رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل الثانى عشر12 بقلم سهام صادق


   رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل الثانى عشر بقلم سهام صادق



هزته نبرة صوتها الضعيفة ونظراتها التـي تحمل شـجـنً وشـوقً للغائبين. 

هذه النظرة التـي تُطالعه بِها رأها يومًا في أعُين ابنة شقيقه. 

الضوء المُنبعث أشعته من عمود الإنارة تَسلط بقوة داخل مقلتاها التي لمعت الدموع بهما.

لـوهـلـة غَـاص فـي عـيـنـيـهـا وفـي مـلامـحـهـا الـجـمـيـلـة... لـوهـلـة أخـذه فـؤاده لـشـعـور لا يـنـاسـب رَجُـل بِـعُـمـره.

ضاقت عيناه في ذهول وسُرعان ما كان يشيح عيناه عنها يُكرر سؤاله لها مرة أخرى بنبرة خشنة. 

_ إيه اللي مقعدك على الرصيف كده، فيه حاجه حصلتلك. 

_ كعب الجزمه اتكسر.

عيناها كانت مرتكزة نحو الحذاء الذي خلعته وأخذت تنظر إليه. 

قطب "عزيز" حاجبيه عندما استمع إلى ردها ونظر نحو الحذاء الذي تطالعه بحزن.

_ آخر حاجه ماما اشترتها ليا... مكنش المفروض ألبسه النهاردة.. 

دمعت عيناها وهي تخبره بحزنها الشديد على حذائها وأخذت تخبره بذلك اليوم الذي اشترته لها فيه والدتها عندما أخبرتها أنه أعجبها. 

انتصب "عزيز" في وقفته ونظر حوله بنظرة ثاقبة ثم عاد ينظر إليها بنظرة تحمل عطفًا... 

فهل يتركها تسرد له ذكرياتها دون إحراجها؟

تنهد "عزيز" بتنهيدة طويلة وتمتم بعدما اقترب من الأكياس الملقاه أرضًا والتقطها. 

_ قومي يا "ليلى" مينفعش تفضلي قاعده على الرصيف كده. 

تعلقت عيناها به بنظرة ضائعة أرجفت ذلك القابع بين أضلعه. 

أشاح عيناه عنها ثم زفر أنفاسه بقوة وتحرك من أمامها وهو يحمل الأكياس التي سقطت منها. 

_ البيت بعيد...تعالي أوصلك لأنك مش هتقدرى تكملي الطريق وأنتِ بالحالة دي. 

ألقى حديثه بعبارات متقطعه بها تبرير واضح لا يعرف لما يُخبرها به. 

انتبهت أخيرًا على حالها ثم نظرت لمكان جلوسها ونهضت بهوان. 

اتجهت عيناه خلسة نحوها بعدما فتح لها باب السيارة. 

وجدها تنفض تنورتها السوداء التي ترتديها ثم حملت حذائها واحتضنته. 

ضاقت حدقتاه في ترقب عندما رأها تسير نحوه حافية القدمين. 

رفعت رأسها ببطئ نحوه؛ فتلاقت نظراتهم. 

أسرعت "ليلى" بخفض عيناها وقد أشاح عيناه هو الأخر ثم زفر أنفاسه بضيق من حاله. 

صعدت السيارة وهي تحتضن حذائها مما جعله يهز رأسه بغرابة. 

بضعة خطوات كانت تفصلهم عن المنزل الذي فور أن اقتربت سيارته منه؛ انفتحت بوابة المنزل. 

كادت أن تفتح "ليلى" باب السيارة لتترجل منها وتدلف للمنزل من الباب الصغير الذي اعتادت الدخول منه فسألها بنبرة جامدة. 

_ رايحة فين؟

رمقها بنظرة جعلتها تتراجع عن فعلتها ولم ينتظر سماع ردها بل واصل قيادته نحو الداخل بعدما انفتحت البوابة الضخمة على مصراعيها . 

انفلت الحذاء من يديها بعد تحركه المفاجأة بالسيّارة. 

ضاقت عينيّ العم "سعيد" عندما وجد "ليلى" جوار سيده بالسيّارة. 

أسرع العم "سعيد" بالتحرك جهة "عزيز" ليفتح له باب السيّارة وقد ارتسم التساؤل على ملامحه من وجود "ليلى" معه. 

_ شكراً يا راجل يا طيب.

قالها "عزيز" قبل أن تمتد يد العم "سعيد" لفتح باب السيّارة. 

ترجل "عزيز" من السيّارة ثم ربت بيده على كتفه قائلًا بضعة كلمات جعلت العم "سعيد" يتجه نحو "ليلى" بقلق. 
.... 

زفرة طويلة خرجت من شفتي "عايدة" بعدما غادرت الغرفة. 

تعلقت عينين "عزيز" -زوجها-  بها الذي تساءَل فور أن اقتربت منه. 

_ هي فيها حاجه يا "عايدة"، أخدها اوديها للدكتور. 

ابتسمت "عايدة" لتطمئن زوجها الذي أصابه الهلع عندما رأى "ليلى" تدلف المنزل بجانب العم "سعيد" حافية القدمين وقد أخبرهم العم "سعيد" بكلمات مقتضبة أن السيد "عزيز" وجدها قُرب المنزل تجلس على الرصيف بوجه شاحب. 

_ البنت كويسه يا "عزيز" متقلقيش... "سعيد" كبر الحكاية وقلقنا عليها. 

جلس "عزيز" على الأريكة يزفر أنفاسه براحه بعدما سردت له "عايدة" سبب مكوث "ليلى" على الرصيف بعدما انكسر كعب حذائها والتوى كاحلها بالتواء طفيف. 

انتفض "عزيز" من على الأريكة يتساءَل بذعر. 

_ بتقولي رجليها التوت يا "عايدة"... قومي خلينا نوديها للدكتور. 

ابتسمت" عايدة" ابتسامة واسعة وهي ترى فزع زوجها على ابنة شقيقه وفي داخلها كانت تتمنى أن ترى" ليلى" قلق عمها عليها لعلها تسامحه. 

_ يا "عزيز" البنت كويسه صدقني ومفيهاش حاجه... هقوم احضر العشا واناديها نتعشا كلنا سوا.

نهضت "عايدة" من جواره ثم اتجهت نحو المطبخ لكن  بعد عدة خطوات توقفت واستدارت بجسدها قائلة. 

_ أوعى تنسى تشكر "عزيز" بيه بكره... الحمدلله إنه كان راجع البيت في الوقت ده وشافها.

حرك "عزيز" رأسه بتفهم، فعليه شكر سيده غدًا. 
.... 

جفاها النوم هذه الليلة وهي تسترجع أحداث اليوم. 

أطبقت على جفنيها بقوة لعلها تطرد من رأسها ما حدث. 

إنها كانت قريبة منه للغاية... جاورته في سيّارته التي كانت معبئة برائحته. 

ارتفعت وتيرة أنفاسها مع خفقان قلبها الذي صار مغرم به. 

تقلبت بجسدها ثم زفرت أنفاسها بقوة وسُرعان ما كانت تتسع حدقتاها عندما تذكرت أمر حذائها الذي سقط منها في سيّارته. 

لو كان هناك أمل لغفيانها هذه الليلة قد قضى أمر حذائها على هذا الأمل.

خرجت نحنحة العم "سعيد" عند دلوفه المطبخ، فاستدارت "ليلى" على الفور ناحيته بابتسامتها الرقيقة. 

_ صباح الخير يا بنتي.

قالها العم "سعيد" واقترب منها وقد وقعت عيناه على طعام الفطور الشهي الذي بدأت بتحضيره. 

_ ليه يا بنتي تعبتي نفسك... 

ثم نظر نحو قدمها وتساءَل. 

_ بقيتي أحسن دلوقتي.

هزت "ليلى" له رأسها سريعًا؛ فالتواء قدمها لا يستحق هذا القلق منهم. 

_ الحمدلله... أنتوا بس قلقانين عليا زياده.

_ وإحنا عندنا كام "لولو" عشان نقلق عليها. 

قالتها "عايدة" وهي تدلف المطبخ وتعقد وشاح صغير حول رأسها وتتثاءب فقد استيقظت للتو من نومها. 

تبسمت "ليلى" بخجل جلي على ملامحها، فاقتربت "عايدة" منها ونظرت لأطباق الفطور التي أعدتها وأردفت بعتاب. 

_ مش قولتلك يوم الجمعه بس اللي مسمحولك فيه تحضري لينا الفطار. 

_ صح يا بنتي اسمعي الكلام، ليه بتتعبي نفسك وأنت وراكي شغل بعد ساعتين وبتفضلي طول اليوم واقفه.

اتسعت ابتسامة "ليلى" ونظرت إليهم. 

_ مين قال إني بفضل واقفه في الشغل... صدقوني أنا بكون مبسوطه وأنا بحضر الفطار ونفطر سوا. 
.... 

وقف "عزيز" أمام المرآة يغلق أزرار قميصه ثم التقط قنينة عطره ونثر منها القليل. 

ضاقت نظراته وهو يميل قليلًا ناحية المرآة بعدما التقطت عيناه تلك الشعيرات البيضاء التي بدأت تغزو لحيته التي تركها مؤخرًا لتنمو دون حلقها كما أعتاد. 

أشاح عيناه عن المرآة واتجه نحو الكومود ليتلقط من عليه هاتفه. 

استدار بجسده ليتحرك ناحية الباب و سُرعان ما كان ينتبه على الحذاء الذي وضعه ليلة أمس على الطاولة
-الصغيرة المستديرة- الموجودة بمنتصف الغرفة. 

تعلقت عيناه به ثم رفع يده يحركها على خصلات شعره بتفكير شاردًا بليلة أمس... فالحذاء سقط منها أسفل المقعد الذي كانت تجلس عليه وقد أعطاه له الحارس "مسعد" عندما تولى مهمة وضع السيّارة بالجراج الداخلي للمنزل بدلًا عن العم "سعيد". 

اقترب من الطاولة والتقط فردتي الحذاء.. فلم يكن إلا فردة واحدة انكسر كعبها. 

أسبل جفنيه للحظة وقد عاد صوتها وهي تخبره بـ حزنها يخترق رأسه. 

لقد كانت حزينة على حذائها لأنه ذكرى من المرأة التي تبنتها وربتها. 

هز "عزيز" رأسه ليطرد صورتها وهي تبكي وتشكو له سبب حزنها. 

زفرة طويلة خرجت من شفتيه ثم ترك الحذاء مكانه وكاد أن يفتح باب الغرفة ويغادر إلا أنه عاد والتقط الحذاء وغادر بعدما وضعه داخل حقيبة بلاستيكيه. 
.... 

أسرع السائق مترجلًا واتجه نحو المقعد الخلفي ليفتح باب السيّارة. 

أطرق رأسه وافسح الطريق حتى يهبط سيده من السيّارة. 

ببطئ يناسب سنوات عمره ترجل "شاكر" ثم انتصب واقفًا بصعوبة وقبض على مقدمة عصاه الأبنوسية. 

صوب "شاكر" عينيه نحو واجهة المكان الصغير الذي يحمل اسم متجر حلوى. 

بخطوات بطيئة تحرك نحو المتجر الذي خرج منه للتو أحدهم وهو يحمل عُلبة حلوى صغيرة.

عندما انفتح باب متجر الحلوى واصدر صوتًا انتقلت الأعيُن نحو "شاكر" الذي دلف المتجر بهيبته التي مَا زال محتفظًا بها رغم شيخوخته. 

رفع "نائل" عيناه عن طبق الحلوى الذي كان يتناول منه قطعة البسبوسة التي يزنها له صاحب المتجر بالجرام. 

ضاقت نظرات "نائل" عندما تلاقت عيناه بعينيّ "شاكر". 

فلم يلتقوا منذ جنازة أحد أصدقائهم بالعام الماضي وكان لقائهم مجرد تصافح بالأيدي. 

انتقلت أنظار صاحب المتجر نحو" شاكر" الذي استكمل خطواته قاصدًا طاولة واحدة. 

_ "شـاكـر" 

تمتم بها "نائل" بدهشة من وجود "شاكر" بمكان بسيط كهذا. 

_ ازيك يا "نائل".

قالها" شاكر" وهو يزيح المقعد قليلًا ليجلس عليه ثم واصل كلامه بعدما جلس على المقعد وفرد أحد ساقيه. 

_ مالك مستغرب وجودي. 

_ "شاكر الزيني" مبيجيش أماكن متواضعة كده.

ابتسم "شاكر" ابتسامة عريضه ثم أشار  للعامل بأن يقترب منه. 

_ قطعتين بسبوسة وزود القشطة عليها يا بني.

هز العامل رأسه وكاد أن يبتعد بعدما دون الطلب لكنه توقف عندما أردف "شاكر". 

_ وياريت فنجان قهوة سادة.

استعجب العامل طلبه لكنه ابتعد على الفور ليجلب له طلبه. 

ترك "نائل" شوكته جانبًا ثم مسح شفتيه بالمحرمة المطوية جانب طبقه وعلى محياه ارتسم التساؤل. 

_ كنت قريب من هنا ... وأنا عارف كويس إنك بتحب تقعد هنا تشرب قهوتك... قولت أدخل يمكن أقابلك فيه واهو الصدفة جمعتنا. 

لم يترك "شاكر" لـ "نائل" لحظة لِتساؤل أخر عن هذه الصدفة العجيبة بل استطرد بالكلام. 

_ اخبارك إيه يا "نائل"... بتشوف "رشوان" ... الموت اخد بعضنا واللي فاضل مننا إما راح قريته يعيش فيها وسط اهله وحبايبه أو الدنيا اخدته وسط أحفاده وولاده.

خرجت تنهيدة طويلة من شفتيّ "شاكر" ثم واصل كلامه وهو يخفض رأسه نحو عصاه. 

_ العمر جري بينا يا "نائل". 

_ حال الدنيا يا "شاكر"... ربنا يحسن خاتمتنا. 

أَمَّنَ "شاكر" على دعائه بصوت خافت. 

_ آمين.

وضع العامل طبق الحلوى والقهوة أمام "شاكر" وقد تساءَل وهو ينظر نحو "نائل". 

_ تؤمر بـ حاجة تاني يا سيادة اللواء اجبهالك.

_ ضيف حساب "شاكر" بيه على حسابي يا" زياد".

لم يعترض "شاكر" لأنه يعلم تمامًا صفات صديقه. 

بدأ "شاكر" بتناول حلوى البسبوسة وارتشاف القهوة متلذذًا بمذاقهم. 

_ بقالي كتير مأكلتش بسبوسة جميله بالشكل ده... كل تعليمات الدكاتره؛ ممنوع.. ممنوع. 

... 

ضاقت عينيّ "ليلى" بدهشة بعدما وجدت العم "سعيد" يزيحها جانبًا من أمام الموقد ويلتقط من يدها الملعقة التي كانت تقلب بها للتو الطعام الذي فاحت رائحته. 

_ التوابل محطوطة بالمظبوط يا "ليلى"... وصلصة الطماطم متسبكة صح... مش فاضل غير نحط البسلة في الطواجن وكده يبقى أحلى طاجن بسلة باللحمة. 

اتسعت ابتسامة "ليلى" واختفت الدهشة من ملامحها بعدما استمعت له وتساءَلت بنبرة سعيدة. 

_ يعني الطعم عجبك؟؟. 

التف لها العم "سعيد" برأسه يرمقها بنظرة مستنكرة بسبب سؤالها. 

_ من امتى عمك "سعيد" بيمدح حاجة مش عجباه. 

_ "سعيد" عمره ما جاملني أنا شخصيًا ولا مدحني... لكن أنتِ يا "لولو" حاجة تانية عنده. 

قالتها "عايدة" عندما دلفت إلى المطبخ وقد عادت للتو من الڤيلا ثم جلست على أحد المقاعد الموجودة بالمطبخ. 

_ مش عارفة من غيرك يا "ليلى" كنت عملت إيه. 

دلكت "عايدة" ساقيها من الإرهاق، فالتمعت عينيّ "ليلى" بحب لها وقبل أن يخرج الكلام من شفتيها كان العم "سعيد" يتمتم باستنكار لتدليل شقيقته لابنتها التي لا تعاونها بشئ. 

_ ما أنتِ لو تبطلي دلع في المفعوصة اللي كل شوية رايحة الدرس وجاية من الدرس كنتي ارتاحي وعرفتي إنك خلفتي. 

هزت "عايدة" رأسها بيأس من شقيقها الذي لا يترك حديث إلا وأنبها على تدليلها لوحيدتها. 

_ البنت في ثانوية عامه يا "سعيد". 

رمقها "سعيد" بنظرة ممتعضة، فأسرعت "ليلى" قائلة بحنين. 

_ أنا لما كنت في الثانوية... ماما مكنتش بتخليني أعمل حاجة في شغل البيت... الأكل كان بيجيلي على السرير. 

دمعت عينين "ليلى" عندما تذكرت تلك اللحظات، مما جعل "سعيد" يشعر بالضيق من حاله لأنه ذَّكَر تلك الصغيرة -التي يحبها- بذكرياتها مع عائلتها. 

تنهدت "عايدة ونظرت إلى شقيقها بنظرة لائمة؛ فأشاح عيناه عنها لكن سُرعان ما كان يعيد بصره نحو"ليلى" يهتف بحماس. 

_ مش كفايه على البسلة كده على النار... اللحمة هتتهري جواها ومش هتعجب "عزيز" بيه. 

« الـسـيـد "عـزيـز" » 

هكذا تمتمت "ليلى" داخلها وتعلقت عيناها بالعم "سعيد" الذي بدأ بسكب الطعام في الطواجن الفخارية. 

لا تعرف لما عادت ذِكرى تلك الليلة -التي وجدها فيها تجلس على الرصيف وتنظر لحذائها بشرود-  تخترق عقلها. 

ارتفعت سخونة وجنتيها وتوترت عندما تقابلت عيناها بعينيّ "عايدة" التي قالت: 

_ "عزيز" بيه لو اتعود على أكل "ليلى" هيطالب بيه كل يوم.

_ عشان تعرفي إن بقى فيه منافس معاكِ يا "عايدة" 

تمتم بها العم "سعيد" ثم استطرد.

_ يلا يا "لولو" دخلي الطواجن في الفرن عشان ميعاد عشا "عزيز" بيه بعد ساعه.

وما كان من "عايدة" إلا أنها نظرت نحوهم بنظرة ملئتها السعادة. 
... 

_ إيه ده يا راجل يا طيب؟ 

تساءَل "عزيز" عندما وقعت عيناه على الطعام الذي وضعه العم "سعيد" على الطاولة. 

نظر العم "سعيد" نحو ما وضعه وقد فاحت رائحة الطعام. 

_ أحلى طاجن بسلة باللحمة ممكن تدوقه من ايد الشيف "لولو". 

_"لـولـو" ! 

ارتفع حاجب "عزيز" وهو يتمتم بالاسم، فأسرع العم "سعيد" قائلًا: 

_ الشيف "ليلى".

_ يا راجل يا طيب مش قولتلك عايز عشا خفيف. 

قالها" عزيز" وهو يحدق بالطعام الذي لم يلقى استحسانه. 

_ أنت مش شايف نفسك يا بيه، تقول عليا إيه دلوقتي
"نيرة" هانم لما تنزل أجازة. 

ثم واصل كلامه. 

_ دي موصياني على أكلك، لا يا بيه أنت لازم تتغذا.

_ اتغذا بالدهون دي، شيل الأكل يا راجل يا طيب وبلاش تتصرف من دماغك... فين أكل "عايدة".

_ دوق بس معلقة واحكم بنفسك.

اضطر "عزيز" مُرغمًا أن يتذوق الطعام بعد إصراره عليه. 

أسرع العم "سعيد" بإخفاء ابتسامته الواسعة التي ارتسمت على ملامحه بعد رؤيته إلتهام "عزيز" للطعام. 

_ بالهنا يا بيه.

ضاقت عينيّ "عزيز" ثم رفع رأسه إليه.

_ عجبك كده، أهو أنا مش قادر اتنفس.

_ صحة على قلبك يا بيه. 

حرك "عزيز" رأسه بقلة حيلة من أفعال هذا العجوز الماكر. 

_ لولا الأكل طعمه حلو مكنتش أكلت.

_ مش قولتلك "ليلى" نفسها حلو في الأكل، يا بخت اللي هتكون من نصيبه. 
.... 

خرجت "أميمة" من مكتب "عزيز" بعدما قدمت له قهوته التي صارت من مهامها.

_ "عزيز" بيه عايزك يا استاذ "جابر". 

رفع "جابر" عيناه عن الأوراق التي أمامه ثم نهض وهو يحمل أحد الملفات في يده. 

بعد وقت 

كان السيد "جابر" يُغادر الغرفة ومعه نفس الملف الذي دخل به.

طالعته "أميمة" وقد اقترب منها يضع الملف أمامها.

_ "عزيز" بيه موكل ليكي المهمة دي يا "أميمة".

اندهشت "أميمة" من كلامه و ارتسمت الحيرة على ملامحها وهي تتساءَل.

_ مهمة إية يا أستاذ "جابر" ؟

صعدت "أميمة" الدرجات الرخامية القليلة المؤدية إلى مدخل المعرض الذي يتكون من عدة طوابق وعلى وجهها جلي الإرهاق بوضوح بسبب ذهابها إلى ذلك المكان الذي كلفها الأستاذ "جابر" بالذهاب إليه بعدما أبلغها أن هذا ما أمر به السيد "عزيز". 

توقفت عن سيرها عندما استمعت إلى عامل التوصيل يُخبر الحارس الواقف عند باب المدخل بأنه يريد تسليم الطرد الذي يحمله للسيد "عزيز الزهار". 

اقتربت "أميمة" منهم وتساءَلت.

_ طرد إيه اللي أنت عايز تسلمه لـ "عزيز" بيه.

زفر العامل أنفاسه بضجر من اسألتهم الكثيرة. 

_ يا فندم أنا مش مطلوب مني افتح الطرد وأعرف إيه جواه ... كل اللي عليا إني اوصله للمكان المدون فيه عنوان صاحب الطرد. 

انصرف عامل التوصيل بعدما أخذت منه "أميمة" الطرد وأخبرته أنها سكرتيرة السيد "عزيز" ووقعت فوق إيصال الإستلام. 

نظر إليها السيد "جابر" عندما دلفت الغرفة وعلى وجهها كالعادة تتوهج ابتسامتها الهادئة. 

_ الحمدلله العريس والعروسه استلموا فرشهم ومبسوطين أوي... "عزيز" بيه مختار ليهم أحسن حاجة. 

طالعها السيد "جابر" وهو يومئ برأسه تأكيدًا على كلامها. 

_ "عزيز" بيه طول عمره بيختار أحسن حاجه ما دام طالعه لله. 

تقدمت "أميمة" من المكتب الخاص بها الذي يقبع على يمين مكتب السيد "جابر" ثم وضعت ما تحمله عليه وسُرعان ما كانت تزفر أنفاسها بقوة وهي تتذكر أمر الطرد. 

_ "عزيز" بيه جوه في مكتبه يا استاذ "جابر". 

تعلقت عينين السيد "جابر" بها ثم بالطرد الذي حملته فور أن وضعته على طاولة مكتبها. 

_ هو الطرد ده لـ "عزيز" بيه. 

سألها السيد "جابر"، فحركت" أميمة" رأسها إليه ثم أجابته بكلمات مقتضبه عن أمر هذا الطرد الذي تجهل ما بداخله قبل أن تتجه لمكتب "عزيز". 

_ شكرًا يا "أميمه". 

تمتم بها "عزيز" بعدما أعطت له "أميمة" الطرد وتراجعت بخطواتها وقد عرف على الفور ما بداخله. 

لا تعلم لما انتابها الفضول لتعرف ما بداخل هذا الطرد لكن سُرعان ما كانت تخفض رأسها وتخبره بامتنان الأشخاص الذين قدم لهم مساعدته في فرش شقتهم الزوجية. 

رفعت رأسها قليلًا لكن سُرعان ما أخفضتها هاربة من مشاعرها نحو هذا الرَجُل الذي يومًا بعد يوم يزيد تقديرها وإحترامها له. 

ابتسامته الجميلة، لحيته الخفيفة مع تلك الخصلات البيضاء القليلة التي نبتت بها زادته وقارًا وجاذبية ...

كل هذا كان يطرق رأس "أميمة" عندما أخفضت عيناها هذه المرة نحو الأوراق التي أمامها بعدما عادت إلى مكتبها. 

أرجع "عزيز" ظهره للوراء يستند على ظهر مقعده بعدما غادرت "أميمة" غرفة مكتبه. 

تعلقت عيناه بالعُلبة التي أمامه وقد أسدل أهدابه شاردًا في مظهرها وهي تسير إليه حافية القدمين وتضم حذاءها بذراعيها ودموعها تلمع في مقلتيها تدعوها بأن تُحررها. 

أرخى جفنيه لوهلة سابحًا في تأمل طيفها وقد علقت عيناه بالحذاء الذي أخرجه من عُلبته. 

عيناه اتسعت في ذعر ليلقي الحذاء داخل العُلبة ويغلقها. 

رفع كفه يمسح به وجهه زافرًا أنفاسه بقوة متمتمًا. 

_ إيه اللي بتفكر فيه دا يا "عزيز" ... يوم ما تفكر في ست تفكر في بنت عمرها من عمر ولاد أخوك. 

تنهيدة طويلة خرجت منه ثم نهض من مقعده يمسح على وجهه مرة أخرى لضيقه من حاله. 

غادر المعرض في الوقت الذي يعلم فيه أنه رُبَما يصادفها بالطريق ويعطيها ذلك الحذاء الذي قام بإصلاحه وينتهي هذا الأمر. 

وللمرة الثانية بهذا اليوم ينهر نفسه على ما يفعله... فها هو يبطئ سرعة سيّارته بالطريق المؤدي إلى الڤيلا لعله يراها وهي تسير كما صادفها من قبل. 

ضاقت حدقتاه ثم اتسعت عندما وجدها تدلف من الباب الصغير الذي يُجاور البوابة الضخمة للڤيلا. 

زفر أنفاسه بقوة وهو يدق بوق السيّارة بقوة لتنفتح البوابة له. 

أخيراً عبرت السيّارة للداخل ولم تكن عيناه إلا مع تلك التي تسير جهة الحديقة الخلفية للمنزل. 

أسرع "عزيز" بالترجل من سيّارته بعدما لم يجد أمامه إلا أنه عليه إعطائها حذائها ليتوقف رأسه عن التفكير بأمر هذه الفتاة. 

_ "ليلى" 

صوته أوقفها مكانها وببطئ استدارت بجسدها تنظر جهة الصوت. 

الذهول ارتسم على محياها، السيد "عزيز" ينادي اسمها ويقترب منها. 

تراجعت للوراء بتوتر ثم أخفضت رأسها وسُرعان ما رفعتها عندما قال. 

_ اتفضلي. 

تعلقت عيناها بالعُلبة التي يمدها لها وقد جلى التساؤل بوضوح في عينيها. 

تناولت منه العُلبة بحرج ترفع عيناها إليه. 

أشار نحو العُلبة التي أعطاها لها ثم تنحنح وخرجت نبرة صوته بخشونة. 

_ تقدري تفتحيها لما تدخلي. 

قالها "عزيز" ثم صوب عيناه جهة المنزل الذي تسكنه مع عائلة عمها داخل أسوار منزله. 

نظرت له ثم هربت بعينيها بعيدًا وتساءَلت. 

_ ممكن أعرف إيه جواها. 

_ "عزيز" بيه. 

ارتفع صوت العم "سعيد" عندما وجد سيده يقف في الباحة الأمامية للمنزل وأمامه "ليلى" التي عادت للتو من عملها وعلى ما يبدو أن طريقها تقاطع مع سيده. 

تراجعت "ليلى" خُطوة للوراء ثم أطرقت رأسها نحو العُلبة التي تحملها. 

اقترب منهما العم "سعيد" ثم نظر نحو العُلبة التي تحملها "ليلى" بفضول ولكنه لم يتساءَل. 

_ عن اذنكم. 

تمتمت بها "ليلى" بصوت خفيض ثم أسرعت جهة المنزل تحت أنظار "عزيز". 

_ كنت محتاج حاجه من "ليلى" يا "عزيز" بيه. 

انفرجت شفتي "عزيز" قليلًا ليتكلم لكن العم "سعيد" أردف بنبرة يملئها الحماس وقال. 

_ شكلك كنت عايز تشكرها على طاجن البسلة باللحمة بتاع امبارح، مش قولتلك بتعمله أحسن من "عايدة". 

ابتسم "عزيز" ثم أشاح عيناه بعيدًا وتحرك من أمامه حتى يهرب من اسئلة العم "سعيد". 

_ فعلاً كنت بشكرها على طاجن البسلة يا راجل يا طيب. 

دلفت" ليلى" الغرفة وأسرعت بغلق الباب ورائها. 

نظرت إلى فراش "شهد" وفراشها المرتب ثم زفرت أنفاسها. 

من حُسن حظها أن زوجة عمها مَا زالت بالڤيلا وعمها مندمجًا في مشاهدة التلفاز أما "شهد" مَا زالت في درس الأحياء الذي تتأخر به دائمًا وتأتي بعد الساعة الثامنة. 

تنهيدة طويلة خرجت منها ثم اتجهت نحو فراشها وجلست عليه لتفتح غِطاء العُلبة. 

التمعت عيناها بالدموع وهي ترى كعب الحذاء تم إصلاحه.

دلف "عزيز" غُرفة مكتبه وقد اقتحمه شعور الضيق من حاله. 

اِجتذب خصلات شعره بضيق ثم أطلق زفيرًا طويلًا... إنه لا يُصدق فعلته. 

أخذ يدور بالغرفة دون هوادة إلى أن اقترب من شرفة غرفة مكتبه وأزاح السِتَار جانبًا وقد ظَنّ أنه سيَهرب من اقتحامها لرأسه هذه الليلة. 

تلاقت عيناه بها حيث وقفت بالجهة المقابلة لشرفة مكتبه وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة واسعة. 

تعليقات



×