ترك الطعام والتمعت عيناه عندما استمع لصوت "نيرة" التي كبرت يومًا بعد يوم أمام عينيه.
_ حبيبي اللي كان نفسي يقعد معايا اكتر من كده.
ضحك "عزيز" وقد اتسعت ابتسامة العم "سعيد".
_ ولما تاخديه أنتِ عندك إحنا نعمل من غيره إيه؟؟
قالها العم "سعيد" بصوت تغلغل فيه المرح، فارتفعت ضحكات "نيرة".
_ وحشني يا راجل يا عجوز...
اختنق صوت "نيرة" وواصلت كلامها بحنين وشجن وكأن عودة عمها للوطن بعد زيارته لها أعادت لها الحنين.
_ وحشني كل ركن في البيت وحشتني "عايدة" وريحة أكلها و "شهد" كمان وحشتني... فاكر يا عم "سعيد" خناقتها مع "سيف"... كانت قد عقلة الإصبع.
ضحك العم "سعيد" وانسابت دموعها شوقً.
_ أنا مش عارف كان عقل "عزيز" بيه فين لما وافق يجوزك بعيد عننا.
وهل نسى العم "سعيد" رفض "عزيز" التام لـ "معتز" لأنه يعيش بعيدًا عن الوطن ولكن الصغيرة هي من أصرت وألحت ولم يكن بيد "عزيز" شئ إلا الموافقة بعدما أدرك أن ابنة شقيقة تحبه.
عندما صمتت "نيرة" عن الكلام أدرك "عزيز" بفطنته تأثر حبيبة قلبه بكلام العم "سعيد".
_ شوفتي الراجل يا "نيرو" قعد يكلمك ونسي يسخنلي المحشي...
ابتسمت "نيرة" ثم عاد صوتها يرتفع بتلذذ وشوق لـ طعام "عايدة".
_ ريحة محشي "عايدة" وصلت ليا كندا... أول ما انزل مصر لازم "عايدة" تعملي كل الأكلات اللي بحبها.
انتهت المكالمة التي أبهجت قلب العجوز "سعيد" ورسمت البسمة على وجه "عزيز" رغم شعوره بالشوق إليها.
غادر "عزيز" المطبخ متجهًا نحو طاولة الطعام وقد بدأت معدته تنتظر بلهفة طعام "عايدة" الذي فاحت رائحته وعبأت أرجاء المنزل.
وضع العم "سعيد" أطباق الطعام وقد أسرع "عزيز" في إلتقاط أحد حبات الكوسة يلتهمها.
ابتسم العم "سعيد" برضى وهو يراه يأكل بشهية وقرر العودة إلى المطبخ إلى أن ينتهي سيده من تناول وجبته.
بعد وقت
كان "عزيز" يقف بالمطبخ مع العم "سعيد" ينتظره أن ينتهي من صنع كوب الشاي له.
_حقيقي ،تسلم إيد "عايدة" النهاردة... المحشي معمول بمزاج.
_ ما "ليلى" كانت بتساعدها النهاردة وعملت خلطة المحشي.
قالها العم "سعيد" وهو يناول "عزيز" كوب الشاي ثم استطرد بكلامه وقد لمعت عيناه بفخر.
_ يوم اجازتها بتحب تساعد "عايدة"....
ثم هز رأسه وواصل كلامه.
_ بصراحه من ساعة ما جات بتساعد "عايدة" في شغل البيت... البنت عزيزة النفس أوي يا "عزيز" بيه.
سعل "عزيز" بشدة ثم أسرع بوضع كفه على فمه بعدما اختنق وهو يرتشف من كوب الشاي.
_ سلامتك يا بيه.
قالها العم "سعيد" بقلق ثم أسرع بجلب محرمة ورقية له.
_ خد اشرب شوية مية.
التقط منه "عزيز" كأس الماء وارتشف منه القليل ثم تنحنح وجلي حنجرته قائلًا.
_ أنا رايح غرفة المكتب اشتغل شوية... أنت تقدر تروح ترتاح يا راجل يا طيب.
اتجه "عزيز" نحو غرفة مكتبه وأغلق الباب ورائه سامحًا لأنفاسه بالتحرر.
حتى طعامها صارت معدته تهواه، ألا يكفيه أنها بدأت تخترق رأسه.
أغلق جفنيه ثم زفر أنفاسه بقوة وكعادته رفع يده نحو خصلاته يغرز أصابعه فيها.
ظل للحظات واقف بتخبط بمنتصف الغرفة إلى أن تمكن من السيطرة على أنفاسه الهائجة واتجه نحو مكتبه ليبدأ في شغل عقله بأعماله.
بعد ثلاث ساعات عمل متواصل
كان يغلق الأوراق التي أمامه وأيضًا الجهاز اللوحي الذي يعمل عليه ثم فرك جفنيه وقد داهمه التثاؤب وشعر بتشنج عضلات جسده.
نهض من مقعده وأغلق إنارة المصباح الصغير الذي يوضع على سطح مكتبه واتجه بخطواته نحو باب الغرفة ثم أغلق الأنارة بالكامل.
خطواته التي كانت تتجه للخارج من الغرفة إنعرجت للداخل مرة أخرى.
اقترب من نافذة شُرفته ورغم مقاومة عقله له إلا أن شيئًا داخله كان يدفعه لأن يزيح سِتَار الشرفة قليلًا ويمنح عيناه حرية التأمل.
ارتسمت الخيبة على محياه وهو يرى الشرفة مغلقة بإحكام حتى إنارة الغرفة مغلقة وقد كان يُمني نفسه برؤيتها.
اتسعت حدقتاه في صدمة... أيعقل أن الأمر وصل به لهذا الحد.
_ شكلك اتجننت يا "عزيز".
في اليوم التالي
وعلى طاولة الفطور التي ملئها العم "سعيد" بكل ما هو يفتح شهية سيده.
_ ليه كل ده يا راجل يا طيب، ليه محسسني إني مكنتش باكل حاجه...
أسرع العم "سعيد" بتحريك طبق الفول لوضعه أمامه.
_ وشك أصفر وبهتان...
ارتفعت قهقهة "عزيز" من كلام العم "سعيد".
_ اه لو "نيرة" سمعتك دلوقتي...
_ اكيد هي كمان ضعيفه ووشها بقى أد اللقمه.
سعل "عزيز" بشدة بعدما توقفت لقمة الطعام بحلقه ليلتقط كأس الماء الذي أمامه ويبتلعه دفعة واحدة.
_ أنت مشكله يا راجل يا طيب.
أنهى "عزيز" طعام فطوره الشهي الذي لا يُقارن مع أي طعام أخر.
تحرك لمغادرة المنزل لكنه توقف عن حركته وقد عاد القرار الذي اتخذه يطرق رأسه.
_ في حاجة يا بيه.
تساءَل العم "سعيد" بعدما انتبه على توقفه.
أغمض عينيه ثم فتحهما وقد أوشك الكلام على الخروج من شفتيه لكنه ابتلعه في اللحظة الأخيرة.
هو لا يستطيع إخبار العم "سعيد" بأن تتوقف تلك الفتاة عن صنع الطعام له.
_ مافيش حاجه يا عم "سعيد".
أسرع "عزيز" بخطواته واتجه نحو سيارته التي وقف
"عزيز" سائقه قربها.
.....
التقط "نائل" حديث حفيدتيه عن المدرسة التي تبعد عدة أمتار عن مسكنهم وقد أعلنت إدارة المدرسة عن حاجتها لمعلمات يجيدون اللغة الفرنسية.
_ ليه متقدميش يا "زينب"، قوليلي سبب مقنع يخليكي متقدميش والمدرسة قريبة منك... يعني مفيش حجة.
_ اسيب جدو لمين.
أشاحت "زينب" عينيها عن ابنة عمها حتى لا تلتقط نظرة عيناها الكسيرة التي تحمل قلة حيلتها.
_ خدي منها الورق وقدمي ليها أنتِ يا "سما".
قالها "نائل" وهو يتقدم منهن ثم بدأ يسعل قليلًا.
انتفضت كلا من "زينب" و "سما" واتجهوا ناحيته وعلى وجههن ارتسم القلق.
_ مالك يا جدو.
_ أنا كويس، مش من مجرد شوية كحة هتخافوا عليا.
ثم أردف بحزم وهو ينظر نحو "سما" التي التقطت يده ليستند عليها.
_ زي ما قولتلك خدي أوراقها يا "سما" وقدمي ليها.
_ بس أنا معنديش خبرة ومشتغلتش قبل كده.
هذه كانت تبريراتها الدائمة التي تخبرهم بها دون مجازفة ثم تؤكد لهم بأنها تُحب الجلوس بالمنزل ولا ترغب بالعمل.
_ مالكيش دعوه بيها يا "سما" وقدمي ليها سامعه.
حركت الأخرى له رأسها بموافقة ثم تساءَل "نائل" بعدما جلس على الأريكة.
_ هي المدرسة دي دولية مش كده...
أكدت له "سما" باماءة من رأسها، لتهتف "زينب" بعدما رأت جدية جدها بأمر تقديمها لهذا العمل.
_ يا جدو، أنا مش عايزة أشتغل.
قطع "نائل" كلامها ونظر نحو حفيدته.
_ اعرفيلي مين مديرها يا "سما"... حاولي تجبيلي معلومات عنه.
جميع المعلومات عن هذه المدرسة كانت تعطيها "سما" لجدها قبل أن تقدم "زينب" أوراقها لهذه الوظيفة.
_ بتقول مين يقدر يساعد حفيدتي، "شاكر".
قالها "نائل" بملامح ممتعضة بعدما أخبره "نجيب" بالشخص الذي يستطيع التوسط له ثم واصل كلامه.
_ شوفلي حد تاني من معارفنا يا "نجيب" أقدر أطلب منه المساعدة دي.
_ للأسف مفيش غير "شاكر" يا "نائل".
كاد أن يتحدث "نائل" باعتراض من طلب هذا الأمر من "شاكر" مرة أخرى بعدما أظهر نواياه.
_ يا "نائل" صدقني "شاكر" مكنش يقصد اللي أنت فهمته... "زينب" عجبته أخلاقها وكان عايزاها....
توقف "نجيب" عن الكلام بعدما وجد "نائل" يتمتم بحزم.
_ اقفل السيرة دي يا "نجيب"، أنا اكتر واحد عارف "شاكر" كويس.
تنهد "نجيب" ثم أطرق رأسه ليفكر في شخص أخر يستطيع خدمة "نائل" بأمر وظيفة "زينب".
أَخذ "نائل" من وعدًا ألا يُخبر "شاكر" بهذا الأمر لكن
"نجيب" كعادته كان لسانه يخونه ويُخبر "شاكر" بحديثهم.
_ يعني مش عايز مساعدتي، طول عمره "نائل" كرامته عزيزه عليه.
بضعة زفرات أخرجها "شاكر" بتمهل وهو يطرق بعصاه أرضًا.
_ متقولوش إني عرفت حاجه يا "نجيب" وأنا هستخدم اتصالاتي واتوسط للبنت...
.....
ترجلت من سيارة الأجرة بعدما نقدت السائق أجرته.
اليوم لم تستقل الباص الذي يُخصصه المصنع لموظفينه كعادتها.. فليلة أمس قضتها هي و "شهد" يُشاهدان أحد الأفلام المعروضة وقد غفت متأخرة.
أسرعت بخطواتها نحو بوابة المصنع، تنظر بعد كل عدة ثواني لساعة يدها.
_ يا "مصطفى"، أنا مش بأيدي حاجه اعملها ليك.. أنا زيي زيك هنا حتت موظف غلبان.
قالها الحارس الواقف عند بوابة المصنع لصديقه الذي يعمل بالداخل.
_ ليه الظلم ده يا "سالم"... ده هو اسبوع بس اللي غيبته وكنت قايل لـ "عاشور" يبلغ استاذ "أحمد" ياخدلي اجازة...
منه لله مكنتش عارف إنه مبلغش حد سبب غيابي.
ثم صَاح بنبرة بائسة قد تخللتها الصدمة.
_ يا عالم والله كنت محجوز في المستشفى.
_ ربنا يعوض عليك يا "مصطفى".
طأطأ "مصطفى" رأسه بقلة حيلة وهز رأسه بحزن.
_ يعني مفيش أمل أرجع.
ثم رفع رأسه وأغمض عينيه لوهله ليفتحهما بعد برهة.
_ لله الأمر من قبل ومن بعد.
توقفت "ليلى" عن سيرها بعدما استمعت لحديثهم الذي جذب انتباهها.
أصابها الضيق وهي ترى قلة الحيلة في أعين ذلك الشاب الذي أثقلته هموم الحياة.
_ لو عرفت اتوسطلك عند استاذ "أحمد" مش هتأخر يا "مصطفى".
حياها الحارس "سالم" برأسه عندما انتبه على مرورها ثم مضت بطريقها وقد جلى التأثر بوضوح على ملامحها.
لا تعرف لِما استمر حديثهم يطرق رأسها طيلة دوامها.
انتهى وقت الدوام وقد كانت أول المغادرين من قاعة العمل.
_ استاذ "سالم".
انتبه الحارس على صوتها وقد اقتربت منه "ليلى"..
لترتسم على محياه ابتسامه واسعة.
_ أهلًا أنسة "ليلى".
قالها "سالم" بلُطف ونظر إليها منتظرًا معرفة سبب ندائها له.
بتوتر تساءَلت "ليلى" بعدما نظرت نحو المبنى الذي يُغادر منه زملائها بالعمل.
_ هو إيه حكاية صاحبك.
أطلق "سالم" زفراته بضيق.
_ "مصطفى" ده دايمًا الحظ معاند معاه والله يا استاذه "ليلى"... الغلب مش راضي يسيبه واهو اتطرد من الشغل.
بعبارات وجيزة أخبرها "سالم" بحكاية صديقه.
اقتربت منهم "سلوى" زميلتها وقد ارتسمت الدهشة على ملامحها.
_ هو في حاجة يا "ليلى".
نظر "سالم" إلى "ليلى" التي أسرعت على الفور بخلق كذبه حتى لا تفضح الأمر.
_ انسيال الفضة بتاعي وقع مني... فجيت اسأل "سالم" عليه.
هز لها "سالم" رأسه بتفهم، فهي لا تريد الإفصاح عن أمر
صديقه وقد شعر بالأمل لعودة صديقه للعمل لأن ما تغافل عنه منذ عملها هنا تذكره اليوم... "عزيز" سائق صاحب المصنع عم "ليلى".
_ طيب يلا عشان نلحق أول كرسيين في الباص.
هتفت بها "سلوى" وهي تجذب ذراع "ليلى" نحو حافلة العمل ليستقلوها.
....
رفع "عزيز" عيناه عن صور الأثاث التي أتم مصنعه تصميمه عندما وضعت "أميمة" فنجان القهوة أمامه.
نظر إلى الوقت في ساعة يده، فموعد إنصرافها من عملها مر عليه ثلاثون دقيقة.
_ أنتِ لسا مروحتيش.
تساءَل "عزيز" وقد تراجعت "أميمة" بخطوتان إلى الوراء ثم أخفضت رأسها.
_ قولت أعملك قهوتك الأول وبعدين أمشي.
قالتها بنبرة خجله ثم أردفت بصوت خفيض أقرب للهمس.
_ أنا عارفه إن فنجان القهوة بتاعي بيظبط دماغ حضرتك.
ابتسم "عزيز"، فهو لن يُنكر هذا الأمر وقال بعدما التقط فنجان القهوة.
_ بصراحة أه... بتظبطلي دماغي... شكرًا يا "أميمة".
رفعت عيناها التي سبحت في تأمله وسُرعان ما كانت تدرك فداحة إثمها الذي تسقط فيه دون إرادتها.
غادرت "أميمة" غرفة المكتب ثم أسرعت بالتقاط حقيبتها من على طاولة مكتبها تحت نظرات السيد "جابر" الذي تعجب من مغادرتها بتلك السرعة.
إنها تفر هاربة من مشاعرها التي صارت تتضح لها يومًا بعد يوم.
....
عادت "ليلى" من عملها وهي تُفكر في أمر ذلك العامل الذي أرادت مساعدته.
ابتسم العم "سعيد" عندما وقعت عيناه عليها وقد كان يخرج من المنزل متجهًا نحو الڤيلا.
_ راجعة بدري النهاردة.
تساءَل العم "سعيد"؛ فابتسمت "ليلى".
_ الطريق مكنش زحمة النهاردة.
_ طيب يلا ادخلي ارتاحي واوعي تمدي ايدك في المطبخ... أنا النهاردة عملتلكم مسقعة على الطريقة اليونانية.
قالها ثم هز كتفيه بتفاخر.
ضحكت "ليلى" وقد ضحك هو الأخر.
_ هي على الطريقة المصرية بس لازم امدح نفسي يا "لولو" بس أوعي تفتني عليا.
انصرف العم "سعيد" من أمامها؛ فتعلقت عيناها به... الكلام كان على طرفي شفتيها لكنها لم تستطع النطق به.
زفرت أنفاسها بتنهيدة ثم تحركت نحو الداخل.
بعد تناول وجبة العشاء
حاولت التحدث معه وطلب مساعدته لكن لم تسنح لها الفرصة وقد علمت بأي وقت تستطيع الحديث معه.
بالصباح الباكر وكالعادة يكون العم "سعيد" مستيقظ قبل الساعه السادسة صباحًا.
_ صباح الخير.
تمتمت بها "ليلى" وهي تدلف المطبخ، فرمقها العم "سعيد" بنظرة حانية.
_ صباح الخير يا "لولو"، صاحية ليه بدري النهاردة.... لسا فاضل ساعه ميعاد صحيانك للشغل.
اقتربت منه "ليلى" وعلى ملامح وجهها ارتسم التوتر.
حدجها العم "سعيد" بنظرة ضيقة وتساءَل.
_ شكل في حاجه عايزه تقوليها ليا، قربي تعالي اقعد قصادي واحكيلي.
هذا الرَجُل العجوز الذي تحبه، يفهمها من نظرة عيناها.
اقتربت منه وقد تلاشى توترها.
_هحكيلك يا عم "سعيد" وقولي اتصرفت صح ولا غلط.
استمع لها العم "سعيد" وهو يهز رأسه مع كل كلمه تنطقها إلى أن انتهت.
_ مساعده الغير حلوه يا بنتي... بس إحنا لا نملك في الأمر شئ ولولا مكانتنا عند "عزيز" بيه مكناش قدرنا نثقل عليه بطالبتنا.
_ أنا آسفه.
تمتمت بها "ليلى" بخجل بعدما أخفضت رأسها ثم أخذت تفرك يديها بحرج، لقد وضعت حالها بأمر أكبر منها... إنها مجرد موظفة بالمصنع وقد نالت الوظيفة بعدما طلب عمها راجيًا من سيده أن يساعده في توظيفها والسيد "عزيز" كان رجلًا كريمًا معهم.
ربت العم "سعيد" على كفها بحنو وقد شعر بالضيق من حاله لأنه أحزنها.
_ أنا هكلم "عزيز" بيه... متقلقيش.
رفعت "ليلى" عيناها إليها، فهز لها العم "سعيد" رأسه بأن تثق به.
........
أغلق "هشام" باب غرفة والده بعدما اطمأن عليه وتأكد أنه بالفعل نائم مثلما أخبرته.
احتدت عيناه عندما استمع لصوت "زينب" التي وقفت تنتظزه أمام غرفة جدها.
استدار نحوها فتراجعت بخطواتها للوراء وهي ترى نظراته القاتمة إليها وعلى الفور خرج صوتها بتعلثم.
_ مش قولتلك يا عمو إنه أخد العلاج ونام.
شهقة خافته خرجت من شفتيّ "زينب" عندما قبض "هشام" على ذراعها واجتذابها نحو غرفتها.
_ شغل إيه اللي قدمتي عليه، أنا مش مفهمك إن رعايتك لسيادة اللواء هو سبب وجودك هنا وإن دي شغلانتك.
طأطأت رأسها بحزن، فمن شجعها على التقديم بتلك الوظيفة هو جدها.
_ المدرسه قريبه من البيت يا عمو وجدو هو اللي شجعني.
لم يتركها "هشام" تكمل حديثها وصرخ بها.
_ مفيش شغل... أنتِ هنا عشان تراعي سيادة اللواء.
ارتجف جسدها من صراخه وعلى الفور هزت له رأسها وقد خرج صوتها بتقطع.
_ بس أنا نفسي اشتغل زي "سما" و "أشرقت".
عندما استمع لاسم ابنته... التقط ذراعها مجددًا يهزها ببغض يملأ قلبه -منذ أن كان مراهقًا- نحو السيدة التي أخذت والدهم منهم وأبكت والدته قهرًا إلى أن عاد والدهم لأحضانهم.
_ أنتِ عايزه تجيبي نفسك لبنتي المستشارة "أشرقت".
أغمضت "زينب" عينيها وانسابت دموعها وقد استمر "هشام" هزها بعنف.
_ بسهولة أقدر أخليهم يفصلوكي من المدرسة، فمن نفسك كده متروحيش وأنا وعمك "مصطفى" هنزودلك المصروف.
قالها "هشام" ثم أخرج جزدانه ليلتقط منه المال.
_ طبعًا عارفه لو كلمه خرجت لسيادة اللواء إيه اللي هيحصلك.
حركت "زينب" رأسها بضعف وقبضت على المال الذي وضعه في قبضة يدها بقوة.
وقف "نائل" قُرب باب غرفته يستمع إلى صراخه على حفيدته اليتيمه.
انسابت دموعه بقهر... فما فعله بالماضي تحصده حفيدته اليوم.
زادت سرعة ضربات قلبه؛ فأسرع بوضع يده على موضع قلبه وقد ارتفع صوت أنفاسه بهياج.
_ "نجيب" عنده حق، "زينب" لازم تتجوز قبل ما أموت.
....
لطم العم "سعيد" جبينه عندما نظر نحو "ليلى" التي دلفت ورائه المطبخ لتسأله عن ردة فعل السيد "عزيز".
_ شكلي كبرت فعلاً يا بنتي، حقك عليا..
قالها العم "سعيد" بأسف عن نسيانه لما طلبته منه بالصباح وقد وعدها أنه سيُحادث السيد "عزيز" بالمساء.
_ خلاص يا عم "سعيد"... شكله ملهوش نصيب يرجع المصنع.
_ لا... يا بنتي أنا وعدتك...
ثم أردف بعدما اتجه ناحية البراد.
_ أنا راجع تاني الڤيلا عشان احضر قايمة طلبات الأسبوع... تعالي معايا عشان أنا غصب عني بقيت انسي بسرعه.
_ أجي معاك الڤيلا.
خرج صوتها بتعلثم، تنظر إليه بحدقتين متسعتين.
فزعها من مقابلة سيده جعله يضحك ويتساءَل.
_ أنتِ بتتخضي ليه من "عزيز" بيه يا "لولو"...
ثم أخذ يمدح سيده الغالي على قلبه ولا يُضاهي مكانته أحد.
_"عزيز" بيه مفيش أطيب منه.
_ لا يا عم "سعيد"... خلاص متقولش ليه حاجه.
تمتمت بها وهي تتحاشىٰ النظر له؛ فابتسم العم" سعيد" قائلا بدهاء.
_ أنتِ وعدتي الراجل إنك هتساعديه يا "لولو" وأنا متأكد إن "عزيز" بيه مش هيرفض طلبك.
ثم نظر إليها وغمز لها بعينه اليمنى قائلًا بمشاكسة.
_ بقى ليكِ عنده مكانه خصوصًا في معدته... مبقاش يقدر يقاوم أكلك يا "لولو".
ألقى العم "سعيد" عبارته ثم خرج من المطبخ دون أن ينتبه على تلك اللمعة التي التمعت في مقلتيها وأوهجت ملامحها.